المصلحة المرسلة: دراسة في نشأة المصطلح وتطور المفهوم
د. نعمان جغيم (*)
المطلب السادس: الموقف من المصلحة المرسلة بعد الغزالي
لقد ارتبطت المصلحة المرسلة / الاستدلال منذ نشأتها بأمثلة سلبية، وقد ظهرت تلك الأمثلة عند الجويني حين نسب إلى الإمام مالك القول بقتل ثلث الأمة لاستصلاح ثلثيها، والتعزير بالقتل، ومصادرة الأموال، وترسخت تلك الأمثلة السلبية عند الغزالي فيما كتبه عن أمثلة : التترس، وضرب المتهم، وإغراق بعض ركاب السفينة لنجاة بعضهم الأخر، واكل لحم بعض الرفقاء في المخمصة، ومصادرة الحكام أموال الناس، وفرض ضريبة على الأموال للأنفاق على الجند، وغيرها. ولعل هذا التصوير للمصلحة المرسلة قد ترك أثرا سلبيا عند من جاء بعدهما من الأصوليين، فمال بعضهم إلى رفض الأخذ بها بناء على تلك الأمثلة السلبية . وفي المقابل أخرجها بعضهم من تلك الصورة السلبية وأعطاها صورة إيجابية، كما هو الحال عند القرافي، وبذلك رجح الأخذ بها. وفيما يأتي عرض لمواقف كبار الأصوليين حسب التسلسل التاريخي.
افتتح الرازي (ت 606 هـ) في المحصول حديثه عن المصلحة المرسلة بتلخيص ما ذكره الغزالي في المستصفى في تقسيمها بالإضافة إلى شهادة الشرع لها، ولخص كلام الغزالي في جواز العمل بالمصلحة المرسلة إذا كانت في الضرورات، وأورد مثال التترس واشتراط الغزالي في تلك المصلحة الشروط الثلاثة : ضرورية، قطعية، كلية . كما أورد مثال جماعة في سفينة لو طرحوا واحدا لنجوا، وإلا غرقوا جميعا، وذكر أنه لا يجوز في هذه الحال الأخذ بهذه المصلحة لأنها ليست كلية. ([113])
ولكن الرازي ختم كلامه عن المصلحة بذكر استدلال على جواز العمل بها، وخلاصة ذلك الاستدلال أن كل حكم يفرض إما أن تكون فيه مصلحة خالصة أو راجحة، وكلاهما معمول به في الشريعة، أو تكون فيه مفسدة خالصة أو راجحة، وكلاهما غير مشروع . والدليل على كون المصلحة الخالصة أو الراجحة يعمل بهما شرعا، والمفسدة الخالصة أو الراجحة لا يعمل بهما شرعا، أن الكتاب والسنة دالان على أن الأمر كذلك، تارة بالتصريح، وأخرى بحسب الأحكام المشروعة على وفق ذلك . وختم ذلك الاستدلال بإثبات أنه لا توجد مصلحة مرسلة إرسالا مطلقا عن نصوص الشرع، فقال : " غاية ما في الباب أنا نجد واقعة داخلة تحت قسم من هذه الأقسام، ولا يوجد لها في الشرع ما يشهد لها بحسب جنسها القريب، لكن لا بد وأن يشهد الشرع بحسب جنسها البعيد على كونه خالص المصلحة أو المفسدة، أو غالب المصلحة أو المفسدة . فظهر أنه لا توجد مناسبة إلا ويوجد في الشرع ما يشهد لها بالاعتبار، إما بحسب جنسه القريب، أو بحسب جنسه البعيد. وإذا ثبت هذا، وجب القطع بكونه حجة للمعقول والمنقول." ([114]) ويبدو من هذه الخاتمة أن الرازي حاول أن يخرج تقسيم المصلحة المرسلة عن تقسيم الغزالي، ويخرجها عن اعتبار الشاهد الخاص (الشاهد القياسي ) إلى الاكتفاء باعتبار الشاهد العام، مع قواعد الترجيح بين المصالح والمفاسد.
