عرض مشاركة واحدة
  #3  
قديم 30-08-2019, 03:07 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 163,949
الدولة : Egypt
افتراضي رد: النحو العربي والنص

النحو العربي والنص
د. عبد السلام السيد حامد



الجزء الثانى

ثانياً ـ علاقة النحو العربي بنحو النص :
نحو النص نظرية أو اتجاه لغوي غربي حديث من اللسانيات الوصفية يُعنى بوصف البنية الكلية للنص وتحليلها وبيان علاقاتها – دون الاقتصار على دراسة الجملة فقط كما هو مألوف في النحو العادي – مع تركيز الاهتمام على توضيح أوجه الاطراد والتتابع اللغوية النصية التي تحقق تماسك النص وتناسقه([51]) . ومن المعلوم أن هذا الاتجاه يضع معايير سبعة تكفل للنص صحة كونه نصّا، وهذه المعايير هي :
1 ـ السبك أو التماسك (Cohesion) ، ويقصد به تتابع البناء الظاهري للنص عن طريق استخدام وسائل الربط النحوية والقاعدية المختلفة .
2 ـ الحبك أو التناسق (Coherence) . ويقصد به التتابع الدلالي للمفاهيم والعلاقات داخل النص، وهذا المعيار ألصق بجانب الربط المعنوي، ويمثل كلا هذين المعيارين الأولين أهم المعايير، وهما يعملان معاً في تآلف وتآزر حميمين .
3 ـ القصد، فليس من قبيل النص لغو الكلام وحشوه وكلام المكره والناسي والمخطئ والسكران.
4 ـ التناصّ، وهو علاقة تقوم بين أجزاء النص بعضها وبعض كما تقوم بين النص والنص الآخر، كعلاقة الجواب بالسؤال وعلاقة المتن بالشرح وعلاقة التلخيص بالنص الملخص وعلاقة الغامض بما يوضحه والمحتمل المعنى بما يحدد معناه .
5 ـ رعاية الموقف (المقامية) : ويقصد بها العوامل التي تجعل النص مرتبطاً بموقف سائد يمكن استرجاعه. ومثال هذا بالتطبيق على القرآن الكريم توجيه قوله تعالى : " ولا تُطع الكافرين والمنافقين ودع أذاهم وتوكل على الله" [الأحزاب : 48] بمراعاة ما نعرفه من السيرة على أن اسم المصدر فيه مضاف إلى الفاعل لا إلى المفعول؛ إذ إن المعروف أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو الذي كان يؤذى، وكذلك توجيه قوله تعالى : " وما علمناه الشعر وما ينبغي له " [يس : 69] على أن " ما" نافية لا على أنها موصولة كما يسمح بذلك احتمال الكلام هنا .
6 ـ الإعلامية : ومعناها أن يكون للنص مضمون يريد إبلاغه للمتلقي، فليس من قبيل النص قول المجنون بن جندب :
محكوكة العينين معطاء القفا كأنما قدّت على متـن الصفا
ترنو إلى متن شراك أعجـفا كأنـما ينـشر فيـه مصحفا
إذ لا مضمون للبيتين. وكذلك كل كلام هرائي لا معنى له، ومثل هذا ربما لا يكون لنحو الجملة اعتراض عليه؛ لأن كل جملة استوفت أركانها ومكملاتها وحس ترتيبها بحيث يجوز أن تحلل وتعرب. لكن نحو النص لا يقبل مثل هذا إلا بعد طول تأمل وتحليل ([52]) .
7 ـ القبول : وهي صفة تعني أن النص يمثل صورة مقبولة من صور اللغة بين أجزائها تماسك والتحام وهي محددة الدلالة، وهذه صفة يضعها نحو النص في مقابل مطابقة القاعدة وتعني أنه لا يقبل ـ مثلاً ـ التردد في الأوجه الإعرابية المختلفة المحتملة في الموضع الواحد، ولكن يعمل على تسخير كل صفاته كالتناصّ ورعاية الموقف والإعلامية وغيرها لاتخاذ قرار يؤدي إلى تحديد المعنى ([53]). ومثال ذلك أنه لا يقبل التردد في أوجه الإعراب الناتج عن أن المصدر من الممكن أن تكون إضافته إلى الفاعل أو المفعول كما في " زيارة الأصدقاء تسعد النفس " أو التردد الناتج عن أن الصفة بعد المتضايفين صالحة لكل منهما كما في " عجبت لمعلمة اللغة العربية " .
