عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 26-08-2019, 04:32 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,156
الدولة : Egypt
افتراضي رد: النّحاة العرب وسبلهم في التأليف

النّحاة العرب وسبلهم في التأليف
ـــ محمّد وليد حافظ



3-وازدهر علم المعاني، ولاسيما بعد كتاب الإمام عبد القاهر الجرجاني "دلائل الإعجاز" واستوى على يد الزمخشري في "الكشاف"، يعقب الزمخشري على الآية الكريمة "ولكم في القصاص حياة"(28) بقوله: "هذا كلام فصيح لما فيه من الغرابة، وهو أن القصاص الذي هو قتل وتفويت للحياة قد جعل مكاناً وظرفاً لها"(29) وهو بهذا يشرح معنى الظرفية المجازية لحرف الجر (في). ويشرح قوله تعالى "ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله"(30): "الأصل ما أمرتهم إلا ما أمرتني به، فوضع القول موضع الأمر رعاية لقضية الأدب الحسن، لئلا يجعل نفسه وربه معاً آمرين"(31). وفي تفسير قوله تعالى: "أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه"(32): "هو تمثيل وتصوير لما يناله المغتاب من عرض المغتاب على أفظع وجه وأفحشه، وفيه مبالغات شتى، منها الاستفهام الذي معناه التقرير، ومنها جعل ما هو في الغاية من الكراهية موصولاً بالمحبة، ومنها إسناد الفعل إلى "أحدكم"، والإشعار بأن أحداً من الأحدين لا يحب ذلك"(33).

والحق أن صلة النحو بعلم المعاني وثيقة تكاد لا تتبين حدود كل منهما ولاسيما أبحاث الأدوات أو حروف المعاني، فأول ما يفعله المؤلف في بحث الأداة أو الحرف تفصيل معانيها، ومهمة علم المعاني تعميق فهم الطالب، فإذا قال ابن هشام عن الهمزة "إنها ترد لطلب التصور، نحو: أزيد قائم أم عمرو؟ ولطلب التصديق"(34) استعان الشارح بالسيد الشريف الجرجاني في حاشيته على المطول "والتحقيق أنها، أي الهمزة، في قولك (أدبسٌ في الإناء أم عسل) لطلب التصديق أيضاً، فإن السائل قد يتصور الدبس والعسل، وبعد الجواب لم يزد له في تصورهما شيء آخر أصلاً، بل بقي تصورهما على ما كان، فإن قيل: التصديق حاصل له حال السؤال فكيف يطلبه؟ أجيب بأن الحاصل هو التصديق بأن أحدهما في الإناء مثلاً، والمطلوب بالسؤال هو التصديق بأن أحدهم كالعسل مثلاً في الإناء"(35).

4-وعلى أثر الخلافات السياسية والصراعات الدموية تبلورت فرق عقائدية شتى، من قائل بالجبر، وقائل بالاختيار، ومن أهل العدل والتوحيد، إلى أهل التشبيه، إلى ما هنالك من فرق أذكت الأحداث عواطفها، وصقلت التجارب أفكارها، فوجد علم الكلام، يبحث في موضوع صفات الله، والوعد والوعيد، والأمر بالمعروف... وبسط هذا العلم جناحه على أهل العراق وفارس خاصة. ووجد مكاناً له في ساحة النحو، كما في سوح العلوم الأخرى. فإذا اختلف النحاة في إعراب (أنْ) في قوله تعالى "وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتاً"(36) لجأ بعضهم إلى علم الكلام، فقال: "إلهام الله تعالى لعباده بقوله وأمره" فرد الآخر بأن الإلهام مفسر في الكتب الكلامية بإلقاء معنى في القلب بطريق الفيض"(37). وإذا قال ابن هشام في معرض خروج (إذا) عن الاستقبال في قوله تعالى "والنجم إذا هوى"(38) "والليل إذا يغشى"(39) لأنها لو كانت للاستقبال لم تكن ظرفاً لفعل القسم لأنه إنشاء، لا إخبار عن قسم سيأتي، لأن قسَم الله قديم، أجابه الشمني "إن أراد القسم اللفظي فقد تقرر في علم الكلام أن الكلام اللفظي المؤلف من الحروف الملفوظة المسموعة ليس بقديم، ومعنى إضافته إلى الله تعالى أنه مخلوق له تعالى، ليس من تأليفات المخلوقين، وإن أراد النفسي فقد تقرر أيضاً أن الكلام النفسي صفة واحدة في الأزل ليست بمنقسمة إلى أقسام الكلام التي هي الخبر والأمر والنهي وغير ذلك"(40) ثم مضى يشرح مواقف الكرّامية الذين يثبتون الصفات لله تعالى والتجسيم والتشبيه، ومواقف الحنابلة المشابهة، وأبي الحسن الأشعري الذي خرج على المعتزلة من خلال أشهر كتب علم الكلام. ومعلوم ما أثارته مسألة خلق القرآن من مشكلات وصراعات بين المعتزلة وخصومهم زمن المأمون وبعده.