أما ابن قدامة (ت 620 هـ) في روضة الناظر، فقد سار على ما ذكره الغزالي في المستصفى من عدم الأخذ بالمصلحة المرسلة في رتبتي الحاجيات والتحسينات، وزاد ادعاء الاتفاق على ذلك، حيث قال - بعد ذكر رتبتي التحسينات والحاجيات - : " فهذان الضربان لا نعلم خلافا في أنه لا يجوز التمسك بهما من غير أصل، فإنه لو جاز ذلك كان وضعا للشرع بالرأي، ولكان العامي يساوي العالم في ذلك، فإن كل أحد يعرف مصلحة نفسه." ([115]) وختم كلامه بترجيح عدم الاحتجاج بالمصلحة المرسلة مطلقا، حيث قال : "والصحيح أن ذلك ليس بحجة؛ لأنه ما عرف من الشارع المحافظة على الدماء بكل طريق ..." ([116])
وقد سار الآمدي (ت 631 ه) في الإحكام في أصول الأحكام على طريق اشتراط الأوصاف الثلاثة في قبول المصلحة المرسلة . ورد على من يقول : إنه لا يوجد مناسب مرسل إرسالا مطلقا" لان أفي وصف قدر من الأوصاف المصلحية يكون من جنس المصالح المعتبرة، وهو من قبيل الملائم الذي أثر جنشه في جنس الحكم، بقوله : " قلنا: وكما أنه من جنس المصالح المعتبرة، فهو من جنس المصالح الملغاة، فإن كان يلزم من كونه من جنس ما اعتبر من المصالح أن يكون معتبرا، فيلزم أن يكون ملغى؛ ضرورة كونه من جنس المصالح الملغاة " وذلك يؤدي إلى أن يكون الوصف الواحد معتبرا ملغى بالنظر إلى حكم واحد، وهو محال. وإذا كان كذلك فلا بد من بيان كونه معتبرا بالجنس القريب منه؛ لنأمن إلغاءه، والكلام فيما إذا لم يكن كذلك." ([117])
وهذا الاستدلال الذي ذكره الآمدي نجده يتكرر عند ابن الحاجب (ت 646 هـ) في منتهى السؤل والأمل، حيث ذكر أن المصالح التي لها شهادة على مستوى الجنس بالملاءمة، هي ذاتها لها شهادة على مستوى الجنس بالإلغاء، فيتعارض فيها الاعتبار والإلغاء، ويكون الحل باشتراط اعتبار الجنس القريب. ([118]) ولم يفضل ابن الحاجب في موضوع المصلحة المرسلة، واكتفى في تعريفها بأنها : "هي التي لا أصل لها ". وأن المراد بها ما لم يشهد له بالاعتبار أصل من جنسه القريب . ونسب إلى الأكثر عدم التمسك بها، واستبعد نسبة القول بها إلى مالك. ([119]) أما في مختصره : فقد قسم المرسل إلى ثلاثة أقسام : مرسل غريب، ومرسل ملغى، ومرسل ملائم، فقال : " وغير المعتبر هو المرسل . فإن كان غريبا، أو ثبت إلغاؤه : فمردود اتفاقا . وإن كان ملائما فقد صرح الإمام والغزالي بقبوله . وذكر عن مالك والشافعي رضي الله عنهما. والمختار رده . وشرط الغزالي فيه أن تكون المصلحة ضرورية قطعية كلية." ([120])
أما القرافي (ت 684 هـ) في نفائس الأصول فإننا نجد عنده خروجا بمفهوم المصلحة المرسلة عن دائرة المصالح المتعارضة، والمصالح التي يقتضي تحقيقها انتهاك محرمات شرعية، إلى دائرة المصالح التي لا تعارض نصا شرعيا، ولا يقتضي تحقيقها انتهاك محرم شرعي وارتكاب مفسدة . فهو على الرغم من تبنيه تعريف الغزالي للمصلحة المرسلة، ([121]) إلا أنه أحدث تغييرا جوهريا في التمثيل لها ([122]).
