مفاتيح السياسة الشرعية
إبراهيم السكران
-التمييز بين شورى التولية وشورى التدبير:
قابلت كثيراً من المعنيين بالتغيير السياسي، وكنت إذا قلت لهم: "الشريعة قررت الشورى في اختيار ولي الأمر" قالوا لي فوراً: "ولكن الشورى عند الفقهاء فيها خلاف هل هي معلمة أم ملزمة؟ فما فائدة الشورى إذن؟".
ثم رأيت عدداً من الفضلاء يحاول إقناع المتطلعين السياسيين بالحماس والمبالغة في إثبات أن الشورى ملزمة، ويحاول أن ينتقص من قول الفقهاء الذين تبنوا أن الشورى معلمة لا ملزمة، إمعاناً في إثبات لزومية الشورى، ورغبة في استمالة الديمقراطيين.
والحقيقة المؤلمة أن كلا الفريقين لم يفهم موضع خلاف الفقهاء، ولا في أي دائرة يتحرك هؤلاء الفقهاء، ولا أخفي القارئ أنني أشعر بطرافة الموقف دوماً حين أرى الانفعال في مناقشة مسألة "الشورى معلمة أم ملزمة" برغم أن هذه المسألة لا صلة لها أصلاً بالمسألة التي تعنيهم.
وحقيقة الأمر أن الفقهاء يفرقون بين "شورى التولية" و "شورى التدبير"، فأما شورى التولية وهي التي يحصل فيها اختيار المسلمين ورضاهم لإمام بعينه، فهذه لم ينبس فقيه واحد بكونها معلمة، وليست هذه هي التي تكلموا فيها، بل إن الفقهاء يتغالون بتشديد التحريم في مخالفتها، بل ويعتبرون مخالفتها خروج ومعصية عن بيعة المسلمين ورضاهم، بل جاءت أحاديث ليس بتحريم مخالفة شورى التولية فقط، بل وصل الأمر إلى "قتل" من يخالف شورى التولية، ومن ذلك ما في الصحيح عن أبي سعيد الخدري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (( إذا بويع لخليفتين، فاقتلوا الآخر منهما ))[مسلم: 1854]
وفي الصحيح أيضاً أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (( من بايع إماما فأعطاه صفقة يده، وثمرة قلبه، فليطعه إن استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر)) [مسلم: 1844].
فانظر إلى حزم الشريعة في "شورى التولية" فليس يحرم فقط مخالفتها، بل يصل الأمر لقتل من يخالف بيعة المسلمين ورضاهم واختيارهم، ولا يخالف في التشديد في ذلك أحدٌ من فقهاء المسلمين، ولا أعرف فقيهاً، بل ولا نصف فقيه، قال أن شورى التولية معلمة لا ملزمة، هذا كله من تصورات بعض المعاصرين السطحية، فليس في شورى التولية خلاف، ولا حاجة للحماس لإثبات اللزوم في خلاف الفقهاء في الشورى، لأنهم لا يتحدثون عن "شورى التولية" أصلاً.
وفي الصحيح أيضاً أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (( إنه ستكون هنات وهنات، فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي جميع، فاضربوه بالسيف كائناً من كان))[مسلم: 1852]
وفي الصحيح أيضاً أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (( من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد، يريد أن يشق عصاكم، أو يفرق جماعتكم، فاقتلوه))[مسلم: 1852]
وهذه الصورة في غاية الوضوح في النصوص الشرعية، وهي احترام اختيار المسلمين بحسب الترتيب الزمني، ولذلك في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (( سيكون خلفاء فيكثرون" قالوا: فما تأمرنا؟ قال: "فوا ببيعة الأول فالأول))[البخاري: 3455].
وقد تواطأ أهل العلم على نقل الإجماع على ذلك، فمن ذلك قول ابن حزم "وقد أجمع أهل الإسلام حينئذ على أنه إن بويع أحدهم فهو الإمام الواجبة طاعته"[الفصل: 4/127].
