عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 12-04-2019, 09:29 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,372
الدولة : Egypt
افتراضي الإسلام ومشكلات النظام الزراعي (وضع السودان ومشكلاته الزراعية نموذجا)

الإسلام ومشكلات النظام الزراعي (وضع السودان ومشكلاته الزراعية نموذجا)
د. يوسف حسن سعيد




(أ) تقديم:
لعل أول خاطر يتبادر إلى الذهن عند سماع مثل هذا العنوان هو: وما للإسلام (أو الدين) والمشاكل الزراعية؟!! فهي تتعلق بمسائل طبيعية مثل التربة والمناخ، وتتألف من عناصر أولية مثل التقاوي والسماد والماء - الذي يرفع بالآلات أو ينزل من السماء - ويدخل في أنشطتها أعمال عادية كاختيار السلالات الحيوانية الأصيلة أو المحسنة والقيام على علفها وترتبيها، وشتى أنواع الفواكه كالنخيل وما يتعلق بغرسه وعزقه وتنظيفه ثم تلقيحه وحصده وحفظ ثمره لحين الحاجة إليه اتقاء الشح في مصادر الغذاء أو درءً للمجاعات. وهذه أشياء يقوم بها الإنسان بفطرته وحسب حاجته ومعرفته سواء كان في مجتمع مسلم أو غيره. أولم يؤثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال، عندما سئل عن تأبير النخل "أنتم أدرى بشؤون دنياكم".


وهذا هو عين المثال الذي درج على أن يضربه لنا بعض المناوئين للدعوة الإسلامية الحديثة منذ وقت طويل وقد طالعتنا بها كتبهم ومقالاتهم وأحاديثهم واصطدمنا بها في مطلع شبابنا قبل ثلاثين عاما[1] عندما بدأت أعين بعض الشباب المؤمن تتفتح على بصيص من نور الصحوة الإسلامية وأخذوا يتحسسون خطاهم نحوه في ظلام دامس، ولقد كان من شأن مثل تلك الأقوال أن تثبط بعض الهمم وتدخل في بعض النفوس كثيرا من الحيرة والبلبلة.


وعليه فليس غريباً أن يطرأ للذهن، ولأول وهلة مثل هذه الهواجس التي تضطرنا للوقوف حيال هذا الموضوع وقفة فيها كثير من التروي والتمعن.


ولكن سرعان ما تبدد العيون عندما يتفكر المرء في الأمر ملياً ويتأمله في شيء من التعمق.


فعند ذلك تجد أنه قد انبلجت في وجهك آفاق مشرقة من ميادين المعرفة وتفتحت بين يديك سبل شتى من مسالك البحث وطرائقه. ومن ثم تصبح المشكلة الرئيسية التي يتعين عليك أن تواجهها هي الاجتهاد في كيفية لم شعثها وجمع شواردها وتوجيهها نحو الغاية المرجوة.

وضع السودان ومشكلاته الزراعية في الإطار العام المتقدم:
بما أن الموضوع الذي نحن بصدده هنا متشعب ومعرض إلى إثارة مسائل مبدئية وأساسية كالتي استهلت بها هذه الورقة فمن الصعب معالجته معالجة تقليدية ولذلك لم تكن هنالك مندوحة مما يشبه الاستطراد وعلى ذلك فإن الغرض الرئيسي من الفقرات المتقدمة كان التوكيد على أن للإسلام شأنا كبيرا بالمسائل العمرانية وبالتالي بالسياسة الاقتصادية ومن ثم بالسياسة الزراعية ومشاكلها كما يدل على ذلك المحتوى الفكري والروحي للإسلام وكما تشهد بواقعية الأبحاث التاريخية الحديثة عندما تقوم بالميزان السليم.


وقد بقى الآن أن نركز الضوء على السودان لكي يحتل محله من الإطار العام المتقدم، ثم نحصر البحث بعد ذلك فنوجهه إلى معالجة بعض المشكلات البارزة التي تكتنف نظامنا الزراعي، وفق الأسلوب الإسلامي، بعون الله تعالى.


