تيسـير النحـو العربـي بين المحـافظـة والتجـديـد
(الأستاذ عباس حسن أنموذجاً)
أ.د. حسـن منديـل حسن العكيـلي
- المثل الّلغـوي الأسـمى:
دعا الأستاذ عباس حسن الى اختيار القرآن الكريم مثلاً لغوياً بلاغياً اسمى، ليكون وحده المرجع الذي تستنبط منه القواعد النحوية، فعندئذ يجب على كل الناطقين بالعربية اتباع أحكامها. مقتصرين على اشهر قراءات القرآن الكريم.
وبعد اتخاذ لغة القرآن الكريم اللغة الأثيرة ((تكون مهمتنا عرض النحو على كلام الله فما وافقه أبقيناه وإلا أهملناه مبتعدين عمّا يسمونه القليل والشاذ والكثير، فان لم نجد شواهد من القرآن الكريم، رجعنا الى كلام عربي نال من الشهرة والذيوع موافقاً لأكثر القبائل مشتركاً فصيحاً… وان رأينا ظواهر القراءة القرآنية الموحدة ما يصلح لاستنباط حكمين مختلفين أخذنا بهما ولا نرجّح واحداً على الآخر. وبذلك النحو نأمن من الوقوع في الخلط والإفساد اللذين وقع فيهما النحاة في اكثر مسائلهم))([40]) فنبتعد مثلاً عن الخلافات الكثيرة المضطربة من قبل إعراب الأسماء الستة بالحروف او الحركات وغير ذلك.
وهي دعوة دعا اليها غيرُ واحد ولاسيما بعده، ولم يشر اليه كالجواري واحمد مكي الأنصاري و د. محمد عبد الخالق عضيمة، ود. عبد العال سالم مكرم، ود. محمود سليمان ياقوت([41]).
وتوسّعوا فيها ووضعوا احكاما لها. وان لم يخصص عباس حسن بحثاً او كتاباً لدعوته هذه إلا انه طبّقها في كتابه (النحو الوافي) فغالباً ما نجده يحتكم الى نصوص من القرآن الكريم في مناقشة كثير من مسائل النحو فضلاً عن اتخاذه القرآن الكريم المعين في الاستشهاد([42]) . إذ قال ان هذه الخطوة الأولى لاصلاح النحو التفصيلي الموّسع بعدها تتناول بعض مسائله واحكامه بالحذف والإدماج فنصل الى نحو مختصر موجز يلائم الناشئة وجمهرة المثقفين غير المتخصصين.
والذي أراه انها دعوة ضيقة، فالعربية واسعة، والقرآن الكريم جزء منها، لكنه الجزء الأعلى الذي شرّفها وأبقاها فتية الى يومنا هذا، فهو لا يشملها جميعها وان كثيراً من الكلمات والتراكيب العربية الفصيحة لم ترد في القرآن الكريم وهذا يفسّر لنا إهمال القدامى لذلك على الرغم من التراث الكبير الذي وضعوه خدمة للقرآن الكريم.
- تـأثره بأهداف المجمع:
أنتخب الأستاذ عباس حسن ليشغل مقعداً كان قد شَغَرَ في مجمع اللغة العربية المصري سنة (1966م)([43])، فأصبح أحد أعضائه، بل أحد أعضاء أهم لجنة من لجانه لإصدار القرارات اللغوية والنحوية، لجنة القواعد والأصول، فأخذ مكانه المناسب، وكان له حضور دائم ونشاط متميز وقد تأثر بأهداف المجمع وأثّر فيه، ومن خلاله خدم اللغة العربية وقام بأعماله خير قيام، ودفع بها قدماً نحو التحقيق فجزاه الله خير الجزاء، وأخذ على عاتقه تطبيقها وتبنّاها في كتبه ودعا اليها ودافع عنها، يدلنا على ذلك كثرة ذكره لها في كتبه([44]).
وكانت اهم أهداف المجمع وقراراته، الاهتمام باللغة العربية وتيسيرها وتطويرها على ان يُخرج مطلقاً على اصل مقرر او قاعدة محكمة والاستئناس بما ذهب اليه الأقدمون، وانتخاب ما يوّسع دائرة اقتباسها لتكون أداة سهلة للتعبير عن المقاصد العلمية وغير العلمية.