وبذلك نجده ابتعد عن الأمثلة التي ذكرها الغزالي ومن سار على طريقه، وهي في مجملها من باب المصالح المتعارضة، ومئين بين المصلحة المرسلة والمصالح المتعارضة. وأبرز الأمثلة التي أوردها القرافي للمصالح المرسلة في عصر الصحابة رضي الله عنهم: إقرار ولاية العهد من أبي بكر لعمر بن الخطاب رضي الله عنهما، جمع القرآن الكريم، جعل أذانين للجمعة في خلافة عثمان رضي الله عنه، توسيع مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم وأخذ الأوقاف المجاورة له وضمها إليه، جمع عمر بن الخطاب الناس على صلاة التراويح، جعل عمر بن الخطاب الخلافة شورى بين ستة من الصحابة بعده، تخفيف عمر الضريبة على التجار الذين يجلبون الطعام والزيت إلى المدينة النبوية، وإبقائها على حالها في التجارة في باقي البلاد، وذلك توسيعا على أهل المدينة وترغيبا في التجارة إليها. ([123])
ثم قال بعد ذكر تلك الأمثلة : "وأمور كثيرة لا يحصيها العد لم يكن في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم شيء منها، بل اعتمد الصحابة فيها على المصالح مطلقا، سواء أتقدم لها نظير أم لا . وهذا يفيد القطع باعتبار المصالح المرسلة مطلقا سواء كانت في مواطن الضرورات، أو الحاجات، أو التتمات." ([124])
أما من حيث النسبة، فقد فئد القرافي حصر الاحتجاج بها في مذهب ما، أو التردد في نسبة الاحتجاج بها إلى بعض المذاهب، وذهب إلى أن الجميع يحتج بها في الواقع العملي، وإن كان منهم من ينكر ذلك على المستوى النظري. ([125])
وجعل البيضاوي (ت 685 هـ) في منهاج الوصول إلى علم الأصول المناسب المرسل (المصلحة المرسلة ) من الأدلة المعمول بها، ولكن اشترط في ذلك الشروط الثلاثة التي ذكرها الغزالي، فقال : " المناسب المرسل إن كانت المصلحة ضرورية قطعية كلية كتترس الكفار الصائلين بأسارى المسلمين اعتبر، وإلا فلا." ([126])
أما تاج الدين ابن السبكي (ت 771 ه) في كتابه جمع الجوامع فقد أخرج من المصالح المرسلة المصلحة التي تكون ضرورية قطعية كلية، لأنها من المصالح المعتبرة التي دل الدليل على اعتبارها، وذهب إلى أن اشتراط الغزالي القطع ليس لأصل الأخذ بتلك المصلحة، ولكن للقطع بالأخذ بها. ([127])
المطلب السابع: نسبة الاحتجاج بالمصلحة المرسلة إلى المذاهب الفقهية
أولا: إشكالات نسبة الاحتجاج بالمصلحة المرسلة
تبين مما سبق أن مصطلح "المصلحة المرسلة " نشأ وتطور في مدرسة الجويني- الغزالي الأصولية . وقد ظهر الاضطراب في تحديد القائلين بمبدأ المصلحة المرسلة منذ بداية ظهور المصطلح نفسه عند الجويني . وحسب ما وصلنا من كتب الأصول، يبدو أن الجويني هو أول من قام بإسقاط هذا المفهوم على المذاهب الفقهية . ولا بد من التنبيه على أنه ليس من أهداف هذا البحث مناقشة تلك الأقوال التي سأعرضها، أو تحرير النسبة إلى المذاهب الفقهية، وإنما الغرض هو عرض ما ذكر في النسبة لبيان الاضطراب، ومحاولة التعرف على أسباب ذلك الاضطراب.
وسعيا لتوضيح الاضطراب في نسبة الاحتجاج بالمصلحة المرسلة، سأعرض الأقوال حسب المذاهب الفقهية . وتكون البداية من الإمام مالك . والظاهر -حسب ما وصلنا من الكتب الأصولية - أن الجويني أول من نسب إليه القول بالمصلحة المرسلة والاسترسال في ذلك . ومما قاله في ذلك : "وأفرط الإمام، إمام دار الهجرة، مالك بن أنس في القول بالاستدلال، فرئي يثبت مصالح بعيدة عن المصالح المألوفة، والمعاني المعروفة في الشريعة. " ([128]) وقد قام إسقاطه على معلومات خاطئة فيما يتعلق بمذهب الإمام مالك في مسائل فقهية لا تثبت نسبتها إليه. ([129])
