الإمام الثوري أمير المؤمنين في الحديث
إعداد : أبو عمر محمد الفلسطيني
وكان الثوري كثير الرحلات في طلب العلم ،فقد رحل إلى الحجاز أكثر من مرة ، وكانت إحدى هذه الرحلات في سن مبكرة لم يبقل وجهه بعد ، ثم زارها مرتين على الأقل بعد ذلك ، مرة حين هرب على اليمن عندما اشتد الطلب عليه وجعل المنادي ينادي في المناسك من جاء بسفيان فله عشرة آلاف ) ، والمرة الثانية هرب منها إلى البصرة وبقي فيها حتى مات ،ويظهر أن الثوري قد رحل إلى اليمن أكثر من مرة خلال إقامته في الحجاز ، وهناك صار يحدث وقصده طلاب العلم ،حتى صار له تلاميذ يعرفون قدره ويكرمونه أمثال الإمام عبد الرزاق الصنعاني ( )
وفي نهاية عمره رحل إلى البصرة هرباً من طلب المهدي له في مكة ، وذلك أنه لما حج المهدي دخل سفيان عليه فقال : " السلام عليكم كيف أنتم أبا عبد الله ثم جلس فقال حج عمر بن الخطاب فانفق في حجته ستة عشر دينارا وأنت حججت فانفقت في حجتك بيوت الأموال فقال أي شيء تريد اكون مثلك قال فوق ما انا فيه ودون ما أنت فيه فقال وزيره أبو عبيد الله يا أبا عبد الله قد كانت كتبك تاتينا فننفذها قال من هذا قال أبو عبيد الله وزيرى قال احذره فإنه كذاب انا كتبت إليك ثم قام فقال له المهدى أين أبا عبد الله قال أعود وكان قد ترك نعله حين قام فعاد فاخذها ثم مضى فانتظره المهدى فلم يعد قال وعدنا أن يعود فلم يعد قيل له انه قد عاد لاخذ نعله فغضب فقال قد آمن الناس إلا سفيان الثوري ويونس بن فروة الزنديق ،قال فإنه ليطلب وإنه لفى المسجد الحرام فذهب فألقى نفسه بين النساء فجللنه قيل له لم فعلت قال إنهن أرحم، ثم خرج إلى البصرة فلم يزل بها حتى مات"( )
وفي البصرة اختفى في منزل قرب منزل يحيى بن سعيد القطان ، ولكن نفسه نازعته إلى القيام بمواجبه في تبليغ حديث رسول الله عليه الصلاة والسلام ، فسأل أهل الدار الذين اختفى عندهم عن أصحاب الحديث القريبين من بيتهم ، فدلوه على يحيى بن سعيد القطان ، فقال سفيان : " فقال أنا ها هنا منذ ستة أيام أو سبعة فحوله يحيى إلى جواره وفتح بينه وبينه بابا وكان يأتيه بمحدثي أهل البصرة يسلمون عليه ويسمعون منه فكان فيمن أتاه جرير بن حازم والمبارك بن فضالة وحماد بن سلمة ومرحوم العطار وحماد بن زيد وغيرهم وأتاه عبد الرحمن بن مهدي ولزمه فكان يحيى وعبد الرحمن يكتبان عنه تلك الأيام ،...،ولما تخوف سفيان أن يشهر بمقامه بالبصرة قرب يحيى بن سعيد قال له حولني من هذا الموضع فحوله إلى منزل الهيثم بن منصور الأعرجي( )
وفاته :
مرض سفيان عندما كان مختفياً بالبصرة ، وكان يخدمه في مرض وفاته عبد الرحمن بن مهدي ، ولما طالت علته ، صار يقول: يا موت، يا موت، ثم قال: لاأتمناه، ولا أدعو به،فلما احتضر، بكى وجزع، فقلت له- أي عبد الرحمن بن مهدي-: يا أبا عبد الله ! ما هذا البكاء ؟ ! قال: يا عبدالرحمن، لشدة ما نزل بي من الموت، الموت - والله – شديد،فمسسته، فإذا هو يقول: روح المؤمن تخرج رشحا، فأناأرجو،ثم قال: الله أرحم من الوالدة الشفيقة الرفيقة، إنه جواد كريم، وكيف لي أن أحب لقاءه، وأنا أكره الموت،فبكيت حتى كدت أن أختنق، أخفي بكائي عنه، وجعل يقول: أوه...، أوه من الموت.