وقد وضع المجمع معايير لقبول ما يستعمله المحدثون منها شيوع الظاهرة في الفصحى المحتجّ بها والمعاصرة ومدى الحاجة اليها، وحرص على التوازن بين دواعي المحافظة والالتزام بالقواعد القديمة، ودواعي التجديد ومتطلبات العصر، وذهب المجمع أبعد من هذا فقرر قبول السماع من المحدثين إثراءً للفصحى، وسعى الى إباحة ما منعه النحاة واراد توسيع ماضيقوه لتطويع العربية بحيث تكون وافية بمطالب وفنون وشؤون الحضارة، وتيسيرها على متعلميها بتخليصها مما شاب بعض قواعدها من اضطراب وتشعب واستثناءات، ومن ثم وضع في قراراته انحيازه الى طرد القواعد وتعميم الأحكام([45]).
لقد اخذ عباس حسن بأهداف المجمع كلها، ودعا اليها ودافع عنها، ورأى في تطبيقها الحل لكثير من مشكلات النحو، إذ كان يرى ان اهم مشكلاته عدم تحديد الكلام الذي يحتج به في بناء القواعد، وقد حدّده المجمع بكلام الأمصار الى نهاية القرن الثاني الهجري وكلام البدو من عرب الجزيرة الى آخر القرن الرابع الهجري([46])، فأشاد بهذا القرار وحرص على تطبيقه والتزم به، ولا سيما انه كان احد أعضاء لجنة الأصول التي تصدر هذه القرارات فطالما رفدها بآراء مهمة وشارك في وضعها، وكان المجمع يأخذ بكثير من آرائه ويصدر بها القرارات نحو لحوق تاء التأنيث لفعول صفة، بمعنى فاعل وجمعها جمع تصحيح. فضلاً عن كثرة بحوثه ومذكراته ونشاطه الدؤوب في المجمع، وهي كثيرة تبلغ العشرين أو اكثر، وكتاب (في اصول اللغة) بأجزائه خير دليل على حضوره الدائم في اكثر صفحاته وفي صياغة قرارات المجمع اللغوية، باحثاً ومناقشاً مؤيداً ومعارضاً، كمناقشة بحث الدكتور مصطفى جواد، واعتراضه على اقتراح الجواري بإلغاء غير وسوى من باب الاستثناء في مراحل التعليم الابتدائية والثانوية، ومخالفته بعض المجمعيين كعبد الحميد حسن ومحمد خلف الله وعلي المبارك، وكان يطلب تسجيل مخالفته هذه([47]).
- تجميع مسـائل النحـو المبعثرة:
مما اخذه على النحاة وكتبهم انهم لم يجمعوا مادة النحو – كلها – في كتاب واحد يجمع ما تفرّق من مسائل النحو في كتب اللغة والبلاغة والتفسير والشروح والفقه وغيرها، بحيث يكون موسوعة نحوية وافية لا يكاد يندُّ عنها شيء، ويكون مرجعاً لطلبة النحو والمتخصصين. وبعد لمّ شتات النحو دعا الى غربلته بأناة ومهارة للاستخلاص النحو الشارد ثم وضعه موضعه من أبواب النحو بغير تكرار ولا تداخل. ثم إخراج موسوعة نحوية حديثة بفهارس حديثة وطباعة مونقة، مجمّلة بحسن التنسيق وبراعة الترقيم، ورأى ان من يقوم بهذا العمل الكبير الهيئات الرسمية كالجامعات ووزارة التربية ومجامع اللغة العربية بتشكيل لجان من المتخصصين المخلصين([48]).
ويبدو انه اخذ الأمر على عاتقه فأخرج كتاباً بهذه المواصفات: هو (النحو الوافي) الذي قسمه قسمين كبيرين الأول مختصر ميّسر للطلبة، والثاني مبسوط موّسع ذكر فيه كل ما يتعلق بالمسألة التي عرض لها باختصار في القسم الأول.
أما الهامش فقد استغله أبرع استغلال، لا تقل أهمية عن المتن لغزارة المادة التي شملها وأهميتها في توضيح المتن واتمامه، وفي تيسير المادة وتبسيطها، منها:
1- الإشارة – خلال دراسة المسائل – الى المسألة السابقة او اللاحقة وتدوين رقمها إذا اشتملت على ماله صلة وثقى بالمسألة المعروضة كي تيّسر الأمر لمن شاء ان يجمع شتاتها في سهولة ويسر، وبضم – بغير عناء – فروعها وما تفرّق منها([49]).
2- التفريق بين المصطلحات المتشابهة، والموضوعات المتقاربة، فإذا تناول مثلاً في باب الموصول: ما ومن وذا، ذكر أنواعها الأخرى في الهامش كالاستفهامية وغيرها([50]).
3- شرح آبيات من ألفية ابن مالك، ما يتعلق بالمسألة النحوية التي يعالجها، وقد ذكرنا سبب ذلك.
4- ملحوظات واستقصاءات وردود واحالات، وتوضيح لبعض العبارات التي تحتاج الى ذلك.