هذا هو المستوى الأول للشورى، وهو "شورى التولية" الذي لم يختلف الفقهاء في التغليظ في شأنه، وجاءت النصوص بالأمر بقتل من يشق اختيار المسلمين وشوراهم ورضاهم، وجعلت الأولوية للترتيب الزمني في ثبوت الاختيار والرضا.
وأما المستوى الثاني للشورى فهو: "شورى التدبير" وهو أنه إذا ثبتت الإمامة واستقرت واختار المسلمون إماماً لهم، فهل يلزم هذا الإمام المختار، في تدبيره لشؤون الولاية؛ أن يأخذ بحصيلة مشاورة الناس، أم يشاور الناس ويختار من آرائهم؟ هذه المسألة محل خلاف بين الفقهاء، فاختار بعض الفقهاء أن شورى التدبير "ملزمة" ونقل أقوالهم القرطبي في تفسير آل عمران "آية159" واحتجوا بعمومات نصوص الأمر بالشورى، وذهب الفريق الثاني، وهم جمهور أهل العلم أن شورى التدبير "معلمة"، واحتجوا بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - خالف رأي الأكثرية يوم الحديبية، وأن أبا بكر خالف رأي الأكثرية في إنفاذ جيش أسامة، وأن عمر خالف رأي الجيش في تقسيم أرض السواد.
وحاول شيخ الإسلام ابن تيمية أن يتوسط بين القولين في شورى التدبير، ففرق بين ما ظهر فيه النص بعد الشورى، وما لم يظهر، فقال في كتابه السياسة الشرعية:
"وإذا استشارهم، فإن بين له بعضهم ما يجب اتباعه من كتاب الله أو سنة رسوله أو إجماع المسلمين، فعليه اتباع ذلك، ولا طاعة لأحد في خلاف ذلك..، وإن كان أمرا قد تنازع فيه المسلمون، فينبغي أن يستخرج من كل منهم رأيه، ووجه رأيه، فأي الآراء كان أشبه بكتاب الله وسنة رسوله عمل به، كما قال - تعالى -: ( فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول)[السياسة الشرعية: 126].
مع التنبيه طبعاً إلى أن الفقهاء يفرقون بين وجوب الشورى ولزومها، ويحتاج هذا تحرير أقوالهم، فبعضهم يرى الوجوب لا اللزوم، فنسب قوله بالوجوب إلى اللزوم، وهذا خطأ.
والذي يظهر لي -والله - تعالى -أعلم- أن تحقيق القول في شورى التدبير هل هي معلمة أم ملزمة؟ أنها منوطة بالشروط الجعلية في الإمامة؛ لأن الإمامة عقد، وإعلام شورى التدبير وإلزامها مفوض للأمة، فإن اختارت الإمام وبايعته بيعة مطلقة ولم تقيد تصرفاته فالشورى معلمة لأنه اختيار الأمة، وإن قيدت تصرفاته فاشترطت عليه مثلاً أن يشاور الأمة، أو ممثليها، في قرارات الحرب والصلح وصفقات الاستيراد الكبرى ونحوها، فإن إمامته تتقيد بذلك، وتصبح الشورى هاهنا ملزمة، لأن عقد الإمامة تقيد بها، ولا يظهر لي أن الشارع حسم القول في الشورى هل هي ملزمة أم معلمة، بل وكل ذلك وفوضه لاختيار الأمة.
على أية حال.. المهم هاهنا فرز صور المسائل، وكشف الالتباس الذي وقع فيه كثير من المعاصرين، حين حملوا الخلاف في الشورى "هل هي معلمة أم ملزمة" على شورى التولية، وحمّلوا الفقهاء آراء لم تخطر ببالهم، وسبب الخلل في ظني أن أهل العلم يقل استعمالهم لمصطلح الشورى إذا تعرضوا لموضوع التولية والإمامة، ويكثرون استعمال ألفاظ البيعة والاختيار والانعقاد ونحوها، بينما يكثرون من استعمال لفظ الشورى إذا تعرضوا لشورى التدبير، بينما المعاصرون فبمجرد أن يسمعوا كلمة الشورى فلا يخطر ببالهم إلا شورى التولية، بسبب كثرة استعمالها في هذا المقام الذي استجلبه المقارنة مع النظام الديمقراطي، فبسبب اختلاف الاستعمال، صار كثير من المعاصرين يحمل خلاف الفقهاء في شورى التدبير على شورى التولية، ولا يسبق لأذهانهم إلا شورى التولية التي يعرفونها ويتداولونها بكثرة.