وتطبيقاً للمنهج الذي سار عليه النقاش المتقدم فإن تحقيق هذا الهدف تحقيقا تاما كان يقتضي الرجوع إلى تاريخ السودان الحديث منذ نشأة الدولة الإسلامية على ربوعه (عام 1504 - 910هـ) عندما أجهز الحلف العربي الفونجي على دولة علوة المسيحية بقيادة شيخ عبدالله جماع وأنشئت كل من مملكة الفونج ومشيخة العبدلاب على أنقاض الدولتين النوبيتين المسيحيتين: علوة والمقرة، وإلى اليوم. وإذا ما أتيح لنا أن نستعرض ذلك التاريخ استعراضا دقيقا ومفصلا لعناصر النشاط الاقتصادي المختلفة وتطوراتها، لأمكننا كشف الجذور الإسلامية الصرفة لتراثنا الحاضر، ولما يزناها مما امتصته من بعض الأعراف والممارسات (والتقنيات) المحلية ولأمكننا حينئذ تتبع نموها وتطورها لمدة تزيد على ثلاثة قرون، وذلك قبل أن تداخلها بعض المؤثرات الخارجية القوية التي شابتها منذ التركية السابقة في القرن التاسع عشر ثم امتزجت بها وكادت تغرقها عندما تبلورت السياسة الزراعية البريطانية منذ أول القرن العشرين وإلى ما بعد الاستقلال بمنتصف الخمسينيات وهي السياسة التي ذكرنا فيما تقدم أنها توجت بإنشاء مشروع الجزيرة العظيم[2] والتي كونت لنا تراثا جديدا جعل من الصعب تمييز العناصر الإسلامية من غيرها عندما تقوم بالوصف التحليلي للوضع الاقتصادي والاجتماعي الراهن بهدف الوصول إلى تشخيص الأدواء التي تعاني منها ووصف الدواء الإسلامي الذي نعتقد أنه سيشفيه إن شاء الله.


غير أن تاريخ السودان الاقتصادي كله وخاصة من تلك الحقبة الأساسية، لا يزال أرضا بكرا - إن لم أقل مهملة - يحتاج لبحث علمي دقيق مضن حقا حتى نكشف عناصره كلها أو أغلبها وعلى ذلك فلا توجد لدينا الآن - للأسف - إلا شذرات بسيطة لا تكاد تسمن أو تغني من جوع لإيجاد حل جذري للقضايا العلمية المجردة التي تؤسس عليها معرفة حقيقية للمعلومات والمتغيرات الأساسية وكشف العلاقة فيما بين هذه المتغيرات وحتى نبني نموذجا معقولا، يصلح للوصف والتحليل ومن ثم للتنبؤ بالنتائج التي تقود إليها المعلومات أو وصف العلاج للمشاكل.


هذا، وحتى عندما توجد هذه النتف من المعلومات الاقتصادية نجدها مدفونة في خضم التاريخ السياسي لأن معالجتها لا ترد في الغالب إلا في سياق الدراسات العامة الموجهة أصلا إلى سرد الوقائع السياسية ولذلك فإن القدر المتاح من المعلومات الاقتصادية لا يشكل غير الحد الأدنى مما يتطلبه مثل هذا البحث.


وعليه فلا نستطيع في هذه العجالة أن نتقدم إلا بلمحة خاطفة نتوخى بها ربط الموضوع بصفة مؤقتة ريثما يهيئ الله من يقوم بهذه الدراسات المطلوبة.