5-وبعد توضح المذاهب الفقهية نشأ علم أصول الفقه على ثلاثة أسس: علوم اللغة العربية، وعلم الكلام، والفقه. وكان ابن الحاجب صاحب "الكافية" الشهيرة من كبار أصوليي عصره، وكان منهم بهاء الدين السبكي(763هـ) والسعد التفتازاني (793هـ). ولا عجب أن يبدأ التفتازاني كتابه "شرح التلويح" بأبحاث نحوية في معاني الحروف والأدوات، فكثير من الاختلافات الفقهية منشؤها الاختلاف في فهم النصوص القرآنية، لذلك رجع الأصوليون إليها مسلحين باللغة. وكما كان القرآن الكريم نواة العلوم اللغوية فيما سبق، كان فيما بعد نواة لعلم أصول الفقه، وكما بنيت أحكام فقهية على اختلافات لغوية، بنيت أحكام لغوية على اختلافات فقهية.

فاختلافهم على معاني الواو جعلهم يختلفون في فهم آية الوضوء "يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم"(41) فعند بعضهم تفيد الواو التفصيل، وعند غيرهم المعية، وعند آخرين لا تفيد أياً منهما.

وبالمقابل فهم بعضهم من قول الإمام الشافعي بالترتيب في الوضوء، أن الواو تفيده. ونقل جماعة الترتيب عن الإمام أبي حنيفة من قوله: "إذا قال الزوج لغير المدخول بها: أنتِ طالق طالق وطالق، تقع واحدة. ويناقشون في كتب النحو قول القائل "والله لا أتزوج النساء" أيقع الحنث بالواحدة لأن (ال) التعريف الماهية أم لا يحنث إلا بتزويج ثلاث، وهو مذهب الشافعي، بناء على أن معنى الجمع باقٍ مع أداة العموم"(42).

وكتب الرشيد ليلة إلى القاضي أبي يوسف، وهو أحد كبار أعوان الإمام أبي حنيفة، أو كتب الكسائي إلى محمد بن الحسن الشيباني، وهو الآخر أعظم منظري المذهب الحنفي، "ما قول القاضي فيمن قال لامرأته:


فإن ترفقي يا هند فالرفق أيمن

وإن تخرقي يا هند فالخُرق أشأم

فأنتِ طلاق والطلاق عزيمة

ثلاث، ومن يخرق أعقّ وأظلم


فكتب القاضي (أو محمد بن الحسن): إن رفع "ثلاثاً" تقع واحدة، وأن نصب يقع ثلاث، لأنه إذا رفع ثلاثاً فقد تم الكلام بقوله "أنت طلاق" ثم ابتدأ بقوله: "والطلاق عزيمة"(43).

6-وبعد ما كان العلماء الأوائل كالأصمعي يتحرجون من تفسير القرآن تحرجاً عظيماً، ويكتفون أن فسَّروا بنقل المأثور، تحمس المعتزلة للتفسير بالمعنى، وغيرهم للتفسير الباطني، وجمع بعضهم بين أكثر من طريقة في التفسير. هذا الزمخشري أكبر مفسري المعتزلة، وابن عطية الأندلسي معاصره من مفسري المأثور، فيجمع أبو حيان تفسيريهما رغم عدائه الشديد للزمخشري، فيصنف "البحر المحيط". وهذا الرازي مفسر آخر من مفسري المعتزلة، ولكنه من مذهب أبي الحسن الأشعري. وما انقطع المفسرون إلى يومنا. ولا يشك أحد، كما يقول السمين الحلبي (756هـ)، أنه لابد لمن يتعرض لعلم التفسير أن يعرف جملة صالحة من العلوم الأخرى.

