أقسام مقاصد الدعوة إلى الله تعالى [*]
د. عبدالناصر بن خليفة اللوغاني[**]
المطلب الثالث
في بيان أن تحقق العبودية فناط بالتقاء مقصد المكلف مع المقصد الشرعي:
بعد أن تقرر أن الشرائع الإلهية كلها ترجع لمقصد واحد، وهو تحقيق العبودية الكاملة لله تعالى، أقول:
إن المقاصد التي ينظر فيها قسمان:
مقاصد الشارع من التكاليف الشرعية.
ومقاصد المتشرعين - أي المتعبدين - من أعمالهم التكليفية.
وقد صرح بذلك الشاطبي رحمه الله تعالى ([39]).
ومعلوم أن الأول ليس للمكلف مدخل في وضعه وتحديد وجهته، بل عمله مقصور على تأمل هذه التشريعات الربانية، لاستكشاف معانيها ومقاصدها، إما للوقوف على حكمة الخالق وعظمته جل وعلا، أو لذلك ولأمر آخر، وهو مراعاة هذا المقصد في الأحكام الشرعية والأعمال التكليفية في النظر الفقهي الاستنباطي القياسي([40]).
وأما القسم الثاني: فهو من فعل المكلف وكسبه، وهو ساحة النوايا والعزائم والمرادات.
وقد يطن عند الوهلة الأولى ألا رابط بين الوجهتين، ولا علاقة بين الساحتين، غير أن العلاقة وثيقة لازمة لتحقيق العبودية، ذلك أن تحقيق الأول متوقف على الثاني، بمقتضى قوله صلى الله عليه وسلم: ((إنما الأعمال بالنيات، وغنما لكل امرئ ما نوى))([41]).
والحاصل أنه متى ما التقى قصد المكلف في عمله مع قصد الشارع من التكليف.. تحققت العبودية على أتم وجهها، واكتملت شروطها المتوقفة عليها، ومتى اختل أحدهما اختلت العبودية، وعرض صاحبها للعقوبة من رب البرية.
قال الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى: "كل من ابتغى في تكاليف الشريعة غيز ما شرعت له، فقد ناقض الشريعة، وكل من ناقضها فعمله في المناقضة باطل، فمن ابتغى في التكاليف ما لم تشرع له فعمله باطل".
ثم قال رحمه الله تعالى: "إن الآخذ بالمشروع من حيث لم يقصد به الشارع ذلك القصد، آخذ في غير مشروع حقيقة، لأن الشارع إنما شرعه لأمر معلوم بالفرض، فإذا أخذ بالقصد إلى غير ذلك الأمر المعلوم، فلم يأت بذلك المشروع أصلا، واذا لم يأت به ناقض الشارع في ذلك الأخذ، من حيث صار كالفاعل لغير ما أمر به، والتارك لما أمر به"([42]).
فإذا تقرر ما سبق، علم أن الداعية إذا لم يكن مخلصا في دعوته لربه تعالى، لم يشب دعوته بحظ نفس، ولا هوى طبع، ولا غرض سياسي أو حزبي أو قبلي.. الخ، فهو داعية إلى الله تعالى، وإلى طريقه المستقيم، وصراطه القويم.
والا فهو في الحقيقة داعية للشيطان، قاطع صاد عن طريق الرحمن، ولا يؤمن أن ينطبق عليه حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: ((يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار، فتندلق أقتاب بطنه، فيدور بها كما يدور الحمار بالرحى، فيجتمع إليه أهل النار فيقولون: يا فلان، مالك! ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟!. فيقول: بلى، قد كنت آمر بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه))([43]).
المبحث الثاني
في مقاصد الدعوة المشاكلة والمتفرعة عن مقاصد الشريعة
سنورد في هذا المبحث ثلاثة أنواع من مقاصد الدعوة التي استوحيت أو تفرعت عن مقاصد الشريعة المشهورة المقررة عند أهلها، وسنفرد لكل نوع منها مطلب خاص به.