وتبع الجويني في تلك النسبة أبو المظفر السمعاني، ([130]) ولا غرابة في ذلك، فغالب ما ذكره في باب الاستدلال مأخوذ من البرهان للجويني . كما تبع الجويني في تلك النسبة تلميذه الغزالي، ([131]) وتاج الدين ابن السبكي، حيث قال عن المناسب المرسل : "وقد قبله مالك مطلقا، وكاد إمام الحرمين يوافقه مع مناداته عليه بالنكير." ([132]) أما الرازي فكان معتدلا في نسبة القول بها إلى مالك، ولم ينسب إليه الاسترسال فيها، فقال : " ومذهب مالك -رحمه الله - أن التمسك بالمصلحة المرسلة جائز." ([133])
أما الامدي فقد أعرض عن ترديد ما ذكره الجويني، وشكك في نسبة الاسترسال في القول بالمصلحة المرسلة إلى مالك، حيث يقول : "إلا ما نقل عن مالك أنه يقول به ومع إنكار أصحابه لذلك عنه، ولعل النقل إن صح عنه؛ فالأشبه أنه لم يقل بذلك في كل مصلحة، بل فيما كان من المصالح الضرورية الكلية الحاصلة قطعا، لا فيما كان من المصالح غير ضروري ولا كلي ولا وقوعه قطعي ." ([134])
أما علماء المالكية، الذين اعتبر إمام مذهبهم رأس القائلين بالمصلحة المرسلة : فإننا لا نجد للمصلحة المرسلة ذكرا عند أصولهم الذين لم يكن لهم تأثر بمدرسة الجويني- الغزالي . فلا نجد لها ذكرا عند ابن القصار في مقدماته، ([135]) ولا عند الباجي، ([136]) ولا ابن العربي. ([137]) أما الذين كان لهم احتكاك بمدرسة الغزالي أو تأثر بها، فغالبهم أقروا بأخذ مالك بالمصالح المرسلة، ولكنهم أعطوها بعدا مقبولا، وبينوا أنها بذلك المعنى المقبول ليست محصورة في فقه مالك، بل موجودة في فقه جميع المذاهب . وممن أثبت احتجاج مالك بالمصلحة المرسلة بمفهومها المقبول : القرطبي، حيث نقل عنه الزركشي أنه نسب القول بالمصالح المرسلة إلى الشافعي ومعظم أصحاب أبي حنيفة ومالك. ([138]) والقرافي الذي ذهب إلى أنها عند التحقيق في جميع المذاهب، ([139]) والشاطبي. ([140]) ولكن ابن الحاجب - وهو مالكي - شكك في نسبة القول بها إلى مالك، حيث قال : " والأكثر على امتناع التمسك بها، وقد غزي إلى مالك خلافه، وهو بعيد." ([141]) أما عن موقف الإمام الشافعي، فإن الجويني كان صريحا في نسبته إلى القول بالاستدلال (المصلحة المرسلة )، ودافع عنه في ذلك، ولكنه يرى أن الإمام الشافعي كان مقتصدا في القول بها، متقيدا بقربها من المعاني الشرعية المتفق عليها، حيث يقول : " ذهب الشافعي ومعظم أصحاب أبي حنيفة رضي الله عنهما إلى اعتماد الاستدلال وإن لم يستند إلى حكم متفق عليه في أصل، ولكنه لا يستجيز النأي والبعد والإفراط، وإنما يسوغ تعليق الأحكام بمصالح يراها شبهية بالمصالح المعتبرة وفاقا، وبالمصالح المستندة إلى أحكام ثابتة الأصول، قارة في الشريعة." ([142]) ومن الملفت للنظر هنا : أن الإسنوي نسب إلى الجويني نفسه اختيار الاعتبار المطلق للمصالح المرسلة، ووضعه في خانة الإمام مالك. ([143])
وعلى خطى الجويني سار أبو المظفر السمعاني، حيث نسب إلى الشافعي الأخذ بالاستدلال إذا كان قريبا من معاني الأصول المعهودة المألوفة في الشرع . ([144]) أما الغزالي فقد ذكر تردد النقل عن الشافعي، حيث يقول : "وللشافعي رضي الله عنه مسلكان، يحصر في أحدهما التمسك في الشبه، أو المخيل الذي يشهد له أصل معين، ويرد كل استدلال مرسل . وفي المسلك الثاني يصحح الاستدلال المرسل، ويقرب فيه من مالك، وإن خالفه في مسائل." ([145]) ويقول في شفاء الغليل : " فالمنقول عن مالك رحمه الله الحكم بالمصالح المرسلة، ونقل الشافعي فيه تردد. وفي كلام الأصوليين - أيضا – نوع اضطراب فيه." ([146])
