عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 11-06-2019, 02:14 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,416
الدولة : Egypt
افتراضي أقسام مقاصد الدعوة إلى الله تعالى

أقسام مقاصد الدعوة إلى الله تعالى [*]


د. عبدالناصر بن خليفة اللوغاني[**]



ملخص البحث:


قد يلحظ المستقرئ لكتب الدعوة وساحتها العلمية غياب التصريح بمقاصد الدعوة فيها، أو عدم تحديد أنواع هذه المقاصد، وهذا ما استدعى كتابة بحث في هذا الموضوع، وفيه تكمن مشكلته.
وقد تبين من خلال محاولة استنباط هذه المقاصد وتأملها.. أنها تنوعت إلى ثلاثة أنواع:
النوع الأول: ما يتطابق مع مقاصد الشريعة ومقاصد سائر العلوم الإسلامية كل التطابق، ليس له حظ من الاستقلال والانفصال، وهو المقصد العام الأكبر الذي تندرج تحته سائر المقاصد للعلمين: مقاصد الشريعة، ومقاصد الدعوة، وهو المعبر عنه بـ (تحقيق كمال العبودية لله تعالى).
والنوع الثاني: ما انبثق أصلة من التقسيمات العلمية لمقاصد الشريعة، وهي المقاصد المشاكلة والمتفرعة عن مقاصد الشريعة، وقد نتج عن هذا النوع ثلاثة أقسام باعتبارات مختلفة:

فانقسمت بالنظر إلى فئات المدعوين إلى مقاصد عامة، وأخرى خاصة، وقد مثل للخاص بما جاءت به الشريعة الإسلامية من أحكام خاصة بأهل الذمة.
ثم انقسمت بالنظر إلى الموضوعات الدعوية إلى مقاصد قطعية كلية، ومقاصد قطعية تفصيلية، فالقطعية الكلية هي تلك المبادئ والأصول الكبرى في الشريعة، كإقامة التوحيد، وحفظ الحقوق، وأركان العبادات، وأما القطعية التفصيلية، فهي ما سوى الكبرى من التشريعات، وهي على مرتبتين:
الأولى: ما كان منها مطلوبا على سبيل اللزوم.
الثانية: ما كان منها مطلوبا من غير إلزام.

ثم انقسمت مقاصد الدعوة، باعتبار المنفعة الدنيوية الحاصلة للداعية، إلى مقاصد دعوية أصلية، وأخرى تابعة، فالمقاصد الأصلية هي ما أمرت به الشريعة وندبت إليه، مما يتكلفه الإنسان ويبذل جهده في تحقيقه، فيقصده تعبدا وتحقيقا لأمر الشارع لا غير، وأما التابعة فهي مصالح تنتج عن المقصد الأصلي، لكنها غير مرادة للشرع بالأصالة، وجعلت مع ذلك مقصدا لما تتضمنه من المصلحة، ثم علامتها - في الغالب – أنها تكون مشوبة بحظ النفس ونصيب الدنيا.
وأما النوع الثالث: من أنواع مقاصد الدعوة، فهو ما انبثق أصله من ماهية الدعوة وحقيقتها، وهي المقاصد الموسومة بـ (المقاصد الكلية للدعوة)، وقد تلخصت في ثلاثة مقاصد:
الأول: تحقيق التبليغ والبياني، والنذارة والبشارة للناس.
الثاني: التزكية، التربية للنفس البشرية، وهي التنقية والتخلية من دنس الطباع وسوء الاعتقاد والأعمال، ثم تحليتها بضد ذلك.

الثالث: نشر علوم الشريعة النقلية والعقلية، والتوقيف على أحكامها ومعانيها وأسرارها، من خلال:
تفهيم معاني الفرقان الكريم وحقائقه، والتوقيف على دلائل آياته، وما انطوى عليه من الحكم والأسرار.
والتفقيه في الدين وتغفله، بتعليم طرق استنباط أحكامه من نصوصه، وتنزيلها من الواقع على وجهها الصحيح، ورسم وإيضاح منهج التفكير السليم.
مقدمة:


الحمد لله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم، استوى في علمه الظاهر والمكتوم، والموجود والمعدوم، خلق المدارك ويسر الفهوم، حمدا يليق بجلال صفات جماله، وجمال صفات جلاله، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان الدائمان على من أوضح المقاصد والغايات، وأجلى سبل الهدايات، وأغلق باب الضلالات، وعلى آله السراة، وصحابته النجوم الزاهرات. وبعد
فقد نشطت في هذا العصر الكتابة في ميدان مقاصد الشريعة، وتناوله الباحثون من زوايا متعددة، وجوانب مختلفة، ومن ذلك: بيان علاقته بسائر العلوم والفنون الشرعية التخصصية.
وقد تلفت حول ما كتب في حقيقة العلاقة بين المقاصد الشرعية وعلم الدعوة، فأضحيته موضوعا مغفولا عنه، غيز متطرقي إليه، فشرعت أولا في الكتابة في بيان ذي العلاقة من الناحية العلمية الشرعية، قبل تحديد وبيان مقاصد الدعوة.
ثم بدا لي أن الأوفق لهذا الموضوع أن يسبق بأساسه، وتوضع بذور غراسه، وذلك ببيان أقسام المقاصد الدعوية.
فتوقفت الكتابة في الموضوع الأول على نية العود، واسئؤنفت بما سيورد في هذه الأوراق القليلة، راجيا من المولى عز وجل فيها السداد والتوفيق، وعموم النفع والقبول.

مشكلة البحث:


لا شك أن للدعوة الإسلامية مقاصد كبرى، مأخوذة من نصوص الشريعة أو قواعدها وكلياتها، ولا شك أن ثمة علاقة بين مقاصد الدعوة ومقاصد الشريعة الإسلامية، ولكن ستبقى هذه العلاقة غير واضحة إلى أن تتضح مقاصد الدعوة، وتتبين أقسامها وأنواعها.
ولكن هل هذه المقاصد واضحة المعالم للعاملين في حقلها.

وهل يمكنهم استشفافها بيسر وسهولة من مقاصد الشريعة الإسلامية ؟.
وهل لها صورة واحدة محددة، أو يمكن أن تتشكل وتنقسم باعتبارات وحيثيات مختلفة ؟.

هذا ما يسعى الباحث لتوضيحه والجواب عنه في هذا البحث.
وبطبيعة الحال سيتضح من خلال ذلك جوانب مهمة من جوانب العلاقة والصلة بين العلمين: علم الدعوة، وعلم مقاصد الشريعة، وسيتضح - أيضا- محل مقاصد الدعوة من مقاصد الشريعة إلى حذ ما، ومع ذلك فليس غرض البحث هو بيان حقيقة هذه العلاقة([1]).

أهمية الموضوع:


باتضاح واكتمال الرؤية لمقاصد وأهداف الدعوة الصحيحة، يتبين للدعاة أولوياتهم، وتتضح لهم الرؤية في زمنية الإقدام والإحجام، وفي أي ميدان يجب تكريس الجهود.
كما أن وضوح هذه الرؤية سيقلل من ساحة الخلاف بين المسلمين عموما، والعاملين في الدعوة خصوصا، فأي عمل أو مؤسسة إذا غابت أهدافها الكلية عن أفرادها، فإن دائرة اجتهاداتهم وتنوع رؤاهم ستتسع وتتعدد، وقد تتباين، وأما عند تحديد الأهداف والمقاصد الكبرى والوسطى.. فإن الخلاف في وجهات النظر ثم في ميدان العمل سيقل بطبيعة الحال.
وقد يتساءل سائل:
لماذا الكتابة في أقسام المقاصد الدعوية وإفرادها، وعدم الاكتفاء بما كتب في مقاصد الشريعة؟
والجواب: أن الدعوة لما كانت جزءا من الشريعة، كان من لازم ذلك أن تكون مقاصد الدعوة جزءا من مقاصد الشريعة، أو ذاتها لا تخرج عنها، وهذا واضح لا غبار عليه.
غير أن الفرع -لاسيما في ساحة العلم - لابد أن يخص بشيء عن غيره، بما يحقق تمئينه عن سائر الفروع والأجزاء، بل ويميزه عن أصله الذي تفرع منه، وبذلك تحرر العلوم وتقعد، وتؤصل وترشد.
ثم إن العلوم الشرعية الأخرى -غير علم الدعوة - قد اتضحت ملامحها، وبعضها قد نضجت الكتابة فيه، وبعضها قد احترقت كما يعبر بعضهم، وعلم الدعوة علم جديد ناشئ مقارنة بالعلوم الإسلامية الأخرى، وما زالت ملامحه الكبرى في طور التشكل والاكتمال، وعليه فالدراسات التي تؤصل هذا العلم وتقعده مهمة وضرورية.