هذا هو الإطار العام لنظرية علم النص لدى الغربيين، لكنّ هناك تفاوتاً في الاتجاهات والاهتمامات بين نظرياته المختلفة؛ فهاليداي ـ مثلاً ـ اهتم بالتركيز على وسائل الاتساق اللغوية النحوية والمعجمية والدلالية المتعددة وحاول أن يصفها وصفاً دقيقاً وحَصَرها في الإحالة والاستبدال والحذف والوصل والاتساق المعجمي، وفندايك اهتم بالمستويين الدلالي والتداولي من أجل الوصول إلى شيء أعم مثل موضوع الخطاب والبنية الكلية، وبراون ويول ركّزا على كيفية فهم المتلقي للخطاب وتأويله ([54]).
وبناءً على هذا، يرى كثيرون أننا إذا عدنا إلى النحو العربي وقارنا بينه وبين نحو النص ـ بهذا الفهم ـ نجد أنه نحو جملة أو من لسانيات الجملة . وقد وضح ذلك الدكتور تمام حسان ذلك بالاعتماد على نقاط الاختلاف والاتفاق بين الاثنين . فهناك صفات يتسم بها نحو الجملة وحده وهي :
1 ـ الاطّراد ، ومعناه أن القاعدة حكَم على اللغة الفصيحة، وعلى رغم الاعتراف بالفصاحة للشذوذ يظل الشاذ شاذاً.
2 ـ المعيارية، وتعني أن القاعدة سابقة على النص وأنها معيار للصواب والخطأ ينبغي أن يراعى عند إرادة القول.
3 ـ الإطلاق، ومعناه أن القاعدة النحوية صادقة على ما قيل من قبل وما سيقال من بعد فهي الحكم الذي يرد إليه الكلام كله .
4 ـ الاقتصار في بحث العلاقات على حدود الجملة الواحدة فلا يتخطاها إلا عند الإضراب أو الاستدراك أو العطف وما يشبه ذلك .
ونحو النص ينأى عن هذه الصفات الأربع كلها . فهو فيما يتعلق بالاطّراد يعترف بالمؤشرات الأسلوبية، وهي تصرفات خاصة يلجأ إليها منشئ النص ليميزه عن غيره أو ليثير بها انتباه المتلقي. وهو أبعد ما يكون عن المعيارية والإطلاق؛ لأنه نحو تطبيقي لا يأتي دوره إلا بعد أن ينشأ النص ويكتمل. وكذلك يتجاوز نحو النص العلاقات داخل حدود الجملة الواحدة إلى أجزاء النص كله أيا كان طوله، محللاً إياها ومتتبعاً لها.
وفي مقابل ما سبق هناك صفات تخص نحو النص وحده ولا تعني نحو الجملة في شيء، وهي خمسة من المعايير السبعة التي ذكرناها من قبل للنص: القصد والتناصّ ورعاية الموقف (المقامية) والإعلامية والقبول .
ويتفق الاثنان نحو الجملة ونحو النص في صفتين هما : التضام (وهو ما ذكرناه باسم السبك) والاتساق(وهو ما ذكرناه باسم الحبك). والتضام علاقة لفظية تشمل الافتقار والاختصاص والتلازم والمطابقة وعود الضمير وما شابه هذا، والاتساق علاقة في المعنى بين المتضامين تجعل أحدهما غير نابٍ في الفهم عن الآخر. فلا وجه لجملة فعلية مثل "فهم الحجر" ولا لجملة اسمية مثل "السماء تحتنا". فذلك غير مقبول في الظروف العادية لاستعمال اللغة وقد يكون مقبولاً في المواقف غير المعتادة كالسخرية والمجاز ([55]).
وهذا الاختلاف الواضح بين الاثنين : نحو الجملة ونحو النص، لا يترتب عليه إمكان إغناء أحدهما عن الآخر، بل هما يتكاملان وقواعد نحو الجملة تمثل جزءًا أساسياً غير قليل ينبني عليه نحو النص ([56]) .