وعلى النقيض مما ذهب إليه الجويني، نجد ابن برهان ينسب إلى الشافعي عدم العمل بالمناسب المرسل مطلقا. ([147]) وذكر الزركشي حكاية بعضهم أن العمل به : قول الشافعي في القديم. ([148]) وكذلك نجد الامدي يدعي اتفاق الشافعية والحنفية على عدم العمل بالمناسب المرسل، حيث يقول : " وقد اتفق الفقهاء من الشافعية والحنفية وغيرهم على امتناع التمسك به، وهو الحق." ([149])
أما عن الحنفية فقد نسب الجويني إلى معظم أصحاب أبي حنيفة الأخذ بالاستدلال. ([150]) وعلى خلاف الجويني، نسب الامدي إلى الحنفية عدم الأخذ بالمصلحة المرسلة، فقال : "وقد اتفق الفقهاء من الشافعية والحنفية وغيرهم على امتناع التمسك به، وهو الحق." ([151]) هذا ما نسب إليهم، أما عن كتبهم فمن الطبيعي : أن لا نجد فيها ذكرا للمصلحة المرسلة، ولا للاستدلال بمعناه الخاص الذي ذكره الجويني " لان هذا المصطلح -كما سبق بيانه - وليد مدرسة الجويني -الغزالي . ولا نجد في كتب الأصول الحنفية حديثا عن المناسبة ولا عن تقسيمات المناسب، وإنما نجدهم يذكرون الملاءمة والتأثير بوصفهما شرطي صحة العلة. ([152]) ومع أن الملاءمة في اصطلاح الحنفية تقابل المناسبة في اصطلاح الشافعية، فإن الشاهد - هنا - هو : عدم استخدام علماء الحنفية مصطلح المناسب وتقسيماته كما هو الحال عند الغزالي ومن تبع مدرسته. ولكننا نجد الحديث عن المناسب المرسل (المصلحة المرسلة ) في الكتب التي كتبها علماء الحنفية وجمعوا فيها بين طريقة الحنفية وطريقة الشافعية، عند الحديث عن المناسبة وتقسيمات المناسب. ([153]) ولا يخفى أن هذا المبحث ليس أصيلا في كتب الحنفية، وإنما هو مقتبس من كتب الشافعية.
ونسب بعضهم إلى الظاهرية عدم الأخذ بالمصلحة المرسلة. ([154]) وأرى أنه لا يصح منهجيا نسبة الظاهرية إلى الاحتجاج بالمصلحة المرسلة أو نفي ذلك عنهم؛ لان المصلحة المرسلة فرع القياس، وهم لا يقولون بالقياس، ولا يشترطون من الأساس وجود أصل تقاس عليه المسائل المستجدة حتى نقول بوجود أو عدم وجود المصلحة المرسلة عندهم . بل هم يجرون النصوص على عمومها فتدخل المصالح في أجناسها، سواء كانت معتبرة أم ملغاة . فمثلا قوله تعالى : (وقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ) (الأنعام: 119) عائم يدخل فيه إباحة جميع ما هو مصلحة مما لم يرد في تحريمه نص أو إجماع، ويدخل في عمومه : إباحة المحرم لكل مضطر توافرت فيه حقيقة الضرورة، ([155]) ولا حاجة في جميع ذلك للبحث عن شاهد قياسي تقاس عليه تلك المصلحة، بل يكفي دخولها في عموم النص . وفي قوله صلى الله عليه وسلم : " إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم وأبشاركم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا." ([156]) معناه : " فلا يحل لأحد من مال أحد، ولا من دمه، ولا من عرضه، ولا من بشرته إلا ما أباحه نص أو إجماع. " ([157]) " ولذلك فإنه لا يمكن مش المسلم في دمه أو ماله أو عرضه أو بشرته باسم المصلحة، إلا في حدود ما أجازته نصوص الشرع والإجماع، وكل ما يخالف هذا مما قد يعده بعضهم مصلحة ولم يرد في تجويزه نص أو إجماع، هو مصلحة ملغاة.
والأولى القول : بأنه لا يوجد عند الظاهرية مصطلح "المصلحة المرسلة "، كما أنه لا يوجد عندهم الأساس الذي يقوم عليه هذا الاصطلاح، وهو الشاهد الخاص (الشاهد القياسي ) .