على أن مسألة شورى التدبير ليست ذات خطر كبير، لأن الجرح النازف في واقع المسلمين السياسي هو "شورى التولية"، وهو الذي إذا صلح صلح ما بعده بإذن الله، ومما هو لصيق الصلة بذلك أن الرئيس في النظم الرئاسية الديمقراطية المعاصرة يمتلك صلاحيات واسعة، ولا يلتزم بمشاورة مؤسسات الدولة في كثير من الأمور، بخلاف الرئيس في النظم البرلمانية فإن صلاحياته أكثر تقييداً.
-لا شورى في المنصوص:
من أصول السياسة الشرعية أنه لا تصويت ولا تخيير في الأحكام المنصوصة، وقد تتابع أهل العلم على تأكيد ذلك، قال الجصاص الحنفي:
"لا بد من أن تكون مشاورة النبي - صلى الله عليه وسلم - إياهم فيما لا نص فيه، إذ غير جائز أن يشاورهم في المنصوصات، ولا يقول لهم ما رأيكم في الظهر والعصر والزكاة وصيام رمضان؟"[تفسير الجصاص: 2/330].
وقال الإمام ابن عطية المالكي:
"ومشاورته - عليه السلام - إنما هي في أمور الحروب والبعوث، ونحوه من أشخاص النوازل، وأما في حلال أو حرام أو حد فتلك قوانين شرع"[المحرر الوجيز: 1/435].
وقال الرازي الشافعي:
"المسألة الثالثة: اتفقوا على أن كل ما نزل فيه وحي من عند الله لم يجز للرسول أن يشاور فيه الأمة؛ لأنه إذا جاء النص بطل الرأي والقياس"[مفاتيح الغيب: 9/409].
فيكون مجال الشورى هو أولاً وقبل كل شيء "انتخاب رئيس الدولة المسلمة" ثم يعين في عقد البيعة، أو تفوض الأمة ممثليها لرسم حدود ومجالات شورى التدبير، وما هي صلاحيات الرئيس المفوضة، وصلاحيات الرئيس المقيدة بشورى الأمة أو ممثليها، كالقرارات المصيرية في الحرب والصلح وإدارة الاقتصاد ونحوها.
-الصيغ غير الشرعية للولاية:
ذكرت النصوص والآثار الشرعية عدة طرق محرمة للولاية، وقد تدبرت النصوص والآثار -قدر طاقتي- وظهر لي منها سبعة أنواع، وقد يظهر لغيري من الباحثين أنواع أخرى، وهذه الطرق السبعة المحرمة التي ذكرتها النصوص والآثار هي: الاستبداد، الأثرة، التأمّر"التغلب"، الهرقلية "التوريث"، الملكية الجبرية، الملك العضوض، غصب الأمر. وسنشير لها باختصار فيما يلي:
-الاستبداد:
في الصحيح أن علي بن أبي طالب قال: "لكنك استبددت علينا بالأمر، وكنا نرى لقرابتنا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نصيبا"[البخاري: 4240] مما يدل أن الاستبداد في الولاية قد استقر عند الصحابة منعه.
وقال أبو المظفر السمعاني في تفسيره في التعليق على آية الشورى: "وذلك دليل على اتفاق الكلمة، وترك الاستبداد"[تفسير السمعاني: الشورى/38].
وقال القرطبي في المال الخاص الذي آل إلى المال العام لموجب شرعي "ينفق بالعدل لا بالاستيثار، وبرأي الجماعة لا بالاستبداد بالأمر"[تفسير القرطبي: الكهف/95].
