عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 12-07-2019, 03:53 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,446
الدولة : Egypt
افتراضي رد: العربية وطرائق اكتسابها

العربية وطرائق اكتسابها


د. محمد حسان الطيان


3- تعلم النحو الوظيفي والبلاغة:
النحو الوظيفي: مجموعة القواعد التي تؤدي الوظيفة الأساسية للنحو، وهي ضبط الكلمات، ونظام تأليف الجمل ليسلم اللسان من الخطأ في النطق والقراءة، ويسلم القلم من الخطأ في التأليف والكتابة.
أما النحو التخصصي فهو ما يتجاوز ذلك من المسائل المتشعِّبة، والبحوث الدقيقة التي حفلت بها الكتب الواسعة.


النحوُ يُصلِحُ من لسانِ الألكنِ والمرءُ تُكرمه إذا لم يلحنِ
والنحوُ مثلُ الملح إن ألقيته في كلِّ ضدٍّ من طعامك يحسنِ
وإذا طلبتَ من العلوم أجلَّها فأجلُّها عندي مقيمُ الألسنِ[16]

إن تعلم النحو يكسب الطالب مناعة ضد ما يعترضه من لحن أو خطأ في لسانه أو في قلمه، إنه سورٌ يحمي صاحبه من شر الانزلاق في هاوية الخروج عن الفصاحة، لأنه لا فصاحة للاحنٍ، ولا نجاة للمرء من اللحن إلاّ بتعلم النحو بعد اكتساب اللغة الصحيحة والاطلاع على أدبها وحفظ نصوصها كما أسلفنا، ومهما حفظ الطالب من نصوص وتعلم من أدب فلن يكون بمأمن من الخطأ إن هو لم يتعلم النحو، لأن تسرُّب الفساد اللغوي إلى كل شيء من حوله سيحول بينه وبين استقامة اللسان على سَنن واحد، مما قد يوقعه في اللحن، وهنا يبرز أثر النحو وتتضح أهميَّته إذ به يتبين الخطأ من الصواب، وبالاحتكام إليه يتَّضح نظام اللغة ووظيفة كل كلمة فيها.

وما كان وضع النحو أصلاً إلاّ لهذه الغاية، فقد كان فشوُّ اللحن الباعثَ الأول على وضع قواعد النحو واستنباط أحكامه، وقد عدَّ الأوائل تعلم النحو من المروءة، إذ روى ثعلب عن محمد بن سلام قوله: ((ما أحدث الناس مُروءة أفضل من طلب النحو))[17]. وقال شعبة: ((مثل الذي يتعلم الحديث ولا يتعلم النحو، مثل البُرنس لا رأس له))[18]. وكان أيوب السَّختياني يقول: ((تعلموا النحو، فإنه جمالٌ للوضيع، وتركُه هُجنة للشريف))[19]، ولا جرم فاللحن عندهم ممقوت منبوذ، وصاحبه مكروه لا حرمة له: ((ليس للاحن حرمة)). وفي ذلك يقول علي بن محمد العلوي:


رأيتُ لسانَ المرءِ رائدَ عَقلِهِ وعُنوانَه فانظُر بماذا تُعَنْوِنُ
ولا تَعدُ إصلاحَ اللِّسانِ فإنَّهُ يُخبِّرُ عمَّا عندَهُ ويُبَيِّنُ
ويُعجِبُني زِيُّ الفَتى وجَمالُه فيَسقُطُ من عَينيَّ ساعةَ يَلحَنُ[20]

ومن أطرف ما يروى في استنكار اللحن واستهجانه أن أعرابيًا دخل السوق فسمع أهله يلحنون في كلامهم فقال: سبحانك اللهم يلحنون وترزقهم[21]؟!...
ولا بدَّ من الإشارة هنا إلى أن تعلم النحو وحده لا يكسب فصاحة ولا يثري لغةً، وإنما هو يقوِّم اللغة التي يكتسبها المرء مما تلقَّنه وسمعه من كلامها، وما قرأه ووعاه من نصوصها، وما زاوله وتمرّس عليه من فصيحها وبليغها، ثم يأتي النحو بعد ذلك ليحيطَ هذا كله بسورٍ منيع يحفظه، وبناء محكم يجمعه.

وهذا ما بيَّنه عالمنا الفذّ ابن خلدون حين أكَّد أن السمع أحد الأسس لتعلم اللغات، إذ عن طريقه ينغرس الحسّ اللغوي السليم ليصبح ملكةً طبيعية في الإنسان: ((وهذه الملكة إنما تحصلُ بممارسة كلام العرب وتكرره على السمع والتفطُّن لخواصّ تراكيبه، وليست تحصُل بمعرفة القوانين العلمية في ذلك التي استنبطها أهل صناعة اللسان فإن هذه القوانين إنما تفيد علمًا بذلك اللسان ولا يفيد حصول الملكة بالفعل في محلها))[22].

