عرض مشاركة واحدة
  #9  
قديم 12-04-2019, 12:40 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,332
الدولة : Egypt
افتراضي رد: علم أصول الفقه وأثره في صحة الفتوى

علم أصول الفقه وأثره في صحة الفتوى(4-5)
د.عبدالرحمن بن عبدالعزيز السديس




الفصل الثالث


الدلالات وأثرها في صحة الفتوى

وفيه تمهيد وثلاثة مباحث:




التمهيد: وفيه التعريف والأهمية.

المبحث الأول:أنواع الدلالات من حيث الاستعمال في المعنى الحقيقة والمجاز.

المبحث الثاني:أنواع الدلالات باعتبار منطوقها ومفهومها.

وفيه مطلبان:

المطلب الأول: دلالة المنطوق.

المطلب الثاني: دلالة المفهوم.

المبحث الثالث: منطوقات الدلالات باعتبارات أخرى.

وفيه مطلبان:

المطلب الأول: النص، والظاهر، والتأويل، والمجمل، والمبيَّن.

المطلب الثاني: الأمر والنهي، والعام والخاص، والمطلق والمقيد.



تمهيد:وفيه التعريف والأهمية:


تعريف الدلالات: هي في اللغة: جمع دلالة بفتح الدال وكسرها، وتطلق على معان أقربها هو "الإرشاد" [1] وعُرِّفت في الاصطلاح بأنها: "كون الشيء يلزم من فهمه فهم شيء آخر" [2].

والدلالات التي عُقِد لها هذا الفصل هي دلالات ألفاظ الكتاب والسنة من حيث استعمالها في المعاني، وباعتبار منطوقاتها ومفهوماتها، وباعتبار مدلولاتها، ومقتضيات أحوالها، وما ترمي إليه من استنباط الأحكام الشرعية، وكيفيات استثمار هذه الأحكام، واقتباسها من أصولها، واجتنائها من أغصانها. وهذا على حد تعبير الإمام الغزالي "عمدة أصول الفقه" [3]؛ لأنه مهمة المجتهدين، وميدان سباقهم واستبحارهم، ذلك؛ لأن تفسير نصوص الكتاب والسنة والاستدلال بمقتضيات ألفاظهما في الأحكام الشرعية متوقف على فقه هذه "الدلالات". فلها - من أجل هذا - أثرٌ بارز في صحة الفتوى. ككون هذا اللفظ في هذا السياق أريد به أيٌّ من استعمالاته؟ وككون الأمر متى أطلق انصرفت دلالته إلى الوجوب، ما لم تدل مقتضيات القرائن على غيره، ولا يُفتى بدليل عام له مخصص، وهكذا...

وهذه الدلالات اللفظية بمختلف أنواعها من أهم مباحث علم الأصول التي تعتمد على معرفة أساليب البيان في اللغة العربية. وفي هذا المعنى يقول الإمام الشافعي رحمه الله: "فإنما خاطب اللهُ بكتابه العربَ بلسانها على ما تعرف من معانيها، وكان مما تعرف من معانيها اتساع لسانها... إلخ"، وذكر رحمه الله في هذا السياق أحوال العام، والخاص، والظاهر، وأن العرب " تُسمِّي الشيء الواحد بالأسماء الكثيرة، وتسمِّي بالاسم الواحد المعاني الكثيرة"... وأن كل ذلك هو ما ألفته العرب من كلامها [4].

وهذه الدلالات لابد من معرفتها لكل متصدرٍ للفتوى، حتى لا يخلط بين العمومٍ والخصوص، والمطلقٍ والمقيد، والأوامر والنواهي، وحتى لا يفتي في أمرٍ يدل على الاستحباب فيوقعه موقع الواجب، ولا في نهي يدل على الكراهة فيوقعه موقع التحريم، وكذلك في المنطوقات والمفاهيم بأنواعها، مثل مفهوم الصفة في قوله صلى الله عليه وسلم:"وفي صدقة الغنم في سائمتها"[5] يخرج بمفهومه المعلوفة، ومثله المجمل والمبين كما في قوله تعالى:﴿وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ﴾ [الأنعام:141]، ونحو ذلك مما يؤكد أهمية معرفة هذه الدلالات، حتى لا يقع اللبس في الأحكام[6].

وبعد هذا التمهيد وأهمية معرفة الدلالات للمفتي أوجز الحديث عنها في ثلاثة مباحث، هي:

المبحث الأول: أنواع الدلالات من حيث الاستعمال في المعنى الحقيقة والمجاز.

المبحث الثاني: أنواع الدلالات باعتبار منطوقها ومفهومها، وفيه مطلبان:

المطلب الأول: دلالة المنطوق.

المطلب الثاني: دلالة المفهوم.

المبحث الثالث: منطوقات الدلالات باعتبارات أخرى، وفيه مطلبان:

المطلب الأول: النص، والظاهر، والتأويل، والمجمل، والمبيَّن.

المطلب الثاني: الأمر والنهي، والعام والخاص، والمطلق والمقيّد.