قال عبدالرحمن: فما سمعته يقول: أوه، ولايئن، إلا عند ذهاب عقله، ثم قال: مرحبا برسول ربي، ثم أغمي عليه، ثم أسكت حتى أحدث، ثم أغمي عليه، فظننت أنه قد قضى، ثم أفاق، فقال: يا عبدالرحمن ! اذهب إلى حماد بن سلمة، فادعه لي، فإني أحب أن يحضرني،وقال: لقني قول: لا إله إلا الله،فجعلت ألقنه.
قال: وجاء حماد مسرعا حافيا، ما عليه إلا إزار، فدخل وقد أغمي عليه، فقبل بين عينيه، وقال: بارك الله فيك يا أبا عبد الله،ففتح عينيه، ثم قال: أي أخي، مرحبا.
ثم قال: يا حماد ! خذ حذرك، واحذر هذا المصرع( ) ، فلما احتضر قال :ما أشد الغربة انظروا إلى ها هنا أحداً من أهل بلادى فنظروا فإذا أفضل رجلين من أهل الكوفة عبد الرحمن بن عبد الملك بن أبجر والحسن بن عياش أخو أبى بكر فاوصى إلى الحسن بن عياش في تركته وأوصى إلى عبد الرحمن بالصلاة عليه( )
ولما مات أخرجت جنازته على أهل البصرة فجأة، فشهده الخلق، وصلى عليه عبدالرحمن بن عبدالملك بن أبجر، وكان رجلاً صالحاً، ونزل في حفرته هو وخالد بن الحارث( )
ومن كراماته بعد موته ، ما رواه عارم، قال: أتيت أبا منصور أعوده، فقال لي: بات سفيان في هذا البيت، وكان هنا بلبل لابني، فقال: ما بال هذا محبوسا ؟ لو خلي عنه.
قلت: هو لابني، وهو يهبه لك،قال: لا، ولكن أعطيه دينارا.
قال: فأخذه، فخلى عنه، فكان يذهب ويرعى، فيجئ بالعشي، فيكون في ناحية البيت، فلما مات سفيان، تبع جنازته، فكان يضطرب على قبره، ثم اختلف بعد ذلك ليالي إلى قبره، فكان ربما بات عليه، وربما رجع إلى البيت، ثم وجدوه ميتا عند قبره، فدفن عنده( )
وقد رأه أصحابه العلماء في المنام بعد موته على أحسن حال.
قال سعير بن الخمس: رأيت سفيان في المنام يطير من نخلة إلى نخلة وهو يقرأ: * (الحمد لله الذي صدقنا وعده) * [ الزمر: 74 ].
وقال أبو أسامة: لقيت يزيد بن إبراهيم صبيحة الليلة التي مات فيها سفيان، فقال لي: قيل لي الليلة في منامي: مات أمير المؤمنين.
فقلت للذي يقول في المنام: مات سفيان الثوري ؟ قال: نعم.
وقال مصعب بن المقدام: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في النوم آخذا بيد سفيان الثوري، وهو يجزيه خيرا
وقال أبو سعيد الاشج: حدثنا إبراهيم بن أعين، قال: رأيت سفيان بن سعيد، فقلت: ما صنعت ؟ قال: أنا مع السفرة الكرام البررة ( ).
و كانت وفاته سنة 161هـ في خلافة المهدي ( ).
