
22-07-2019, 08:46 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,441
الدولة :
|
|
صراع الهوية لدى الشباب المظاهر والعلاج
صراع الهوية لدى الشباب المظاهر والعلاج
د. خالد بن محمد الشهري
بحث مقدم لمؤتمر علم النفس الإسلامي الثاني
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على نبيه وآله وصحبه وبعد:
"الناسُ بزمانِهم أشبهُ منهم بآبائِهم" عمر بن الخطاب
مقدمة:
يُعدّ صراع الهوية لدى الإنسان بشكل عام ولدى الشباب بشكل خاص من أكثر الأسباب لنمو مشاعر القلق والاضطراب الفكري ذلك لأن بناء الهوية واكتسابها لملامح ثابتة ومستقرة تتسم بالتناسق والاتزان يُعدّ من أهم الأهداف التي يسعى الإنسان إلى تحقيقها وخاصة في مراحل الشباب الأولى. كما يُعد ذلك هدفاً من أهداف المربين والمهتمين بالصحة النفسية.
والهوية كما يُعرفها بعض الباحثين (هي إحساس الشخص بأنه يعرف من هو؟ وإلى أين يتجه؟).
وهي من أكثر المسائل التي حيرت الناس منذ القدم، كما أنها من ضمن الأسئلة المقلقة والمحيّرة التي عاشت وعاثت في عقول الفلاسفة منذ ظهرت الفلسفة كونها أسئلة مصيرية يحتاج الإنسان إلى أن يعرف إجاباتها.
ولا يمكن لإنسان يعيش في هذه الحياة ويحاول أن يبني شخصيته ويحدد ملامح مميزة لنفسه - وهذا من ضرورات مرحلة الشباب - لا يمكن له ذلك دون أن يُجيب على تلك الأسئلة التي تحدد بدايته ونهايته ودوره فيما بين ذلك:
من أنا؟
لماذا وُجدت على هذا الكون؟ ولماذا وجد الآخرون؟
من أين جاء هذا الكون؟
ما هو هدف هذه الحياة؟
وما هو دوري في هذه الحياة وفي هذا الكون؟
هذه الأسئلة المقلقة التي يحتاج معرفة إجاباتها كل إنسان تضطرب بشكل أكبر في نفس الشاب في بدايات حياته؛ وبناءاً على الإجابات النهائية التي يصل إليها يتحدد مستوى الهوية لديه وتبعاً لذلك قد يختفي الصراع أو يحدث وقد يزداد اضطراباً إلى حدّ المرض النفسي في بعض الحالات.
وبدوري أسأل هل تُعد تلك الأسئلة التي حيّرت الشباب ودوّخت الفلاسفة هل هي بهذه الصعوبة حتى لا نستطيع أن نصل إلى إجاباتها؟
أمّا بالنسبة لي فأنا لا أشك في صعوبتها لو ترك الإنسان وحده ليجيب عليها، وهذا ما يثبته تاريخ الفلسفة؛ ولهذا فإن الله الكريم الرحيم رحمة بهذا الإنسان وإكراماً له قد تكفل بإجابتها بنفسه سبحانه وتعالى لئلا نضل ونشقى.
وقد رسم لنا المولى تبارك وتعالى صورة كاملة وتامة للإجابة على تلك الأسئلة المحيّرة حتى أصبحت واضحة كوضوح النهار.
وسأنقل هنا بعض ما جاء في القرآن الكريم حول التصور الإسلامي[1] عن الإنسان والكون والحياة التي تُكون هويته وتبني شخصيته بشكل متناغم ومتسق مع ما حوله.
1-التصور الإسلامي عن الإنسان:
أ- أصل خلق الإنسان من طين ونفخة من روح الله. قال الله تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ﴾ [سورة الحجر: 28-29]
ب- الإنسان مخلوق مكرم قال الله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا ﴾ [الإسراء: 30].
ج- الإنسان مُستخلفٌ في الأرض قال الله تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً .. ﴾[سورة البقرة: 30].
