عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 15-08-2019, 04:28 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,755
الدولة : Egypt
افتراضي رد: اللغة العربية والعولمة في ضوء النحو العربي والمنطق الرياضي

اللغة العربية والعولمة في ضوء النحو العربي والمنطق الرياضي
- د. مها خير بك ناصر


خامساً: النحو العربي والمنطق الرياضي :
عرّف الشيخ الرئيس ابن سينا، المنطق بقوله: "هو الصناعة التي تعرفنا من أي الصور والمواد يكون الحد الصحيح الذي يسمّى بالحقيقة حداً، والقياس الصحيح الذي يسميّ بالحقيقة برهاناً(16). فالمنطق حدٌّ، وقياسٌ، وبرهانٌ وتعليل. وعلم المنطق هو المعيار الصحيح للمعرفة، والميزان للحق، يضع القوانين، ويبحث في المبادئ العامة للتفكير الصحيح، ويعنى بوجه خاص بتحديد الشروط التي تهيئ لنا الانتقال من أحكام معلومة إلى ما يلزم عنها من أفكار أخرى، فعلم المنطق ينسِّق العمليات العقلية الكلامية.
إنَّ العلم الرياضي علمٌ استنباطيٌ، برهانيّ، يقيني، يقوم على مبادئ الذاتية، وعدم التناقض، والثالث المرفوع كعِلْمِ المنطق القائم على مبادئ الاستنباط والقياس، فالصلة بينهما صلةُ تكامل وتشابه، ولا يمكن فصل الفكر المنطقي عن الفكر الرياضيّ، وعلوم اللغة منبثقةٌ عن فكرٍ علمي قوامه المنطق؛ وبالتالي لا يجوز فصل قوانينها عن خصائص العلم الرياضي المنطقي.
يقود المنطق الرياضي إلى أفكار منطقيّة، مرتبّة، ومتماسكة، تنتج كل فكرة عما سبقتها ببرهان منطقيّ، ولكن لا بد من أن نصل إلى أفكار، لا يقوم عليها برهان فتنقل كما هي، وهذه الأفكار يسميها العلم الرياضي مفاهيم أو أفكاراً أولية، يبدأ بها، أو ينطلق من قضايا أولية، لا برهان عليها، فتقبل من دون برهان وتسمى مبادئ Axiomes لا تحتاج إلى تعريف، ثم تبرهن كل قضية استناداً إلى قضايا مبرهنة، أو قبلت كأساس من دون برهان.
إن هذا الشكل المنطقي الذي يأخذ به كل علم رياضي يجعل من مجموعة غير مترابطة من الأفكار والتعابير نظاماً متماسكاً، يسمى بالنظام الاستنباطي؛ وهو عملية ننتقل فيها من العلم بقضية معينة، هي المقدسة، إلى قضية أخرى معينة، هي النتيجة. وهذا الانتقال يستلزم وجود علاقة، أو علاقات معينة، بين المقدسات كأساس للوصول إلى النتيجة؛ فالمنطق الرياضي يستند في نظامه إلى فكرتي الثوابت والمتغيرات. والثوابت ينطلق منها العلم البرهاني لإظهار المتغيرات المشتقة من تبدل في العلاقات التي تربط بين هذه الثوابت.
وما نعثر عليه من علاقات Relations في الرياضيات نجدها في اللغة فتكون الفكرة المنطقية في العقل، وصورتها في المستقر، وهي التعابير. ولكي تؤدي هذه التعابير غايتها تساق في علاقات مرتبة ومنظمة يقبلها المنطق.
وكما أن العنصر الرياضي لا قيمة لـه إلا من ضمن العلاقات التي تدخل في نطاق تركيبها كذلك العنصر اللغوي لا قيمة له في ذاته بل في وظيفته الأدائية من خلال علاقته مع غيره.