إذًا فالنحو يكمل تلك السلسلة التي ابتدأناها بسماع الكلام الفصيح، وأردفناها بقراءة نصوصه وحفظ روائعه. إنه التاج الذي يتوِّج به الطالب ما اكتسب من ملكات اللغة:


اقتَبِسِ النحوَ فنِعمَ المقتَبَسْ والنحوُ زَينٌ وجَمالٌ مُلتَمَسْ

ويأتي علم البلاغة بعد هذا كله ليعلم الطالب سبل استعمال هذه الملكة التي امتلكها، كيف يتكلم؟ وكيف يصيب المعنى والقصد؟ ومتى يؤكد كلامه؟ ومتى يرسله؟ ومتى يحسن الإيجاز؟ ومتى يحسن الإسهاب؟ وأين يضع كلماته ليوافق مقتضى الحال؟... وغير ذلك من بحوث يثيرها علم البلاغة فتكتمل للمرء أدوات الفصاحة والبيان، لأن المهارة ليست بكثرة الكلام ولا طول البيان، وإنما هي بوضع الأمور في نصابها، وإعطاء المعاني مستحقاتها، فإن لكل مقام مقالاً، ولكل تعبير أصولاً.

قال خالد بن صفوان لرجل كثر كلامه: إن البلاغة ليست بكثرة الكلام، ولا بخفَّة اللسان، ولا كثرة الهذيان، ولكنها إصابة المعنى والقصد إلى الحجة[23]، وقيل لرجل: ما البلاغة؟ فقال: حسن الإشارة، وإيضاح الدلالة، والبصر بالحجة، وانتهاز مواضع الفرصة[24]، وقال المفضل الضبي: قلت لأعرابي: ما البلاغة عندكم؟ فقال: الإيجاز من غير عجز، والإطناب من غير خطل[25].

وقال ابن رشيق في العمدة: ((البلاغة حسن العبارة مع صحة الدلالة))[26].
فقد يكون السكوت في بعض المواضع أبلغ من الكلام، وقد تكون اللمحة الدالة أبلغ من الإطالة المملة، وربَّ إشارة أبلغ من عبارة، ورحم الله من قال:


واعلم بأن من السكوت إبانةً ومن التكلم ما يكون خبالاً[27]

ولا بدَّ من التنبيه على أمر جدّ هام وهو وجوب تعلم البلاغة من كتب أئمة البلاغة الذين كتبوا عنها بأسلوب بليغ وبيان عالٍ كالإمام عبد القاهر الجرجاني في كتابيه دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة لأن القارئ فيهما يأخذ البلاغة من منبعها، فيتعلم أصول هذا الفن مكتوبة بقلم أديب بارع متذوق وفصيح بيِّن متفوق، فيجمع في قراءته إلى المعرفة الذوق، وإلى العلم الفنَّ، وحسبك به من غنم.
على أن ذلك لا يعني ألاَّ يستعين بالمختصرات السهلة التي وضعت في هذا الفن (كالبلاغة الواضحة)، فإنها وسيلة يتوسل بها الطالب إلى تلك الكتب الرائعة وبالله المستعان.
وأما كتب النحو فكثيرة جدًّا، ولعل أجمعها مع الاختصار والتركيز كتاب قواعد اللغة العربية لحفني ناصف وزملائه، فإنه جمع كل بحوث النحو بإيجاز واعتماد لرأي جمهرة النحاة دون الدخول في التفاصيل غير المجدية والتفريعات والشذوذ الذي جرَّ من المضرة أضعاف ما جلب من المنفعة للغة وأهلها.
وكنت قد سمعت من أستاذنا الأفغاني رحمه الله ثناءً كبيرًا على هذا الكتاب وصل إلى حدِّ القول: إنه ما من كتاب بعد كتاب سيبويه خير من كتاب قواعد اللغة العربية.
هذا وممَّا ظهر بأَخَرة في هذا الميدان كتاب الكفاف للأستاذ يوسف الصيداوي، وهو كتاب يعيد صوغ قواعد العربية وينفي عنها كثيرًا من غوائلها ببيان رائع ونماذج من فصيح القول تغني الطالب غير المتخصص وتزوده زادًا حسنًا.

4- تعلم مبادئ التجويد والتمرس به:
التجويد إعطاء كل حرف حقّه ومستحقّه مخرجًا وصفة[28]، وهو أمر يعدُّ من لوازم الفصاحة، إذ لا فصاحة لمن تتداخل الحروف في نطقه، أو يعتورها نقص في النطق، أو حَيْفٌ في الصفة، أو آفَةٌ من آفات الكلام كاللثغة والتأتأة والفأفأة وما أشبه ذلك مما فصَّل الحديث عنه أرباب الفصاحة والبيان.

