الأساس الإلحادي للنظريات المعاصرة في علم الاجتماع
د. أحمد إبراهيم خضر
كلُّ ما قام به (بيرجر) في نظر علماء الاجتماع محاولةٌ توفيقيَّة بين الدِّين وعلم الاجتماع، إلاَّ أنَّ تقويمهم لهذه المحاولة أسفر عن الآتي:
1- أنَّ النتائج التي توصَّل إليها (بيرجر) تُزعِج المتديِّنين بشدَّة.
2- لن يروق للمتديِّنين الذين يرَوْن أنَّ الدِّين من عند الله هذه العموميَّات التي يتوصَّل إليها الباحثون ويطبِّقونها على الأديان كلها، والتي يُطالب (بيرجر) بالبحث عنها؛ لأنَّ هذا من شأنه أنْ يُدمِّر تدميرًا كاملاً ما تبقَّى من الدِّين لهؤلاء الذين انهارَتْ بعض جوانب تديُّنهم بالفعل.
3- لن يتبقَّى بعد تدمير الدِّين ما يمكن أنْ تُبنَى عليه الحياة الأخلاقيَّة، والغريب في الأمر أنَّه على الرغم من الإلحاد في نظريَّة (بيرجر) فإنَّه يُطالب بألاَّ تُفسَّر على أنها إلحاد.
ثانيًا: روبرت بيلا:
هو المصدر الثاني الأساس الذي يعتمد عليه رِجال الاجتماع الشبَّان في بلادنا وهم يكتُبون عن الدِّين، حاوَل (بيلا) وصْل هذا الجِسر بين علماء الاجتماع والدِّين، فصاغ نظريَّةً أسماها (الواقعيَّة الرمزيَّة).
كان (بيلا) قد أعلن صراحةً وقوفَه إلى جانب الدِّين، مُعارِضًا الحيادَ الزائف في علم الاجتماع، وأصرَّ على أنَّ رموز الدِّين يجب ألاَّ تُحلَّل وفقًا لافتِراضات العلوم الاجتماعيَّة التي تَحُطُّ من قدرها، بل يجب أنْ تُفهَم في إطارها الخاص، وأكَّد (بيلا) أنَّ الدِّين حقيقي وليس انعكاسًا لعوامل نفسيَّة اجتماعيَّة.
يتوقَّع القارئ أيضًا - كما توقَّع من قبل مع (بيرجر) - أنْ يقول بيلا شيئًا إيجابيًّا يُبرِّر استدلالَ رجال الاجتماع في بلادنا بآرائه، ولكنَّ العكس هو الصحيح تمامًا.
يقول (بيلا) هذا الذي يُناصِر الدِّين: "إنَّ ادِّعاء الدِّين بالحقيقة ادِّعاء باطل، وإذا كان الدِّين جوهريًّا وحقيقيًّا في جانب، فإنَّه خيالي على الجانب الآخَر؛ بمعنى: أنَّنا ونحن نُشبِع حاجاتنا الدينيَّة فإنَّنا يجب أن نُدرِك أنَّ ادِّعاءات الدِّين عمَّا فوق الطبعِيِّ (الله - الملائكة - الجن... إلخ) غير حقيقيَّة".
ويتبنَّى (بيلا) في خِطابه أمام جمعيَّة الدِّراسات العلميَّة للدِّين منظورًا يَحُطُّ من قدر الدِّين، ويُثنِي فيه على إسهامات (دوركايم) و(ماكس ويبر) في تحليل الدِّين بالرغم من أنَّ الأوَّل يحطُّ من قيمة رموز الدِّين، والثاني يُواجِه دارسي الدِّين ويُطالِبهم بألاَّ يأخذوا أمور الدِّين بجديَّة.