فاللغة مؤسسة على نماذج كلامية أسلوبية، تتمتع بخاصة تحليلية، جوهرها العنصر اللغوي، وصورتها العلاقات القائمة بين أجزائها.
بالمنهج العلمي يكتشف العالم النحوي حقيقة هذه العلاقات، ويحدد ماهيتها، ويجعلها أساساً يقاس عليه، لذلك قال ابن جني: "إن اللغوي شأنه أن ينقل ما نطقت به العرب ولا يتعداه، وأما النحويّ فشأنه أن يتصرف فيما ينقله اللغوي ويقيس عليه"(17).
كانت مهمة اللغويين العرب نقل ما نطقت به العرب. والذي وصل إلينا لغة كاملة الأداء والتعبير متماسكة البنية والخصائص. فأعانت البنية المتماسكة علماء النحو على تحقيق قوانين الاستقراء Induction فانطلقوا بدراساتهم من الواقع اللغوي، ودرسوا العناصر، والعلاقات بين هذه العناصر؛ ليتوصلوا إلى حكم، ينطبق عليها، ويكون قضية يقاس عليها في عملية البرهان من أجل الوصول إلى قوانين عامة.
قام العالم العربي اللغوي بعمليتي التحليل والتركيب اللتين تشكلان جوهر كل علم منطقي، فهو يعود إلى الوراء Règressive ليدرس جزئيات اللغة، ثم يركب النتائج التي توصل إليها؛ ولكن لا بدّ لكلّ عمل برهانيّ من وضع الفرضيات Hypothèses التي تولدها عملية الاستقراء.
استعان علماء النحو بالفكر المنطقي العلمي التحليلي، فلاحظوا ترابط الألفاظ ودلالاتها المعنوية من خلال عملية التركيب ضمن قواعد منطقية يقبلها العقل؛ لأنّ النحو منطق لغوي، والمنطق نحو عقلي، وهذه العلاقة القائمة بين المنطق والنحو شبهها الفارابي بعلاقة المنطق بالعقل والمعقولات، فقال: "وهذه الصناعة، صناعة المنطق تناسب صناعة النحو، وذلك أن نسبة صناعة المنطق إلى العقل والمعقولات كنسبة صناعة النحو إلى اللسان والألفاظ. فكلّ ما يعطينا علم النحو من القوانين في الألفاظ، فإن علم المنطق يعطينا نظائرها في المعقولات"(18).
إنَّ العلاقة بين المنطق والنحو، بارزة في الدراسات النحوية التي أشارت إلى أن المنطق ميزان الفكر، واللغة هي القالب الذي ينصب فيه الفكر، ولذلك مزجوا النحو بالمنطق، كون القوانين النحوية نتاج تفاعل العلاقات المنطقية بين الألفاظ والمعاني في وسطٍ فكري سليم مفعَّل بأدوات المنطق.
تأسيساً على هذه البدهيات والفرضيات راعى الرمّاني(19) في كلامه على النحو التقسيمات المنطقية، وعللّ الأحكام تعليلاً منطقياً، واشترط على العاملين في الحقل النحوي أن يلموا بأصول المنطق وقواعده، لكي تأتي آراؤهم مقبولة إذا ما أخضعت للمقاييس العقلية.
قاد ارتباط النحو بالمنطق النحويين إلى وضع فرضيات تتبنى صياغة ألفاظ على نسقٍ ألفاظٍ ثابتة، وهذه الألفاظ تتمتع بكفايتها التأصيلية وخصائصها، فكانت الأسس الأولية التي تسهم في استنباط أساليب الصياغة الصحيحة، وكشف علاقاتها؛ فكان ابن جنيّ(20) يضع الفرضية، ويطرح السؤال، ثم يجيب عن سؤاله بالبرهان لإثبات صحة الفرضيات، أو ينقضها؛ كفرضيته الناتجة عن الاستقراء, والقائلة: إن المسند إليه "الفاعل مرفوع". ثم سأل: ما سبب رفع الفاعل؟ فأجاب: ارتفع بفاعله. ثم طرح سؤالاً آخر: لم صار الفاعل مرفوعاً؟ فبرر الرفع بقوله: إن صاحب الحديث أقوى الأسماء، والضمة أقوى الحركات فجُعِل الأقوى للأقوى.