ولعل أفضل مصدر نعتمد عليه في الوقت الضيق المتاح لهذا الغرض هو الدراسة الجيدة التي نال بها الأستاذ محمد صالح محيي الدين إجازة الماجستير[3] وقد استطاع فيها أن يضع الأمور في نصابها بالنسبة لمسألة هامة في تاريخ السودان طالما أساء فهمها الكتاب والمعلقون والرحالة الأجانب وخلطوا فيها خلطا مشينا ألا وهي مكانة مشيخة العبدلاب في التاريخ السياسي والثقافي للسودان والدور الذي لعبته في توطيد أركان اللغة العربية والدين الإسلامي في هذه البلاد، وبذلك وضعت هذه الدراسة الإطار العام الملائم الذي يمكن من خلاله الوصول إلى الأسلوب الأمثل لبحث التطورات الاقتصادية خاصة في ارتباطها بالشريعة الإسلامية الغراء والتي لا شك أنها كانت هي مصدر التشريع والإدارة وبالتالي كانت هي المحور الذي كانت تدور في فلكه السياسة الاقتصادية بجميع وجوهها. غير أن غاية ما نصبو إليه الآن هو الاقتصار على هذا المصدر الوحيد للاستئناس بطرف يسير من المسائل الاقتصادية التي تهمنا بالنسبة لتلك الحقبة حتى نخلص للوضع الذي نواجهه اليوم ولنتمكن من أن نفتح الباب مرة أخرى للاستفادة مما تقدمه الشريعة الإسلامية لعلاج مشاكلنا حتى يستأنف مجتمعنا المسيرة الإيمانية بإذن الله تعالى.


فمن ضمن استعراض هذا المؤلف للنظام المالي لمشيخة العبدلاب - ورغم الاقتضاب الشديد الذي وردت به - نلاحظ مجموعتين من التعابير التي نجد لها أهمية خاصة بالنسبة لهذا البحث[4].


أما المجموعة الأولى فتشمل التعابير العربية الشرعية للموارد المالية للدولة مثل: الخراج، الذي كان يدفعه مالك الأرض بسبب ملكيته لها، والزكوات المختلفة، مثل زكاة الفطر، وزكاة الأموال كالتجارة والماشية والتي كانت تتحصلها الدولة وعمالها، وبيت المال، الذي كانت تحصل فيه الضرائب المختلفة وتوزع منه على مستحقيها.


وأما المجموعة الثانية فهي التعابير الدارجية وبعض الألفاظ العربية التي اختلطت بالعامية السودانية والتي أصبحت ضمن تقاليد مجتمعنا ولغتهم حتى اليوم، وذلك مثل: "الكليفة" و"العادة" و"العانة" و"العلوف" و"السبع" و"خدمة العرب"[5].


وكل هذه تعبيرات سمعناها عند أهلنا ولا تزال مستعملة حتى اليوم في نفس الإطار المتعلق بجباية الضرائب، وبعضها في إجارة الأرض وهي لا تزال متداولة حتى اليوم رغم التعديلات التي طرأت على بعض معانيها وتطبيقاتها، وهو أمر عادي في تطور معاني الكلمات حسب التعبيرات التي تطرأ على المجتمع، مما لا يتسع المجال هنا للإفاضة فيه.


ومما لا شك فيه أن المجموعة الأولى هي نفسها التعابير المأخوذة من الشريعة الإسلامية ولنفس الغرض من غير أي تعديل، والواقع أن أغلبها كان متعلقا بالنشاط الزراعي أو التجارة في المنتجات الزراعية. ولا بد أن يشتمل أي بحث في التاريخ الاقتصادي للسودان على كيفية تطبيقها وتقنيتها وأثرها على الحياة الاقتصادية وتحولاتها مما كان عليه الوضع في البلاد قبل تطبيقها، وكذلك مدى تمسكهم بالنظام الإسلامي الصرف، ومدى تأثرهم بأفكار ومصطلحات المجتمعات التي امتصوا تقاليدها وهضموها حتى أصبحت جزءا من حضارتهم[6].


ومن الواضح أن هذه التعبيرات تشكل في جملتها مؤشرات هامة إلى أن المصدر الأساسي للنظام التشريعي الذي كان يحكم الممارسات في تلك الحقبة هو الشريعة الإسلامية، هذا من ناحية، أما من الناحية الأخرى التي تهمنا هنا بصفة خاصة فإنها تفيد ضمنيا أن هذا النظام الإسلامي أصبح جزءا أصيلا من تراث هذه الأمة حتى اليوم بتخلل جميع معاملاتها ويدخل في أساليب حياتها ويسيطر على تقاليدها وأعرافها وذلك رغم التفكك والاضمحلال الذي دب في أوصال الدولة المسلمة الأولى في السودان وفت من عضدها بمرور الزمن، ورغم الشوائب التي دخلت هذا التراث ورغم التأثيرات الغربية التي طغت عليه في الآونة الأخيرة.