يعودُ (بيلا) فيقول: إنَّه يخالف هذه النظريَّات التي ترى أنَّ الدِّين خِداع عظيم، ثم يقول في الوقت نفسه: إنَّ معارضته هذه تقوم على أساس أنَّ الدِّين يحتوي على حقيقةٍ ما، ولكنَّ هذه الحقيقة تختفي في الأساطير والطقوس الوهميَّة للدِّين؛ ولهذا فإنَّنا لا نعجب من اعتِرافات بيلا بأنَّ محاضراته الأولى عن الدِّين أدَّت إلى أزماتٍ حادَّة في الإيمان بين طلابه.
يعترف بيلا بأنَّ المنظور الذي تبنَّاه من أستاذه (بارسونز) منظور إلحادي، كما يقرُّ بأنَّه قد تحقَّق من أنَّ علم الاجتماع يحمل متضمنات دينيَّة، ثم يُؤكِّد في محاضراته بأنَّ العلماء الاجتماعيين يفهَمُون الدِّين بطريقةٍ أعمق من فهْم المتديِّنين لدِينهم، ويقول عن نفسه: "إنَّ مفاهيم العِلم الخاصَّة لها عندي مكانةٌ أعلى من المجال الدِّيني الذي أدرسه".
أمَّا عمَّا يُسمِّيه (بيلا) بنظريَّته عن (الواقعيَّة الرمزيَّة) فإنها تعني أنَّه يجب معاملة الدِّين على أنَّه حقيقي، وليس بإسقاطٍ نفسي أو اجتماعي، ويعني بالواقعيَّة الرمزيَّة الطُّرق التي يُعبِّر من خلالها الناس والمجتمعات عن إحساسهم بالواقع، رأى (بيلا) أنَّ نظريَّته هذه لن تسمح للعلماء الاجتماعيين باحتقار الدِّين، وأنها بارقة أمَل في المصالحة بين العلوم الاجتماعية والدِّين، وسوف تسمح بالاختلاف بينها، لكنَّه غير عدائي.
طالَبَ (بيلا) هؤلاء الذين يقومون بتطبيق نظريَّته أنْ يقبلوا دعاوى المتديِّنين عن دِينهم، وأنْ يفصلوا مؤقتًا حُكمَ العلم على الدِّين.
قام (أنتوني وزملاؤه) - وهم جماعةٌ من الباحثين - بتطبيق نظريَّة (بيلا) على جماعةٍ نصرانية مُتديِّنة نجحوا في كسب ثقتها وجذبها نحوهم.
يقول الباحثون: إنَّ هذه الجماعة تعتقد في صحَّة ما تؤمن به من مسائل دينيَّة؛ مثل: (الروح القدس) على أنها حقيقة، إلى درجة أنها كانت مندهشة من أنَّ بصيرة الباحثين لم تصلْ إلى درجة إدراك هذه الحقيقة، كما كانت ترى أيضًا أنَّ الإنسان لكي يفهم فلا بُدَّ أنْ يعتقد.
وحينما طرح (أنتوني وزملاؤه) تفاصيل أفكارهم على هذه الجماعة شعروا بأنَّ الجماعة قد تهدَّدت وانهارت، هذا، ويمكن حصر الأسباب التي أدَّت إلى انهيار هذه الجماعة بعد أنْ طرحت عليها نظريَّة (بيلا) في الآتي:
1- صوَّر لهم الباحثون أنَّ اعتقاداتهم هم روايات خياليَّة:
استخدم (بيلا) في أصل نظريَّته مصطلح (Fiction)؛ أي: (رواية خيالية)؛ للإشارة إلى الرموز الدينيَّة التي يَراها أصحابها أنها معتقدات ثم يستحسنونها، يقول (بيلا) في ذلك: "إنَّ الحقيقة الدقيقة هي أنَّ تعرف أنَّ مُعتَقدك رواية خياليَّة، لكنَّك تعتقد فيها إراديًّا، وأنَّ الرموز الدينيَّة هي حقيقته وتامَّة وسامية حينما تعبِّر عن خِبرة الإنسان فقط، ولكنَّها حينما تُؤخَذ كمعتقدٍ حول شيءٍ ما فإنها تكون رواية خياليَّة".