وسأبين في مطلع كل نوع منها.. الأصل الذي تفرعت عنه أو استوحيت منه، وهو نوع من أنواع مقاصد الشريعة، ثم أتبع الكلام في هذا النوع من مقاصد الدعوة.
وأود قبل الشروع في موضوع هذا المبحث أن أشير إلى أن كل أو جل تلك المقاصد الآتي الحديث عنها، إنما كانت مقاصد باعتبار أنها مطلوب شرعي، وإلا فإنها باعتبار آخر إنما هي وسائل لمقصد أعلى منها، فهي مقصد وهدف من جهة، وهي في الوقت نفسه مرحلة لما هو أعظم وأعلى من جهة أخرى، إلى أن يصل الأمر إلى المقصد الكلي العام الذي لا مقصد بعده، ولا مطلب سواه، وهو تحقيق العبودية الخالصة لله تبارك وتعالى ومعرفته على ما سبق بيانه في المبحث السابق.
وهذا الأمر، كما ينبغي أن يلحظ هنا، ينبغي أن يلحظ أيضأ في ما سيأتي في المبحث الثالث عند الكلام على مقاصد الدعوة الكلية إن شاء الله تعالى.
وأعد ذا التنبيه هنا مغنيا عن تكراره وإعادة التذكير به.
المطلب الأولى
في تقسيم المقاصد الدعوية ، بالنظر إلى فئات المدعويين، إلى عامة وخاصة
لقد قسم العلماء مقاصد الشريعة إلى مقاصد عامة، وأخرى خاصة، بالنظر إلى تعلقها بمصالح الخلق، ولذا - والله أعلم - كثر أو استحسن عندهم التعبير عنها بالمصالح بدل المقاصد.
والمراد من المصلحة العامة كما يقول الإمام الغزالي رحمه الله تعالى: "ما يعم جدواها، وتشمل فائدتها، ولا تخص الواحد المعين" ([44]).
فالمقاصد أو المصالح العامة: هي التي لا يلحظ فيها شخص أو فئة معينة، بل تعم الخلق، أو تناط بالغالب، من غير تعيين أو حصر.
وأما الخاصة فبعكسها، تكون خاصة بشخص معين، أو فئة محصورة بوصف أو قيد أو غير ذلك.
وهنا ملحظ مهم، وهو أن المصلحة الخاصة - والكلام في المعتبرة شرعا- هي في الحقيقة خاصة ابتداء ولكنها في النهاية لبنة في تحقيق المصالح العامة، لأنه بصلاح الأفراد يصلح المجتمع المركب منهم ([45]).
وفي ضوء هذا النوع من مقاصد الشريعة. يمكن أن نقسم مقاصد الدعوة إلى عامة وخاصة، بالنظر إلى فئآت وأجناس المدعويين.
ونعني بالمقاصد الدعوية العامة: ما لا تتعلق بشخص أو فئة معينة من المدعويين، وبالتالي تكون موضوعاتها والخطاب الدعوي فيها عاما وصالحا للجميع.
ومن أمثلة ذلك: تحقيق المبادئ العامة في الشريعة والأخلاق، كتحقيق العبودية لله تعالى، والعدل بين الخلق وإزالة الظلم، والإحسان للآخرين وإعانتهم، وأمثال ذلك، فهذه لا تخص فئة دون فئة.
وأما الخاصة: فهي التي يلحظ فيها مدعو أو فئة بعينها، وبالتالي تكون موضوعاتها بحسب حاجة تلك الفئة أو ذلك الشخص، وبحسب مستواه وقدراته العلمية والعملية.
وأضرب مثالا واقعيا شرعيا يوضح ذلك ويجليه:
وهو ما قضت به الشريعة من أحكام خاصة بأهل الذمة([46]) في المجتمع الإسلامي، مما يظهر فيه تمييزهم كأنهم طبقة في المجتمع دون غيرهم.