ولعل أهم ما وصل إلينا من هذا التراث في المجال الذي يهمنا هنا هو الهيكل العام لملكية الأرض الزراعية، والذي ورد ضمنيا في ثنايا الإطار المتقدم للنظام المالي، كما جاء أيضا في عدد من المناسبات التي تعرض لها كتاب مشيخة العبدلاب سالف الذكر وذلك في سياق معالجته لبعض الجوانب المتعلقة بأهداف تلك الدراسة خاصة فيما يتصل بارتباط نظام ملكية الأرض بالنظام السياسي، كإقطاع الأرض بواسطة الحكام للأفراد والجماعات وكتصدقهم بها إلى بعض الأولياء والصالحين وما يتصل بذلك من أنواع الجبايات المتقدم ذكرها. ويلاحظ من هذا السياق أيضا لمحات واضحة - وإن لم تكن دائما صريحة - إلى العلاقات الاجتماعية التي تكيف استغلال الأرض كما تؤثر على توزيع ثمرتها بين الأفراد والمجموعات والدولة بمختلف مستوياتها وأعوانها، وكذلك نلاحظ الأعراف والقوانين الشرعية التي تحكم المعاملات المتعلقة بهذا الاستغلال والملكية كنظم الإجارة والمساقاة، والميراث والوقف والهبات وغيرها[7].


وسنلاحظ وشيكاً من هذه الورقة أن هذا النظام لملكية الأرض الذي تبلور في تلك الحقبة على تباينه في الأقاليم المختلفة[8] هو الذي وجده الإنجليز في بداية القرن الحالي وكل الذي فعلوه هو أن قننوه بأساليبهم الخاصة، كما سيجيء، وأصبح هو الركيزة الأساسية للسياسة الزراعية الحديثة بكل وجوهها في هذه البلاد، وذلك:
أولاً: لأن التنمية الزراعية[9] لن تنطلق من عقالها إن لم يكن نظام ملكية الأرض منذ البداية قابل للاستغلال الأمثل ولم يشكل عقبة كما حدث فعلا في العديد من البلدان التي تعطلت فيها التنمية وتعوقت حتى اجتاحتها ثورات جامحة، وأحيانا مدمرة حول ما يسمى بالإصلاح الزراعي، وهذا التعبير يعني في المقام الأول أن يجري تعديل أساسي وجوهري في نظام ملكية الأرض والحيازة الزراعية وذلك بالقدر الذي يعطي حافزا قويا وضمانا ثابتا للمزارع قبل أن يستثمر جهده وعرقه وماله في استصلاح واستغلال الأرض لكي تؤتي ثمرتها الاجتماعية القصوى وبذلك يتحقق الوفاء بالشرط الاقتصادي الأول للانطلاقة التنموية للمجتمع.


ثانياً: لم تكن هذه الثورة الإصلاحية بالمعنى المعروف ضرورية في هذه البلاد عندما واجه النظام الموروث الاختبار التنموي الذي وضع على كاهله لأنه من طبيعته ومن غير أي تعديل جوهري كان مهيأ لتلبية الحاجة إلى التنمية سواء كان من جانب تحفيز المزارعين أو لضرورات الموازنة بين المصلحة العامة والمصلحة الخاصة[10].


وقبل المضي قدما في سرد قصة هذا النظام من ملكية الأرض بوصف الطور الذي وجده عليه الإنجليز وكيف استطاعوا أن يستغلوا إمكانياته الضخمة[11] الكامنة فيه للاستفادة بها للسياسة الزراعية التي انتهجوها، فإنه من الخير أن ننعطف قليلا في شيء من الاستطراد وذلك لإلقاء نظرة سريعة إلى الجذور الأصلية لبعض أصول الأحكام المتعلقة بالأرض في الإسلام، حتى نربط هذا النظام بالمنهل الأصلي من السنة المحمدية المطهرة وبعض آثار السلف الصالح التي اعتمد عليها أسلافنا الذين أسسوا الدولة الإسلامية الأولى في هذه البلاد ووطدوا أركان هذا النظام من خلال تجربتهم الإسلامية الأصيلة التي حظيت بفترة طويلة من التطبيق والممارسة الحرة أضحى هذا النظام بفضلها عرفاً سائداً وتقليداً ثابتاً وتراثاً أصيلاً لهذه الأمة.