2- صوَّر لهم الباحثون أنَّ الدِّين من صُنع الإنسان:
الدِّين في نظريَّة (بيلا) من صُنع الإنسان، ويجب أنْ تُفهَم ادِّعاءات الدِّين بالطريقة التي تُفهَم بها القصص المكتوبة في عملٍ عظيمٍ؛ ولذلك فإنَّه لا يريد أنْ ينسب الدِّين مطلقًا إلى أساسٍ قبل إنساني (أي: إلى الله).
3- صوَّر لهم الباحثون أنَّ معتقداتهم غير حقيقيَّة:
اتَّفق (بيلا) مع أستاذه (بارسونز) في قضيَّة المعتقدات الدينيَّة، وفي حين رأى الثاني أنَّ المعتقدات الدينيَّة غير صحيحة، رأى (بيلا) - هذا الذي بذل جُهدَه في مُناصَرة الدِّين - أنَّ بعض مُعتَقدات الدِّين زائفة.
4- صوَّر لهم الباحثون أنَّ رموز الدِّين ليست حقيقيَّة:
ترى نظريَّة (بيلا) أنَّ رموز الدِّين التي يعتقد فيها الناس ليست صادقةً؛ لأنها لا تُعبِّر عن موضوعات، ولكنَّها تُشِير فقط إلى محاولة الإنسان فهمَ الهدف النهائي من وُجودِه.
5- صوَّر لهم الباحثون أنَّ الدِّين عندهم يُشبِه الفن:
يقول (بيلا): إنَّه من الصعب التفرقة بين الدِّين وهذه الأشكال العُليَا من الفن، وقد لُوحِظ أنَّ تشبيه (بيلا) الدِّين بالفن لم يظهرْ في بعض أعماله الحديثة، لكنَّ علماء الاجتماع يقولون: إنَّه ليس هناك ما يشير إلى أنَّ (بيلا) قد غيَّر رأيَه فيها.
انتهى (أنتوني وزملاؤه) إلى أنَّ نظريَّة (بيلا) لا بُدَّ وأنْ تنظُر إلى الدِّين نظرةً دُنيَا، وأنها لا يمكنها أنْ تهرب من هذه النظرة؛ لأنَّها تختلف عن نظرة الناس إلى عقيدتهم، وأنها تُحاوِل أنْ تشرح معتقدات الناس في إطارٍ تصوُّري بديلٍ لكنَّه أعلى منها، وخُلاصة ما توصَّل إليه الباحثون هو: أنَّ نظرية (بيلا) لا تُحقِّق تكاملاً بين العلوم الاجتماعية والدِّين.
انتهى (بيلا) بعد هذه الجهود إلى مهاجمة النصرانية، وهاجَم محاولاتها التأكيدَ على معتقدها الأرثوذكسي، وأعلَنَ أنَّه لا يتذوَّق هذه الدِّيانات التسلُّطيَّة التي لا تخضع تعاليمها للنقد، وأعلن بوضوحٍ في ردِّه على ما كتَبَه (روبنسون) في كتابه "لنكن أُمَناء مع الله": "إنَّ المعنى الأكبر في تعاليم النصرانية ذاتها هي أنها تتحدَّث عن الله في الداخل أكثر ممَّا تتحدَّث عنه في الخارج، إنَّ المسيح ليس نافذةً على الكون، ولكنَّه نافذة إلى أعماق الإنسان نفسه فقط، إنَّ الرموز الدينيَّة لا تقول لنا شيئًا بالمرَّة حول الكون".
ويقول علماء الاجتماع تعليقًا على نظرية (بيلا): إنَّه استخدم مصطلحًا قويًّا وهو: "أن الدين حقيقي" في معنى ضعيف جدًّا.