من ذلك ما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه آن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((لا تبدؤوا اليهود ولا النصارى بالسلام، فإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه))([47]).
وقد تقرر بالنصوص الربانية والقواعد الكلية، أن الإسلام ما جاء ليفرق بين الأجناس، ولا ليبذر عنصرية في المجتمعات، وذلك هو المتوافق مع الفطر السليمة، والطباع القويمة، فيعلم من ذلك بداهة أن ما أوهم مثل ذلك وخرج عن الأصل العام، فإنما خرج لأمر محدد، ومقصد خاص بتلك الحالة أو هذه الفئة، لما فيه صلاحهم وخيرهم، لا لمضرتهم أو الانتقاص من ذواتهم، وهو ما نسميه بالمصلحة الدعوية، أو بالمقصد الدعوي الذي اتسم بالخصوصية في خطابه، لتعلقه بفئة لها وضعها الخاص بها.
واليك بيان ذلك من خلال عدد من المقدمات والنقاط تيسيرا للغرض، فأقول، والله تعالى أعلم وأحكم:
إن الحق تبارك وتعالى عالم بخلقه وبمصالحهم، (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ)([48])، وأوجدهم في دار الدنيا ابتلاع واختبارا، ومن مقتضيات الاختبار.. وضع وإقرار الاختيار، ولذلك فقد نفت الشريعة الإكراه في الدين، (لا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ) ([49])، هذا هو الأصل.
ثم لا يخفى أن من مقتضى إقرار الشريعة أهل الذمة على دينهم، موتهم على دين الضلالة المستوجب للخلود في النار، وهو أمر لن تسكت عنه الشريعة وتقف تجاهه على نحو سلبي بطبيعة الحال.
فحسن حينئذ سلك سبيل وسط، متجافية عن الإكراه من جهة، وعن ترك من ضل عن الصراط هملا بلا هداية من جهة أخرى، فشرعت الدعوة وأمر بها، ووجب البيان والدلالة إلى الحق المبين من قبل المكلفين، إقامة للحجة، وأداع للأمانة، فجاء قوله عز وجل: (قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ)([50])، مكملا للصورة والبيان قبله: (لا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ) فلا إكراه في الدين إذا تبين وتميز الرشد والهدى عن الغي والضلالة.
ولكن هل ترك الله تعالى أمر البيان والتبليغ على المكلفين من المسلمين فقط؟، وهل اقتصرت الدعوة وتوقفت على ما يبذله المكلفون من واجب التبليغ ؟.
لا، بل وضع الحق تبارك وتعالى، برحمته وكرمه، التشريعات والأحكام التي تحقق ذلك، كيف وهو القائل عز شأنه وعظم مقداره: (واللَّهُ يَدْعُو إلَى دَارِ السَّلامِ ويَهْدِي مَن يَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ)([51])، فكان من مقتضى ذلك: ما شرع من أحكام خاصة بأهل الذمة، تكون سببا لهدايتهم، ووسيلة من وسائل دعوتهم، تضمم إلى ما أوجبه الله تعالى من واجب الدعوة على المكلفين من المسلمين.
ولعل هذا الكلام ما زال يحمل في طياته نوع إجمال، ويحتاج لزيادة التوضيح والتفصيل، وبيانه:
أن من لازم هذه الأحكام أنها تستثير ما غرس في النفس البشرية من رغبات وتطلع إلى الرقي وحيازة الفضل على الآخرين، فضلا عن تحصيل رتبة التساوي، وهذا دافع فطري، وشعور جبلي، وعكسه شذوذ وانحراف ([52]).
فمن خلال هذه الأحكام يستثير الإسلام في نفس الذمي تحصيل الرتبة العليا في المجتمع -أو (جنسية) البلد بالعبارة المعاصرة - وبذلك تكون هذه الأحكام سببا لهداية هذا الإنسان، ووسيلة لدعوته.