ثناء العلماء عليه:
تبوأ الثوري مكانة علمية هامة ، وقد أثنى عليه العلماء ثناءً عطراً ،ل إن بعضهم فضله على كثير من علماء عصره المشهورين.
قال يونس بن عبيد " ما رأيت أفضل من سفيان الثوري فقال له رجل يا أبا عبد الله رأيت سعيد بن جبير وإبراهيم وعطاء ومجاهداً وتقول هذا قال : هو ما أقول ما رأيت أفضل من سفيان الثوري " ( )
وقال يحيى بن سعيد القطان :" سفيان الثوري أحب إلىّ من مالك في كل شيء يعنى في الحديث وفى الفقه وفى الزهد " ( ) ، وقال أيضاً : " سفيان الثوري فوق مالك في كل شئ" ( ) وقال:" ليس أحد أحب إلي من شعبة، ولا يعدله أحد عندي،وإذا خالفه سفيان، أخذت بقول سفيان"( )
وقال ابن المبارك: "كتبت عن ألف ومئة شيخ، ما كتبت عن أفضل من سفيان" ( ) .
وقال شعبة، وابن عيينه، وأبو عاصم، ويحيى بن معين، وغيرهم:
"سفيان الثوري أمير المؤمنين في الحديث " ( ).
وقال سفيان بن عيينة :" أصحاب الحديث ثلاثة عبد الله بن عباس في زمانه والشعبي في زمانه والثوري في زمانه "( )
وقال شعيب بن حرب :" إنى لأحسب يجاء بسفيان الثوري يوم القيامة حجة من الله على هذا الخلق يقال لهم لم تذكروا نبيكم فقد رأيتم سفيان ألا اقتديتم به "( )
ومدحه الامام مالك بن أنس قائلاً :" إنما كانت العراق تجيش علينا بالدراهم والثياب ثم صارت تجيش علينا بسفيان يعنى الثوري "( )
وقال ابن مهدي: "ما رأت عيناي أفضل من أربعة، أو مثل أربعة، ما رأيت أحفظ للحديث من الثوري، ولا أشد تقشفا من شعبة ، ولا أعقل من مالك، ولا أنصح للامة من ابن المبارك" وقال أيضاً: "كان وهيب يقدم سفيان في الحفظ على مالك" ، وقال عبد العزيز بن أبي رزمة: قال رجل لشعبة: خالفك سفيان،فقال: دمغتني" ( )
وقال عباس الدوري: "رأيت يحيى بن معين، لا يقدم على سفيان أحداً في زمانه، في الفقه والحديث والزهد وكل شئ"،وقال أيوب السختياني: "ما قدم علينا من الكوفة أحد أفضل من سفيان الثوري"و قال شعبة: "سفيان أحفظ مني" ( ).
وقال الإمام أبوحنيفة في حق الثوري: " لو كان سفيان الثوري في التابعين، لكان فيهم له شأن"، وقال أيضاً : "لو حضر علقمة والاسود، لاحتاجا إلى سفيان" ،وقال المثنى بن الصباح: "سفيان عالم الامة وعابدها" ،وعن ابن أبي ذئب، قال: "ما رأيت أشبه بالتابعين من سفيان الثوري" ، وعن ابن وهب، قال: "ما رأيت مثل سفيان الثوري" وقال الإمام أحمد بن حنبل: قال لي ابن عيينة:" لن ترى بعينيك مثل سفيان الثوري حتى تموت"( )، وروى المروذي، عن أحمد بن حنبل، قال:" أتدري من الامام ؟ الامام سفيان الثوري، لا يتقدمه أحد في قلبي "( ).