وبعدُ فليس غريباً ان يكون الكتاب كبيراً، لذلك اخذ عليه غير واحد حجمه الكبير الذي ينافي طبيعة التيسير([51]). يقول الأستاذ عبد القادر المهيري([52]): "دراسة النحو العربي دراسة واسعة شاملة تضيف مؤلفاً جديداً الى عشرات المؤلفات القديمة، لا مبرر لها في عصرنا إلا إذا اجتهد الدارس ألاّ يلتزم التقليد والاّ يعتبر آراء القدامى من قبيل الآراء المنزلة التي لا تقبل نقاشاً".
والحق ان تيسير النحو لا يعني اختصاره اختصاراً لا نعرف ضرره على النحو العربي، وأن نأتي بنحو هزيل نحذف منه ما نشاء او وفق ضوابط نضعها. والذي أراه ان سبل التيسير اخذ النحو – كل النحو – كاملاً مترابطاً موّسعاً، افضل من تجزأته، لانه وحدة متكاملة، مترابطة. فالإيجاز والاختصار لم يكونا من التيسير دائماً بل العكس صحيح قد يكون الشمول اكثر تيسيراً.
ويبدو ان هذا السبب جعل اكثر الباحثين لا يعدوّن (النحو الوافي) من كتب التيسير النحوي لضخامته وصعوبته. اما ضخامته فقد ذكرنا ما يبررها. واما صعوبته فهذه طبيعة النحو العربي، ولا بدّ ان يجتهد لفهمه وهضمه، لا العزوف عنه والشكوى منه وإلا سوف نعزف عن العلوم الأخرى كالرياضيات والكيمياء التي تتطلب جهداً ومثابرة في تحصيلها.
ولا يعني ان عباس حسن ذكر حشواً في كتابه، ولم يترك صغيرة او كبيرة لدى القدماء من النحاة، الغث والسمين، وانما اهمل كثيراً ما يتعلق بالمسألة التي يدرسها من فضول ومن جدل وخلاف شكلي لا جدوى منه، وتفريعات ترهق كاهل المتعلم. فعند تناوله الآية الكريمة في باب (المبتدأ والخبر) ، "وان أحد من المشركين استجارك فأجره"([53])، قال بعد عرض آراء ثلاثة: "لا حاجة الى عرض أدلة كل فريق ممن يبيح او يمنع، فقد فاض بها المطولات والكتب التي تتصدى لمثل هذا الخلاف، وسرد تفاصيله، وأدلة تضيق بها الصدور – احيانا – حين تقوم على مجرد الجدل"([54]).
وفي باب الاشتغال – وبعد ذكره شروط الاشتغال – قال:" وزاد فريق من النحاة شروطاً أخرى للاشتغال رفضها سواه، هي انها لا تثبت على التمحيص، وهذا رأي سديد حملنا على إهمالها ادخاراً للجهد وابعاداً لنوع من الجدل …"([55]). وبعد عرضه لما يتألف منه الكلام قال: " تعوّد النحاة ان يوازنوا بين الكلمة والكلام والكلم والقول، موازنة أساسها علم المنطق، ويطيلوا فيها الجدل المرهق مع ان الموضوع في غنى عن الموازنة لبعد صلتها بالنحو، وقد يكون الخير في الاستغناء عنه"([56]).
- التمييـز بين فئتين في دراسة النحو:
اتبع عباس حسن منهجاً جديداً في عرض مسائل النحو الكثيرة المتشعبة المتداخلة، لم يُسبق اليه على الرغم من انه بهذا لم يبتعد كثيراً عن تبويب القدامى ولا سيما ترتيب ابن مالك.
فقد اتخذ منهجاً رآه يحل مشكلات المنهج لدى المتأخرين في حواشيهم النحوية، التي يقدّم كمّاً كبيراً من المادة ممزوجة بملاحظ ومباحث بعيدة عن النحو، يقوم منهجه على لم شتات مسائل النحو وغربلتها وعرضها عرضاً جديداً ميسراً.
لقد قسمّ كتابه " تقسيماً فنياً بارعاً، احدهما (موجز) دقيق يناسب طلاب الدراسات النحوية والصرفية بالجامعات – دون غيرهم – غاية المناسبة، ويوفيهم ما يحتاجون اليه غاية التوفية التي تساير التي مناهجهم الرسمية ومكانه (اول المسألة) وصدرها ويليه الأخر" في صفحة جديدة تبدأ بسطر او سطرين من النقاط الأفقية المتقاربة، لتكون رمزاً يمّيز صفحاتها عن القسم الأول من غيرها بعد نهاية كل مسألة – وبجانبها رقم خاص بها – بتقديم المادة النحوية او الصرفية الصالحة للطالب الجامعي، الملائمة لقدرته ولمنهجه، ومقرره الرسمي ودرجته في التحصيل والفهم، مع توخي الدقة والإحكام فيما يقدّم له نوعاً ومقداراً، فإذا استوفى نصيبه المحمود، انتقلت الى بسط يتطلع اليه المتخصص، وزيادة يتطلبها المتكمل.