صيغت الفرضيات نظريات، وأنتجت بالتعليل والبرهان قواعد يقاس عليها. ولاحظ علماء اللغة المتقدمون ضرورة استنباط القوانين اللغوية من خلال عملية الاستقراء، فبرّر ابن جنيّ الاتفاق على اللغة وقواعدها، وقال إنّها تتكرس في المجتمعات بعقدٍ بين المتكلمين بها، ثم جاء النحو علماً على ما جاء من قولهم "فهو علم منتزع من استقراء اللغة"(21)؛ وبذلك أثبت ابن جنيّ أن التعامل اللغوي كان مفهوماً فطرياً وطبيعياً بين أفراد المجتمع الواحد ومجرداً عن التوصيف، كمفهوم المجتمع البدائي للعدالة والإنصاف.
صار المفهوم اللغوي المتداول، قانوناً عرفياً يعاب على ما يتجاوزه، على الرغم من تعدد القضايا وتطور أشكالها الناجمة عن حركة الحياة. وبحركية المجتمعات العربية وتطوِّر أنساقها وتعدديتها، تخطّت اللغة العربية الاستخدام العرفي، وصارت لغة التواصل المعرفي والثقافي، واكتسبت خصائص اللغة العلمية الأممية، فكتب بها علماء غير عرب، لهم مفهومهم المنطقي، وإدراكهم العقلي المختلف عن إدراك الإنسان العربي، وغدت اللغة العربية المختبر الأكثر إنتاجاً للخلق والإبداع.
أمام هذا الواقع الجديد أدرك العلماء ضرورة استنباط قاعدةٍ وقانونٍ يحفظان اللغة من الخطأ واللحن، ويكوّنان النظام الفكري، الذي يؤدي إلى كشف الخصائص العلمية للغة العربية، وكيفية استخدام مفرداتها وتراكيبها استخداماً سليماً، يوصل إلى المعاني الجوهرية، ويقوم برسالة التبليغ الفكري والتواصل بين أبناء البشر.
صيغت القوانين العرفية قواعد قانونية تطبق، ويقاس عليها. وإذا اعترض حكم لغوي، لا قاعدة له، قيس على القاعدة القانونية بوجود الشبه بين قضيتي القاعدة القانونية التي صارت أصلاً، والقضية المستجدة، فكان القياس في عرف العلماء: "عبارة عن تقدير الفرع بحكم الأصل" وقيل: "هو حمل فرع على أصل بعلة وإجراء حكم الأصل على الفرع"(22). وإذا صعب القياس بحثوا عن الشبيه والنظير "فإما أن يعمّ دليل فإنك محتاج إلى إيجاد النظير"(23).
وضع العلماء العرب شروطاً للقياس: "الأصل والفرع والعلة والحكم"(24). فكثر كلامهم على العلة، ودعّموا شروحاتهم بالحجج والبراهين المنطقية. فجاء النحو مؤسساً على قضايا منطقية، لها حدودها في تبيان الخصائص العامة. والمراد من "الحد الدلالة على الذات لا العلة التي وضع لأجلها إذ علة الشيء غيره"(25).