وعن حفص بن غياث قال:" ما أدركنا مثل سفيان، ولا أنفع من مجالسته" ( )
وقال بشر الحافي:" كان الثوري عندنا إمام الناس،وعنه قال: "سفيان في زمانه كأبي بكر وعمر في زمانهما" ،وعن أبي إسحاق الفزاري قال: "ما رأيت مثل الثوري " ( )
وقال الأوزاعي:" لو قيل اختر لهذه الأمة رجلاً، يقوم فيها بكتاب الله وسنة نبيه، لاخترت لهم سفيان الثوري" ،وقال يحيى بن أكثم: "كان في الناس رؤساء، كان سفيان الثوري رأساً في الحديث، وأبو حنيفة رأساً في القياس، والكسائي رأساً في القراء، فلم يبق اليوم رأس في فن من الفنون" ( )،وقال أيضاً : " لم يبق من يجتمع عليه العامة بالرضى والصحة، إلا ماكان من رجلٌ واحد بالكوفة - يعني سفيان " ( )
وقال شريك: "نرى أن سفيان حجه لله على عباده" ( )
وقد بلغت الدرجة في محمد بن مسلم الطائفي أن يقول:" إذا رأيت عراقياً، فتعوذ من شره، وإذا رأيت سفيان، فسل الله الجنة" ( )
وقال أبو حاتم الرازي:" سفيان فقيه حافظ زاهد إمام، هو أحفظ من شعبة" ،وقال أبو زرعة:" سفيان أحفظ من شعبة في الاسناد والمتن" ( ).
وقد علق الإمام الذهبي على ثناء العلماء لسفيان الثوري قائلاً :" كان سفيان رأسا في الزهد، والتأله، والخوف، رأسا في الحفظ، رأسا في معرفة الآثار، رأسا في الفقه، لا يخاف في الله لومة لائم من أئمة الدين " ( )
شيوخه وتلاميذه :
قال الذهبي :يقال إن عدد شيوخه ست مئة شيخ، وكبارهم الذين حدثوه عن أبي هريرة، وجرير بن عبد الله، وابن عباس، وأمثالهم ( ).
وقد ذكر الحافظ ابن حجر بعضهم ،فقال:
روى عن أبيه وأبي إسحاق الشيباني وأبي إسحاق السبيعي وعبد الملك بن عمير وعبد الرحمن بن عابس بن ربيعة وإسماعيل بن أبي خالد وسلمة بن كهيل وطارق ابن عبدالرحمن والاسود بن قيس وبيان بن بشر وجامع بن أبي راشد وحبيب بن أبي ثابت وحصين بن عبدالرحمن والاعمش ومنصور ومغيرة وحماد بن أبي سليمان وزبيد اليامى وصالح بن صالح بن حي وأبي حصين وعمرو بن مرة وعون بن أبي جحيفة وفراس ابن يحيى وفطر بن خليفة ومحارب بن دثار وأبي مالك الاشجعي وخلق من أهل الكوفة " ( )
وأما تلاميذه فقد قال الذهبي : "وأما الرواة عنه، فخلق، فذكر أبو الفرج بن الجوزي أنهم أكثر من عشرين ألفا، وهذا مدفوع ممنوع، فإن بلغوا ألفا، فبالجهد "( ).
وقال ابن حجر :
"روى عنه خلق لا يحصون منهم جعفر بن برقان وخصيف بن عبدالرحمن وابن إسحاق وغيرهم من شيوخه وابان بن تغلب وشعبة وزائدة والاوزاعي ومالك وزهير ابن معاوية ومسعر وغيرهم من اقرانه وعبد الرحمن بن مهدي ويحيى بن سعيد القطان وابن المبارك وجرير وحفص بن غياث وأبو أسامة وإسحاق الازرق وروح بن عبادة وزائدة ابن الحباب وأبو زبيد عبثر بن القاسم وعبد الله بن وهب وعبد الرزاق وعبيدالله الاشجعي وعيسى بن يونس والفضل بن موسى السيناني وعبد الله بن نمير وعبد الله بن داود الخريبي وفضيل بن عياض وأبو إسحاق الفزاري ومخلد بن يزيد ومصعب بن المقدام والوليد ابن مسلم ومعاذ بن معاذ ويحيى بن آدم ويحيى بن يمان ووكيع ويزيد بن زريع ويزيد ابن هارون وأبو عامر العقدى وأبو أحمد الزبيري وأبو نعيم وعبيد الله بن موسى وأبو حذيفة التهدي وأبو عاصم وخلاد بن يحيى وقبيصة والفريابي وأحمد بن عبدالله بن يونس وعلي ابن الجعد وهو آخر من حدث عنه من الثقات( ).