فمن المعلوم اليوم في قانون الشعوب والدول: أن المقيم والوافد من الخارج ليس له من الحقوق والتشريعات والامتيازات ما للحاصلين على (جنسية) ذلك البلد، ومعلوم أيضأ: أن الحصول على تلك (الجنسية) إنما يكون بحسب شروط أهل البلد وبقرارهم لا بقرار طالب (الجنسية).
والإسلام يقر من حيث العموم بوجود الفئتين، أو الفئات في المجتمع، وهو من مقتضيات طبيعة الحياة الدنيا التي لا تنكر، (نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا ورَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًا) ([53]).
غير أن الإسلام جعل الحصول على هذه الرتبة أمرأ مناطا باختيار الإنسان نفسه وقراره، وهو النطق بالشهادتين.
فالإسلام يقول للذمي بلسان حال هذه التشريعات: إن مرد الأمر في البقاء على حالك أو الحصول على (الجنسية) الإسلامية.. إليك، والخيار في البقاء في ديار المسلمين أو غيرها.. بين يديك، وليس لنا إكراه عليك سوى ما نقدمه من ترغيبات ودوافع، ومنها ما يعطاه المسلم من ميزات، هي حق عند سائر البشر لأهل الأصالة، وبكلمة واحدة تكون منهم، وليس لنا مع بقائك على ما أنت عليه إجبار أو سلب حق من حقوقك.
وبهذا يكون الإسلام قد وضع هذه التشريعات دعوة لهم إلى الصراط المستقيم، وللنجاة يوم المعاد من الجحيم.
وبناء على ما تقدم، واذا سلم بسلامة هذا المقصد وصحته في هذه الأحكام ([54])، فينبغي حينئذ أن يراعى ويلاحظ ذلك في التعامل مع أهل الذمة على اختلاف الأزمنة والظروف، بما يحققه ويقرب ثمرته -وهو هدايتهم - لا بما يبعده ويقطع ثمرته، شريطة ألا يعطل نص ثابت، أو يلغى أصل عام، مع العناية بما فصله العلماء من ضوابط الأخذ بالمصالح والمقاصد.
ولا يعني ما دكر أننا نغفل مقاصد أخرى في هذه الأحكام المتعلقة بأهل الذمة، تكون متعلقة بالمجتمع المسلم أو أفراده، غير أن هذا المقصد المتعلق بدعوة أهل الذمة وهدايتهم، من الأهمية بحيث لا ينبغي تقديم شيء عليه، بل هو عمل بالنص القرآني: (ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ والْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ)([55])، والحكمة وضع الشيء في محله الزماني والمكاني.
ومن خلال ما تقدم أرى مناسبا أن أشير إلى وجه علاقة بين هذه الأحكام المتعلقة بأهل الذمة، وبين ما شرعه الله تعالى من تخصيص جزء من الزكاة للمؤلفة قلوبهم ([56]).
فهما يجتمعان في أنهما وسيلتان دعويتان ترغبان في الإسلام، ويفترقان في أن الأول (أحكام أهل الذمة)، قائم على الترغيب المعنوي، وهو الترغيب بتحصيل المكانة الاجتماعية، والثاني قائم على العطاء المادي.
وأيضا فإن الأول فيه صورة المنع لأجل العطاء ([57]).
المطلب الثاني
في تقسيم المقاصد الدعوية ، بالنظر إلى الموضوعات الدعوية، إلى قطعية كلية ، وقطعية تفصيلية
تنقسم مقاصد الشريعة باعتبار العموم والخصوص، وبالنظر إلى متعلقاتها من التشريعات الربانية، والأحكام الشرعية إلى ثلاثة أقسام:
أولها: المقاصد الكلية: وهي المقاصد التي ظهرت بعد استقراء جميع التشريعات الإسلامية، وهي الضروريات أو الكليات الخمس، والتي تفرعت عن تقسيم مقاصد الشريعة إلى ضروريات وحاجيات وتحسينيات ([58])، فكانت هذه الكليات الخمس، بيانا وتفصيلا للمرتبة الأولى (الضروريات).