فحدا ذلك بكاتب هذه السطور إلى محاولة متواضعة في ذلك، تقدم بين يدي أهل الاختصاص والشأن، لتأملها وتقليب النظر فيها، موافقة واقرارا لما كتب الله فيه الصواب والتسديد، أو نقدا وإضافة لما أخطأ أو قصر فيه النظر من مسائل هذا الموضوع الجديد، وعساه أن يكون لبنة الأساس في تفصيل ذا الموضوع وتأصيله.
الدراسات السابقة:


هذا الموضوع (أقسام المقاصد الدعوية)، لم أقف على من طرقه وتكلم فيه على نحو مستقل مفصل بخصوصه.
نعم، الكتابات في مقاصد الشريعة -عموما- قد نشطت في عصرنا الحالي كثر من ذي قبل، وشملت جوانب مختلفة، فهناك الكتابات والبحوث التي تؤصل علم المقاصد الشرعية على نحو مباشر، وهناك الدراسات التي تحوم حول المقاصد ولكنها تعالج موضوعات أخرى بالأصالة، ومنه ما دون في علم الدعوة.
وما أريد قوله: إن البحث في مقاصد الدعوة يستدعي البحث في مقاصد الشريعة، ولذلك يمكننا أن نعد كل ما كتب في ميدان المقاصد الشرعية عموما.. هو ضمن الدراسات السابقة للموضوع، لكن ليس على نحو مباشر.

لكن ألصق من ذلك بموضوع البحث تلك الدراسات الدعوية المتعلقة بعلم المقاصد، ومن أهمها: ما كتب في فقه الأولويات والموازنات، ومن أمثلة الكتابات فيه:
في فقه الأولويات، للدكتور يوسف القرضاوي ([2]).
فقه الموازنات وحاجة الداعي إليه، لصالح الحربي، بحث مكمل لنيل درجة الماجستير من جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، في كلية الدعوة بالمدينة المنورة (1414 ه).
فقه الموازنات الدعوية معالمه وضوابطه، للدكتور معاذ أبو الفتح البيانوني، بحث مقدم لنيل درجة الدكتوراه، في جامعة أم درمان الإسلامية في السودان([3]).
غير أن هذه الدراسات كلها لم تتوجه لدراسة أنواع أقسام مقاصد الدعوة الإسلامية، ولا أبالغ لو قلت: بأن الكتابة في هذا الموضوع على نحو خاص مستقل لم أقف عليه بعد إلى هذه الساعة.
نعم قد توجد إشارات في مؤلفات الدعوة المختلفة، من ذلك: ما تطرق إليه الدكتور أبو الفتح البيانوني في كتابه (المدخل إلى علم الدعوة)([4])، حيث تكلم حول أهداف المناهج الدعوية على نحو سريع مقتضب، أثناء حديثه في مناهج الدعوة.

منهج البحث:


أما عن منهج البحث، فهو (المنهج الاستنباطي)، ذلك أن مقاصد الدعوة –كما ذكرت- لم تحرر ولم تدون بعد فيما اطلعت عليه من مراجع، وتأسيسها يحوج إلى استنباط ذلك إما من المقاصد الشرعية التي حررت ودونت في كتب الأصول والمقاصد، أو من النصوص الشرعية مباشرة.
وقد قسم هذا البحث علي النحو التالي:

تمهيد: في تعريف كل من المقاصد والدعوة.
المبحث الأول: في بيان المقصد العام الأكبر، المندرج تحته سائر المقاصد، وفيه ثلاثة مطالب:
الأول: في أن شريعة الدعوة تمتاز عن سائر الشرائع من حيث إنها وسيلة لتحقيق سائر الشرائع.
الثاني: في معنى العبادة المشار إليها في قوله تعالى: (ومَا خَلَقْتُ الجِنَّ والإنسَ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ)([5]).
الثالث: في بيان أن تحقق العبودية مناط بالتقاء مقصدين: مقصد المكلف مع المقصد الشرعي.
المبحث الثاني: في مقاصد الدعوة المشاكلة والمتفرعة عن مقاصد الشريعة، وفيه ثلاثة مطالب:
الأول: في تقسيم المقاصد الدعوية، بالنظر إلى فئات المدعوين إلى، مقاصد عامة، وأخرى خاصة.