د- سخّر الله للإنسان ما في الكون لعمارته قال الله تعالى: ﴿ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ﴾ [سورة هود: 61].
هـ- مهمة الإنسان الأولى العبادة قال تعالى: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [سورة الذاريات: 56] و(.. العبادة المقصودة بحكم النص القرآني أن الإنسان العابد لا بد أن يكون عاملا منتجا، باعتبار أن العمل الجاد هو السبيل لإسعاد الفرد والجماعة، وفى هذا يقول -سبحانه وتعالى-: ﴿ الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ﴾[سورة الحج: 41][2]. والتمكين لا يكون دون بذل الأسباب الموصلة إليه وبناء المجتمع القوي المتماسك.
و- المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف قال النبي صلى الله عليه وسلم: (المؤمن القوي خيرٌ وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍ خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز.. ) رواه مسلم.. والقوة مطلب شرعي لكنها يجب أن تبقى ضمن الإيمان والعبودية لله وما لم تحكمها الأخلاق فسيكون ضررها أعظم من نفعها.
2- التصور الإسلامي عن الكون:
الكون هو الميدان الفسيح الذي يرى الإنسان فيه قدرة الله تعالى وعظمته وبديع خلقه وينقسم إلى عالمين هما: عالم الغيب وهو مالا نستطيع إدراكه بالحواس. لكننا نؤمن به على ما جاء في القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة مثل عالم الملائكة وعالم الجن وغيرهما. وهو من مقتضيات الإيمان كما قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾ [سورة البقرة: 4].
والثاني: عالم الشهادة وهو ما نستطيع مشاهدته ونحس به. وما فيه من كائنات ومخلوقات.
وكل هذا الكون بما فيه يعبد الله ويخضع له ويسبح بحمده كما قال تعالى: ﴿ تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ﴾[سورة الإسراء: 44].
فإذاً كما نحن نعبد الله فإن جميع الكون يعبده لكن كل مخلوق يؤدي العبادة التي هُيئ لها.
3- التصور الإسلامي عن الحياة:
أ- الحياة ميدان للبذل والعطاء. قال الله تعالى: ﴿ قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ ﴾[سورة إبراهيم: 31].
وقد عدّ بعض الباحثين[3] آيات الإنفاق في القرآن الكريم فوجدها مائة وآيات الصدقة عشرين آية فهذه مائة وعشرون آية تحض على البذل والعطاء والتنافس في ذلك.
ب- الحياة الدنيا متاع مؤقت وجسر إلى الآخرة قال تعالى: ﴿ اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴾[سورة الحديد: 20].
ج- الحياة الدنيا ميدان للصراع بين الحق والباطل والخير والشرّ والفضيلة والرذيلة قال تعالى: ﴿ ولَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا ﴾ [سورة البقرة: 217].
وقال تعالى: ﴿ يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ﴾ [سورة الصف: 8].
د- الحياة دار ابتلاء وامتحان تحتاج إلى صبر وتضحية قال تعالى: ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾ [سورة البقرة: 155-157].
هـ - الحياة فرصة لا تعوض ولذلك ينبغي أن يستغلها الإنسان فيما يعود عليه بالنفع في الآخرة قال الله تبارك وتعالى: ﴿ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾ [سورة المؤمنون: 99-100].
4- إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا: هذا جزء من آية في سورة فاطر كما في قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴾ [فاطر: 6] وهي كما ترى أمر إلهي وبيان لمستقبل من يتبعون الشيطان.
والشيطان مهمته الأولى إضلال بني آدم كما أقسم على ذلك ﴿ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ [ص: 82].
ولن يدع طريقاً لإغواء بني آدم إلا ويسلكه قال تعالى: ﴿ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ﴾ [الأعراف: 17].
وله مهام يسعى لتحقيقها: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا * إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا * لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا * وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا * يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا * أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا ﴾ [النساء: 116 - 121].