وهي بحسب الترتيب المشهور:
1- الدين، 2- فالنفس، 3- فالعقل، 4- فالنسل، 5– فالمال ([59]).
ويزيد البعض (العرض) سادسا بعد المال، مفرقا بينه وبين النسل، ومستندا في تفريقه إلى تفريق الشريعة في حديهما، فلحفظ النسب قد شرع حد الزنا، ولحفظ الجرض قد شرع حد القذف أو التعزير ([60]).
ثانيها: المقاصد الإجمالية لشرائع مخصوصة: كشريعة الصلاة، والزكاة، والنكاح،.. الخ، فينظر إلى المقصود الأعظم فيها على سبيل العموم، كما يقال: إن المقصود من الصلاة تحقيق تمام الخضوع والتذلل لله تعالى، وإظهار نهاية التعظيم، وأداء حق الشكر له سبحانه، والمقصود من النكاح هو بقاء النسل والمحافظة عليه وعدم اختلاطه، وهكذا ([61]).
ثالثها: المقاصد التفصيلية الجزئية: وهي إما مقاصد لفروع الشرائع الكبرى، من الصلاة، والحج، والأنكحة.. الخ، كمقصد الركوع أو التسبيح في الصلاة، أو التسبيع أو التيامن في الطواف، وما شابه ذلك، أو مقاصد خاصة وهي التي أطلق عليها المقاصد التابعة للمقاصد الأصلية التي روعي فيها حظ المكلف، على ما سيأتي بيانه في المطلب الثالث.
وهذه القسمة الثلاثية مجتمعة لمقاصد الشريعة لم يصرح بها العلماء السابقون ([62])، ولكنهم تكلموا عن كل واحد منها على نحو مستقل، فأما المقاصد الكلية فقد اشتهر الحديث عنها والتصريح بها في كتب المقاصد وأصول الفقه، وأما القسمان الآخران فلم يصرحوا بهما، ولكنهم لفوا فيهما مؤلفات ([63])، ومزجوا بينهما([64]).
ومشاكلة لهذا التقسيم السابق لمقاصد الشريعة، الملحوظ فيه العموم والخصوص بالنسبة للتشريعات الربانية.. يمكن تقسيم مقاصد الدعوة بالنظر إلى الموضوعات الدعوية إلى ما يلي:
المقاصد القطعية الكلية.
والمقاصد القطعية التفصيلية ([65]).
أولا- الكلام في المقاصد القطعية الكلية:
نعني بها تلك المبادئ الكبرى، والأصول العظمى في الدين، سواء في باب العقائد أو التشريعات العملية أو الأخلاقية، التي لا تقبل الاجتهاد، بل هي ثوابت لا تتغير.([66])
ومن أمثلتها: إقامة الدين على التوحيد، وإقامة ذكر الله تعالى في الأرض، والخضوع والتذلل له، وتحرير الإنسان من عبودية الإنسان، وإقامة العدل والميزان، وكفالة كرامة الإنسان، وحفظ الحقوق، وأداء الأمانات، والتكافل والتراحم في المجتمعات، والتواصل ونبذ العداوات، والوقوف في وجه الإباحية، من قتل، وزنى، وشرب مسكر ومخدرات، ومنع سائر الفواحش والإثم والبغي، وما شابه وماثل من ثوابت الدين الحنيف ومبادئه.
ومن أمثلتها أيضا: أركان العبادات، من حيث أصل تشريعها، لا من حيث تفصيلات تشريعاتها، فأصل الصلاة مثلا، وهو وجود العبادة الدالة على الخضوع والتذلل لله تعالى.. أمر كلي عام، وأما تحديد أوقاتها وعددها وأعداد ركعاتها وهيئآتها فتفصيلات لها، فهي خارجة بقيد (الكلية).