وكل ذلك في أحكام وحسن تقدير، بغير تكرار، ولا تداخل بين القسمين او اضطراب.
وبهذا التقسيم والتنسيق يجد هؤلاء وهؤلاء حاجتهم ميّسرة موائمة في كتاب واحد قريبة التناول لا يكدُّون في استخلاصها، ولا يجهدون في السعي وراءها في متاهات الكتب المتعددة القديمة، وقد يبلغون او لا يبلغون([57]).
لقد ميّز عباس حسن بين طائفتين من المعنيين بالنحو، طائفة تحتاج الى تيسيره وهم طلبة الجامعة، والأخرى: أساتذتهم المتخصصون، ففي القسم الأول المختصر الموجه لطلبة الجامعة يستخدم أيسر الطرائق التربوية التي يراها الأنسب للموضوع من دون اقتراحات او تعدد آراء واختيارات الآراء بل يقصره على الرأي المشهور واللغة الفصحى.
اما في القسم الآخر (الزيادة والتفصيل) الموجّه للأساتذة المتخصصين، فيعرض فيه الآراء والخلافات والتفصيلات. وينقد ويقترح ويدرس ويستقصي، ويرّد ويوضّح فمثلاً عندما يعرض لباب الاشتغال بأيسر الطرائق وافضل توضيح في القسم الأول الموجز ثم ينقده ويحاول تيسيره ويقترح مقترحات عديدة في القسم الآخر الموّسع([58])، وفي مبحث (الاسم) يعرض للموضوع عرضاً ميّسراً، مختصراً فيبدأ بتعريف الأسم ثم يذكر اشهر علاماته، والدلائل على اسمية الكلمة وهي الجر والتنوين والمناداة والتعريف، كل ذلك يعرضه بإيجاز وبوضوح وبقدر مقصود. اما في القسم الآخر الموّسع فيذكر علامات سبعاً أُخر وسبب هذا التعدد، وتفصيلات ومسائل وخلافات يُعنى بها الأساتذة المتخصصون([59]).
وهو بذلك يختلف عن اكثر أصحاب التيسير إذ انهم يروون التيسير النحوي ينبغي ان يوجه للناشئة من المتعلمين في المراحل ما قبل الجامعة، لكن الأستاذ عباس حسن يسّرّ النحو لطلبة الجامعة، وهو امر ينبغي ان نأخذ به لأننا نجد الطالب الجامعي ولا سيما اليوم هو أحوج الى التيسير النحوي من غيره.
- التبويـب وتنسـيقه:
لم يقترح تبويباً جديداً، فقد يزيد هذا الأمر عسراً وبلبلة، وانما سار على التبويب القديم معدلاً له، ومضيفاً اليه، منظماً ومدققاً فيه، مستخدماً الهامش لإحالات كثيرة لها اثر كبير في تنظيم مادة النحو وتجميعها وتيسيرها، فقد تبلغ إحالاته الى اكثر من عشر إحالات، تجمع المادة كلها وما يتعلق بها، وقد تحيلنا إحالاته الى إحالات أخرى فأخرى وهكذا([60]).
ويبدو ان ذلك محاولة لمعالجة مشكلة تبعثر مسائل النحو، لأنه يرى ان النحو وحدة متكاملة، ينبغي ان يدرس دراسة شاملة متكاملة، لأن مسائله مرتبطة بعضها ببعض ارتباطاً واضحاً، وان كانت تبدو متباعدة، لأنها كلها تعنى باللغة واستنبطت منها، واللغة واحدة ومصدرها واحد هو العقل.
وعلى الرغم من سيره على ترتيب ابن مالك والتزامه به، إلا انه ينقده احياناً، منبهاً على مواطن الضعف فيه، معدلاً له، ومقوماً إياه، ومضيفاً اليه، والأمثلة على ذلك كثيرة كقولهِ في باب افعل التفضيل: " ربما كان الأنسب ان يذكر مع المشتقات، ولكنا وضعناه هنا اتباعاً لترتيب ابن مالك في ألفيته([61])"، واخذ على ابن مالك وضعه باب أبنية المصادر بعد بابي أعمال المصدر واسمي الفاعل والمفعول لأنه يرى الأعمال أمراً نحوياً وثيق الصلة بالأبواب التي سبقت وان الصيغ والأبنية امر صرفي يجيء في المنزلة التالية لمسائل النحو وأبوابه. يرى عباس حسن ذلك حجّة واهية "إذ الترتيب المنطقي يقتضي تقديم الأبنية والصيغ ليكون أعمالها واحكامها وكل ما يختصّ بها منصباً على شيء معلوم مفهوم، ولا يعقل سرد الأحكام الخاصة بشيء دون ان يكون معلوماً من قبل لهذا لم نأخذ بترتيب ابن مالك هنا وقدمنا باب أبنية المصادر"([62]). ولم يكتف بنقد التبويب بل ينقد احياناً الوزن في بعض أبيات الألفية، والقافية والضرورات التي يرتكبها ابن مالك، فضلاً عن الترتيب([63]).