كانت الحدود والتعريفات تميز ما بين الأصل والشبيه فيعطي للشبيه توصيفاً يميزه ويوضح سبب عدم إعطاء شبه الفرع خصائص الأصل "فشبه الفرع بالأصل أو المقيس عليه لا يعطي الفرع حقوق الأصل كاملة، إنه يمنحه حقوقه بشروط. فـ "لا" النافية المشبهة بـ"ليس" والتي لها حكمها في الشبه والأعمال، لا تعمل عمل ليس إلا بشروط، فإن لم تتوافر هذه الشروط بطل عملها(26). ولم يأخذوا بالشاذّ المنكر في القياس، فقال سيبويه "لا ينبغي لك أن تقيس على الشاذّ المنكر في القياس"(27)، وكانوا إذا اهتدوا إلى ظواهر لا تخضع إلى القوانين الجامعة، اعتبرت في رأي ابن أبي إسحق: "مما يحفظ ولا يقاس عليه"(28).
اهتم النحويون العرب بالقياس، وصاغوا قوانين اللغة على مبادئ المنطق الرياضي، فشكلت الفرضيات بمجموعها الظواهر اللغوية التي ينطلق منها العالم اللغوي، ثمّ قادتهم صحة الفرضيات إلى وضع دراسة الظواهر، والأسباب الكامنة وراءها. وكان قانون السببية Law of causality الدليل إلى تحليل المعطيات اللغوية، وتعليل أسباب ورودها، ثم صوغ الملاحظات والنتائج قانوناً دقيقاً، له عناصره وخصائصه المميزة، والتي تساعد على تحديد هوية العناصر وتبرير علاقاتها، وكانت القوانين الموضوعة على أصول النصوص اللغوية السليمة تقويماً للسان العربي، وأبعادها عن طبائع الناس المتبدلة والمتغيرة، فتكون القاعدة اللغوية الشكل الأمثل للنظام اللغوي المنطقي المتولد عن إدراك العقل للمعقولات.
لم يعتد النحاة بما جاء خطأً من كلام العرب؛ بل برّروه بخروج البعض على العرف القانوني اللغوي والاندفاع وراء الطبع الخاص. ومن بينهم أبو علي الفارسيّ الذي علل الأخطاء بقوله: "إنما دخل هذا النحو كلامهم؛ لأنهم ليست لهم أصول يراجعونها، ولا قوانين يستعصمون بها، وإنما تهجم بهم طباعهم على ما ينطقون به، فربما استهواهم الشيء فزاغوا به عن القصد"(29). واقتصر القياس على ما كان "مطرداً في القياس والاستعمال جميعاً"(30) أما ما اطرد في الاستعمال وشذ عن القياس "فلا يتخذ أصلاً يقاس عليه غيره"(31).
أكد النحويون على أهمية القياس المنطقي في اللغة، وكان ميزاناً لسلامة العلاقات النحوية، فحافظوا على حجته في النحو؛ لأنه يعصم القانون اللغوي عن الخطأ، ولذلك قال أبو علي الفارسي: "أخطئ في خمسين مسألة في اللغة، ولا أخطئ في واحدة من القياس"(32) لأن الخطأ في القياس يعني الخطأ في التفكير المنطقي، ولأن استخدام الفكر، ومعايير القياس الصحيحة، دليل على جوهر العلاقة بين الفكر والمنطق، فربطوا إدراك العلاقات النحوية السليمة بالإدراك العقلي للمرئيات والتعبير عن علاقتها. فالنحو مؤسس في قواعده وقوانينه على منطق علميّ ساعد في تحصين اللغة بنحوٍ عربي يعصم تراكيبها، مهما تبدلت الألفاظ في دلالاتها، وطرق استخدامها، وذلك بتطبيق القياس في النحو، واستخدام المنطق كما قال الكسائي:


إنما النحو قياسٌ يتَّبع * وبه في كلِّ أمرِ ينتفع

فإذا ما نصر النحو الفتى* مر بالمنطق مرّاً فاتسع(33)

لم يكتف العالم اللغوي بتوسيع أصول القياس في اللغة، بل بيَّن الأحكام في تطبيقه، والعلل التي أدت إلى استخدام الأصل نموذجاً يقاس عليه، فكان القياس إما معنوياً وإما لفظياً، فقالوا "عاملٌ لفظي وعاملٌ معنوي"(34) ووضعوا نظرية العامل.