هذا من حيث النسبة إلى المذاهب الفقهية، أما من حيث النسبة على العموم : فإننا نجد من الأصوليين من نسب إلى الأكثر عدم الاحتجاج بالمصلحة المرسلة، ومنهم : ابن الحاجب، حيث يقول : " والأكثر على امتناع التمسك بها." ([158]) وتاج الدين ابن السبكي، حيث يقول : " وردة الأكثر مطلقا، وقوم في العبادات." ([159]) في حين نجد من الأصوليين من ينسب الاحتجاج بالمصالح المرسلة إلى جميع المذاهب الفقهية، ومنهم : القرافي، الذي يقول : " يحكى أن المصلحة المرسلة من خصائص مذهب مالك . وليس كذلك، بل المذاهب كلها مشتركة فيها." ([160]) وقد سار كثير من الذين كتبوا عن المصلحة المرسلة من المعاصرين في طريق القول بوقوع الاتفاق على الاحتجاج بها، ([161]) وذلك بناء على سيرهم في مفهوم المصلحة المرسلة على ما فعله القرافي ومن نحا نحوه . ومن المعاصرين : من لم يسر في الاتجاه الذي ينسب أئمة المذاهب الأربعة إلى القول بالمصالح المرسلة، مثل محمد سليمان الأشقر، حيث يقول : " وقد احتج بالمصلحة المرسلة، وأثبت بها الأحكام : مالك وأحمد . ورفض الأخذ بها الشافعي والظاهرية." ([162])
ثانيا: أسباب الاضطراب في نسبة الاحتجاج بالمصلحة المرسلة
إذا نظرنا في أسباب هذا الاضطراب الواقع في نسبة القول بالمصالح المرسلة، فإننا يمكن أن نرجعه إلى أمور:
أحدها: تخريج الأقوال الفقهية للمتقدمين على الاصطلاحات والقواعد التي وضعها المتأخرون " ذلك أن مصطلح " المصلحة المرسلة " أحدثه المتأخرون (مدرسة الجويني- الغزالي )، وبعد أن أحدثوه وحددوا له مفاهيم معنية، عمدوا إلى إسقاطه على أقوال أئمة المذاهب، فنسبوا إليهم القول بالمصلحة المرسلة فيما رأوا أنه يتخرج على تلك المفاهيم التي أعطوها لهذا المصطلح . ومثل هذا العمل يكون - عادة - محلا للاختلاف بين المخرجين . والواقع : أن مثل هذا الإسقاط عليه تحفظ من الناحية المنهجية، وإن كان ولا بد من إسقاط المفاهيم والقواعد التي أحدثها المتأخرون على اجتهادات المتقدمين، فالأولى أن نقول : إن هذا الاجتهاد من هذا الإمام ينطبق عليه مفهوم المصلحة المرسلة. أما أن نقول : إن المصلحة المرسلة من أصول هذا الإمام أو ذاك، أو ليست من أصوله، فهو خطأ منهجي.
الأمر الثاني: الاختلاف في تحديد مدلول مصطلح المصلحة المرسلة، فكل نظر حسب ما يراه من مدلول لها، وقارن ذلك المدلول بالفروع الفقهية المروية عن الأئمة، ثم حكم من خلال ذلك . فالجويني الذي كان يرى الاستدلال المرسل على مرتبتين : إحداهما: قريبة، والثانية : بعيدة، نسب إلى الشافعي القول بالقريب، وإلى مالك القول بالقريب والبعيد. والغزالي الذي تردد قوله في تحديد ماهية المصلحة المرسلة تردد في نسبة القول بها إلى الشافعي . والذين مالوا بعد الغزالي بالمصلحة المرسلة إلى جانبها السلبي، وهو المصالح التي يقتضي تحصيلها انتهاك محرمات شرعية، كما صورتها غالب الأمثلة التي ذكرها الغزالي، مالوا إلى رفضها، ورفضوا نسبتها إلى أئمة مذاهبهم الفقهية أو تحفظوا على ذلك، مثل الامدي، وابن الحاجب، وابن قدامة، أو ضيقوا في قبولها فاشترطوا فيها أن تكون ضرورية قطعية كلية، مثل البيضاوي . والذين مالوا بالمصلحة المرسلة إلى جانبها الإيجابي، وهو المصالح التي اعتبر الشارع أجناسها، ولا يقتضي -عادة- تحقيقها ارتكاب محرمات شرعية، بل هي داخلة في عموم ما أباحه الشرع، نسبوا القول بها إلى جميع المذاهب الفقهية، كما فعل القرافي، وهو التوجه الذي سار عليه كثير ممن كتب في المصلحة المرسلة من المعاصرين، كما سبق الإشارة إليه.
الأمر الثالث : عدم التدقيق في الأقوال المنسوبة إلى المجتهدين، وهذا ينطبق خصوصا على النسبة إلى مالك عند الجويني ومن تبعه، حيث قامت تلك النسبة على أمثلة لا تثبت نسبتها إليه.
خاتمة: نتائج البحث
نلخص أهم نتائج هذا البحث في ما يأتي:
الظاهر: أن مصطلح المصلحة المرسلة، والأصل الذي نشأت منه وهو الاستدلال، نشأ وتطور في مدرسة الجويني -الغزالي الأصولية، وانتشر بعد الغزالي عند الأصوليين الذين تأثروا بتلك المدرسة . وبناء على ذلك فإن أهميته في استنباط الأحكام محصورة في أتباع هذه المدرسة.