وهنالك صراع دائم بين الملائكة والشياطين على قلب ابن آدم كما في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إنَّ للشَّيطانِ لمَّةً بابنِ آدمَ وللملَكِ لمَّةً: فأمَّا لمَّةُ الشَّيطانِ، فإيعادٌ بالشَّرِّ، وتَكْذيبٌ بالحقِّ، وأمَّا لمَّةُ الملَكِ، فإيعادٌ بالخيرِ، وتصديقٌ بالحقِّ، فمن وجدَ ذلِكَ فليعلَم أنَّهُ منَ اللَّهِ فليحمَدِ اللَّهَ، ومن وجدَ الأخرى، فليتعوَّذ باللَّهِ منَ الشَّيطانِ الرَّجيمِ، ثمَّ قرأَ: الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ الآيةَ[4] ومن هنا نعلم أن جميع أنواع التسويل والمشاعر السلبية إنما يكون مصدرها من وسوسة الشيطان ولضعفه فإن الاستعاذة منه تُبعده وذكر الله عز وجل يطرده؛ وهو لا يملك غير الوسوسة وكلما اقترب الإنسان من طاعة الله كلما اشتد الشيطان في وسوسته للإنسان وخوفه ومعرفة هذا جيداً والإيمان به يساعد الإنسان على تجاوز كثير من المشكلات والمخاوف التي تعترض حياته.
كان ذلك بعضاً مما ورد في القرآن الكريم من بيان لتلك الأسئلة التي حيرت العالم ونغصت عيش الفلاسفة وهي أسئلة وجودية على أساسها يبني الفرد شخصيته ويمارس دوره في الحياة وبقدر اطمئنانه ومعرفته لحقيقة وجوده وغايته يكون دوره متسقاً مع الكون والناس من حوله ويتحول لأداء مهمته التي تُنتظر منه؛ وإذا عجز عن فهم ذلك وتصوره عاش حياةً مضمّخة بالصراع وقلباً مشتتاً وضاع عمره هباء يطرد خلف السراب للبحث عن إجاباتها في صحراء الجهل.
ودعني ألخص هذا التصور الذي ينبغي لنا أن نربي عليه أبنائنا منذ نعومة أظفارهم حتى نساعدهم على تكوين هويتهم بما يُحقق لهم الطمأنينة:
الإنسان مخلوق من طين - أرضي - بكل ما في ذلك من معاني تدل على ثقله والتصاقه بالأرض ونفخة من الروح -سماوية - ترقى به إلى السماوات العلا؛ وهو مخلوق مكرم ومستخلف وقد سُخرت له الكائنات وكلُ ما في الأرض ليعمرها بطاعة الله وعبادته.
وهو يعيش في كون كُشف له ما يتناسب مع حاجاته ووظيفته وغُيّب عنه جانب من الكون اختباراً له وامتحاناً كما غُيّبت عنه أمور لعجزه عنها وعدم كفاية طاقته وحواسه لاستقبالها. [5]
وهو مكلفٌ بالعبادة بما يتناسب مع إمكاناته كما أن جميع المخلوقات الأخرى مكلفة بعبادة تتناسب مع مكانها ووظيفتها في الحياة الدنيا؛ وهذا ما يشعره بالتناغم والانسجام مع الكون حوله.
وهو يحيا حياة جعلها الله ممراً وجسراً للآخرة ليبتليه ويرى عمله ولهذا فقد امتلأت حياته بالمزعجات والكدح والكدّ والصراعات حتى لا يركن إلى الدنيا ويعمل للآخرة إذ كلُّ ما في الدنيا يدلُ على نقصها وسرعة انقضائها.
ومهما أغرته نفسه بشيءٌ منها أو زيّن له الشيطان الوقوع في المعصية والزلل وتعرض لأخطاء تدفعه إليها طبيعة تكوينه الطيني فإنه يبقى قادراً على النهوض من جديد بفعل جانبه الروحي لتصحيح مساره وهو مع تعرضه لفترات الضعف الإنساني إلا أنه متسق ومستقر نفسياً مع الكون حوله ويعرف دوره ضمن هذه الحياة وهذه الكائنات.