إن تلقين الترتيل للناشئ في رحاب العربية أمر مهم للغاية، وهو يبدأ من كتاب الله عز وجل لينتهي بإتقان اللفظ العربي أيًا كان موضعه، إذ يضمن للناطق التلفظ بكلمات اللغة على النحو الأمثل الذي تتلقفه الآذان بشغف وتسمعه بعذوبة ويكون له أكبر الأثر في النفوس، خلافًا لمن يخرج الحروف من غير مخارجها، ويعطيها غير صفاتها مما يجعل نطقه ممجوجًا، يضيق به سامعه، وينتظر لحظة سكوته وفراغه، وما أكثر ما ابتلي الناس اليوم بمثل هؤلاء الناطقين الذي ذهبوا برُواء اللغة، ففقدت على ألسنتهم أجمل خصائصها وأروع صفاتها، واختلط حابل الحروف بنابلها، فرقَّقوا ما حقُّه التفخيم، وقلقلوا ما حقّه الاستطالة، وهمسوا ما حقّه الجهر، وضاعت على ألسنتهم مخارج الحروف وصفاتها، وصرنا إلى ما قاله العباس بن الأحنف:


مَن ذا يُعيرُكَ عينَه تَبكي بِها أرأيتَ عَينًا للبُكاءِ تُعارُ[29]

وإذا كان ابن الجزري يقول في منظومته المشهورة:


والأَخذُ بالتَّجويدِ حَتمٌ لازمُ مَن لم يُجَوِّدِ القُرانَ آثِمُ[30]

فإني أزيد فأقول إن من لم يجود القرآن فلن تكتمل له أدوات الفصاحة مهما أوتي من علم بالعربية، وبصر بالأدب، وحفظ للشعر، ودراية بالنحو والصرف، لأن نطقه سيبقى في مَنْزلة لا ترقى إلى ما ينبغي للناطق بالعربية، وذلك لكثرة ما اختلط في المجتمع من اللغات واللهجات، وما كثر من الفساد اللغوي والنطقي.
وما وضع التجويد حين وضع إلاَّ لمثل هذا، صدعًا بالأمر الإلهي: {وَرَتِلِ القُرْءَانَ تَرْتِيلاً} [المزمل: 4]، ووصولاً إلى الوجه الأمثل لهذه التلاوة، وقد حظي هذا الفن بمؤلفات جليلة بسط أصحابها فيها الكلام على مخارج الحروف وصفاتها وأحكام النون الساكنة والتنوين من إظهار وإخفاء وإدغام وإقلاب، وأحكام الميم الساكنة من إظهار شفوي وإدغام وإخفاء، وأحكام الراء وما أشبهها، وأحكام الممدود بأنواعها المختلفة، والعجيب أن بعض هذه المصنفات لم يقتصر على هذه الأحكام وإنما تعدَّاها إلى بيان ما ينبغي تجنبه من أغلاط وأخطاء في التلاوة والترتيل مما يحتاج طالب الفصاحة اليوم إلى أن يعلمه ليجتنبه ويتحاماه في كلامه.

ولعلَّ من أشهر ما ألف في هذه البابة رسالة ((التنبيه على اللحن الجلي واللحن الخفي)) لأبي الحسن علي بن جعفر السعيدي المقرئ (ت461هـ)‍[31]، وقد جاء في مستهلها: ((... واللحن الخفي لا يعرفه إلاَّ المقرئ المتقن الضابط الذي قد تلقَّن من ألفاظ الأستاذين المؤدى عنهم، المعطي كل حرف حقه غير زائد فيه ولا ناقص منه، المتجنب عن الإفراط في الفتحات والضمَّات والكسرات والهمزات، وتشديد المشددات وتخفيف المخففات وتسكين المسكنات، وتطنين النونات، وتفريط المدَّات وترعيدها وتغليظ الراءات وتكريرها، وتسمين اللامات وتشريبها الغنَّة، وتشديد الهمزات وتلكيزها...))[32].

إن فن التجويد واحد من الفنون التي لا يمكن أن تُتقن بالاعتماد على الكتب فحسب، إذ لا بدَّ فيه من التلقي والتلقين المباشر من أفواه الأشياخ المقرئين المتقنين ليتمرَّس الطالب بطريقة الأداء الصحيحة ويجتنب كل ما ينبغي اجتنابه، ومن فضل الله على هذه الأمة أن أرباب التجويد منتشرون في كل صقع من أصقاع الأرض، يعلِّمون هذا الفن حِسبةً لوجه الله سبحانه، إيمانًا بما ادَّخره الله سبحانه لهم من جزيل الثواب وواسع المغفرة وحسن المآب لقوله صلى الله عليه وسلم: ((خيركم من تعلم القرآن وعلَّمه))[33].
وكتب التجويد ورسائله كثيرة منتشرة، من أجلِّها وأقدمها كتاب الرعاية لتجويد القراءة وتحقيق التلاوة للإمام المقرئ مكي ابن أبي طالب القيسي (437هـ).




يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 22.74 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 22.11 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.76%)]