يكفينا ردًّا - ممَّا ذكرناه - على إلحاد نظريَّات علم الاجتماع ما أشارتْ إليه نفس هذه النظريَّات على النحو التالي:
1- دفع النظريَّات المعاصرة للاتِّهامات التي وجَّهَتْها النظريَّات الكلاسيكيَّة إلى الدِّين والتعاليم الدينيَّة، هذا الدفع ذاته يسقط كلَّ اتهامات رجال الاجتماع في الغرب وأتْباعهم في بلادنا بأنَّ العالم الغيبي عالَمٌ زائفٌ وليس بحقيقة، أو أنَّ الحقيقة الدينيَّة ادِّعاء باطل، وأنَّ الدِّين والأفكار الدينيَّة غير حقيقيَّة، أو أنَّ الرموز غير صادقة؛ لأنَّ كلَّ هذه الاتهامات - بإقرار النظريَّات المعاصرة - غير صادقةٍ علميًّا طالما أنَّ منهج العلم الحديث لا يُقدِّم أحكامًا قيميَّة، وأنَّه محايد، وطالما أنَّ الأفكار الدينيَّة تنتَمِي إلى مجالٍ من الواقع ليس في مُتَناول البحث العلمي.
2- إقرار علماء الغرب بأنَّ الموقف الإلحادي للنظريَّات المعاصرة في علم الاجتماع قد خرب الالتزام القيمي الذي يَحتاجُه المجتمع، وأنَّه لن يتبقَّى للمجتمع بعد تدمير الدِّين ما يمكن أنْ يَبنِي عليه حياته الأخلاقيَّة، ولم يلتفتْ علماء الاجتماع إلى قول مشاهير فلاسفة الغرب نفسه عن التلازُم بين الدِّين والأخلاق؛ مثل (فيخته) الذي قال: "إنَّ الدِّين من غير أخلاقٍ خرافةٌ، والأخلاق من غير دِينٍ عبثٌ"، و(كانت) الذي لم يرَ للأخلاق من ضَمان غير الدِّين.
كما نضيف إلى ما سبق الحقائق التالية:
أولاً: ادِّعاء علماء الاجتماع بأنَّ الدِّين يجب أنْ يقوم على افتراضاتٍ إلحادية، أو أنَّه اختراعٌ إنساني، أو تجربة إنسانيَّة، أو إسقاطٌ نفسي اجتماعي، أو أنَّه خِداع عظيم، أو رواية خياليَّة، أو فن، كلُّ هذا مردودٌ عليه بحقيقة بسيطة وهو: أنَّ رأس الدِّين ورُكنه الأعظم هو إثبات وجود الله، فإذا ثبت وجودُ الله سقطتْ كلُّ هذه الادِّعاءات التي ليس لها سندٌ من العقل أو العلم، ويعني إثبات وجود الله إثبات وجود مَن (يجب وجوده)، وليس في الموجودات (العالم) كله ما لا يثبت وجوده عن طريق (وجوبه) إلا (الله)، فكلُّ ما سوى (الله) لا ضرورة لوجوده ولا استحالة لعدمه، ويسمَّى هنا (بالممكن الوجود)، وليس هناك سندٌ لِمَن يشكون أو ينفون وجودَ الله؛ لأنَّ كلَّ شيء في هذا العالم يمكن أنْ يُشَكَّ في وجوده أو يُنفَى وجودُه؛ لأنه (ممكن)، ويقبل الوجود ويقبل العدم، ولا ضرورة لوجوده أو عدم وجوده إلا (الله) الذي لا يمكن إلا أنْ يكون موجودًا، وإذا افترضنا عدمَ وجود الله افترضنا عدمَ وجود مَن يجب وجوده، وهنا نقَع في التناقُض.