والمراد أن اصطلاح "الاستبداد" مصطلح تراثي معروف، استعمله الصحابة في موضع الذم، وتبعهم أهل العلم على ذمه.
-الهرقلية:
الهرقلية هو اصطلاح استعمله الصحابة على سبيل الاستعارة لوصف "التوريث السياسي" أي انتقال السلطة بالوراثة، لا ببيعة المسلمين ورضاهم، وأكد الصحابة تحريم الصيغة الهرقلية "التوريث"، ففي الصحيح أن مروان كان أميراً على المدينة وأنه خطب فيهم ليأخذ البيعة ليزيد بن معاوية، فرد عليه الصحابة، روى البخاري قال "كان مروان على الحجاز فخطب، فجعل يذكر يزيد بن معاوية لكي يبايع له بعد أبيه، فقال له عبد الرحمن بن أبي بكر شيئاً"[البخاري: 4827].
والشيء الذي قاله عبد الرحمن أفصحت عنه الروايات الأخرى، حيث يقول ابن حجر:
"والذي في رواية الإسماعيلي فقال عبد الرحمن: "ما هي إلا هرقلية..، وقال مروان: سنة أبي بكر وعمر، فقال عبد الرحمن: بل سنة هرقل وقيصر". وفي رواية ابن المنذر قال عبد الرحمن: "أجئتم بها هرقلية، تبايعون لأبنائكم""[فتح الباري: ح4827].
وجاء في بعض كتب التاريخ أن عبد الرحمن بن أبي بكر عارض التوريث بالشورى، كما يقول خليفة "فقال عبد الرحمن بن أبي بكر: والله لوددت أنا وكلناك في أمر ابنك إلى الله، وإنا والله لانفعل، والله لتردن هذا الأمر شورى في المسلمين، أو لنعيدنها عليك جذعة"[تاريخ خليفة بن خياط: 214، تاريخ الإسلام للذهبي: 4/149].
وممن نص على التقابل بين التوريث والشورى الإمام الحسن البصري، وهو أحد أركان التابعين الأربعة، كما يقول ابن تيمية "سعيد بن المسيب، والحسن البصري، وإبراهيم النخعي، وعطاء بن أبي رباح؛ وهؤلاء الأربعة أركان التابعين"[بيان الدليل: 101].
فالحسن البصري هو أحد أركان التابعين الأربعة، وقد علق على ظاهرة الهرقلية وقابل فيها بين التوريث والشورى، حيث يقول الحسن البصري "فمن أجل ذلك بايع هؤلاء أبناءهم، ولولا ذلك لكانت شورى بين المسلمين إلى يوم القيامة"[البداية والنهاية: 11/650].
ونقل ابن حزم الإجماع على منع "التوريث السياسي"، حيث يقول: "فلا يجوز التوارث في الإمامة..، ولا خلاف بين أحد من أهل الإسلام في أنه لا يجوز التوارث فيها"[ابن حزم، الفصل: 5/12].
ولابن حزم عبارة طريفة حول توريث المناصب يقول فيها:
"وأما "المرتبة" فما جاء قط في الديانات أنها تورث، ولو جاز أن تورث المراتب لكان من ولّاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكاناً ما، إذا مات؛ وجب أن يرث تلك الولاية عاصبه ووارثه"[الفصل: 4/155].
ورجح الإمام ابن تيمية المنع فقال: "فإن عدل عن الأحق الأصلح إلى غيره، لأجل قرابة بينهما، أو صداقة، أو مرافقة في بلد أو مذهب؛ أو طريقة، أو جنس؛ فقد خان الله ورسوله والمؤمنين، فإن الرجل لحبه لولده، قد يؤثره في بعض الولايات، أو يعطيه ما لا يستحقه؛ فيكون قد خان أمانته"[السياسة الشرعية: 8].