تكلّم النحويون على العلل وبرروها، وعقد ابن جني أبواباً بحث فيها "بتخصيص العلل، والفرق بين العلّة الموجبة والعلّة المجوزة، وتعارض العلل، علّة العلّة، وحكم المعلول بعلتين، والرد على من اعتقد فساد علل النحو"(35). وقرن علماء البصرة والكوفة نظرياتهم النحوية بالحجج والبراهين؛ لإثبات صحّة آرائهم وما كتاب "الإنصاف والانتصاف في مسائل الخلاف بين الكوفيين والبصريين" إلا انعكاس صادق عن المنهج الذي كان سائداً في الجدل اللغوي العلمي(36).
ميّز النحويون بين الصرف والنحو، وأكّد ابن جني على ضرورة تعلّم الصرف قبل النحو، لارتباط النحو بأحوال التصريف: "التصريف إنما هو لمعرفة أنفس الكلمة الثابتة، والنحو إنما هو لمعرفة أحواله المتنقلة (...) من الواجب على من أراد معرفة النحو أن يبدأ بمعرفة التصريف، لأن معرفة ذات الشيء الثابتة ينبغي لأن يكون أصلاً لمعرفة حالة المنتقلة(37)".
ثم ميزوا بين النحو والإعراب، وجعلوا النحو الجانب النظري، والإعراب الجانب التطبيقي الذي يفسر النظريات، ويبيِّن العلاقات بين الأجزاء ونوعيتها؛ فكان النحو "انتحاء سمت كلام العرب من إعراب وغيره، كالتثنية والجمع والتحقير والتكسير والإضافة والنسب والتركيب وغير ذلك، ليلحق من ليس من أهل اللغة العربية بأهلها في الفصاحة، فينطق بها، وإن لم يكن منهم، وإن شذ بعضهم عنها رُدّ به إليها"(38). أما الإعراب في رأيه " فهو الإبانة عن المعاني بالألفاظ"(39) أي الإفصاح عن منزلة اللفظ في التركيب. وما طرأ عليه من عوامل ومؤثرات أدّت إلى تغيُّر في الإعراب بتغير العلامة الدالة على المرتبة في عملية الإسناد وما يتبعها من فضلات ليستقيم المعنى في التركيب.
هذه الفرضية النحوية الإعرابية دفعت بالعلماء اللغويين إلى تعليل وتبرير الحركات الإعرابية، وربطها بمؤثر أوجدها، لأن العقل ـ في رأيهم ـ لا يتصور وجودها من دون مؤثر، فقسموا الحركات إلى مراتب ترتبط بمرتبة الكلمة في التركيب، فوصفوا المرفوعات بأنها تدل على القيمة والارتفاع وقالوا: "هي اللوازم للجملة والعمدة فيها، والتي لا تخلو منها، وما عداها فضلة، يستقل الكلام دونها"، وكان الفاعل أو المرفوعات لأنه "صاحب الفعل"(40) وهو المقتدر عليه، ولذلك قال الرمّاني: "جعل الرفع للفاعل لأنّه أول الأول، وذلك تشاكل حسن، ولأنّه أحق بالحركة اللغوية لأنها ترى بضم الشفتين من غير صوت (...) فأعطى أقوى الحركات"(41).
قسّم ابن جني الحركات بحسب قوتها "المرفوع؛ هو الأقوى، والأثقل، والمنصوبات هي الأضعف والأخف، والفاعل هو المتقدّم، والمفعول هو المتأخر، والضمة أثقل الحركات، وأقواها، فكانت للأثقل والأقوى وهو المرفوع، وجعل الخفيف للأخف والأضعف وهو المنصوب(42)".