الموجودات إذًا لا بُدَّ لها من موجودٍ واجب الوجود ليس من جنسها مُستغنٍ عن إيجاد موجودٍ له، ويُستَدَلُّ على وُجوده من وجود الموجودات الممكِنة التي نَراها ونُشاهِدها، والتي لا يمكن أنْ توجد لولا وجودُ ذلك الموجود (الواجب الوجود) الذي هو (الله - عزَّ وجلَّ)، إنَّ هذا العالم كلَّه بجميع أجزائه موجودٌ ليس (بواجب) الوجود، ولكنَّه (ممكن) الوجود، وكان يمكن أنْ يكون معدوم الوجود، ولأنَّ هذا العالم (ممكن الوجود) فإنَّه يحتاج إلى موجودٍ آخَر يتقدَّمه في الوجود ليستندَ وجوده إليه، ومن هنا كان وجود العالم يدلُّ دلالةً قطعيَّة على وجود موجودٍ آخَر وراءه؛ لأنَّه لا يتسنَّى له هذا الوجود دون هذا الموجود (الواجب) وجوده الذي لم يسبقْه العدم وهو (الله) - عزَّ وجلَّ.
إذا ثبَت وُجود (الله) أمكن إثبات ما عدا (الله) من أمور الغيب، تلك التي يستنكرها علماء الاجتماع لعدم إيمانهم بالله أصلاً، والمراد بالغيب: "ما غاب عن الحواس"، وهذا لا ينفي أنَّه (حق) و(واقع)، ومن الخطأ الاعتقاد بأنَّ ما يغيبُ عن الحواس يغيبُ عن العقل أيضًا، وكون الشيء غير محسوس لا يعني أنَّه غير معقول، خاصَّة وأنَّ العقل والحس ليسا بشيءٍ واحد.
ثانيًا: توضح الفقرة السابقة سندَنا من العقل في إثبات الدِّين، أمَّا سندنا من العلم فهو على النحو التالي:
1- أنَّ العلم لا يفترق عن العقل، وإذا تصادَما فإنَّ الكلمة الأخيرة تكون للعقل، ونحن قد أثبَتْنا أنَّ العقل مع الدِّين؛ ولهذا يلزم أنْ يكون العلم مع الدِّين أيضًا؛ لأنَّ العقل معه أصلاً.
2- العلم في أوسع تعريفٍ له: معرفة مضمون قضيَّة من القضايا، وعلى هذا تكون علاقة العلم مع الدِّين على النحو التالي:
أ- إذا قصدوا بالعلم المعرفة المبنيَّة على البداهة أو المشاهدة أو العلم بالحواس أو بالدليل العقلي، فكلُّها تُؤيِّد الدِّين؛ أي: تثبت وجود الله.
ب- إذا قصدوا بالعلم العلوم المدوَّنة؛ كالهندسة والطبيعة وغيرها - فهذه العلوم مشغولةٌ بموضوعاتها، وتحكم فقط في المسائل المتعلِّقة بها، وتقف فيما وراء ذلك على الحِياد.
ج- إذا احتكروا اسم العلم لهذه العلوم القائمة على التجربة، وقالوا: إنَّ العالم لم يتكوَّن بخلق الله بل تكوَّن بنفسه، فهذا راجعٌ لهم ولا يرجع إلى العلم ذاته؛ لأنَّ العلم ليس اسمًا ينزع صلة الكون بالإله الخالق وإسناد التكوين إلى الأشياء نفسها، إنما هو اسمٌ للعلم الذي يبحث في الكائنات وما جُبِلت وطُبِعت عليه، ويقتصر حُكم العلم والتجربة على القول بأنَّ العالم يُدار وفقًا لقوانين، ولا يَتجاوَزان ذلك إلى تعيين مُنشِئ لهذه القوانين، أو تحديد هذه القوانين في صفة الأشياء نفسها، وليس بما هو خارجٌ عنها، وإنما كان ذلك من استنتاج العلماء، وليس هذا الاستنتاج استنتاجًا صحيحًا مُضافًا إليه مدلول التجربة، وإنما هو استنتاجٌ فاسدٌ أُضِيفَ إلى حكم التجربة ظنًّا منهم أنه من تمام مدلولها، يُضاف إلى ذلك أنَّ التجربة لا تثبت الضرورة والوجوب، ولو كان الله - تعالى - ثابتًا بالتجربة لما كان موجودًا واجب الوجود ومستحيل العدم، بل كان موجودًا عاديًّا كغيره من الموجودات غير ضروري الوجود، كما أنَّ الله - عزَّ وجلَّ - ليس ماديًّا ولا داخلاً في الطبيعة.