هذا، وبما أنه قد انتاب هذا النظام شيء من تبدل الأحوال لما أتى عليه حين من الدهر باعد بينه وبين روحه الأصيلة وخاصة إبان حكم التركية السابقة التي أعقبت عصوراً من التفكك، وأدخلت بعض الأساليب الأوربية السابقة للثورة الفرنسية في كثير من نظم الدولة في مصر ونقلت إلى السودان[12] فلا بد، والحالة هذه، من إلقاء نظرة خاطفة ضمن هذا الاستطراد إلى الجهد المكثف الذي بذله الإمام المهدي في الفترة الوجيزة في أواخر التاسع عشر، لإحياء هذا التراث وإعادته لمسيرته الأولى.


وكذلك عسى أن نجد من هذا الاستطراد قبسًا من ذلك النور نسترشد به في إصلاح ما فسد من هذا التراث حتى نؤسس انطلاقة إسلامية جديدة نحو آفاق المستقبل المشرق، وعلى هدى وبصيرة، بعون الله وتوفيقه.


فبما أن قضية امتلاك الأرض الزراعية وحيازتها واستغلالها والعلاقات التي تكتنف ذلك كله من بيع وشراء وتمويل[13] للإنتاج وتسويقه وميزات إلخ تشكل أول اهتمام لأي مجتمع مقبل على التنمية كما هو حالنا اليوم، فإن المجتمع الإسلامي الأول بقيادة الرسول صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين أولوها عناية كبيرة وتركوا لنا فيها آثارا عظيمة كانت هي النور الذي اهتدى به أسلافنا في أعظم عصورهم لما خلفوا لنا من آثار في هذا المضمار ولا زالت هي التي ينبغي أن نلجأ إليها لفهمها فهما صحيحا ثم نطبقها على مشكلاتنا التي تواجهنا اليوم.


هذا، ومن المعلوم أن الذي يريد أن يدرس هذه المسائل الشرعية لا بد أن يلم بالمذاهب المختلفة التي اقتدى بها المسلمون وقلدوها، كالمذهب المالكي - وكذلك الحنفي - في بلادنا، قبل أن نستطيع أن نقبل على تطبيق الشريعة تطبيقا سليما لا ينتابه زيغ ولا شطط. ولكن كان لا بد أن أكتفي في هذه العجالة بلمحة خاطفة لأضرب بها مثلا لأهمية اتباع منهج البحث في المصادر الأصلية واقترانها ببحث في تراثنا السوداني للاسترشاد به لمواجهة مشاكل اليوم والمستقبل، ومع إحساسي بالمزالق التي قد تكتنف مثل هذا الطريق لمن لم يؤت فيه سعة من العلم، وكثيرا ما يؤرقني وأنا أخوض في هذه المسائل، قول الله سبحانه وتعالى: ï´؟ وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا ï´¾ [الإسراء: 36].


ولكن في نفس الوقت أرجو أن أجد مخرجاٍ في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "ما يزال المرء عالما ما دام في طلب العلم، فإذا ظن أنه قد علم فقد جهل".


ولهذه الاعتبارات ولضيق الوقت اعتمدت على مصدر واحد أتيح بالصدفة وميزته الكبرى هو أنه من أقدم ما كتب في الموضوع، فمؤلفه معاصر للإمام البخاري، من أهل أواخر القرن الثاني الهجري (توفي سنة 224هـ) فهو لذلك بعيد كل البعد من التأثر بالأفكار التي نسميها حديثة مثل "الأرض لمن يفلحها" وغيرها من الشعارات، وإذا استخلصنا منه شيئاً من هذا القبيل لا ندخل بها في قائمة ما يسمى بالمعتذرين Apologetics ولهذا السبب لم ألجأ للإشارة للمراجع الحديثة التي تعج بها المكتبة العربية اليوم وتتوسع في الحديث عن هذه المسائل، وما أيسر ذلك.