عبادته:
كان الإمام الثوري مثالاً يحتذى به في العبادة والورع والزهد ، وقد وصفه علماء عصره بأجمل الاوصاف .
ومن النماذج التي تذكر عن عبادته :
قول عبد الرحمن بن مهدى :" ما عاشرت في الناس رجلا أرق من سفيان الثوري وكنت أرمقه في الليلة بعد الليلة ينهض مذعورا ينادى النار النار شغلنى ذكر النار عن النوم والشهوات "( ) ، وقال ابن وهب: رأيت الثوري في الحرم بعد المغرب، صلى، ثم سجد سجدة، فلم يرفع حتى نودي بالعشاء ( ) ، وكان دائم التفكر والتأمل في أمور الآخرة.
قال يوسف بن أسباط :قال لي سفيان الثوري وقد صلينا العشاء الآخرة : ناولني المطهرة فناولته فأخذها بيمينه ووضع يساره على خده ونمت فاستيقظت وقد طلع الفجر فنظرت فإذا المطهرة بيمينه كما هي فقلت هذا الفجر قد طلع فقال لم أزل منذ ناولتني المطهرة أتفكر في الآخرة حتى الساعة "( ) ،
ومن شدة عبادته كان يبول دماً ،فقد وصفه يوسف بن أسباط بقوله: "كان سفيان يبول الدم من طول حزنه وفكرته"( ) ولما أخذ أحد أصحابه بوله لطبيب يفحصه قال له : " بول من هذا ينبغي أن يكون هذا بول راهب هذا رجل قد فتت الحزن كبده ما لهذا دواء"( )
وكان سفيان دائم الذكر للموت ، خائفاً وجلاً منه ، وما تراه إلا باكياً ، وقد وصفه أصحابه بذلك .
قال قبيصة :" ما جلست مع سفيان مجلساً إلا ذكرت الموت وما رأيت أحداً كان أكثر ذكرا للموت منه" ( ).
قال عطاء الخفاف: "ما لقيت سفيان إلا باكيا، فقلت: ما شأنك ؟ قال:أتخوف أن أكون في أم الكتاب شقيا ( )
قال أبو إسحاق الفزاري، عن سفيان، قال: " البكاء عشرة أجزاء: جزء لله، وتسعة لغير الله، فإذا جاء الذي لله في العام مرة، فهو كثير"،وقال ابن مهدي: بات سفيان عندي، فجعل يبكي، فقيل له،فقال: لذنوبي عندي أهون من ذا - ورفع شيئا من الأرض إني أخاف أن أسلب الايمان قبل أن أموت" ( )
وذات مرة التقى سفيان والفضيل بن عياض، فتذاكرا، فبكيا، فقال سفيان: إني لأرجو أن يكون مجلسنا هذا أعظم مجلس جلسناه بركة،فقال له فضيل: لكني أخاف أن يكون أعظم مجلس جلسناه شؤماً، أليس نظرت إلى أحسن ما عندك، فتزينت به لي، وتزينت لك، فعبدتني وعبدتك ؟ فبكى سفيان حتى علا نحيبه، ثم قال: أحييتني أحياك الله( )
قال عبد الرحمن بن مهدي: كنا نكون عندسفيان، فكأنما وقف للحساب،وقال أيضاً : " كنت لا أستطيع سماع قراءة سفيان من كثرة بكائه"،وسمعه عثام بن علي يقول:" لقد خفت الله خوفاً، عجباً لي ! كيف لا أموت ؟ ولكن لي أجل وددت أنه خفف عني، من الخوف أخاف أن يذهب عقلي"،وقال حماد بن دليل: سمعت الثوري يقول:" إني لأسأل الله أن يذهب عني من خوفه"،وقال أبو نعيم: "كان سفيان إذا ذكر الموت لم ينتفع به أياما" ( )
ورغم شدة خوفه وبكائه لم يكن الإمام الثوري مغتراً بعبادته .