ومع هذا التصنيف للنحو العربي على أنه ـ كغيره من الأنحاء النمطية ـ "نحو جملة" وليس "نحو نص" وأنه لا يدخل في هذا الإطار، يمكننا أن نجد لمحات ونظرات نصية لدى بعض النحاة، وأن نلاحظ كثيراً من المعطيات النصية في النحو العربي. وهذا يتضح في مسألتين : حصر جهود النحاة النصية، والالتفات إلى أثر النحو العربي فيما سمي بلسانيات النص العربية :
أ ـ فحصر جهود النحاة النصية يكون بدراستها في النماذج التي تمثلها خير تمثيل، أي من خلال دراسة أعلام النحاة الذين عنوا بالنص واهتموا به، وبدراسة النحو التطبيقي.
وفي هذا نقول إن أعلام النحاة الذين عنوا بالنص عناية كبيرة نظرياً وتطبيقياً على رأسهم ابن جني وابن هشام . فابن جني جمع بين النظر والتطبيق خاصة في كتبه الخصائص والمحتسب وشروحه الشعرية المتعددة، وكان له في ذلك أصول ومبادئ وآراء وتطبيقات كثيرة لا تنكر، لها أثرها([57]). وابن هشام اهتم في كتبه ـ ولا سيما مغني اللبيب وشرح شذور الذهب ـ بالتطبيق والاستشهاد كثيراً بالقرآن الكريم ، بل إن كتابه المغني متوجه توجهاً نصياً باهتمامه كثيراً بالقرآن من حيث الغاية والتنظير والتطبيق، ومراجعة مقدمة الكتاب ومسائلة تثبت هذا. ففي المقدمة ذكر أن غرضه من كتابه تيسير علم الإعراب بعد أن أصبحت الكتب الموضوعة فيه مكررة مليئة بالحشو، وليس فيها الأصول العامة والقوانين الكلية التي تضبط الفهم وتذلل الصعب، وكل ذلك خدمة للقرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، يقول: " فإن أولى ما تقترحه القرائح، وأعلى ما تجنح إلى تحصيله الجوانح، ما يتيسر به فهم كتاب الله المنزل، ويتضح به معنى حديث نبيه المرسل ... وأصل ذلك علم الإعراب الهادي إلى صوب الصواب ... ووضعت هذا التصنيف على أحسن إحكام وترصيف، وتتبعت فيه مقفلات الإعراب فافتتحتها، ومعضلات يستشكلها الطلاب فأوضحتها ونّقحتها، وأغلاطاً وقعت لجماعة من المعربين وغيرهم فنبهت عليها وأصلحتها " ([58]).
وبالإضافة إلى أن نصف الكتاب تقريباً خصص للحديث عن حروف المعاني ـ وهي ذات فاعلية كبيرة في الربط وبناء الجمل وتتابعها ـ نجد الأبواب الآتية من أهم مسائل الكتاب التي تنصب على التنظير لنحو الجملة الموجّه للتطبيق وتجاوز في كثير من الموضوعات حدود الجملة الواحدة:
ـ الباب الثاني وهو في تفسير الجملة وذكر أقسامها وأحكامها، ومن ذلك : الجمل التي ليس لها محل من الإعراب وهي سبع، والجمل التي لها محل من الإعراب وهي تسع.[2/374] .
ـ الباب الرابع وهو في ذكر أحكام يكثر دورها، مثل ما يعرف به المبتدأ والخبر، وما يفترق فيه عطف البيان والبدل، والحال والتمييز. وتفصيل الروابط من جهتين : روابط الجملة بما هي خبر عنه وهي عشرة، والأشياء التي تحتاج إلى رابط وهي أحد عشر شيئاً . [2/498،502] .
ـ الباب الخامس : الجهات التي يدخل الاعتراض على المعرب من جهتها وهي عشر ، منها : أن يراعي ظاهر الصناعة ولا يراعي المعنى، والعكس، وأن يخرّج على ما لم يثبت في العربية، وأن يترك بعض ما يحتمله اللفظ من الأوجه الظاهرة، وألا يراعي الشروط المختلفة بحسب الأبواب، وأنه تجوز أشياء في الشعر ولا تجوز في النثر. [2/527 ـ 592] .
ـ الباب السادس : في ذكر أمور اشتهرت بين المعربين والصواب خلافها. [2/650] .