ومن أمثلة القطعيات التفصيلية أيضأ الخارجة بهذا القيد: أنصبة المواريث المنصوص عليها في القرآن، فهي من القطعيات، لكنها لا تتسم بالكلية، بل هي تفصيل لإثبات مبدأ العدل وإثبات الحقوق.
ومن سمات هذا النوع من مقاصد الدعوة (القطعية الكلية): أنها كفيلة بمجموعها أن تعطي تصورا إجماليا كليا للدين الإسلامي، أو كفيلة بالتعبير عن جوهر الإسلام وحقيقته، فهي تصلح أن تكون جوابا لسائل عن الدين الإسلامي وتفا يدخل فيه: إلى ماذا يدعو إليه هذا الدين ؟.
ولهذا كانت هذه الموضوعات هي أول ما علق في أذهان كفار قريش من خطاب النبي صلى الله عليه وسلم لهم، يتضح ذلك من خلال حديث أبي سفيان رضي الله عنه قبيل إسلامه مع قيصر، وقد سأل أبا سفيان عدة أسئلة، وكان آخرها قوله له: "ماذا يأمركم ؟." فقال أبو سفيان: "يقول: اعبدوا الله وحده، ولا تشركوا به شيئا، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة" ([67]).
ومن الأمثلة أيضأ لهذه المقاصد الدعوية الكلية القطعية: ما يفيده قوله تعالى: (إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ والإحْسَانِ وإيتَاءِ ذِي القُرْبَى ويَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ والْمُنكَرِ والْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) ([68]).
قال ابن مسعود رضي الله عنه: "ما في القرآن آية أجمع لحلال وحرام وأمر ونهي من هذه الآية "، فذكرها، وفي رواية الحاكم في مستدركه: "إن أجمع آية في القرآن للخير والشر في سورة النحل: (إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ.....)" ([69]).
وقال ابن عبد البر: "وقد قالت العلماء: إن أجمع آية للبر والفضل ومكارم الأخلاق: قوله عز وجل..." فذكرها ([70]).
وقد كان حسنا وموافقا لمقاصد الدعوة.. أن تواضع المسلمون أعصارا على أن تكون هذه الآية ختام أهم مظهر دعوي أسبوعي يتسم بالخطاب العام وعدم الخصوصية، وبحضور عامة الناس على اختلاف مستوياتهم، وهو خطبة الجمعة ([71]).
وأشير هنا إلى أن هذه المقاصد القطعية الكلية منها: ما هو لصق بمفهوم الدعوة وحقيقتها من غيره، وهو ما كان متضمنا لأسباب الصلاح ومقاصد الهداية للمكلف، وعلى نحو قريب، وذلك كشريعة الصلاة، إذ نص القرآن الكريم على أن من أهم مقاصدها: النهي عن الفحشاء والمنكر، وهو مقصد دعوي، وإن شئت قل حقيقة الدعوة، قال الله عز وجل: (وأَقِمِ الصَّلاةَ إنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ والْمُنكَرِ)([72]).
ومن ذلك: شريعة الزكاة التي شرعت لأجل تزكية النفس وتطهيرها من الدنس، وهو مقصد دعوي أيضأ، قال تعالى: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وتُزَكِّيهِم بِهَا) ([73]).
وقال تعالى في شأن الصيام منبها على مقصد التقوى فيه: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) ([74]).
فهذه الغايات والأهداف المشار إليها في الآيات الكريمات، من الكف عن الفحشاء والمنكر، وتحصيل التزكية والتطهير للنفس، واكتساب التقوى، هي مقاصد وغايات دعوية، تحققها تلك الشرائع العبادية، مما تجعلها أكثر لصوقا بالدعوة من غيرها من الشرائع غير المتسمة بمثل هذه السمة.