وقال المحدث الفقيه الزاهد ابن رجب -رحمات الله عليه- في شرحه للبخاري:
"والإمامة العظمى لا تستحق بالنسب، ولهذا أنكر الصحابة على من بايع لولده، وقال عبد الرحمن بن أبي بكر "جئتم بها هرقلية، تبايعون لأبنائكم"، وسمع ذلك عائشة والصحابة، ولم ينكروه عليه، فدل على أن البيعة للأبناء سنة الروم وفارس، وأما سنّة المسلمين فهي البيعة لمن هو أفضل وأصلح للأمة"[فتح الباري: 5/279].
وقد شرح ابن الجوزي معنى عبارة عبد الرحمن بن أبي بكر، حيث يقول ابن الجوزي "فقال عبد الرحمن "أهرقلية؟ " أي: أتجرون على سنة هرقل، وهو قيصر، في إقامة الولد مقام الوالد في الملك"[كشف المشكل: 4/393].
وأما الجواب عن فعل معاوية -رضي الله عنه- في أخذ العهد لولده، فبكل اختصار: هو تأوُّل تأوَّله - رضي الله عنه -، لمصالح شرعية ظهرت له، وخالفه في هذا الاجتهاد عامة الصحابة، فنحن نختار قول بقية الصحابة ونترضى عن معاوية ونجتهد في التماس المعاذير له، جمعاً بين "نصوص الشورى، ونصوص فضل معاوية"، وتحقيقاً للتوازن بينهما، وهذه طريقة أهل السنة في الشغف بالجمع بين النصوص والعمل بها جميعاً، وهو المنهج العلمي الذي يختاره من يحترم العلم والموضوعية، وأما بعض الجهلة الذين خاضوا في عرض معاوية، إما لهوى سياسي في نفوسهم بسبب تشربهم الديمقراطية والليبرالية وسيادة الشعب والحرية الغربية الخ، أو بعض الفضلاء الذين أرادوا التزلف للديمقراطيين بلمز معاوية أو ثلبه في مسألة التوريث، طمعاً في استمالة الديمقراطيين، أو ليقول عنهم الديمقراطيون "أنتم مهتمون بالإصلاح السياسي ما شاء الله عليكم"، فهؤلاء جميعاً مخطئون ومجانبون للمنهج العلمي والموضوعية البحثية، ووالله لغبار دخل في أنف فرس معاوية، في معركة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خير من ملء الدنيا من الديمقراطيين.
- التأمُّر:
ذكرت النصوص التأمُّر في سياق الذم، وهو الذي سمّاه أهل العلم لاحقاً "التغلُّب" أو "القهر" أو "الاستيلاء" أو "الشوكة" أو "التسلُّط"، هذه الألفاظ ترد في كتب العقيدة والفقه وشروح الحديث والمعنى واحد، ففي السنن أن النبي - صلى الله عليه وسلم – قال: (( أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن تأمّر عليكم عبد)) [البيهقي: 20338، وذكر النووي وابن الملقن وابن القيم أن اللفظ عند الترمذي، ولم أجده بنفس اللفظ، فلعلها نسخةٌ عندهم].
وهذا السياق سياق ذم لولاية المتأمِّر/المتغلب، لأن العبد المملوك لا تصح ولايته، فلا تكون إلا بالتغلب، لذلك قال ابن علان الصديقي (( وإن تأمر عليكم عبد)) هو من باب ضرب المثل بغير الواقع على سبيل الفرض والتقدير، وإلا فهو لا تصح ولايته"[دليل الفالحين: 2/417].
ولذلك كان أهل العلم ينزهون الخلفاء الراشدين عن "التغلب" لأنه مذموم شرعاً، كما يقول ابن تيمية "فلو قدر - والعياذ بالله - أن أبا بكر وعمر متغلبان متوثبان؛ لكانت العادة تقضي بأن لا يزاحما الورثة المستحقين للولاية والتركة في المال؛ ليكفوا عن المنازعة في الولاية"[منهاج السنة: 4/221].