وجاء في مقدمة "شرح شذور الذهب" له : " والتزمت فيه أنني كلما مررت ببيت من شواهد الأصل ذكرت إعرابه، وكلما أتيت على لفظ مستغرب أردفته بما يزيل استغرابه، وكلما أنهيت مسألة ختمتها بآية تتعلق بها من آي التنزيل، وأتبعتها بما تحتاج إليه من إعراب وتفسير وتأويل، وقصدي بذلك تدريب الطالب، وتعريفه السلوك إلى أمثال هذه المطالب" ([59]).
وأما النحو التطبيقي فأعني به كتب إعراب القرآن وبيان معانيه وكتب التفسير التي اهتمت بالنحو وشروحَ الشعر المختلفة، ومن المعروف " أن حيوية النحو (العربيّ) في القديم نبعت من أنه علم نصي، نشأ في حضن القرآن الكريم والشعر العربي القديم، وأن النحاة لم يوقفوا دراستهم على الجانب النظري وحسب، بل تخطوا ذلك إلى الجانب التطبيقي؛ متخذين من القرآن الكريم والشعر العربي القديم وشعر معاصريهم أحياناً مادة خصبة للتطبيق النحوي " ([60]).
ومن أمثلة الواضحة لذلك في القرآن الكريم التحليل أو التفسير النحوي الذي قدمه أبو حيان لقوله تعالى : " واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين . الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم وأنهم إليه راجعون " [البقرة : 45،46] . فقد تكلم في هاتين الآيتين بالتفصيل عن النقاط الآتية : مرجع الضمير في "إنها" واحتمالاته المختلفة ـ الاستثناء المفرغ بإلا ـ موقع "الذين" وأنه يجوز فيه الإتباع والقطع إلى الرفع أو النصب للمدح ـ معنى الظن في "يظنون" وكونه بمعنى اليقين أو الحسبان ـ معنى "الملاقاة" صرفياً بناءً على أنه إذا قيل إن " فاعلَ " تأتي بمعنى " فَعَلَ " (مثل عافى وعاقبَ) فهذا لا يصح هنا لأن الصيغة المجردة من هذا الفعل (لقيَ) تدل على الاشتراك ؛ فمادة اللقاء مجردة ومزيدة تقتضي الاشتراك في كل حال ـ معنى الإضافة غير المحضة في "ربهم" وكون الإضافة إلى الرب في غاية الفصاحة ـ تفسير معنى "الملاقاة" دلالياً على أربعة أوجه : الأول : أن يكون اللقاء بمعنى رؤية الله سبحانه، وعلى هذا يكون الظن على بابه يراد به الترجيح ، والثاني : أن يكون على حذف مضاف والتقدير : يظنون أن ملاقو جزاء ربهم، والظن بمعنى اليقين، والثالث : أن يكون بمعنى الكناية عن الموت وانقضاء الأجل، والظن على هذا بمعنى اليقين أيضاً، والرابع : أن يكون بمعنى حذف مضاف أخص، أي يظنون أنهم ملاقو ثواب ربهم، والظن هنا على بابه بمعنى الحسبان ([61]).