ولم يقتف عباس حسن دائماً ترتيب ابن مالك، وإنما كان كثير التقديم والتأخير لأبيات الألفية ففي باب الإضافة أعاد ترتيب أبياتها لتساير الترتيب المعنوي الأنسب للمسائل المترابطة التي يتمم بعضها بعضاً، على أنه وضع على يسار كل بيت رقمه الذي يدل على ترتيبه في الألفية كما رتبّه الناظم([64]).
وقال في باب الحال: "أبيات ابن مالك في هذا الباب لا تساير المسائل ولا ترتيبها المنهجي على الوجه الذي ارتضيناه لهذا وضعنا كل بيت عقب القاعدة التي يناسبها ويتّصل بها اتصالاً منطقياً، وفي الوقت نفسه وضعنا بجانب كل بيت رقماً يميّزه، ويدّل على ترتيبه بين آبيات الباب كما رتبها ابن مالك"([65]).
ان سبب اختياره ترتيب ألفية ابن مالك كان من اجل تيسير النحو لدى المتعلمين لكونه ترتيباً مألوفاً لدى المعلمين والمتعلمين، وشائعاً بينهم الى اليوم، وملائمته ووفرة أفادته في التحصيل والتعليم. لذا اختار مكاناً في ذيل الصفحات لها، شارحاً، ومقرباً لها من راغبها، ويبعدها من الزاهدين فيها([66]).
وثمة ترتيب آخر شائع يقوم على جمع الأبواب الخاصة بالأسماء يليها الخاصة بالأفعال ثم الحروف كما فعل الزمخشري في مفصله وتبعه عليه شراحه، لم يأخذ به عباس حسن على الرغم من شيوعه وفائدته لأنه يفيد المتخصصين، لا "الراغبين في المعرفة العامة اولاً فأولاً، فالمبتدأ يلازمه الخبر وما يقوم مقامه، وقد يكون الخبر جملة فعلية او شبه جملة. والفاعل لا بد له من فعل او ما يقوم مقامه، فكيف يتعلم الراغب أحكام المبتدأ وحده او الخبر وحده او الفعل…"([67]).
وبهذا يتبين هدفه في كتابه وهو تيسير النحو للمتعلمين والتزام المألوف لديهم أيسر من غير المألوف، وكان عباس حسن لا يبتعد كثيراً عن المألوف الشائع لدى المتعلمين من ترتيب ومصطلحات. على الرغم من وجود أنواع أخرى للترتيب له مزاياه ومن المصطلحات النحوية المعاصرة. وهو دليل على ان عباس حسن اقام محاولته في تيسير النحو على القديم وشيءٍ من الجديد.