الثاني: في تقسيم المقاصد الدعوية بالنظر إلى الموضوعات الدعوية، إلى قطعية كلية، وقطعية تفصيلية.
الثالث: في تقسيم المقاصد الدعوية، بالنظر للمنفعة الحاصلة للداعية، إلى أصلية وتابعة.

المبحث الثالث: في المقاصد الدعوية الكلية المنبثقة عن ماهية الدعوة، وفيه مطلبان:

الأول: في بيان وشرح هذه المقاصد الكلية.

الثاني: في أسئلة قد يعترض بها على هذا القسم من أقسام المقاصد الدعوية، مع الجواب عنها.
ثم خاتمة البحث، وفيها أهم نتائجه مع بعض التوصيات.
وقبل الشروع في المقصود أحب أن أتقدم بالشكر الجزيل لإدارة الأبحاث بجامعة الكويت على دعمها لهذا البحث برقم: (08/ 02 hb).

التمهيد


( في تعريف كلى من المقاصد والدعوة)


أولا- تعريف المقاصد:

ليعلم أن الكلام في تعريف المقاصد لغة واصطلاحا قد أشبع بحثا ([6])، والإطالة فيه تكرار تمجة جدية العلم وعمليته، ولذا سأختصر الكلام فيه، وكتفي باللب وما الحاجة ماسة إليه في هذا البحث، فأقول:
المقاصد جمع (مقصد) مصدر ميمي من الفعل: (قصد)، وهو يطلق في اللغة على عدة معان:
الاعتزام، والتوجه، والنهوض نحو الشيء.
وهذا في الحقيقة أصلة، وسائر المعان الآتية راجعة إليه، على ما قاله ابن جني([7]).

استقامة الطريق وسهولته، تقول: طريق قاصد، أي: سهل مستقيم. ومنه قوله تعالى: (لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وسَفَرًا قَاصِدًا لاَّتَّبَعُوكَ) ([8]).
العدل والتوسط وترك الإفراط، ومنه قوله تعالى: (واقْصِدْ فِي مَشْيِكَ)([9]).
الكسر والقطع في أي وجه كان، وقيل هو الكسر بالنصف، يقال: قصدته فانقصد وتقصد، ورمح قصد: سريع الانكسار([10]).
ويحسن هنا إيراد التعريف الاصطلاحي لمقاصد الشريعة، إذ ليس لكلمة (المقصد) تعريف اصطلاحي إلا بعد الإضافة إليها، فيكونان لقبا لشيء ما، كما هو الحال في (مقاصد الشريعة).

والملاحظ أن السابقين لم يبدوا اعتناء به، مكتفين بالتعداد والتقسيم ([11])، وأما المعاصرون فاجتهدوا وبذلوا الوسع فيه، وجاءت تعريفاتهم مختلفة العبارات، غير أن هذا الاختلاف عند التحقيق راجع للألفاظ والتعبيرات، لا للحقائق والمعاني، هذا هو الغالب.
وقد كان شروق شمس ذلك من المغرب، فأول من تصدى لتعريفها ووضع حد لها بحسب ما وقفت عليه.. العلامة محمد بن الطاهر بن عاشور، رحمه الله تعالى، حيث عرفها بقوله:
"هي المعاني والحكم الملحوظة للشارع في جميع أحوال التشريع أو معظمها، بحيث لا تختص ملاحظتها بالكون في نوع خاص من أحكام الشريعة"([12]).

وجاء بعده الشيخ علال بن عبدالواحد الفاسي، رحمه الله تعالى، فعرفها "الغاية منها، والأسرار التي وضعها الشارع عند كل حكم من أحكامها "([13]).
ثم كثرت المحاولات من العلماء والباحثين المعاصرين، وغالبها يدور حول هذين التعريفين، لا يكاد يخرج عنهما.