أعطوا الحركات تبريراً فيزيائياً منطقياً، فالعرب لا تبدأ بساكن، ولا تقف عند متحرك، لأنّ الحركة الفيزيائية تبدأ بفعلِ ميكانيكي، وليس بانعدام الحركة، ولا يمكن أن تتوقف الحركة الفيزيائية عن فعلها الديناميكي, وهي في حالة من إصدار صوت دال على حركة، وعند توقف الحركة الفيزيائية يحمل الصوت صدى دلالة الوقوف.
تشير الحركة في اللغة إلى فاعليتها بالحرف الذي تدفع به إلى الالتقاء بغيره ليتم معنى التركيب ودلالته "لأن الحركة تقلق الحرف عن موضعه ومستقره، وتجذبه إلى جهة الحرف التي هي بعضه"(43).
تأثر علماؤنا بالمنهج المنطقي العلمي في تقعيد اللغة، ووضع النظريات النحوية، وجاءت نظرياتهم عن طريق الاستقراء الذي ساعدتهم مقوماته على وضع الفرضيات، والكشف عن القضايا الأولية التي كانت أساساً في بنية اللغة، فأسسوا قوانينهم على مبادئ المنطق الرياضي. وقسّموا عناصر اللغة في علم النحو إلى ثوابت ومتغيرات، استنبطوها بعملية الاستقراء اللغوي.
كانت الكلمة المؤلفة من أحرف بنائية أول شكل من أشكال اللغة التي لا يمكن البرهان عليها والتثبت من حقيقتها وجوهرها، فقبلها العالم النحوي كما هي واعتبرها في أشكالها بدهيات، انطلق منها للتحقق من صحة تفاعلها بعضها مع بعض في صياغة تعبيرية لا تناقض بين أجزائها، ثم أرشده الاستقراء إلى تركيب الجملة من مسند ومسند إليه مهما تعددت نماذجها، فقبلت بنية الجملة العربية كقضايا أولية لا يقوم عليها برهان.
كشف اتجاه العالم اللغوي العقلي عن أحوال الكلمة، وخصائصها، فصاغ تعريفات، ووضع قوانين بنيت عليها نظريات اللغة العربية. ثم تبين له أن بعض البدهيات أساس لاشتقاق الألفاظ في نظامٍ لغوي محدد لتؤدي دورها في ترتيب القضايا الأولية واتساقها، فتأخذ أشكالاً مميزة ومتعددة مع محافظتها على الحدين الرئيسين "المسند والمسند إليه" وتتكون بالتالي نماذج، لا حصر لها، للبناء النسقي اللغوي.
إذاً، كلما تغيّر أصل موضوع، أو أكثر، في نسق ما، فإنّ النظريات المشتقة ـ وبالتالي البناء النفي كله ـ لا بدّ أن يتغير، ويعطينا نسقاً مخالفاً وجديداً، ومهما تعددت هذه الأنساق، فإنها تبقى خاضعة للنظام النحوي الذي يعصمها عن الخلل.
لاحظ العالم اللغوي أن تركيب القضايا الجديدة يتم بواسطة أدوات العطف، أو أدوات السلب، أو أدوات الشرط... إلخ. فينشأ من جملتين بسيطتين جملة مركبة لا تناقض بين أجزائها، ولا يمكن أن تتضمن الفكرة ونقيضها في آن واحد، وتبقى مقبولة، فكانت هذه الأدوات الروابط المنطقية التي تساعد على فهم الفكرة وبالتالي قبولها.
قام علم اللغة على أسس نظرية الاستنباط، فتوصل العلماء إلى نتائج conclusions من مقدمات Premises باستخدام روابط، تساعد على الوصول إلى هذه النتائج.