حتى إذا وصلنا إلى القرن التاسع الهجري وجدنا آثار الوهن السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وعواقب الغزوات المدمرة التي تعرض لها العالم الإسلامي من الشرق والغرب بدأت تفعل فعلها في هذا الكيان المنخور منذ أواخر الخلفاء العباسيين الأقوياء. وظهر بوضوح أنها أخطر من أن يستطيع النحو وسائر العلوم تجاوزها. ونظل نحمد لعلماء هذا القرن وسالفه على نحو خاص انصرافهم إلى علومهم رغم ظروفهم القاتمة، ونظل نحمد للمماليك تشجيعهم للعلوم مهما كانت دوافع هذا التشجيع، ونظل نحمد للمماليك اعتمادهم على أنفسهم في معاركهم دون قوى الشعب.

على أننا نجد في هذا القرن المجدب، من الذرا النحوية والقرن الذي سبقه صُوّة ينبغي التوقف عندها، وهي محاولة إعادة اللحمة بين علوم اللغة العربية، وهي العلوم التي استعرضنا آنفاً أثرها في غزارة التأليف اللغوي، والتي شذب بعض النحاة النحو منها ليتحول النحو إلى قوانين جافة لا روح فيها. وكان بإمكان موسوعي كبير مثل بهاء الدين السبكي (763هـ) أن ينجز هذا العمل العظيم لو أنه تحمس له وأكمل ما بدأه في شرحه للتخليص في علوم البلاغة، المعروف بعروس الأفراح.

وشروح أهل القرن التاسع على العموم تتصف بالتحقيق الدقيق في المتن المشروح، والجمع المستقصي للآراء. وإن كان يعيبها التكلف الشديد لدى بعضهم، والبحث عن مكامن الضعف لدى خصومهم. وأعتقد أن من المفيد أن نكمل الخطوات التي خطاها نحاة ما قبل العهد العثماني بإعادة النظر في ذلك التراث الكبير كماً وكيفاً، فننسق بين الشروح المتعددة للكتاب الواحد، شريطة أن تكون شروحاً حسنة، فنصنع منها مؤلفاً واحداً على نحو ما فعل البرقوقي بشروح ديوان المتنبي. ونضع البقية من التراث الذي لا يساوي أكثر من قيمته التاريخية في مكانه اللائق، فنريح بذلك مطابعنا وقراءنا وطلابنا الباحثين عن مخطوطات للتحقيق، تكون مرتقى لهم إلى الدرجات العلمية، خير من أن نسوق الجميع بعصاً واحدة، فننكر على أمثال ابن يعيش والرضي أعمالهم العظيمة.

* * *

الحواشي:

(1)مقدمة ابن خلدون 1230.

(2)ظهر الإسلام 2/115.

(3)أما ابن جني فقال في الخصائص 1/109: "ألا تراك إذا قلت: ضرب سعيد جعفراً، فإن (ضرب) لم تعمل في الحقيقة شيئاً، وهل تحصل من قولك (ضرب) إلا على اللفظ بالضاد والراء والباء، على صورة (فعل)، فهذا هو الصوت، والصوت مما لا يجوز أن يكون منسوباً إليه الفعل، وإنما قال النحويون: عامل لفظي، وعامل معنوي، ليروك أن بعض العمل يأتي مسبباً عن لفظ يصحبه، كمررت بزيد، وبعضه يأتي عارياً من مصاحبة لفظ يتعلق به، كرفع المبتدأ بالابتداء.. هذا ظاهر الأمر، وعليه صفحة القول؛ أما في الحقيقة ومحصول الحديث فالعمل من الرفع والنصب والجر والجزم إنما هو للمتكلم نفسه، لا لشيء غيره. وإنما قالوا: لفظي ومعنوي، لما ظهرت آثار فعل المتكلم بمضامه اللفظ للفظ، أو باستكمال المعنى على اللفظ، وهذا واضح".