كلُ ذلك كان تأسيساً للمنهج الصحيح في تكوين الهوية التي تُبنى منذ المراحل الأولى لنشأة الشاب.
وقد فضلت أن أبدأ بحثي هذا بالتصور الصحيح وصورة الكمال لنحاكم إليه واقع الشباب ولنعرف كيف يحدث النقص والخلل في تكوين الهوية وكيف تبدأ صراعاتها.
مصطلح الهوية:
(مفهوم الهوية Identity هي إحساس الشخص بأنه يعرف من هو وإلى أين يتجه. والفرد إن كان لديه شعور قوي بالهوية يرى نفسه إنساناً فريداً متكاملاً يتوافر لشخصيته وسلوكه قدرٌ معقول من الثبات والاتساق على مرّ الزمن)[6].
وأثناء النشأة (يمر الطفل في العادة بسلسلة من الخطوات المهمة التي يكون لها أثرها الواضح في تكوين هويته الشخصية. فهو في البداية يعمد إلى التشبه بالأشخاص المهمين في البيئة من حوله. إنه يتشبه بالأب في أمور ويحاول في حالات معينة تقليد أخيه وفي حالات أخرى تقليد أخته.
إنه يعمل على محاكاة كل فرد من هؤلاء الأفراد والتشبه به في أوقات متفاوتة، وقد يقلدهم جميعاً في نفس الوقت.. مما يجعل من شخصيته شيئاً متفكك الأوصال.. وتشعيب الأدوار هذا ما لم يمكن التخلص منه في وقت مبكر قد يؤدي إلى سلسلة من الاضطرابات النفسية...
ويستمر هذا التشعيب في المراهقة لكن المراهق يتعلم كيف يتقن لعب الأدوار المتضادة ويعمل في الوقت ذاته على تخليص نفسه من أن يصبح نسخة طبق الأصل عن الأفراد الذين يتشبه بهم، ويسعى إلى تحقيق ذاته المستقلة، وتحديد معالم هويته المتميزة اعتماداً على خبراته الخاصة وقدراته الموروثة والمكتسبة على حدّ سواء، ولا يخفى أن الطريق أمامه في - الوقت الحاضر- وعر وشائك، وأنه يحتاج إلى الكثير من العناية وحسن الإرشاد وإلا أصبح فريسة للتخبط والضياع...
والسبل التي يسلكها الفرد في تكوين هويته الشخصية بشكلها النهائي متعددة وتعتمد على ما يخرج به ذلك الفرد من خبرات نتيجة قيامه بمختلف الأدوار التي يتاح له أن يلعبها. فالمراهق يمر في العادة بالعديد من الخبرات الذاتية ويتعرض لتأثير عدد غير قليل من فلسفات الحياة دينية كانت أو سياسية أو أيدولوجية أو غير ذلك كما أنه يبدأ استطلاعه للمهن التي سيتعاطاها في المستقبل وإلى غير ذلك من الأمور التي عليه أن يَخبُرَها قبل أن تأخذ شخصيته في الاستقرار على وضع ما.
إن الكثير من المجتمعات توفر للمراهقين الفرص المناسبة والحرية اللازمة لتمكينهم من المرور في هذه الخبرات وتجربتها قبل أن ينتقلوا إلى مرحلة الشباب.. فإذا سارت الأمور على ما يرام فإنه يتجاوز تلك المرحلة وقد تمكن من ترسيخ المعالم الرئيسة لبنيان شخصيته على أسس وطيدة وأكمل تحقيق الذات وقام بتكوين الهوية الشخصية.. )[7].