فالمرجع الذي أنقل عنه الآن هو كتاب الأموال، لأبي عبيد بن سلام الذي سبقت الإشارة إليه[14] في هذه الورقة.


تجد في هذا الكتاب عرضا للأحكام التي طورت في صدر الإسلام أثناء المغازي والفتوحات الأولى وأثناء عملية استقرار وتطور المجتمع الإسلامي في المدينة وفي البلاد المفتوحة حينئذ. ويمكن أن تنظر إليها في مجموعتين وفي كلتيهما سلف صالح لما طبق في بلادنا في الماضي، ونلمح على الأقل من خلال بعض التعابير المستعملة في العهدين الصلة بينهما مما يساعدنا على الاستقراء والاستنتاج لما كان يحكم التفكير والتطبيق في العهد المتأخر.


أما المجموعة الأولى فتتعلق بفتح الأرضين صلحا أو عنوة واعتبارها لذلك إما فيئا أو غنيمة وغير ذلك، والسنن والأحكام التي شرعت تحت هذه الأبواب والقيود التي وضعت لها[15].


أما المجموعة العريضة الثانية فهي تتعلق بقضايا حيازة الأرض من غير فتح أو صلح ذلك بإقطاعها[16] وإحياء مواتها وحماها وما شابه ذلك.


فقد قال أبو عبيد: "وجدنا الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء من بعده قد جاءت افتتاح في الأرضين ثلاثة أحكام:
(1) أرض أسلم أهلها فهي لهم ملك أيمانهم وهي أرض عشر لا شيء عليهم فيها غيره، أي ليس عليهم في أرضهم إلا زكاة الخارج وهو العشر إذا كانت تسقى بماء السيح أو نصفه إن كانت تسقى بالسقاية".


(2) "وأرض افتتحت صلحا على خرج معلوم فهي ما صولحوا عليه لا يلزمهم أكثر منه".


(3) وأرض افتتحت عنوة، فهي التي اختلف فيها بعضهم" سبيلها سبيل الغنيمة، فتخمس[17] وتقسم، فتكون أربعة أخماسها خططا بين الذين افتتحوها خاصة ويكون الخمس لمن سمى الله تبارك وتعالى" وقال بعضهم "بل حكمها والنظر فيها إلى الإمام إن رأى أن يجعلها غنيمة فيخمسها ويقسمها كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر فذلك له، وإن رأى أن يجعلها فيئا فلا يخمسها ولا يقسمها ولكن تكون موقوفة على المسلمين عامة ما بقوا كما صنع عمر بالسواد".


أما حكم القسم ففعله الرسول صلى عليه وسلم في خيبر وإن كان بادي الأمر تركها لليهود يريدونها بمناصفة ثمرتها من النخيل والزروع، وفي خلافه أجلى اليهود إلى الشام وقسمها.


أما أرض السواد بالعراق (وكذلك مصر والشام) فقد ورد أن عمر استشار فيها فأشار عليه كل من علي بن أبي طالب ومعاذ بن جبل بأن لا يقسمها رغم الضغوط من بعض الصحابة الذين اشتركوا في الفتح أمثال بلال فعمل بمشورة علي ومعاذ "وذلك أن جعله فيئًا موقوفاً على المسلمين وما تناسلوا".


ولذلك تركها عند أصحابها "وضرب عليها الطسق" أي الخراج حيث فرض على كل "جريب" من الأرض درهما "وقفيزا" واختلف في مسألة وضع جعل على النخل[18].


وهنالك مناظر طويلة، خاصة بالنسبة لأرض السواد، لا سبيل في الخوض فيها هنا إلا أن هنالك مسألتين مهمتين لهذا السباق لا بد من الإشارة إليهما.