وأما ابن مضاء فهو ظاهري المذهب، لا يؤمن بالتأويل والقياس فيجري في النحو مجراه في الفقه، فلا تأويل لعامل، ولا عمل له.

(4)كشف الظنون 35.

(5)مقدمة ابن خلدون 1232.

(6) مقدمة ابن خلدون 1227 وكشف الظنون 35.

(7)شرح قطر الندى 43.

(8)المصدر السابق 10.

(9)المغني 30.

(10)المنصف من الكلام على مغني ابن هشام 1/41.

(11)مغني اللبيب 601.

(12)مغني اللبيب 460.

(13)فرحة الأديب مقدمة المحقق 23.

(14)انظر مثلاً ص51-53-74-76-105.

(15)فرحة الأديب ج2، ص101.

(16)مقال الكاتب في التراث العربي العدد 30 بعنوان: أسباب الخلاف اللغوي وأسلوب البحث في تراث العالم.

(17)في أصول النحو 78.

(18)الخصائص 1/357.

(19)الخصائص 1/146-147. والمقصود بالصحة مقابل الاعتلال. وما يسميه النحاة شاذاً يعده ابن جني باقياً على أصله منبهة على بابه، مثل صحة الواو في (القود) والياء في (الغيب) تبنيها على أصل (باب) و(عاب).

(20)شرح المفصل 3/85.

(21)المصدر السابق 3/86.

(22)المصدر السابق 3/91.

(23)المصدر السابق 3/85.

(24)في أصول النحو ج1، ص137.

(25)انظر مغني اللبيب 44، ص137.

(26)الأنفال 8/23.

(27)المطول 128- 129 والمنصف.

(28)البقرة 3/179.

(29)الكشاف 1/333.

(30)المائدة 5/117.

(31)الكشاف 1/657.

(32)الحجرات 49/12.

(33)الكشاف 3/568

(34) مغني اللبيب 21.

(35)حاشية على المطول 139 والمنصف 1/28.

(36)النحل 16/68.

(37)انظر المغني 47 والمنصف 1/69.

(38)النجم 53/1.

(39)الليل 92/9.

(40)المنصف من الكلام، مخطوطة الظاهرية 58/أ.

(41)المائدة /5/6.

(42)انظر مغني اللبيب 76 والمنصف 1/107.

(43)البيتان في شرح المفصل لابن يعيش 1/107 ومع الخبر في خزانة الأدب 2/69 وشرح أبيات المغني 1/124 والمبسوط 6/77.

* * *

المصادر والمراجع:

-الإنصاف في مسائل الخلاف للأنباري. دار الجيل 1982.

-حاشية على المطول للشريف الجرجاني 1289هـ.

-خزانة الأدب للبغدادي. مطبعة بولاق 1299هـ.

-الخصائص لابن جني. ت محمد علي النجار. دار الهدى –الطبعة الثانية.

-شرح أبيات المغني للبغدادي. ت رباح ودقاق. مطبعة زيد بن ثابت 1973.

-شرح قطر الندى لابن هشام. مطبعة السعادة. ط 11، 1963.

-شرح المفصل لابن يعيش. بيروت. عالم الكتب.

-ظهر الإسلام لأحمد أمين. دار الكتاب العربي. بيروت 1969م.

-الكشاف للزمخشري. البابي الحلبي 1966م.

-كشف الظنون لحاجي خليفة. مطبعة المعارف. استانبول 1941.

-المبسوط للسرخسي.

-المطول للتفتازاني استانبول 1304هـ.

-مغني اللبيب عن كتب الأعاريب لابن هشام للشمني، وبهامشا الدماميني على المغني. المطبعة البهية مصر 1305هـ.

-المنصف من الكلام. مخطوطة الظاهرية رقم 8685 عام.

-مجلة التراث العربي. العدد 30 كانون الثاني 1988.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 24.02 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 23.40 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.61%)]