الظاهر : أنه لا وجود لاصطلاح " المصلحة المرسلة " وما يتعلق بها من اصطلاحات في أصول المالكية إلى عصر ابن العربي . ويكفي -عندي- في الدلالة على ذلك عدم ذكر الباجي وابن العربي لذلك . وإنما دخل القول بالمصلحة المرسلة كتابات المالكية بعد عصر الغزالي، عند علمائهم الذين تأثروا بمدرسة الجويني -الغزالي الأصولية.
يرجع الاضطراب في نسبة القول بالمصلحة المرسلة إلى أئمة المذاهب الفقهية إلى أسباب:
أولها: إسقاط المفاهيم التي أنشأها المتأخرون على اجتهادات المتقدمين، وما يصحب ذلك من اختلاف في التخريج.
الثاني : الأثر السلبي للأمثلة التي نسبها الجويني إلى مالك، والأمثلة التي ناقش الغزالي من خلالها موضوع المصلحة المرسلة.
الثالث: الاختلاف في التصوير العملي للمصلحة المرسلة من خلال التمثيل لها .
الرابع: عدم التدقيق في الأقوال المنسوبة إلى مالك رحمهم الله جميعا.
المصادر والمراجع
أبو إسحاق إبراهيم بن علي الشيرازي، التبصرة في أصول الفقه، تحقيق محمد حسن هيتو (دمشق : دار الفكر، تصوير 1403 هـ/ 1983 م عن طبعة 1980 م).
أبو إسحاق إبراهيم بن علي الشيرازي، اللمع في أصول الفقه، تحقيق محيي الدين ديب مستو، ويوسف علي بديوي (دمشق : دار الكلم الطيب، دار ابن كثير، ط 1، 1416 هـ/ 1995)
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي، الموافقات، تحقيق عبد الله دراز (بيروت : دار الكتب العلمية، د.ت).
أبو الحسن علي بن عمر ابن القصار المالكي، المقدمة في الأصول، قراءة وتعليق محمد بن الحسن السليماني، ط 1، بيروت : دار الغرب الإسلامي، 1996 م .
أبو الحسين محمد بن علي بن الطيب البصري، المعتمد، تحقيق محمد حميد الله (دمشق :د. ن، 1384 هـ/ 1964 م).
أبو العباس أحمد بن أدريس القرافي، شرح تنقيح الأصول في اختصار المحصول في الأصول (بيروت : دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، 1424 ه/ 2004 م).
أبو العباس أحمد بن أدريس القرافي، نفائس الأصول في شرح المحصول، تحقيق عادل عبد الموجود، وعلي محمد معوض (د. م : مكتبة نزار مصطفى الباز، 1416 هـ/ 1995 م).
أبو المظفر منصور بن محمد السمعاني، قواطع الأدلة في أصول الفقه، تحقيق عبد الله بن حافظ الحكمي (الرياض : مكتبة التوبة، ط 1، 1419 هـ) .
أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله الجويني، البرهان في أصول الفقه، علق عليه صلاح بن محمد بن عويضة (بيروت : دار الكتب العلمية، ط 1، 1418 هـ/ 1997 م).
أبو الوفاء علي بن عقيل، الواضح في أصول الفقه، تحقيق عبد الله بن عبد المحسن التركي (بيروت : مؤسسة الرسالة، ط 1، 1420 هـ/ 1999 م) .
أبو الوليد سليمان بن خلف الباجي، إحكام الفصول في أحكام الأصول، تحقيق عبد المجيد تركي (بيروت : دار الغرب الإسلامي، ط 2، 1415 هـ/ 1995 م).
أبو بكر بن العربي، المحصول في أصول الفقه، أخرجه واعتنى به حسين علي اليدري (الأردن / لبنان : دار البيارق، 1420 هـ/ 1999 م
أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني، التقريب والإرشاد (الصغير)، تحقيق عبد الحميد أبو زنيد (بيروت : مؤسسة الرسالة، ط 2، 1418 هـ/ 1998 م).
أبو حامد محمد بن محمد الغزالي، المستصفى من علم الأصول، مكتب التحقيقات بدار إحياء التراث العربي (بيروت : دار إحياء التراث العربي، مؤسسة التاريخ العربي، ط 1، د.ت).
أبو حامد محمد بن محمد الغزالي، المنخول من تعليقات الأصول، تحقيق محمد حسن هيتو (د . م : د .ن، د .ت)
أبو حامد محمد بن محمد الغزالي، شفاء الغليل في بيان الشبه والمخيل ومسالك التعليل، وضع حواشيه زكريا عميرات (بيروت : دار الكتب العلمية، ط 1، 1420 هـ/ 1999 م).