وهذا "التأمر" سماه الأئمة لاحقاً "التغلب" كما قال الإمام الشافعي "والجمعة خلف كل إمام صلاها من أمير ومأمور ومتغلب على بلدة وغير أمير مجزئة"[الأم: 1/221]. وقال الإمام أحمد في رواية عبدوس الشهيرة التي يتداولها الحنابلة "ومن غلبهم بالسيف حتى صار خليفة".
ومن المصطلحات الرائجة بين أهل العلم تسميتهم إياه "القهر" فيقولون مثلاً "من قهر الناس بشوكته". وسماه بعضهم "التسلّط" كما قال العلامة القاري في مرقاة المفاتيح: "له أهلية الخلافة، أو له التسلط والغلبة" وقال في موضع آخر "ما هو مشاهد في هذه الأيام، حيث استقرت الخلافة في أيدي الظلمة بطريق التسلط والغلبة".
-غصب الأمر: من الأوصاف غير الشرعية للولاية التي جاءت بها النصوص مفهوم "غصب الأمة حقها" ففي الصحيح أن بعض الناس قالوا ""لو قد مات عمر لقد بايعت فلانا" فغضب عمر، ثم قال: إني إن شاء الله لقائم العشية في الناس، فمحذرهم هؤلاء الذين يريدون أن يغصبوهم أمورهم"[البخاري: 6830]
فتعبير عمر -رضي الله عنه- بمصطلح "الغصب" تعبير دقيق، لأنه يعكس تجذر مفهوم "الحق" في الشورى، ثم إنه جعل الحق عاماً للمسلمين، ولم يخصصه بطائفةٍ بعينها.
-الأثرة: مما جاءت النصوص بذمه من صيغ الولاية "الأثرة" حيث جاء في الصحيح "عن أسيد بن حضير أن رجلا من الأنصار قال: يا رسول الله، ألا تستعملني كما استعملت فلانا؟ قال: (( ستلقون بعدي أثرة، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض )) [البخاري: 3792]
وهذا النص يفيد أن الأثرة تشمل المال والولاية، أي وقوع استئثار الظلمة بالمال والولايات، ومنعها عن مستحقيها.
-الملكية الجبرية والعضوضية:
جاء في هذا النوعين حديث حذيفة المشهور: (( تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها، ثم تكون ملكا عاضا، فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكا جبرية، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج نبوة)) [مسند أحمد: 18406].
أما الجبرية فاختلف فيها، فقيل من الجبر والإكراه، وقيل من الجبروت والتعاظم، وأما العضوض فقال ابن الأثير ""ملك عضوض" أي يصيب الرعية فيه عسف وظلم، كأنهم يُعضُّون فيه عضّاً"[النهاية: 3/253].
هذا بالنسبة "للملك الجبري والملك العضوض" وهما أوصاف من أوصاف الملكية.
وأما بالنسبة لجنس "الملكية" هل هي مذمومة شرعاً مطلقاً؟ فالذي رأيته هو اختلاف الآثار في ذلك، فجاءت "الملكية" في نصوص كثيرة في سياق الذم، منها قوله - تعالى-: ( قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا ) [النمل: 34]. وقوله - تعالى-: ( كَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا ) [الكهف: 79].
وفي الصحيح أن ذي عمرو قال لجرير: "يا جرير إن بك علي كرامة، وإني مخبرك خبرا: إنكم معشر العرب، لن تزالوا بخير ما كنتم إذا هلك أمير تأمرتم في آخر، فإذا كانت بالسيف كانوا ملوكا، يغضبون غضب الملوك ويرضون رضا الملوك"[البخاري: 4359].
ومنها حديث سفينه الشهير في السنن "الخلافة في أمتي ثلاثون سنة، ثم ملك بعد ذلك" وصححه الأئمة، وهو يوحي بذم الملك ومخالفته لسنن الخلافة على منهاج النبوة.
وتعليق الصحابي الجليل سفينة حيث قال له سعيد بن جهمان إن بني أمية يزعمون أن الخلافة فيهم؟ فقال سفينة "كذب بنو الزرقاء، بل هم ملوك من شر الملوك"[الترمذي: 2226].