من ذلك تعريف الدكتور أحمد الريسوني، قال: "هي الغايات التي وضعت الشريعة لأجل تحقيقها، لمصلحة العباد"([14]).
ومنها تعريف الدكتور عبدالرحمن الكيلاني، وهو: "المعاني الغائية التي اتجهت إرادة الشارع إلى تحقيقها عن طريق أحكامه"([15]).
والتعريف المختار في هذا البحث هو تعريف الأستاذ علال الفاسي، وذلك للأسباب التالية:

شمولية معناه، إذ تعريف ابن عاشور قد اقتصر على المقاصد الكلية، ولم يصرح بغيرها، فقال: "بحيث لا تختص ملاحظتها بالكون في نوع خاص من أحكام الشريعة "، في حين أن بعض المقاصد مقصورة على بعض أبواب الشريعة، كمقاصد الصلاة، والصيام، والحج، أو في بعض مقاصد وأسرار أحكام جزئية ضمن هذه العبادات الكلية، وهذا نوع من أنواع المقاصد، وقد لف فيه العلماء قديما وحديثا ([16])، وهذا لا يشمله تعريف الطاهر بن عاشور، أو ليس صريحا بتضمنه على أقل تقدير.
ثم لوجازة لفظه.
وضوح عبارته.
وأسبقيته بالنسبة للتعريفات الأخرى التي جاءت بعده، التي لم تخرج عن معناه، ولم تكن أكثر وضوحا ويسرا منه.
ثانيا- تعريف الدعوة:
أما لغة: فلها عدة معان، وهى تدور حول: الطلب، والسؤال، والنداء، والتجمع، والاستمالة، وغيرها ([17]).
ومرد هذه المعاني إلى طلب ميل الشيء إليك بصوت وكلام، كما قاله ابن فارس في معجمه ([18]).
وأما اصطلاحا([19])، فهي:

"تبليغ الإسلام للناس، وتعليمهم إياه، وتطبيقه في واقع الحياة" ([20]).
وهو التعريف الذي ذكره الدكتور أبو الفتح البيانوني في كتابه المدخل إلى علم الدعوة.
واخترته لكونه:

شاملا لجميع جوانب الدعوة، أو مراحلها الثلاثة بعبارة أخرى، وهي: التبليغ، والتكوين، والتنفيذ.
ثم لوجازة ووضوح عبارته.
كما أنه موافق ومتناسق مع ما سيرد ويقرر في هذا البحث من أن أجل مقاصد الدعوة هي: المقاصد الكلية المعبرة عن ماهيتها، الآتي الحديث عنها في المبحث الثالث إنشاء الله تعالى، وهي ثلاثة مقاصد:
تحقيق التبليغ والبيان، والنذارة والبشارة للناس.
والتزكية والتربية للنفس البشرية.
ونشر علوم الشريعة النقلية والعقلية، والتوقيف على أحكامها ومعانيها ([21]).
المبحث الأولى ([22])


المقصد العام الأكبر، المندرج تحته سائر المقاصد

ليعلم ابتداع أن للشريعة الإسلامية، بل للشرائع الربانية كلها، مقصدا عاما كبر واحدا، وهو تحقيق العبودية لله تعالى، أو تحقيق الصلاح والفلاح والنجاح في الأولى والأخرى، أو تحصيل سعادة الدارين.
وقد يعبر بغير ذلك أيضأ، والمقصود واحد.
ولو أردت أن أوثر تعبيرا منها فسأكتفي بـ(تحقيق العبودية لله تعالى)، موافقة للتعبير القرآني الكريم في قوله عز وجل: (ومَا خَلَقْتُ الجِنَّ والإنسَ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ)([23]).
يقول الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى، مشيرا لهذا المقصد العام الأكبر:
"المقصد الشرعي من وضع الشريعة: هو إخراج المكلف من داعية هواه، حتى يكون عبدا لله اختيارا، كما هو عبد لله اضطرارا"([24]).