قال أحمد بن يونس:" سمعت الثوري ما لا أحصيه يقول: اللهم سلم سلم، اللهم سلمنا، وارزقنا العافية في الدنيا والآخرة" ( )
زهده وورعه :
مدح العلماء زهد وورع الإمام الثوري ، فقد قال الإمام شعبة:" ساد سفيان الناس بالورع والعلم" ( ) ،وقال قتيبة : " لولا الثوري لمات الورع " ( )
ومن القصص التي تروى عنه وتبين شدة ورعه ،أنه عمل في أحد بساتين البصرة ، ولما سأله أحد الناس أن يقارن له بين رطب البصرة والكوفة ، ذكر له سفيان أنه لا يعرف ، وذلك لأنه لم يذق طعم الرطب في البستان الذي يعمل به ( )
ومن أقواله في الزهد :
قال وكيع: سمعت سفيان يقول: ليس الزهد بأكل الغليظ، ولبس الخشن، ولكنه قصر الامل، وارتقاب الموت ( ).
قال خالد بن نزار الايلي: قال سفيان:" الزهد زهدان: زهد فريضة، وزهد نافلة،فالفرض: أن تدع الفخر والكبر والعلو، والرياء والسمعة، والتزين للناس،وأما زهد النافلة: فأن تدع ما أعطاك الله من الحلال، فإذا تركت شيئا من ذلك، صار فريضة عليك ألا تتركه إلا لله" وعنه قال:" احذر سخط الله في ثلاث: احذر أن تقصر فيما أمرك، واحذر أن يراك وأنت لا ترضى بما قسم لك، وأن تطلب شيئا من الدنيا فلا تجده، أن تسخط على ربك" ( ).
وقال أيضاً"ما رأيت الزهد في شئ أقل منه في الرئاسة، ترى الرجل يزهد في المطعم والمشرب والمال والثياب، فإن نوزع الرئاسة، حامى عليها، وعادى " ( )
وقال:" الزهد في الدنيا هو الزهد في الناس، وأول ذلك زهدك في نفسك" ( )
ومن زهده في الدنيا كان يقول : " من سر بالدنيا، نزع خوف الآخرة من قلبه"( )
وسئل سفيان: ما الزهد ؟ قال: سقوط المنزلة،وقال وكيع: عن سفيان قال: "لو أن اليقين ثبت في القلب، لطار فرحاً، أو حزناً، أو شوقاً إلى الجنة، أو خوفاً من النار" ( ).
عقيدته :
كان سفيان الثوري رحمه الله على عقيدة السلف الصالح ، شديداً في اتباع كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام ، متمسكاً بهما حاثاً على ذلك.
قال ابن المبارك، عن سفيان: استوصوا بأهل السنة خيرا، فإنهم غرباء( )
وقال يوسف بن أاسباط :سمعت سفيان الثوري يقول "إذا بلغك عن رجل بالمشرق صاحب سنة وآخر بالمغرب فابعث اليهما بالسلام وادع لهماما أقل أهل السنة والجماعة( )
وقال أبو سعيد الاشج: سمعت ابن إدريس يقول:" ما رأيت بالكوفة رجلا أتبع للسنة ولا أود أني في مسلاخه( ) من سفيان الثوري" ( )
موقفه من الصحابة :
كان الإمام سفيان على مذهب جمهور أهل السنة في حب أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام حباً شديداً .