ومن هذا في شرح الشعر شرح ابن هشام لقصيدة "بانت سعاد" وهو من الشروح التي تتميز بالأصالة والتي اعتمد عليها جملة وافرة من الشراح الآخرين، ويأتي في عداد الشروح التي اهتمت في المقام الأول بإعراب القصيدة ومسائلها النحوية ، لكنه لا يخلو مع ذلك من وجوه أخرى من الاهتمام ، كالاهتمام بالفوائد اللغوية والبلاغية والأدبية وغيرها، وقد اشتمل على مسائل دقيقة خلا من أكثرها جميع مصنفاته، ووصفه البغدادي قائلاً : "إنه غاص على معاني الأبيات ، وفحص عن عويصاتها الأبيّات، وحل تراكيبها المشكلة، وفتح مبانيها المقفلة، ودرّب الطالب الماجد على تخريج طرق الأعاريب في التركيب الواحد " وهو يعد مع شرح أحمد بن محمد بن الحداد البجليّ البغدادي ـ وعصر تأليفهما متقارب ـ أجل شروح القصيدة، لكن شرح البغداديّ أكثر استنباطاً لمعاني الشعر ([62]). ومن النماذج العملية في هذا الشرح أن ابن هشام شرح المعنى الإجماليّ لستة عشر بيتاً وكان في الوقت نفسه معنياً بربط معاني الأبيات فيما بينها، ولذا قال في شرح البيت الثامن والثلاثين :
أنبئتُ أن رسول الله أوعدنـي والعفوُ عند رسول الله مأمولُ
" جميع ما تقدم توطئة لهذا البيت فإن غرضه من القصيدة التنصل والاستعطاف" . وبعد هذا البيت قول كعب :
مهلاً هداك الذي أعطاكَ نافلة الـقرآن فيها مواعيـظٌ وتفصيل
بين ابن هشام أن هذا البيت وما بعدة تتمة للاستعطاف، والاستعطاف فيه من جهات: أحدها : طلب الرفق والأناة، والثاني : الدعاء له في قوله "هداك"، والثالث : التذكير بنعمة الله عليه، والرابع : الإقرار بالتنزيل، والخامس : التذكير بما جاء في التنزيل من قوله تعالى : " خذ العفو وأمر بالعرف وعرض عن الجاهلين" [الأعراف : 199] ([63]).
ب ـ على عكس النحو، ثمة علوم أخرى عربية تُصنف على أنها لسانيات النص في التراث العربي، وهي البلاغة ـ وتتعامل مع النثر والشعر ـ والنقد الأدبي ـ وهو يركز على الشعر ـ ومجال التفسير وأصول الفقه وهما موجهان إلى القرآن والحديث النبوي ([64]) . فهذه العلوم بطبيعة مجالها واهتماماتها ومباحثها توجه إلى النص، ومع هذا سنجد أنها ـ وخاصة البلاغة ومجال تفسير القرآن ـ أفادت من نحو الجملة العربي كثيراً ووسعته وبنت عليه، حتى إننا يمكن أن نستخلص مجمل ما قدمه هذان المجالان (أي البلاغة وتفسير القرآن) لنحو النص بعد الإفادة من النحو في هذين الأمرين :
1 ـ أن البلاغة العربية اهتمت بالأدوات التي يتماسك بها الخطاب، وقد توزع هذا الاهتمام على مستويات المعجم والدلالة والتداول ([65]). وقد كان المبحث المهيمن على المستويات كلها بل على البلاغة العربية جميعها هو مبحث الفصل والوصل ([66])، وهذا هنا يعني الإرث النحوي الكبير في هذا المبحث؛ لأنه قام على أسس نحوية كثيرة وواضحة . ففكرة الفصل والوصل قامت على أساس العطف واستحضار باب التوابع . وخلاصة ما رآه عبد القاهر في هذا أن الجملتين إذا كانتا متصلتي الموضوع ومن واد واحد ـ كالصفة مع الموصوف والتأكيد مع المؤكَّد ـ وجب ترك العطف، وكذلك يجب تركه إذا كانت الثانية منهما غريبة عن الأولى، أما عندما يكون حال الجملة مع ما قبلها كحال الاسم الذي يكون غير ما قبله لكن يشاركه في الحكم، مثل أن يكون كلا الاسمين فاعلاً أو مفعولاً، فهنا يجب الوصل والعطف. والحالة الأولى سماها السكاكي "كمال الاتصال" والثانية سماها "كمال الانفصال" والثالثة سماها "بين بين" ([67]). وبناءً على هذا إذا جاز للبلاغة العربية أن تُعدّ علماً نصياً وأنها أقرب إلى النص وعلم لغة النص من النحو ، فلا ينبغي أن ننسى الأصول النحوية النصية لهذه البلاغة، المستّمدّةَ من جهود سيبويه وابن جني ومؤسس البلاغة عبد القاهر الجرجاني.
2 ـ أن مجال تفسير القرآن وعلومه (كما تثبت نماذجه عند الزمخشري والرازي والبقاعي والزركشي والسيوطي) اهتم بانسجام الخطاب على ثلاثة مستويات : النحو والمعجم والدلالة، وقد اعتنى في النحو بالعطف والإحالة والإشارة، وفي المعجم اعتنى بالتكرار وبناء السورة على حرف أو حروف، وفي الدلالة اعتنى بموضوع الخطاب وتنظيمه وترتيبه وبالعلاقات من حيث البيان والتفسير والإجمال والتفصيل والعموم والخصوص ([68]).