سادساً: كلمة أخيرة :
اللغة العربية علم رياضي منطقي، يقوم على فكرتي الثوابت والمتغيرات وقواعد اللغة مرتبطة بقوانين المنطق. وعلينا أن نعود بلغتنا العربية إلى أصالتها، ونكشف عن جوهر المنهج الرياضي الذي تأسست عليه، وننطلق في دراستنا من هذه الأسس العلمية، فنحقق غايتين رئيستين: أولاهما العودة بالفكر العربي النحوي إلى أصالته، وثانيتهما طرح قضايا النحو بشكلٍ علمي، يزيل عنها عملية التلقين التي أبعدت أبناء العربية على النحو العربي، صارت نظرتهم إليها نظرة فوقية، أو نظرة عداء؛ لأنّ الإنسان عدو ما يجهل، فإذا انكشفت أمام الراغبين في دراسة اللغة العربية العلاقات المنطقية، وفهموا المنهج الرياضي الذي تأسست عليه، سهل التعبير بها.
إن مواجهتنا لتحديات العولمة لا تكون برفض دخول ألفاظ غير عربية إلى لغتنا، لأنّ هذه اللغة أثبتت قدرتها على التطويع والاكتساب، وستبقى قادرة على الجديد المؤسس على أصالة لغوية مصانة بقوانينها النحوية، التي تحفظ لها نظامها، وبناءها وخصوصيتها.
-----------
الحواشي :

(1) هذا الكلام للمستشرق "جاك بيرك" مأخوذ من كتاب تهذيب المقدِّمة اللغوية للعلايلي، إعداد الدكتور أسعد علي صادر عن دار السؤال للطباعة والنشر، دمشق، (ط 3) 1985، ص 33.
(2) د. أسعد علي، تهذيب المقدّمة اللغوية للعلايلي، صفحة 41.
(3) أحمد عبد الغفور عطار، مجلة الفيصل، ع. 1979، 31، ص. 53.
(4) د. كمال بشر، "اللغة العربية" والعلم الحديث، مجلّة الفيصل، ع. 24، أيار 1979 صفحة 28.
(5) عبده الراجحي، في فقه اللغة، ص. 153 ـ 145.
(6) أبو الحسن القرطاجني، منهاج البلغاء وسراج الأدباء "فتح" محمد حبيب الخوجة ط 1 دار الغرب الإسلامي، 1986، ص 8.
(7) د. عثمان أمين، في اللغة والفكر، مهد البحوث والدراسات العربية، القاهرة، 1967، ص 20 ـ 21.
(8) ابن جني، الخصائص، تح د. محمد علي النجار، دار الهدى للطباعة والنشر، بيروت، لبنان ط3، د.ت، ج ص 357.
(9) ابن جني، ج 1، ص 357.
(10) ابن خلدون، المقدمة، ص 1056.
(11) د. صبحي الصالح فقه اللغة ص 290 ـ 291.
(12) لسان العرب ج 1 ص 68 الأصيل هو ما كان راسخاً وثابتاً في أصالته، ولسان العرب مج 1، ص 111 ـ 112.
(13) ابن الأنباري، طبقات الأدباء، ص 390.
(14) د. كمال بشرن اللغة العربية والعلم الحديث، مجلّة الفيصل، العدد 24ن أيار 1979، ص 28.
(15) ابن سينا، ص 3.
(16) ابن سينا النجاة، ص 3.
(17) ابن جني، الخصائص، ج 1، ص 366.
(18) الفارابي "إحصاء العلوم" ص 12.
(19) ابن الأنباري "طبقات الأدباء" ص 390.
(20) ابن جني "الخصائص" ج 1 ص 173.
(21) ابن جني الخصائص، ج 1، ص 189.
(22) الأنباري، لمع الأدلة، ص 93.
(23) ابن جني، الخصائص، ص 197.
(24) الأنباري، لمع الأدلة، ص 93.
(25) ابن يعيش شرح المفصل ج 8 ص 2.
(26) ابن يعيش، ج 1، صفحة 109.
(27) سيبويه الكتاب ج 1 ص 398، ج 2 ص 227.
(28) طبقات النحويين واللغويين للزبيدي، صفحة 26.
(29) المزهر، ج 2، صفحة 248.