- حذف الزوائـد وتقليل الفروع:
عرفنا إن الأستاذ عباس حسن كان يستقصي أحكام المسألة النحوية، ويتتبع مسائل النحو جميعها، يدرسها، ويعالج ما يشوبها مما علق بها خلال المراحل الطويلة التي مرّ بها النحو، ويحاول تصفيتها، ولم تكن الكثرة وضخامة الكتاب هدفاً له، إذ نجده غالباً ما يختصر ولا سيما إذا دعاه التيسير إلى ذلك ويقلل من كثرة الفروع، ويصّفي التفريعات الشاقة ويسهلها ثم يجملها بقواعد وملخصات مغنية. كقوله وهو يعالج أحكام تابع النداء المتشعبة، "أكثر النحاة من الخلاف المرهق، والتفريع الشاق في هذا الباب، وقد ضيقنا كل أحكامه وفرعه جهد الاستطاعة، مع البسط الذي لا غنى عنه احياناً، ثم ختمناه بملخص لا يتجاوز سطراً، فيه غنية للشادي ومن لا يريد بسطاً"([68])، وقال في باب أعمال الصفة المشبهة وهي تعمل في السببين الرفع والنصب والجر نحو: (الحُلوُ القول، والحُلوُ قولاً، والحُلو القولِ) قال: " ينشأ من هذا التفريع صور متعددة أكثرها صحيح، وأقلها غير صحيح، ومن المشقّة والإرهاق إن نتصدى لحصر صورهما، ونحدد عددهما على الوجه الذي فعله بعض الخياليين، فأوصلها إلى مئات، بل ألوف (كالصبان وغيره) وانتهى به التحديد إلى ما لا خير فيه([69])" وقال " وإذا كان التحديد على الوجه السالف خيالياً مرهقاً، فان الحرص على سلامة الأداء وصحة التعبير يقتضينا ان نعرف الصور الممنوعة، كي نتجنبها، ونصون أنفسنا من الخطأ وقد وضع لها النحاة ضابطاً نافعاً، سهل فهمه واستيعابه…"([70]). وقال في (مواضع النكرة المفيدة) بان النحاة قد اوّلوا ذلك "حين تقع مبتدأ إلى نحو اربعين موضعاً، ولا حاجة بنا إلى احتمال العناد في سردها واستقصاء مواضعها، مادام الأساس الذي تقوم عليه هو: (الإفادة) فعلى هذا الأساس وحده يرجح المسلم على صحة الابتداء بالنكرة او عدم صحته من غير داع لحصر المواضع او عدّها"([71])
يتبين من ذلك انه كان يرمي إلى تيسير النحو، ولا سيما انه بعد هذه التصفية والتفصيلات غالباً ما يستخدم الجداول المفصلة الدقيقة إذ عمل جدولاً جمع فيه اشهر المبنيات، وجدولاً لعلامات البناء الأصلية والفرعية، وجدولاً لضبط وإعراب (ليس غير)، وآخر للظروف وآخر لظنّ وأخواتها"([72])
- العناية بلغـة الكتاب واخراجه:
لكي تكتمل محاولته شكلاً ومضموناً، أولى الأستاذ عباس حسن عناية كبيرة الجوانب الشكلية للكتاب، ولا يخفى اثر ذلك وأهميته في تيسير المادة النحوية، فقد عُني بطباعة كتابه الوافي الموفقة وبحسن إخراجه وتنسيق أبوابه واعداده إعدادا جيداً، وبتقسيماته الدقيقة، وببراعة الترقيم، ينقح ويضيف في طبعات كتابه العديدة([73])، وربما كان هذا سبباً لانعدام أخطائه المطبعية على ضخامته([74])، فلا اضطراب، ولا سهو، ولا لبس، ولا غموض، وانما وضوح وإشراق ولاسيما باستخدامه اللغة المرنة الميّسرة التي تختلف عن اللغة التي قدم بها النحاة النحو، إذ كان يرى من مشكلات النحو: " اللغة التي صيغ بها والطريقة التي الّف بها، لا يناسبان ناشئة اليوم، لأنها ملتوية معقدة يعجزون أمامها… بحيث لابدّ للمتن من شرح يفكّ رموزه، ويوضح إبهامه، ويفصل مجمله، ويزيده بعض المسائل وللشرح حاشية تزيل غموضه… وللحاشية (تقرير) هو بمثابة حاشية للحاشية، وكل اولئك موسوم بالسمة الخاصة التي تبعد اسلوبه عن اسلوب البلغاء وتنفر من امثلته المرددة المبتذلة، وتفقده حظه المحمود من البيان الأدبي الذي لا تستغني عنه لغة العلم من غير أن يُسيء اليها…"([75]). وَسَردَ امثلة كثيرة للغة النحاة المضغوطة المزدحمة بالدلالات والإشارات والأحكام النحوية الدسمة كلغة المتون، بل لغة سيبويه الذي يمثل لغة الفارسي المستعرب وايجازها وفي ازدحامها بالمعاني والأغراض حدّ التخمة مع التواء حيناً، وعجز قد يبلغ حدّ الكلفة احياناً نحو: "هذا باب علم ما الكلم من العربية" و " فأما الذي يبني عليه شيء هو هو فان المبني عليه يرتفع به كما ارتفع هو بالابتداء"([76]).
على الرغم من رفضنا هذا الكلام إذ لكل عصر اسلوبه ولا سيما عندما كان النحو في طور النشوء، فاننا نحمد لعباس حسن عرضه النحو كله بلغة مرنة ، سهلة ، اضحة، مشرقة، سليمة، عالية الفصاحة والدقة في التعبير، مع المحافظة على المصطلحات العلمية المأثورة المستقرة ايماناً واقتناعاً بفائدتها.([77])
- اطـرّاد القاعـدة النحـويـة:
من الأسس التي حرص الأستاذ عباس حسن على تطبيقها ومتابعتها في محاولته الاصلاحية وتيسير النحو، اطراد القاعدة ونبذ اللغات الشاذة التي لا تطرّد فيها القواعد النحوية، وهو امرٌ نُسب إلى البصريين دون الكوفيين، لكنّ عباس حسن لم ينتم إلى احد هذين المذهبين وعلى الرغم من ذلك فثمة غرابة في موقفه هذا إذ طالما اخذ على القدامى نبذهم الشاذ وطرحهم النادر من اللغات او حفظها وعدم القياس عليها، والتزامه باطراد القاعدة ينافي ذلك فثمة لغات كثيرة تشذّ عن قواعد النحاة وهي عربية فصيحة.