واذا علم ذلك، علم أن سائر التشريعات الربانية التفصيلية، وسائر غاياتها ومقاصدها الشرعية، إنما هي وسيلة لتحقيق غاية واحدة كبرى، هي غاية الغايات، ونهاية النهايات، وهو تحقيق العبودية لرب البريات، (ومَا خَلَقْتُ الجِنَّ والإنسَ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ) ([25])، تلك العبودية الكاملة التي يزول فيها أي تعارض بين اختيار الإنسان وأوامر الرحمن سبحانه.
وهذا شامل لتشريعات العبادات، وتشريعات المعاملات المالية، وتشريعات الأسرة، وغير ذلك، ومنه شريعة الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وما أريد تقريره والوصول إليه هنا، في بحث: (مقاصد الدعوة إلى الله تعالى)، هو: أن المقصد العام للدعوة إلى الله تعالى إنما هو المقصد العام للشريعة الإسلامية، وسائر الشرائع الربانية، وهو تحقيق العبودية الكاملة لله تعالى.

وثمة مسائل يحسن إيرادها في هذا المقام، أوردها في المطالب التالية:
المطلب الأولى


في أن شريعة الدعوة تمتاز عن سائر الشرائع من حيث إنها وسيلة لتحقيق سائر الشرائع


إن في شريعة الدعوة ومقاصدها -مقارنة مع سائر التشريعات الأخرى - زيادة فضل لا توجد في غيرها، وذلك من حيث إن الدعوة وسيلة لتحقيق الشرائع، وتطبيقها في الواقع الإنساني، وحكم الوسائل تابع لحكم المقاصد كما هو مقرر، وعليه فللدعوة ومقاصدها مزية على سائر التشريعات الربانية الأخرى من هذا الوجه.
ولذا قرن الأمران في القرآن الكريم، أعني الوسيلة والغاية، أو الرسالة والأمر بالعبادة، في محل واحد في عدد من الآيات، مثل قوله تعالى: (ومَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إلاَّ نُوحِي إلَيْهِ أَنَّهُ لا إلَهَ إلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ)([26]).
المطلب الثاني


في معنى العبادة المشار إليها في قوله تعالى:


(ومَا خَلَقْتُ الجِنَّ والإنسَ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ)([27])
لا يخفى أن صرف الإنساني لجميع أعماله الجارحية في العبادة، ليلا ونهارا، صغرا وكبرا، صحة ومرضا، حضرا وسفرا.. ليس في مقدوره وطاقته، إذ هو محل الغفلة والنسيان، والحاجة للراحة النوم، فالصرف الكامل إنما يتصور في الملائكة الأبرار، الذين (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ والنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ)([28]).
ولعل هذا ما حدا ببعض السلف وغيرهم أن يذهب في تأويله للعبودية في هذه الآية الكريمة إلى التوحيد، وبعضهم إلى المعرفة بالله تعالى.
وثمة تأويلات أخرى لا يظهر فيها الشاهد -على ما نحن بصدده، وما نقصده من مقاصد الشريعة والدعوة - ظهوره في هذين التفسيرين المذكورين([29]).
ويظهر لي - والله أعلم - أنه لا تعارض حقيقيا بين التأويلين، إذ من عرف الله تعالى وحدة ضرورة، ومن لم يوحد الله تعالى لم يعرفه، كما أن المعرفة هي أخص أجزاء الإيمان.
وقد وفقت عرضا بفضله تعالى إلى الوقوف على آيات قرآنية تشهد لكون المراد من الخلق هو معرفتهم بخالقهم، لصفات جماله وجلاله وكماله، وعظيم سلطانه.

منها قوله تعالى: (جَعَلَ اللَّهُ الكَعْبَةَ البَيْتَ الحَرَامَ قِيَامًا لِّلنَّاسِ والشَّهْرَ الحَرَامَ والْهَدْيَ والْقَلائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ ومَا فِي الأَرْضِ وأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)([30])
فمعلوم أن الغرض من الكعبة وسائر الشعائر الربانية في البيت الحرام، إنما هو لتحقيق العبودية، أو نوع عظيم من أنواع العبودية، فذكرت الآية أولا أن الغرض من هذه الشعائر أن تكون قائمة بأمور دين الناس ودنياهم، ثم ذكرت ثانيا أن المقصد من هذه الشعائر وما يتبعها من تحصيل مصالح دينية ودنيوية إنما هو لتحقيق المعرفة والعلم ببعض صفات الحق جل وعلا، وهي صفة العلم المحيط المطلق الذي لا يخفى عليه شيء: (لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ...) الخ.
بعبارة أخرى: إن الغرض من تلك الشعائر إنما هو لتحقيق معنى العبودية، وهو العلم والمعرفة بصفات رب البرية عز وجل.