نشأة مصطلح الهوية:
مصطلح الهوية في علم النفس يُنسب لإيريك إيركسون وهو أحد تلاميذ المدرسة التحليلية لفرويد وهو على خلاف أستاذه فرويد الذي ينسب الصراعات إلى اللاشعور نسب صراع الهوية إلى منطقة الشعور وسبب ذلك هو سيرة حياته وما تعرض له من عدم قبول المجتمع الأمريكي له كمهاجر من ألمانيا (لقد شعر اريكسون - الطفل ذو الإرث الثقافي المختلط والشاب المهاجر إلى أمريكا - بالإهمال والهامشية من قبل المجتمع, وعاش يبحث عن تكوين هويته يقول عن نفسه: "لقد واجهتُ - كمهاجر- واحدة من أهم عمليات "إعادة التعريف" التي ينبغي ان يقوم بها كل من فقد سمعه ولغته و"مراجعه" التي بنيت على انطباعاته الحسية والعقلية الأولية وبعض صوره المفاهيمية". وتوضح محادثاته مع نيوتن أنه كان شديد الحساسية لما يرتبط بالمشكلات التي تعانيها جماعات الأقلية عند محاولاتهم لتكوين هوياتهم.
وبدأ يستخدم مصطلح "مشكلة الهوية" لوصف عملية فقد الهوية التي لاحظها لدى الجنود أثناء الحرب العالمية الثانية.
واكتشف إريكسون مشكلة مماثلة لدى المراهقين المضطربين "الذين يحاربون مجتمعاتهم". وأخيراً فقد أدرك أن مشكلة الهوية تظهر في كافة أنماط الحياة - عادة بمقاييس صغيرة. وعلاوة على ذلك فقد أدرك أن الهوية تعد مشكلة أساسية في العصور المختلفة.. )[8].
من هنا نشأ مصطلح صراع الهوية في علم النفس المعاصر من تلك الأزمة التي مرّ بها إيركسون بسبب اختلاف ثقافته الألمانية عن المجتمع الأمريكي وبسبب خلفيته الفكرية التي تنتمي إلى مدرسة التحليل النفسي الفرويدية التي تعتبر الصراع حتمية لا تنفك عنها حياة الإنسان وتكوينه.
ومعرفة هذا يفيدنا فيما نحن بصدده عند الحديث عن صراع الهوية لدى شبابنا ونحن نحتاج في نفس الوقت لعدد من العلوم المرتبطة بهذه النوع من الصراع مثل علم النفس وعلم الاجتماع والتاريخ والإدارة والتخطيط والسياسة والإعلام وغيرها لعلاقتها بتكوين الهوية وكذلك إذا أردنا التخطيط لبناء الهوية بطريقة صحيحة.
كما أننا هنا محتاجون لعدد من المفاهيم والمصطلحات المتعلقة بها مثل الشخصية والتنشئة الاجتماعية والنمذجة والقدوة والمثل الأعلى والأنا والأنا الأعلى والتقمص وتوكيد الذات والمحاكاة والتقليد ومراحل النمو وخصائصه وغيرها من مفاهيم تُسهم في تشكل الشخصية. ولأني أتحدث أمام مختصين في علم النفس فإن هذا سيضع عني عبء شرح تلك المصطلحات وعلاقة تلك العلوم بمجال حديثنا عن الهوية.
وإذا كان تكوين الهوية مرتبط بنظرة الشاب إلى نفسه وما يُتوقع منه فإن ذلك حتماً سيعتمد على طريقة تكون شخصيته والعوامل ذات التأثير في تكون الشخصية ومفهوم الذات.
والشخصية كما يُعرفها بعض المختصين (جُملة السمات الجسمية والعقلية والاجتماعية والانفعالية)[9] أضف لذلك السمات الروحية، وهي (نتاج للعوامل الوراثية والبيئية وموقف الفرد من الحاجات والدوافع ومواقف التعلم والاحباطات... )[10].
فإذا تمّ تكوين الشخصية بطريقة متسقة ومتوازنة فإن ذلك سيقود إلى تكوين هوية متزنة ومستقرة وإيجابية والعكس صحيح وبقدر النقص يكون مستوى الاضطراب الذي تتعرض له الشخصية ومفهوم الذات وتبعاً لها الهوية.
يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|