فهذه الآثار ونحوها تدل على ذم جنس مفهوم "الملكية"، وأما النصوص التي جاء فيها ذكر "الملكية" في سياق المشروعية فالحقيقة أن أكثرها دلالةً قوله - تعالى -:
( يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا ) [المائدة: 20]. ولو كان الملك مذموماً في جنسه لما كان نعمة يمتن بها على قوم موسى.
وقول الله: ( فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا ) [النساء: 54] ولو كان الملك مذموماً في جنسه لما كان نعمة يمتن بها على آل إبراهيم، وقول الله: ( وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي)[ص: 35] ولو كان الملك مذموماً لما سأله نبي الله.
وقول الله: ( إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) [البقرة: 246]. ولو كان الملك مذموماً لما سألوه نبيهم.
وقول الله: ( وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا ) [البقرة: 247]. ولو كان الملك مذموماً لما استجاب الله طلبهم.
( رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ ) [يوسف: 101] ولو كان الملك مذموماً لما كان محل شكر، فلا يشكر الله على معصية.
وجاءت أحاديث ذُكِر فيها الملك في سياق المشروعية أشهرها حديث "الملك والرحمة" وقد قال عنه الهيثمي أنه رجال ثقات، وللألباني بحث في السلسلة الصحيحة في تصحيحه، ولذلك كان ابن تيمية يرى أن معاوية ينطبق عليه حديث "الملك والرحمة" كما يقول ابن تيمية:
"واتفق العلماء على أن معاوية أفضل ملوك هذه الأمة، فإن الأربعة قبله كانوا خلفاء نبوة، وهو أول الملوك، كان ملكه ملكاً ورحمة، كما جاء في الحديث: (( يكون الملك نبوة ورحمة، ثم تكون خلافة ورحمة، ثم يكون ملك ورحمة، ثم ملك وجبرية، ثم ملك عضوض))، وكان في ملكه من الرحمة والحلم ونفع المسلمين ما يعلم أنه كان خيرا من ملك غيره"[الفتاوى: 4/478].
حسناً.. كيف الجمع بين النصوص التي جاء فيها مفهوم "الملكية" في سياق الذم، والنصوص التي جاء فيها مفهوم "الملكية" في سياق المشروعية؟ الذي يظهر -والله أعلم- أن هذه المسألة تُرجع للمحكمات، فما كان ملكاً يحترم فيها اختيار الأمة ورضاها، ولا يغتصب أمرها، ويقام فيها بالعدل؛ فهو ملك مشروع، وما كان ملكاً يغتصب فيه رضا الأمة واختيارها ويتسلط عليها بالقهر والسيف والتغلب والاستيلاء، وتنهب حقوقها ويحكم فيها بالظلم والعسف؛ فهو ملك مذموم، والله أعلم.
هذه هي الصيغ السياسية السبعة التي رأيت النصوص الشرعية ذمتها فيما يتعلق بباب الولاية، وهي: الاستبداد، التأمر"التغلب"، غصب الأمر، الهرقلية"التوريث"، الأثرة، الملكية الجبرية، والملك العضوض. وإذا تدبر الباحث هذه الصيغ السياسية السبعة المذمومة شرعاً، وجد الجامع بينها، والخيط الرفيع الذي ينظمها؛ أنها كلها ضد "اختيار ورضا وشورى الأمة"، بما يعني أن النصوص والآثار لم تكتفِ بتأسيس قاعدة الشورى والاختيار والرضا، بل أضافت لذلك ذم كثير من أضداد الشورى والاختيار، إمعاناً في تأكيد المعنى الشرعي لقاعدة الشورى، وبضدها تتبين الأشياء، مع التنبيه طبعاً إلى أن هذه الصيغ السبع بينها تقارب لا يخفى وهو المضمون المشترك فيها الذي سبقت الإشارة إليه.
والنصوص الشرعية فرقت في حكم هذه الصيغ ابتداءً، وحكم التعامل معها إذا وقعت، كما سيأتي بيانه بإذن الله في آخر هذه الورقة.
يتبع