قال الفريابي، سمعت سفيان ورجل يسأله عن من يشتم أبا بكر ؟ فقال: كافر بالله العظيم.
قال: نصلي عليه ؟ قال: لا، ولا كرامة.
قال: فزاحمه الناس حتى حالوا بيني وبينه، فقلت للذي قريبا منه: ما قال ؟ قلنا: هو يقول: لا إله إلا الله، ما نصنع به ؟ قال: لا تمسوه بأيديكم، ارفعوه بالخشب حتى تواروه في قبره( ).
وقال عبد العزيز بن أبان: سمعت الثوري يقول:" من قدم على أبي بكر وعمر أحداً، فقد أزرى على اثني عشر ألفا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توفي رسول الله وهو عنهم راض" ( ).
وعن عثام بن علي: سمعت الثوري يقول:" لا يجتمع حب علي وعثمان إلا في قلوب نبلاء الرجال" ( ).
ويبدو أن الإمام سفيان الثوري كان فيه تشيع في بداية عمره ، إذ يقول الذهبي عنه : " وفيه تشيع يسير، كان يثلث بعلي ( )
قال أبو بكر بن عياش: كان سفيان ينكر على من يقدم على أبي بكر وعمر أحداً من الصحابة، إلا أنه كان يقدم عليا على عثمان( )
ولكنه تغير بعد لقائه ببعض العلماء ،وأصبح ينكر على من يقول بتقديم علي على أبي بكر وعمر رضي الله عن الجميع.
قال عبد الله بن محمد بن يوسف الفريابي، حدثنا أبي: سمعت سفيان يقول:" إن قوما يقولون: لا نقول لأبي بكر وعمر إلا خيراً، ولكن علي أولى بالخلافة منهما،فمن قال ذلك، فقد خطأ أبا بكر وعمر وعلياً، والمهاجرين والانصار، ولا أدري ترتفع مع هذا أعمالهم إلى السماء ؟، ( )،وعن زيد بن الحباب قال: "خرج سفيان – في رحلته للبصرة- إلى أيوب، وابن عون، فترك التشيع "( ) ، والظاهر أن أيوب وابن عون أثرا على سفيان مما ادى به إلى تغيير رأيه .
عقيدته في الايمان :
قال أبو بكر بن عياش: كان سفيان ينكر على من يقول: العبادات ليست من الايمان( )
قال عبد الرزاق: سمعت مالكا، والاوزاعي، وابن جريج، والثوري، ومعمرا، يقولون: الايمان قول وعمل، يزيد وينقص( )
وكان يقول : الإيمان قول وعمل ونية يزيد وينقص يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ولا يجوز القول إلا بالعمل ولا يجوز القول والعمل إلا بالنية ولا يجوز القول والعمل والنية إلا بموافقة السنة ، وموافقة السنة تقدمة الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ( )
موقفه من أهل البدع :
كان الإمام سفيان شديد التحذير من أهل البدع وينبىء عن ذلك ما أثر عنه.
فقد قال : "من أصغى بسمعه إلى صاحب بدعة، وهو يعلم، خرج من عصمة الله، ووكل إلى نفسه" وقال أيضاً : " من سمع ببدعة فلا يحكها لجلسائه، لا يلقها في قلوبهم" ( ) ، وقال أيضاً : " البدعة أحب إلى إبليس من المعصية والمعصية يتاب منها والبدعة لا يتاب منها " ( )
وكان له مواقف متميزة مع أهل البدع ،ومن ذلك موقفه من بدعة خلق القرآن ،فقد كان الإمام سفيان يكفرمن يقول بخلق القرآن ، ومن ذلك قوله:" القرآن كلام الله غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود من قال غير هذا فهو كفر " ( )،وقوله من زعم أن * (قل هو الله أحد) * [ الاخلاص: 1 ] مخلوق، فقد كفر بالله( ).