ونخلص من هذا إلى أنَّ العلوم منها ما يُؤيِّد الدين بتأييد مسألة وجود الله، ومنها ما يُحايِده لعدم دُخوله في موضوعه، ولا شيء من العلوم يمانع أساس الدِّين وينكر وجود الله، وقد جاء على لسان أكبر علماء الإنجليز ما نصُّه: "إنَّ الإلحاد ليس نتيجة للأصول العلميَّة".
وقال (هنري هوكسلي) - وهو عالم إنجليزي شهير -: "إنَّ الإلحاد على الأسس العلميَّة غير قابلٍ للتحمُّل".
ثالثًا: يُوضِّح ما سبق أنَّه لا سند لعلماء الاجتماع في الغرب وأتْباعهم في بلادنا من العقل والعلم في ربطهما بالإلحاد ورفض حقيقة الدِّين، فمن أين إذًا جاء هذا الإلحاد الذي عبَّر عنه (بيرجر) و(بيلا) وهما يدافعان عن الدِّين؟
إنَّ النصرانية التي يعتنقانها هما و(كولب) هي التي أدَّت بهم جميعًا إلى هذا المصير، لقد أضرَّت النصرانية بالمسلمين خاصَّة وبالناس عامَّة.
فالغرب الذي له الآن القوَّة والغلبة على العالم كان قد اعتنق النصرانيَّة في قديم الزمان، وكان مجلس الرهبان معقدًا في (أزنيك) رفض بأكثر الأصوات عقيدة التوحيد، وقرَّر قبول عقيدة التثليث المركَّبة من الإشراك والتوحيد؛ فأدَّى ذلك إلى خِلافٍ دائمٍ بين العلم والعقل والدِّين، ومع رُقِيِّ الغرب في الصناعات والتكنولوجيا وسائر العلوم، أدرَكَ علماؤه أنَّ دِينهم لا يتَّفق مع العقل والعلم، لكنَّهم لم يبحثوا لهم عن دِينٍ آخَر، ولم ينظُروا إلى الإسلام (الذي مَدار التكليف فيه هو العقل)؛ بسبب العداء الذي يُضمِره الغرب له منذ الحروب الصليبيَّة؛ لهذا خرج بعض علماء الغرب عن الأديان كليَّةً فألحد ودعا الناس إلى الإلحاد، وبقي البعض الآخَر يُفَلسِف أمور الدِّين وفق ما يُصوِّره له عقله وهواه[4].
هذا الصراع بين الدِّين والعلم نشَأ أصلاً من خصوصيَّة دِين الغرب الذي لا ائتلاف بينه وبين العقل والعلم، والذي لا وُجودَ له مطلقًا في الإسلام، لكنَّ رجال الاجتماع في بلادنا لا يعرفون من الإسلام إلا اسمه، ولم يدرسوه، وإنما كانت معرفتهم بنظريَّات الغرب أكثر من معرفتهم بالإسلام، فدرسوها من غير فحْص ولا تثبُّت ولا نظر ولا تعمُّق، فأحدَثوا في بلادنا الصراع بين الدِّين والعلم، خاصَّة وأنَّ هذه النظريَّات التي نقلوها إلينا تقليدًا لموقف الغرب مشوبة ومعلولة بالعقليَّة النصرانية لا العقليَّة الباحثة عن الحق، فكانت النتيجة ليس نقل هذا الصراع فقط، وإنما نقلوا إلينا كلَّ كلمة تكلَّمَها عالِمٌ غربي ضدَّ الدِّين أو النصرانية وألصقوها بعينها بالإسلام، كما لم يلتَفتْ رجال الاجتماع إلى مغزى قول (بيلا): "إنَّ النصرانية تتحدَّث عن الداخل وعن أعماق الإنسان، وإنَّ تعاليم المسيح لا تقول لنا شيئًا بالمرَّة حول الكون".