ولذا يجوز أن نقصر مقاصد الدعوة القطعية الكلية على ما اتسم بذلك لو أردنا زيادة في الخصوصية للدعوة([75]).
ثانيا: الكلام في المقاصد القطعية التفصيلية:
ونعني بها التشريعات التي فضلت فيها الكليات القطعية السابقة، أي هي سائر أحكام الشريعة سوى الكليات القطعية.
وجعلت على كثرتها وتشعبها مقصدا دعويا، بالنظر إلى أن الشريعة كلها من حيث العموم.. هي موضوع الدعوة إلى الله تعالى.
ثم هذه المقاصد القطعية التفصيلية تنقسم إلى مراتب، أختار إجمالها في مرتبتين:
الأولى: ما كان منها مطلوبا على سبيل اللزوم، فعلا أو تركا، وذلك كعدد الركعات، وكثير من أنصبة الزكوات والمواريث، وكثير من شروط العقود المالية أو الأسرية، وكتحريم الذهب على الذكور، وتحريم بيع الغرر، ونحو ذلك.
المرتبة الثانية: ما كان منها مطلوبا بغير إلزام، بل على وجه الندب، كالنوافل الراتبة، وأذكار اليوم والليلة، وغير ذلك.
وأريد من القطعي هنا: المتفق عليه الذي سلم من الخلاف المعتد به.
فيخرج بذلك الاجتهاديات، فلا أرى وجها لإدخالها في مقاصد الموضوعات الدعوية، إذ ليس تفة اجتهاد بأولى من اجتهاد، فكلاهما شرعيان، إذ لو كانا أو أحدهما غير شرعيين، لما ترتب عليهما ثواب من الله تعالى، مع ثبوته بالنص كما في حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب.. فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطا فله أجر واحد" ([76]).
وقد بني على شرعية الاجتهاد وترتب الثواب عليه.. منع الإنكار فيه.
يقول الإمام أبو الحسن الماوردي: "وأما ما اختلف الفقهاء في حظره وإباحته، فلا مدخل له في إنكاره، إلا أن يكون مما ضعف فيه الخلاف، وكان ذريعة إلى محظور متفق عليه" ([77]).
ويقول الإمام النووي، رحمه الله تعالى: "ثم العلماء إنما ينكرون ما أجمع عليه، أما المختلف فيه فلا إنكار فيه، لأن على أحد المذهبين: كل مجتهد مصيب، وهذا هو المختار عند كثيرين من المحققين، أو كثرهم، وعلى المذهب الآخر: المصيب واحد، والمخطئ غير متعين لنا، والإثم مرفوع عنه "([78]).
لكن أشير هنا لأمرين:
الأول: أن بعض المسائل الاجتهادية تكون مترددة بين الوجوب والندب، فهذه من قبيل المتفق على مطلوبيته، المختلف في مرتبة هذا الطلب، كصلاة الوتر مثلا، فهي داخلة في موضوعات الدعوة بالنظر إلى عموم الطلب فيها، بقطع النظر عن الاختلاف الواقع في مرتبة هذا الطلب، هل هو الوجوب أو الندب.
الأمر الثاني: أن البحث في المسائل الاجتهادية وتحريرها، يختلف عن ذات المسائل الاجتهادية، أعني المسألة العملية الواقعة في محل الاجتهاد، فالبحث والتحرير باعتبارهما من قبيل طلب العلم الشرعي.. هما من الموضوعات الدعوية، فطلب العلم وتحريره من المتفق عليه، وأما ما هو في محل الاجتهاد، وهو ذات المسألة المجتهد فيها، فلا أرى وجه دخولها في موضوعات الدعوة، والله أعلم.
والحاصل أن هناك فرقا بين مفردات المسائل الاجتهادية، وبين البحث في تحرير تلك المسائل، والخلط بين الأمرين يوقع في الاشتباه.