ولا ارى سبيلاً له غير ذلك ولا سيما انه كان ينشد الوضوح ويعالج الفوضى لأن مهمة اللغة الابانة والوضوح.
ومن حرصه على اطّراد القاعدة ترجيحه الرأي الذي يعدّ (كأن) للتشبيه "لأنه عام ينطبق على كل الحالات ويريحنا من التشتت والخلاف وتشعب القواعد والأخذ بهذا الرأي او ذاك إنما يكون حيث لا توجد القرينة التي تعين المراد فإن وجدت وجب الأخذ بها"([78]) وقوله في مثل : (اشتهر بالعدل الخليفة الثاني ابو حفص بن الخطاب، ومن أولاده عبد الله بن ابي حفص) فرأى فريق وجوب اثبات التنوين وهمزة الوصل والالف ، ويرى آخرون صحة الحذف والإثبات، ويبدو أن الأفضل الحذف لتكون القاعدة عامة مطّردة يقول بعد التفصيل وقد يكون الحذف – على قلته – هو الأنسب اليوم، ليكون حكمه مطرداً شاملاً الصور المختلفة، مطرداً في كل المسائل وقاعدته عامة"([79]).
- العناية بالحدود النحـويـة:
لا يخفى على الدارسين اهمية ذلك في تيسير النحو، لذلك أولى الأستاذ عباس حسن عناية كبيرة بالحدود والتعريفات النحوية، فقد جاء بتعريفات دقيقة محكمة جامعة، بعد استقصائه الحدود السابقة التي ذكرتها كتب النحو، ودراستها والموازنة بينها، مضيفاً اليها ما يلائم المستويات وقابليات المتعلمين، وما يناسب عصرنا إذ انها قد تختلف من عصر إلى عصر، لذلك كان ناقداً للتعريفات القديمة ومقوماً ومهذباً لكي يجلو عن غوامضها ويطرح عنها الصعوبة والعسر ولا سيما إن كثيراً من المختصرات النحوية جاءت بحدود مختصرة حدّ الإلغاز.
فعلى سبيل المثال تعريفه للضمير بأنه "اسم جامد يدل على متكلم اومخاطب"([80])، ثم يزيده توضيحاً في الهامش ويذكر المصطلحات الأخرى للضمير ويبينها مثل (المكني)، سمي بذلك لأنه يكنى او يرمز به عن الظاهر اختصاراً، و (ضمير الحضور) لأن صاحبه لا بد إن يكون حاضراً وقت النطق به. ويعرّف (المثنى): "اسم يدل على اثنين متفقين في الحروف والحركات والمعنى بسبب زيادة في آخره تغني عن العاطف والمعطوف"([81]) ويعرّف الاستغاثة بانها "نداء موجه إلى ما يخلص من شدة واقعة بالفعل، او يُعنين على دفعها قبل وقوعها"([82]). يذكر هذه الحدود الدقيقة الواضحة – غالباً بعد سرد أمثلة معاصرة يبدأ بها الأبواب النحوية، ثم يشرحها، فيكون ذلك بمثابة القاعدة المختصرة للشروحات التي تسبقها، وهي طريقة تعليمية حديثة تربوية، تزيد الموضوع وضوحاً وتيسيراً. وغالباً ما يعلّق على الحدود التي يذكرها – في هامش كتابه – تعليقات تدل على عقليته الدقيقة المنظمة، ونظره الثاقب، فبعد تعريفه الفعل بأنه "كلمة تدل على أمرين معاً هما: معنى (أي حدث) وزمن يقترن به"([83])، قال: "انّ دلالته على الأمرين هو الأعم الأغلب، لأن الفعل في التعريفات العلمية لا يدل على زمان وانما هو منسلخ عنه، مجرد منه كما نصّ الخضري([84])، ويرى فريق من النحاة([85]) إن (كان) الناسخة لا تدل على معنى (حدث) وانما يقتصر دلالتها على إفادة المضي وحده، وهناك أفعال ماضية سلبت الدلالة على الزمن الماضي بسبب استعمالها للحال في الإنشاء وانما تدل على المعنى المجرد المخصص له مثل دلالتها على افعال العقود (كبعث واشتريتُ) وفعلي التعجب في أكثر احوالهما، ثم يطيل الكلام في توضيح أزمنة الأفعال ويحددها بدقة([86]).