وبناءً على ما سبق ندرك أن النحو العربي ـ وإن لم يكن نحو نص بالمفهوم الحديث ـ علم نصي بالمفهوم العام لتعلقه الوثيق بالقرآن الكريم والشعر وأن له إسهاماته الواضحة في هذا. ويدخل ما قدمه النحو العربي في هذا الشأن في باب "التماسك" أو السبك (Cohesion) أكثر من غيره. ويرى أحد الدارسين أن خلاصة ما تقدمه مفاهيم المستوى النحوي في لسانيات النص العربية لنحو النص من هذه الزاوية يتمثل في ثلاثة جوانب هي : العطف والإحالة والإشارة. وفي مقابل ذلك تتلخص مفاهيم المستوى النحوي الخاصة بالاتساق في المقترحات الغربية في جوانب : الإحالة والإشارة والاستبدال والحذف والوصل وأدوات المقارنة. ويقترح من أجل إقامة دراسة تطبيقية وفق خطته دمج خلاصة النظرة العربية والنظرة الغربية للمستوى النحوي بحيث تصبح : الإحالة والإشارة وأدوات المقارنة والعطف والحذف والاستبدال ([69]). وبناءً على هذا، يكون الجديد الذي لم يكن في الإنجاز العربي في تصور الباحث وحاول أن يأخذه من الإنجاز الغربي هو : أدوات المقارنة والحذف والاستبدال. ومجمل هذا في رأيي غير صحيح؛ لأن هذه المفاهيم ليست بعيدة عن مقولات النحو العربي والبلاغة العربية، وليس هناك أوضح في هذا الشأن من الحذف والاستبدال. وقد نتج هذا التصور عن أسباب مختلفة أهمها أنه أبعد معطيات النحو العربي نفسه عن لسانيات النص.
وبعد هذا التحري عن خلاصة ما قيل في علاقة النحو العربي بنحو النص، هل من الممكن أن نعيد النظر فيما يمكن أن يقدمه النحو العربي لنحو النص ؟ أرى هذا ضرورياً، لكن لا بد أن يسبق ذلك تحديد نوع النص الذي نريد للنحو أن يخدمه؛ لأن المفاهيم النصية ووسائل التماسك تختلف في بعض الأحيان من نمط إلى آخر. وقد جرت العادة حتى في مجال الدراسات الحديثة على أن نتعامل مع نمط نصي واحد هو النص الأدبي وكأنه هو النوع الوحيد المتاح دون غيره. إن أكثر التصنيفات مناسبة وقبولاً أن نقسم النصوص إلى ثلاثة أنواع : نصوص أدبية، ونصوص علمية، ونصوص تواصل اجتماعية ذات أشكال مختلفة. وسنقصر الحديث هنا على النصوص الأدبية فقط لضيق المجال اختصاراً، لا جرياً وراء العادة .
إن خلاصة ما يمكن أن يقدمه النحو العربي بصورته المعروفة إلى نحو النص في المجال الأدبي، تتمثل في : المناسبة الصوتية في الصيغ، وكيفية تعليق الوظائف النحوية بعضها ببعض، والربط بصوره المختلفة، والاستعمال العدولي. وتوضيح هذا على النحو الآتي :
أ ـ كثير من أمثلة المناسبة الصوتية في الصيغ يدخل في إطار ما سماه ابن جني " قوة اللفظ لقوة المعنى "، ومن هذا مناسبة "مقتدر" لمعنى التفخيم والدلالة على الجزاء وشدة الأخذ به في قوله تعالى: " فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر " [القمر:42] وهي في هذا أبلغ من "قادر" ، وكذلك مناسبة خفة لفظ "كسبت" للحسنات ومناسبة التفخيم والزيادة في لفظ "اكتسبت" للسيئات في قوله تعالى: " لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت " [البقرة:286] وذلك لثقل وقع السيئات وعظم استنكارها وقبحها ([70])، وحذف التاء في الفعل "اسطاع" فيه إشعار بنقصان القدرة ووجودها دليل على كمالها، ولذا كان حذف التاء فيه وهو منفي في سورة الكهف دالاً على ذهاب القدرة وكان وجود التاء فيه وهو منفي دالاً على ذهاب كمالها وإمكانها بصعوبة ، نلحظ ذلك في قوله تعالى : " لن تستطيعَ" ـ " ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا" ـ " فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقباً [الكهف : 75،82، 97] ، وكذلك مناسبة خفة الفتحة في لفظ "الحَزَن" لموقف الحمد والشكر في قوله تعالى :" وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحَزَن إن ربنا لغفور شكور " [فاطر: 34] ومناسبة ثقل الضمة فيه لموقف الضيق والألم في الحديث عن يعقوب : " وتولى عنهم وقال يا أسفى على يوسف وابيضت عيناه من الحُزن فهو كظيم" [يوسف: 84] . ومن هذا الباب أيضاً استعمال القرآن الفعل (مات) مسنداً إلى ضمير الرفع المتصل في الماضي مضموم الميم في مواقف التعظيم والتشريف ومكسورها في مواضع الهوان والصغار، ومن الأول قوله تعالى:"ولئن قُتلتم في سبيل الله أو مُتم لمغفرة من الله ورحمة خيرٌ مما يجمعون، ولئن مُتم أو قُتلتم لإلى الله تُحشرن" [آل عمران : 157،158] ومن الثاني قوله تعالى: " فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت يا ليتني مِتُّ قبل هذا وكنتُ نسياً منسياً" [مريم : 23] وكذلك الدلالة الواضحة للتضعيف " في نحو " اثّاقلتم " على التباطؤ وشدة الالتصاق بالأرض، ودلالة تضعيف الكاف والباء في " فكُبْكِبوا فيها " على قلب الكفار بعضهم على بعض وإلقائهم على وجوههم مرة بعد أخرى في جهنم حتى يستقروا في قعرها. وقد تكون المناسبة الصوتية لمجرد الخفة كما في القراءة الواردة بجر "خُضْر" في قوله : " عاليهم ثيابُ سندسٍ خضرٍ " [الإنسان : 21] وكذلك الحديث : " ارجعن مأزورات (بدل موزورات أي مذنبات) غير مأجورات " ([71]) .
ب ـ وتعليق الوظائف النحوية هو صلب مهمة النحو، ومعناه توزيع الأبواب النحوية بقرائنها اللفظية والمعنوية على الجملة وأجزائها بحيث تترابط الأجزاء وتتكامل المعاني، ويكون هذا مناط النظم على نحو ما وضح عبد القاهر في نظريته المشهورة في هذا.
ج ـ قدم النحو العربي للربط صوراً متعددة، هي: الربط بالأداة والربط بالمطابقة والربط بتكرار اللفظ أو المعنى والربط بالإحالة (الضمير أو الإشارة أو الموصول الاسمي أو الحرفي) .
فالربط بالأداة قد يكون عن طريق : أدوات الجمل (ولنا أن نتخيل أهمية هذه الأدوات عندما نعرف أن أنواع الجمل العربية أربعة وعشرون نوعاً منها تسعة عشر تتقدمها الأداة) وأدوات الأجوبة، وأدوات المفردات مثل حروف الجر والاستثناء والعطف والمعية، وهذه قد تربط بين الاسم والاسم أو الاسم والفعل أو الفعل والفعل . وتكمن أهمية الربط بالأداة ـ كما وضحت من قبل ـ أن الأدوات معانيها نصية سياقية لأنها لا تكون في ألفاظها وإنما تكون في غيرها. وتكمل وسائل الربط بأن يضاف إلى ما سبق: الربط بتكرار المطلع والربط بالموصول والربط بالوصف، فمثال الربط بتكرار المطلع قوله تعالى: " ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فُتنوا ... إن ربك من بعدها لغفور رحيم " [النحل : 110] والربط بالموصول يقصد به وضع الاسم الظاهر موضع الضمير ومثاله قوله تعالى : " إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملاً " [الكهف:30] ، والربط بالوصف يقصد به اللفظ الواصف للمرجع بحيث يدل عليه ولا يكون اسماً له مثل قوله تعالى : " قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين " [التوبة:14] أي ويشف صدوركم ([72]).