أبو زيد عبيد الله بن عمر الدبوسي، تقويم الأدلة في أصول الفقه، تحقيق خليل الميس (بيروت : دار الكتب العلمية، ط 1، 1421 هـ/ 2001 م).
أبو يعلى محمد بن الحسين الفراء، العدة في أصول الفقه، تحقيق أحمد بن علي سير المباركي (د . م : د . ن، ط 3، 1414 هـ/ 1993 م ) .
أحمد بن علي الرازي الجصاص، الفصول في الأصول، تحقيق عجيل النشمي (الكويت : وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، ط 2، 1414 هـ/ 1994 م ).
أيمن مصطفى حسين الدباغ، مسلك المناسبة عند الإمام أبي حامد الغزالي والأصوليين، رسالة ماجستير بكلية الدراسات العليا، الجامعة الأردنية، أيار 2000 م.
بدر الدين محمد بن بهادر الزركشي، البحر المحيط في أصول الفقه، تحرير عبد القادر عبد الله العاني (الكويت : وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، ط 2، 1413 هـ/ 1992 م).
تاج الدين عبد الوهاب بن علي السبكي، جمع الجوامع، تعليق عبد المنعم خليل إبراهيم (بيروت : دار الكتب العلمية، 1424 ه/ 2003 م).
تاج الدين عبد الوهاب بن علي السبكي، رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب، تحقيق عادل عبد الموجود، وعلي معوض (د. م : عالم الكتب، د . ت).
جمال الدين أبو عمرو عثمان بن عمر بن الحاجب، كتاب منتهى الوصول والأمل في علمي الأصول والجدل (هكذا في النسخة المطبوعة، والراجح أن اسمه : منتهى السؤل والأمل في علمي الأصول والجدل ) (مصر: مطبعة السعادة لصاحبها محمد إسماعيل، ط 1، 1326 هـ).
جمال الدين أبو عمرو عثمان بن عمر بن الحاجب، مختصر منتهى السؤل والأمل في علمي الأصول والجدل، تحقيق نذير حمادو (بيروت : دار ابن حزم، ط 1، 1427 هـ/ 2006 م).
جمال الدين عبد الرحيم الإسنوي، نهاية السول في شرح منهاج الوصول إلى علم الأصول للاسنوي، ومعه سلم الوصول لشرح نهاية السول لمحمد بخيت المطيعي (د. م : عالم الكتب، د . ت).
حسين حامد حسان، نظرية المصلحة في الفقه الإسلامي (القاهرة : مكتبة المتنبي، 1981 م).
صدر الشريعة عبيد الله بن مسعود المحبوبي، التوضيح لمق التنقيح، ومعه شرح التلويح للتفتازاني (بيروت : دار الكتب العلمية، د .ت)
عبد العزيز بن عبد الرحمن السعيد، ابن قدامة وأثاره الأصولية (الرياض : جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، ط 4، 1408 هـ/ 1987 م).
علي بن محمد الامدي، الإحكام ي أصول الأحكام، تعليق عبد الرزاق عفيفي (الرياض : دار الصميعي للنشر والتوزيع، ط 1، 1424 ه/ 2003 م).
فخر الدين محمد بن عمر الرازي، المحصول في علم أصول الفقه، تحقيق طه جابر العلواني (بيروت : مؤسسة الرسالة، د . ت) .
محب الله بن عبد الشكور، مسلم الثبوت وعليه شرح فواتح الرحموت (بيروت : دار الكتب العلمية، ط 1، 1423 هـ/ 2002 م).
محمد الطاهر بن عاشور، مقاصد الشريعة الإسلامية، تحقيق ودراسة محمد الطاهر الميساوي (ماليزيا : دار الفجر، عمان : دار النفائس، ط 1، 1420 هـ/ 1999 م).
محمد أمين المعروف بأمير بادشاه، تيسير التحرير (د. م : د .ن، د .ت)
محمد سعيد رمضان البوطي، ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية (دمشق: دار الفكر، ط 4، 1426 هـ/ 2005 م).
محمد سليمان الأشقر، الواضح في أصول الفقه (القاهرة : دار السلام، ط 2، 1425 هـ/ 2004 م).
محمد مصطفى شلبي، تعليل الأحكام (مصر: مطبعة الأزهر، 1947 م).
مصطفى ديب البغا، أثر الأدلة المختلف فيها في الفقه الإسلامي (دمشق : دار الإمام البخاري، د . ت).
مصطفى زيد، المصلحة في التشريع الإسلامي (مصر: دار اليسر للطباعة والنشر، د. ت )