ثم هذا النوع من مقاصد الدعوة (المقاصد التفصيلية)، بمرتبتيه، يقال فيه ما قيل في سابقه (المقاصد الكلية القطعية) من أن هذه التشريعات التفصيلية منها ما هو لصيق قريب من حقيقة الدعوة، وهو ما كان متضمنا لأسباب الصلاح ومقاصد الهداية على وجه قريب، ومنها البعيد من ذلك.
فمن أمثلة النوع القريب للدعوة: الشفقة أو الرحمة على الخلق.
وكانت مثالا للمقصد التفصيلي لأن الكمال في الشفقة والرحمة ليس له حد مقدر، وان كانت رحمة الخلق في أصلها مقصدا كليا، فالمقصود هنا كمال هذه الصفة لا أصل وجودها، وهي بهذا من قبيل المقاصد التفصيلية.
وأما عن قربه للدعوة، فلأنه سبب من أسباب إصلاح النفس الإمارة بالسوء، دليل ذلك من مقدمتين:
الأولى: أن النفس أمارة بالسوء، إلا النفس التي دخلت في الرحمة الإلهية، بمقتضى موله تعالى: (ومَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي إنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ)([79])، حيث دلت هذه الآية أن الرحمة الإلهية تصلح هذه النفس وتمنع سوءها، وتنقلها من النفس الأمارة إلى النفس المرحومة، وهو مقصد دعوي.
والمقدمة الثانية: أنه يلزم من ذلك أن كل ما يستجلب الرحمة الإلهية، يكون سببا في إصلاح النفس البشرية، ومن ذلك الرحمة والشفقة بالخلق، بمقتضى قوله عليه الصلاة والسلام: "الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض، يرخمكم من في السماء "([80]).
فينتج عن ذلك أن الرحمة والشفقة بالخلق مما يصلح النفس ويمنع ضرر الأمر بالسوء الناتج عنها.
ويقال في كل ما ورد في الشرع: إنه يستجلب الرحمة الإلهية، ما قيل في الشفقة والرحمة بالخلق.
ومن الأمثلة الشرعية على المقاصد التفصيلية القريبة من حقيقة الدعوة: مجاهدة الإنسان نفسه، قال الله تعالى: (والَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُ مْ سُبُلَنَا وإنَّ اللَّهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ"([81])، وهذه المجاهدة شاملة لمجاهدة المحرمات، والمكروهات، والتوسع في الملذات المباحة، فهي من قبيل المقاصد التفصيلية، وقد أثبتت الآية الكريمة أنها سبب لتمام الهداية الربانية، وهو ما يسعى الداعية إلى تحقيقه في نفسه والآخرين.
وأشير في ختام الكلام على هذا النوع من أقسام المقاصد الدعوية: (القطعية الكلية، والقطعية التفصيلية، بالنظر إلى الموضوعات الدعوية) إلى عدة أمور:
أن هذا التقسيم للمقاصد الدعوية بنوعيه القطعيين - الذي لوحظ فيه الموضوعات الشرعية - قد أطلق عليه في كتب الدعوة المعاصرة: فقه الأولويات ([82])، إذ بناؤه على الأهم والأولى، وعلى اختلاف مراتب الأحكام الشرعية.
وأن هذا التقسيم من قبيل الجائز، فهو غير محصور بما ذكر، بل يمكن أن يختلف التقسيم أو تتعدد مراتبه، أو يلحظ فيه أمور أخرى، كالاختلاف بين فروض العين وفروض الكفاية، أو بين الكبائر والصغائر والمشتبهات، وغير ذلك([83]).
أننا إن يممنا التحقيق والدقة في هذا النوع من المقاصد الدعوية، فإنها لا تعدو في حقيقتها أن تكون صورا جزئية لمقاصد الشريعة، ولذا يمكننا القول: بأنها مقاصد شرعية ذات طابع دعوي.
يتبع