د ـ مجمل نصيب النقد الأدبي من النحو أمران : نقد صحة النص على المستوى الأصولي (أي مستوى ما تقتضيه أصول القواعد) ([73])، ونقد أسلوب النص على مستوى الاستعمال العدوليّ ([74]). والاستعمال العدولي (وهو ما يسمي في مجال النقد والدراسات الأسلوبية بالانحراف) معناه اختيار أسلوب مغاير لأصل القاعدة يكون مسموحاً به في الغالب ويكون هو مكمن البلاغة وسر تميز أسلوب عن أسلوب وأداء عن أداء، وقد وضع النحاة الأسس والأركان لهذا المبدأ ثم سخرت البلاغة العربية نفسها لخدمته وتطويره وتفصيله، وأصبح شغلها الشاغل. ومن النحاة الذين أصلوا لذلك ومهدوا سبيله ابن جني وقد سماه "شجاعة العربية"، قال في مقدمة الباب الذي يحمل هذا الاسم : " اعلم أن معظم ذلك إنما هو الحذف، والزيادة، والتقديم، والتأخير، والحمل على المعنى، والتحريف "([75]). والأهم من هذا عنده أنه ربط هذا المبدأ (أي شجاعة العربية) بالمجاز، وفائدته ـ كما رأى ـ تحقيق ثلاثة معان: الاتساع والتوكيد والتشبيه؛ " ألا ترى أنك إذا قلت : بنو فلان يطؤهم الطريق، ففيه من السعة إخبارك عما لا يصح وطؤه بما يصح وطؤه ... ووجه التشبيه إخبارك عن الطريق بما تخبر به عن سالكيه، فشبّهته بهم إذ كان هو المؤدي لهم فكأنه هم. وأما التوكيد فلأنك إذا أخبرت عنه بوطئه إياهم كان أبلغ من وطء سالكيه لهم. وذلك أن الطريق مقيم ملازم، فأفعاله مقيمة معه وثابتة بثباته، وليس كذلك أهل الطريق، لأنهم قد يحضرون فيه ويغيبون عنه ..." ([76]).
وبناءً على ما سبق في مفهوم العدول وشجاعة العربية، مثال الحذف قوله تعالى : " فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا " [البقرة:6] أي فضرب فانفجرت ، وكذلك " فمن كان منكم مريضاً أو به أذىً من رأسه ففدية" [البقرة:196] أي فحلق فعليه فدية، ومن أمثلة الزيادة : قوله تعالى : " ليس كمثله شيء" [الشورى : 11] فالكاف زائدة للتوكيد ([77])، ومن أمثلة التقديم تقديم الحال على عاملها في : " خشعاً أبصارهم يخرجون من الأجداث " [القمر:7 ]. ويتعلق بالتقديم والتأخير ما يسمى بالفصول والفروق كالفصل بين الظرف والمصدر العامل فيه بالخبر في قوله : " إنه على رجعه لقادر. يوم تبلى السرائر " [الطارق:8،9] فالمعنى : إنه على رجعه لقادر يوم تبلى السرائر. والحمل على المعنى باب واسع جداً، منه تذكير المؤنث وتأنيث المذكر وتصور معنى الواحد في الجماعة ومعنى الجماعة في الواحد والعطف على التوهم والتضمين ، فمن تذكير المؤنث مثلاً : " فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي " [الأنعام:78] أي هذا الشخص أو المرئي، ومن عكس ذلك ـ وهو تأنيث المذكر ـ تأنيث "الصوت" مراداً به معنى الاستغاثة في قول الشاعر:
يأيها الراكب المُزجي مطيّـته سائلْ بني أسدٍ ما هذه الصوتُ
ومن العطف على التوهم : " لولا أخرتني إلى أجل قريبٍ فأصدَّقَ وأكنْ " [المنافقون:10] فأكن مجزوم لأنه محمول في العطف على معنى : إن تأخّرْني أصدّقْ وأكنْ . ومن التضمين : " أحِلّ لكم ليلة الصيامِ الرفثُ إلى نسائكم " [البقرة : 187] فقد عديَّ الرفث بإلى لما كان معناه الإفضاء . والتحريف يكون في الاسم والفعل والحرف، ومن أمثلة ذلك في الحرف قراءة تخفيف الميم في "لما" في قوله تعالى : " إن كل نفسٍ لما عليها حافظ " ([78]).
يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 38.54 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 37.92 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.63%)]