أما الأولى فتتعلق بحيثيات ما قرر في مسألة أرض العنوة - خيبر والسواد والحكم المستخلص منهما للاسترشاد به. يقول أبو عبيد إن "كلا الحكمين فيه قدوة ومتبع من الغنيمة والفيء، إلا الذي اختاره أن النظر فيه إلى الإمام" كما قال آخرون أشار إليهم مثل سفيان الذي ذكره، فالإمام له أن يتخير في العنوة بالنظر للمسلمين والحيطة عليهم بين أن يجعلها غنيمة أو فيئا" ويبدو لنا - والله أعلم - أن هذا هو الصواب والذي يمكن أن يؤخذ كسابقه. ولكن هنالك حجة قوية يعتمد عليها هذا الاستنتاج، حيث يقول المؤلف أن النبي صلى الله عليه وسلم عمل بآية من كتاب الله تبارك وتعالى واتبع عمر آية أخرى من كتاب الله وهما آيتان محكمتان. أما الأولى فهي آية الأنفال، وهي قوله تعالى: ï´؟ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آَمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ï´¾ [الأنفال: 41].


فهذه آية الغنيمة وهي لأهلها دون الناس وبها عمل النبي صلى الله عليه وسلم.


وأما الآيات المحكمات الأخرى فهي في سورة الحشر:

ï´؟ وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ * لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ï´¾ [الحشر 6 - 10].


فهذه آيات الفيء وبها عمل عمر وإياها تأول حين ذكر الأموال وأصنافها فقال: فاستوعبت هذه الآية الناس وإلى هذه الآية ذهب علي ومعاذ حين أشارا عليه بما أشارا، فيما نرى، والله أعلم" انتهى تعليق أبو عبيد.


أما المسألة الثانية فهي علاقة هذه الأحكام بما أدخله المسلمون في السودان وأصبح لنا تراثا، الأمر الذي ركزنا عليه في هذا البحث فيما أن التحالف الذي أنشأ أول دولة إسلامية حارب آخر دولة مسيحية ووضع مكانها حكما إسلاميا ونظما إسلامية فلا يعدو أن يكون أمرهم إما فتح عنوة أو صلحا أو مزيجا من الاثنين. والمهم أصبح الحاكم المسلم - سواء في مشيخة العبدلاب أو في مملكة الفونج - هو صاحب القرار في التصرف في الأرض ولذلك فإن كل أرض وأصبحت أرض مملوكة ملكا حرا أو وقعت عليها حيازة كانت بأمر من أوامر هؤلاء الحكام. وهناك إشارات كثيرة في كتب التاريخ والمخطوطات وتقاليد بعض العوائل أنهم عندهم وثائق من تلك الحكومات.


وهذه النقطة - لكي لا نضطر بتكرارها تنطبق بطبيعة الحال على الأراضي التي انطبق عليها إما أمر الصلح أو النوع الآتي من الامتلاك، كانت "يستخرجها المسلمون والتي" ليست من الفتوح ولها أحكام سوى ما سبق كما ذكر أبو عبيد، والتي سنخلص أمرها وشيكا والمهم هنا أن كل أنواع هذه الملكيات والحيازات طبقت عليها الحكومتان المذكورتان قواعد الشريعة الإسلامية بما في ذلك سلطة الحاكم في إقطاعها وتوزيعها وكذلك توريثها.


وإما أرض الصلح فقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالوفاء بالعهد للمصالحين بقوله صلى الله عليه وسلم "إنكم لعلكم تقاتلون قوما فيتقونكم بأموالهم دون أنفسهم وأبنائهم ويصالحونكم على صلح فلا تأخذوا منهم فوق ذلك فإنه لا يحل لكم".


هذا، وأما المجموعة الثانية فهي إحياء الأرضين واحتجازها ومشاكل الدخول على من أحياها فهنالك عدد من الأحاديث ينبني عليها هذا الجزء وهو سار عليها التطبيق وقت السلف الصالح، نورد بعض هذه الأحاديث هنا ونختم هنا بتعليق بسيط:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عادي الأرض لله ولرسوله ثم هي لكم.." قال قلت وما يعني قال تعطونها الناس".


"وعادي الأرض" - نسبة إلى عاد - وهي التي هجرها أهلها الذين بادوا وأصبحت ليس لها صاحب. فهي للمصلحة العامة وللإمام يتصرف فيها وفق هذه المصلحة.


يتبع






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 43.48 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 42.85 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.44%)]