تجاهَلَ (بيلا) ووراءَه أتباعُه من رجال الاجتماع عندنا أنَّ الإسلام ليس بمفهوم كهنوتي أو لاهوتي، إنما هو طِرازٌ خاص في الحياة يتميَّز عن غيره كلَّ التميُّز، جاء بمجموعة مفاهيم عن الحياة تُشكِّل خُطوطًا عريضة، لا تُنظِّم علاقة الإنسان بالله فحسب، أو بنفسه فقط، ولكن تنظم علاقته مع الناس ومع الكون، إنَّه نظام ينبثق من معالجات لجميع مشاكل الإنسان في الحياة، مستندًا إلى قاعدةٍ فكريَّة تندرج تحتها كلُّ الأفكار عن الحياة، وتتَّخذ مِقياسًا يُبنَى عليه كلُّ فكرٍ فرعي.
وهذا هو الذي كان يسعى إليه (بيلا) على وجْه التحديد لكنَّه ضلَّ الطريق، ألَّفَ رجال الاجتماع في بلادنا وترجموا لـ(بيلا) وغيره من علماء الغرب، وسلَّموا بما جاء به، فصدق عليهم وصْف (دي لا فالت)، الذي كان أستاذًا في الجامعة المصرية في تقريره الذي كتَبَه إلى وزارة المعارف المصريَّة في 1932، ويقول فيه: "وقد دلَّت المشاهدة على أنَّ التلميذ المصري، وإن امتاز بالذكاء، إلا أنَّه لا يميل في الغالب إلى بذل مجهودٍ كبير لفهْم درسه؛ ولذا فهو يعتمد على الذاكرة في حِفظ الدروس أكثر من اعتماده على إجْهاد فكره لإدراكها"[5].
ويبدو أنَّه لم يحدث أيُّ تغيُّر على عقليَّة تلامذتنا منذ الثلاثينيَّات، والذين أصبحوا أساتذةً في التسعينيَّات، حالهم كما هو في قراءاتهم وفي نقولاتهم وفي ترجماتهم وفي مُؤلَّفاتهم، ليس عندهم القُدرة على التمييز بين الحق والباطل، والإيمان والإلحاد، وبين الإسلام وغيره من الديانات والفلسفات.
[1] انظر كيف فهم رجال الاجتماع في بلادنا الإسلامَ في ضوء آراء ونظريَّات عُلَماء اجتماع الغرب تفصيلاً في المجلد الكامل الذي خُصِّص لدراسات "الدين في المجتمع العربي" مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1990.
[2] عن إلحاد النظريات التقليدية والمعاصرة في علم الاجتماع المشار إليها جميعها في هذه المقالة يمكن الرجوع تفصيلاً إلى ما يلي:
Benton Johnson Sociological Theory And Relegious truth sociological Analysis 1977 v.38.4.pp.368-388.
William C. shepherd, religion And the social Sciences Conflict Or Reconciliation, The Scientific Study Of Religion 11,1972,pp230-239.
[3] Marlynn May. An Interview With William kol.
ًWisconson, sociologist,1986,32-4(Fall)
Gregory Baum,Peter L.Bergers unfinis
Symphony, Commonweal,9 May1980.p263
[4] انظر: علاقة الدين بالعقل والعلم تفصيلًا في: مصطفى صبري، "موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين وعباده المرسلين"، الجزء الثاني، دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الثانية، 1981 صفحات 3-4، 7-8، 18، 2-43، 39-40، 46، 70، 275-279، 335.
ويدخل في هذه الصفحات موقف الشيخ مصطفى صبري من الجدل الذي كان دائرًا بين محمد عبده وفرح أنطون بعنوان "المقارنة بين الإسلام والنصرانية".
كما يمكن الرجوع تفصيلاً في بيان فساد عقيدة النصارى إلى رحمة الله خليل الرحمن الهندي، "إظهار الحق"، مكتبة الثقافة الدينية، ج1، 2.
[5] مصطفى صبري، المرجع السابق ص91.