وأصرح من هذه الآية قولة عز وجل: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ ومِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا)([31]).
فخفق السموات السبع وما فيهن، والأرضين السبع وما فيهن، بل وتنزل الأوامر الكونية والشرعية بينهن، كل ذلك ليتعرف هذا المخلوق على صفات الحق تعالى قدرة، وجلت عظمته، لاسيما صفة القدرة المطلقة، والعلم المحيط الشامل([32]).
والحاصل أن هاتين الآيتين الكريمتين تضمنتا ذكر المقصد من الخلق والأمر، أو التكوين والتشريع، وهو الوقوف على صفات الخالق سبحانه وتعالى، والله تعالى أعلم بالصواب.
قال الإمام البغوي رحمه الله تعالى بعد ما أورد عددا من الأقوال في تفسير قوله تعالى: (إلاَّ لِيَعْبُدُونِ)، قال: "وقال مجاهد: إلا ليعرفون. وهذا أحسن، لأنه لو لم يخلقهم لم يعرف وجوده وتوحيده، دليفه قوله تعالى: (سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) ([33])،([34]).

وفي هذا الاستدلال بهذه الآية من الإمام البغوي رحمه الله تعالى، إشارة إلى أن المعرفة غير محصورة على المؤمن، بل هي شاملة للكافر أيضأ، فإنه سيعرف ربه بالمهيمن القوي العزيز الذي لا يغلب، شديد العقاب ذو الطول،... الخ، غير أن هذه المعرفة مرجأة من الكافر إلى حين لا نفع لها في حقه، أو على هيئة لا تنفعه في أخراه.
ولا يخفى أن ما سبق ليس المقصود منه أن تقصر العبادة في المعرفة، بل للعبادة أشكال أخرى، بدنية، ومالية، وغير ذلك، فللقرب من الحق تعالى سبل وليس سبيلا واحدا، كما تشير إليه الآية الكريمة: (ومَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا)([35])، والآية الأخرى: (والَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُ مْ سُبُلَنَا) ([36]).
غير أن الأصل الذي يتفرع عنه غيره، والأساس الأعظم، والمقصود الأهم.. هو هذه المعرفة المحققة للتوحيد، والتوحيد المحقق للمعرفة، وسائر العبادات على اختلاف أنواعها وأشكالها، إن لم تزد في معرفة العبد بربه.. أضحت أجسادا بلا أرواح، وصورا بلا حقائق.
بل عند التأمل بعين البصيرة والتفكر، نجد أن سائر أحوال المؤمن وتقلباته، إنما هي لتحقيق هذه المعرفة، فإذا وفق للطاعة والاستقامة، كان ذلك سبيلا لمعرفة الرب بعطائه، وجوده، وكرمه، وإحسانه، وإذا أذنب وزلت قدمه، كان ذلك سبيلا لمعرفة الرب برأفته، ورحمته، وستره، وعفوه، وحلمه، وهكذا.

وهذا حال سائر التغيرات والتقلبات في الوجود، إذ كل تغير وتقلب وتجدد في هذا الكون.. إنما يدل - بنوع من دلالاته - على الخالق سبحانه، وعلى بعض صفاته.
ومن هنا يمكن أن نفهم معنى وبعدا جديدا لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: ((ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت، فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)) ([37]).

فالقلب محل هذه المعرفة، وصلاحه وترقيه بتحصيلها واكتسابها، وذلك من خلال دوام المراقبة لله تعالى، وشهوده بحسب تهيئه واستعداده، حتى يصل للمقام المشار إليه بقوله صلى الله عليه وسلم: ((أن تعبد الله كأنك تراه)) ([38]).
فهذا هو كمال العبودية التي يجب على المؤمن تطلبها، والسعي في تحقيقها، والوصول إليها، وهو مقصد سائر التشريعات الربانية، والله تعالى أعلم.



يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 39.84 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 39.21 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.58%)]