وان اختلف النحاة في تعريف ما ، ينتخب، ماراعو فيه جانب الدقة وخلا من العيوب ومال إلى الوضوح واليسر، ويتجنب التعريفات التي بالغوا فيها حتى انتهوا إلى اطالة مذمومة لا تناسب التعريف، او اختصار معيب يحوي الغموض والابهام([87]).
- العناية بالمصطلح النحـوي:
يرى الأستاذ عباس حسن إن نُبقي على المصطلحات العلمية المأثورة، لشيوعها واستقرارها، فلم يفكّر في تغييرها "ايماناً واقتناعاً بفائدتها وبما سجله العلماء قديماً وحديثاً من ضرر هذا التمييز الفردي وفاءً بما اشترطوه في تغيير المصطلحات إن يكون باجماع المختصين المشتغلين بالعلم الذي يحويها"([88]).
ولا يخفى على من يروم تيسير النحو اهمية ذلك، فقد يسبب تغيير المصطلحات الشائعة إلى بلبلة وعسر لدى المتعلمين لذلك تمثلت عناية عباس حسن بالمصطلحات القديمة بالدراسة والمناقشة وانتخاب الأنسب منها وتوضيح العسير منها كاصطلاح (النسبة الجزئية) قال عنه: (مجرد المغايرة المطلقة)([89]). ويستقصي مترادفاتها ويكتفي بذكرها وتوضيحها دون ترجيح كقوله في (لمّا) ظرف زمان بمعنى حين وتسمى (الحينية) ويسميها بعضهم (الوجودية) لأنها الرابطة لوجود شيء بوجود غيره، أو (لما التوقيتية) لأنها بمعنى الوقت([90]). وكقوله في ياء المتكلم: (تسمى أحياناً ياء النفس)، ونون الوقاية: (قد تسمى نون العماد)([91]).
وأحياناً يرجّح مصطلحاً على آخر لأسباب يذكرها، نحو ترجيحه اصطلاح (النائب عن الفاعل) على (المفعول الذي لم يسم فاعله) "لأنه احصر، ولأن النائب عن الفاعل قد يكون الفاعل وقد يكون مفعولاً به في أصله وغير مفعول به كالمصدر والظرف والجار مع مجروره"([92]). وقد يرّد مصطلحاً لعدم دقته كقوله: " لا يسمى التمييز المجرور بمن تمييزاً إلا المنصوب، والأحسن مراعاة الاصطلاح"([93]).
لكنه – غالباً – يستند إلى اساس انتخاب المصطلح الأشهر والأكثر شيوعاً واستقراراً لدى النحاة نحو تسميتهم (جمع المؤنث السالم) بـ (الجمع بالألف والتاء المزيدتين) كابن مالك وابن هشام([94])، لأن مفرد قد يكون مذكراً، وقد لا يسلم بعد جمعه كسرادق وسرادقات، وسجدة وسَجَدات. فلم ينتخب عباس حسن المصطلح الأدق بل رجّح الأشهر وهو (جمع المؤنث السالم)([95]).
ويقول في باب العطف: " كان الأفضل الأقتصار على كلمة (النسق) بمعنى المنسوق من اطلاق المصدر على المفعول. أي الكلام المنسوق بعضه على بعض والنسق اصطلاح كوفي، وقد اشتهر حتى لا يكاد غيره يذكر وانّ سيبويه وكثيراً من البصريين يعبرون عنه بـ (الشركة)…"([96]).
ولم يعول على الخلاف الحاصل بين الكوفيين والبصريين في الاصطلاح، لأنه كان لا يرى ثمة اهمية لذلك، لأن المصطلح يحدده شيوعه واجماع المختصين والمشتغلين بالنحو عليه، فقد يرى سبب الاختلاف هو التطور التاريخي للاصطلاح لا الخلاف المذهبي كما ذهب بعضهم، كاصطلاح (البدل) المشهور، يسمى عند القدامى: (الترجمة والتبيين والتكرير). فلا يرى قيمة لهذا الاختلاف القائم على مجرد الاصطلاح باختلاف العصور([97]).
ولم يكن – دائماً- ينتخب الأشهر من المصطلحات بل يرجح احياناً غير الأشهر لدقته كاصطلاح (اسم مثنى) الذي أطلقه ابن يعيش([98]) على (الملحق بالمثنى). ويسكت عن مصطلحات مهمة لعدم شهرتها كـ (التقريب) الذي قالوا عنه انه لم يعرفه سيبويه وهو أن يعمل اسم الإشارة عمل كان بشروط([99]).
انتهى الجزء الاول