(30) ابن جني، الخصائص، ج 1، صفحة 97.
(31) المصدر نفسه، صفحة 99.
(32) المصدر نفسه ج 2، صفحة 88.
(33) إرشاد الأريب، ج 3، صفحة 191.
(34) ابن جني الخصائص، ج 3، صفحة 109.
(35) المصدر نفسه، صفحة 126 إلى 144.
(36) إن المسائل النحوية في كتاب الإنصاف والانتصاف "تشير إلى الروح العلمية التي كان يتمتع بها علماء اللغة وإلى إتقانهم للمنهج العلمي الرياضي.
(37) ابن جني، المنصف في شرح كتاب التصريف، صفحة 54.
(38) ابن جني، الخصائص، ج 1، صفحة 34.
(39) المصدر نفسه، صفحة 35.
(40) شرح المفصل، ج 1، صفحة 20.
(41) رسائل في اللغة والنحو، صفحة 50.
(42) همع الهوامع، ج 1، صفحة 64.
(43) ابن جني، سر الصناعة، ج 1، صفحة 7 ـ 8.
--------------------------
المصادر والمراجع:
1 ـ إحصاء العلوم، الفارابيّ، تحقيق عثمان أمين، القاهرة، دار الفكر العربيّ، 1949.
2 ـ الإنصاف والانتصاف في مسائل الخلاف بين البصريين والكوفيين، ابن الأنباريّ، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، دار الفكر، د.ت.
3 ـ تهذيب المقدمة اللغوية للعلايليّ، أسعد علي، دمشق، دار السؤال للطباعة والنشر، ط 3، 1985.
4 ـ الخصائص، ابن جني، تحقيق محمد علي النجار، بيروت، دار الهدى للطباعة والنشر، ط 2، د.ت.
5 ـ سر صناعة الإعراب، ابن جني، تحقيق مصطفى السقا وجماعة، القاهرة، ط 1، 1954.
6 ـ شرح المفصل، ابن يعيش، القاهرة، دار الطباعة المنيرية، د.ت.
7 ـ طبقات النحويين، الزبيديّ، تحقيق محمد أبي الفضل إبراهيم، القاهرة، مكتبة الخانجي، ط 1، 1954.
8 ـ فقه اللغة، صبحي الصالح، بيروت، دار العلم للملايين، ط 4، 1978.
9 ـ فقه اللغة، عبده الراجحي، بيروت، دار النهضة، 1972.
10 ـ في اللغة والفكر، عثمان أمين، القاهرة، معهد البحوث والدراسات العربية، 1967.
11 ـ الكتاب، سيبويه، تحقيق وشرح عبد السلام هارون، بيروت، عالم الكتب، د.ت.
12 ـ لسان العرب، ابن منظور، بيروت، دار صادر، د.ت.
13 ـ لمع الأدلة، ابن الأنباري, تحقيق سعد الأفغاني، 1957.
14 ـ المزهر في علوم اللغة، جلال الدين السيوطي، تحقيق محمد جاد المولى، القاهرة، دار إحياء الكتاب، 1958.
15 ـ المقدمة، ابن خلدون، بيروت، دار الكتاب اللبناني، ط 3، 1967.
16 ـ المنصف في شرح التصريف، ابن جني، تحقيق إبراهيم مصطفى وعبد الله أمين، القاهرة، دار إحياء التراث، ط 1، 1976.
17 ـ منهاج البلغاء وسراج الأدباء، تحقيق محمد حبيب الحوجة، دار الغرب الإسلاميّ، ط 1، 1986.
18 ـ النجاة، ابن سينا، مراجعة ماجد فخري، بيروت، الآفاق، 1985.
19 ـ نزهة الألباء في طبقات الأدباء، ابن الأنباري، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، 1960.
20 ـ همع الهوامع، السيوطيّ، مطبعة السعادة، ط 1327، 1هـ.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 32.47 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 31.85 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.93%)]