أما بدعة الارجاء فكان موقفه منها قد تجلى لما ترك الصلاة على أحد الأشخاص المتهمين بهذه البدعة ،قال مؤمل بن إسماعيل:" لم يصل سفيان على ابن أبي رواد ( ) للارجاء " ( )
أما موقفه ممن عطل أو شبه أسماء الله وصفاته ، فقد تجلى في اجابته لأسئلة البعض ، فقدقال معدان: سألت الثوري عن قوله: * (وهو معكم أينما كنتم) * [ الحديد: 4 ] قال: علمه" ( ) ،وسئل سفيان عن أحاديث الصفات، فقال: أمروها كما جاءت ( ).
وكان ينكر على القدرية ، ومن ذلك قوله : والله ما قالت القدرية ما قال الله ولا ما قالت الملائكة ولا ماقالت النبيون ولا ما قال أهل الجنة ولا ماقال أهل النار ولا ما قال اخوهم ابليس لعنه الله ، قال الله عز و جل : أفرأيت من اتخذ إلهة هواه وأضله الله على علم
وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصر غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون "وقال تعالى :" وما تشاؤون إلا أن يشاء الله " ، "وقالت الملائكة سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم " ،وقال موسى عليه السلام : " إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء " ، وقال نوح عليه السلام : "ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم وإليه ترجعون " ، وقال شعيب عليه السلام : " وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا وسع ربنا كل شيء علما " ،
وقال أهل الجنة : " الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله "،
وقال أهل النار : "غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين " ، وقال أخوهم ابليس لعنه الله : " رب بما أغويتني " ( )
وفي وصية جامعة له حذر الإمام سفيان من بعض الفرق الضالة المنحرفة عن هدي الاسلام الحنيف ، كالمرجئة والمعتزلة والشيعة وغيرهم ، أوردها هنا كاملة لفائدتها الكبيرة .
قال سفيان الثوري :" اتقوا هذه الأهواء المضلة ، قيل له : بين لنا رحمك الله ؛ قال سفيان : أما المرجئة فيقولون : الإيمان كلام بلا عمل ، من قال : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله فهو مؤمن مستكمل إيمانه على إيمان جبريل والملائكة وإن قتل كذا وكذا مؤمنا وإن ترك الغسل من الجنابة وإن ترك الصلاة ، وهم يرون السيف على أهل القبلة ، وأما الشيعة فهم أصناف كثيرة : منهم المنصورية ؛ وهم الذين يقولون : من قتل أربعين من أهل القبلة دخل الجنة ، ومنهم الخناقون الذين يخنقون الناس ويستحلون أموالهم ، ومنهم الخرينية الذين يقولون : أخطأ جبريل بالرسالة ، وأفضلهم الزيدية وهم ينتفون من عثمان وطلحة والزبير وعائشة أم المؤمنين رضي الله عنهم ، ويرون القتال مع من خرج من أهل البيت حتى يغلب أو يغلب ، ومنهم الرافضة الذين يتبرءون من جميع الصحابة ويكفرون الناس كلهم إلا أربعة : عليا وعمارا والمقداد وسلمان ، وأما المعتزلة فهم يكذبون بعذاب القبر وبالحوض والشفاعة ولا يرون الصلاة خلف أحد من أهل القبلة ؛ إلا من كان على هواهم ، وكل أهل هوى ، فإنهم يرون السيف على أهل القبلة . وأما أهل السنة فإنهم لا يرون السيف على أحد ، وهم يرون الصلاة والجهاد مع الأئمة تامة قائمة ، ولا يكفرون أحدا بذنب ، ولا يشهدون عليه بشرك ويقولون : الإيمان قول وعمل ، مخافة أن يزكوا أنفسهم ، لا يكون عمل إلا بإيمان ، ولا إيمان إلا بعمل . قال سفيان : فإن قيل لك : من إمامك في هذا ؟ . فقل : سفيان الثوري رحمه الله " ( ).
يتبع