المبحث الأول


أنواع الدلالات من حيث الاستعمال في المعنى الحقيقة والمجاز


فالحقيقة اصطلاحًا هي: استعمال اللفظ في معناه الأصلي الذي وضع له [7]. وللحقيقة أقسام ثلاثة: لغوية وشرعية وعرفية، فإن بقي استعمال اللفظ على وضعه اللغوي؛ فحقيقته وضعية لغوية، كلفظ الدابة في كل ما يدب على الأرض. وإن غير استعمال اللفظ من قبل الشرع؛ فحقيقته شرعية، كلفظ الصلاة، والصيام، والحج، فيراد بها عند إطلاقها تلك العبادات المعروفة، لا أصل وضعها اللغوي. وإن غير استعمال اللفظ بموجب العرف؛ فحقيقته عرفية كاستعمال لفظ الدابة في العرف لذوات الأربع فقط. وألفاظ الكتاب والسنة تحمل على الحقيقة الشرعية، فإن تعذر ذلك فعلى الحقيقة العرفية، فإن تعذر ذلك فعلى الحقيقة اللغوية [8]. والمجاز هو: استعمال اللفظ في غير ما وضع له أصلا؛ لقرينة مانعة من إرادة المعنى الحقيقي، كقوله تعالى: ﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ﴾ [الإسراء: 24]. وقد اختلف العلماء في وقوعه، فذهب الجمهور إلى أنه واقع في اللغة العربية التي بها نزل القرآن الكريم، وبها تكلم النبي صلى الله عليه وسلم ، وصحابته الكرام.

قال ابن قدامة: " والقرآن يشتمل على الحقيقة والمجاز، وهو اللفظ المستعمل في غير موضوعه الأصلي على وجه يصح... " [9]. ومع ذلك؛ فإن فحولا من العلماء قالوا بمنع وقوع المجاز في اللغة العربية، ومنهم من منعه في القرآن الكريم، أو في الأسماء والصفات خاصة، والظاهر أن هذا خلاف في الاصطلاح والتسمية، ولا مشاحة في هذا؛ لأن من منع من وقوع المجاز سماه أسلوبًا من أساليب العرب. ويظهر أن المانعين له في القرآن الكريم أو في الأسماء والصفات خاصة إنما منعوه سدًّا للذريعة حتى لا يتجرأ الناس على التأويل في الأسماء والصفات بدعوى المجاز[10].

وقصارى القول: أن يُعلم أن بيان الشرع لألفاظ الكتاب والسنة مقدم على كل بيان، فالواجب الرجوع إلى بيان الشرع وحدوده لهذه الألفاظ، وحملها على بيانه صلى الله عليه وسلم ، وعلى بيان صحابته الكرام وعلى عادات عصره صلى الله عليه وسلم ، وعلى اللغة، والعرف السائدين وقت نزول الخطاب، ولا يصح حملها على ألفاظ حدثت فيما بعد أو اصطلاحات وضعها المتأخرون من أهل الفنون، كما أن الواجب مع ذلك مراعاة السياق، ومقتضيات الأحوال، والنظر في قرائن الكلام [11]. وبهذا يظهر أثر الاستعمال الصحيح لألفاظ الكتاب والسنة من حيث الحقيقة والمجاز في صحة الفتوى.

ولما لتغير الألفاظ والاصطلاحات من أثر عليها، ومن هنا فإن على المفتي معرفة الألفاظ من حيث حقيقتها ومجازها وربط الفتوى بذلك، حتى يصيب الحكم الشرعي الصحيح.

المبحث الثاني


أنواع الدلالات باعتبار منطوقها ومفهومها.




وفيه مطلبان:



المطلب الأول: دلالة المنطوق.


دلالة المنطوق هي: ما دلّ عليه اللفظ في محل النطق به [12].

والمنطوق نوعان:

أ ـ صريح، وهو: دلالة اللفظ على الحكم بطريق المطابقة، أي على تمام ما وضع له، أو بطريق التضمن، أي على جزء ما وضع له.

وهو ما يعرف عند الحنفية بـعبارة النص. كقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} [البقرة: 275]، حيث دلّ هذا النص بمنطوقه الصريح على جواز البيع وتحريم الربا دلالة مطابقة.

ولدلالة الإنسان على الحيوان فقط، أو على الناطق فقط دلالة تضمن [13].

ب ـ غير صريح، وهو: دلالة اللفظ على لازم معناه بطريق الالتزام، فهذه هي الدلالة الالتزامية، وتنقسم إلى ثلاثة أقسام:

1- دلالة الاقتضاء، وهي: عبارة عن ورود اللفظ على صفة يتوقف في صدقه، أو صحته على إضمار.

كقوله عليه الصلاة والسلام: "إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان"[14]فإن الخطأ والنسيان لا يرتفعان بحكم الواقع.

وكلامه صلى الله عليه وسلم يجل عن الخلف، فيتعيَّن هاهنا إضمار "حكم" أو "إثم" أي: رفع حكم الخطأ، أو إثمه.

2- دلالة الإشارة، وهي: أن يدل اللفظ على ما ليس مقصودًا به في الأصل؛ ولكنه لازم للمقصود. كدلالة قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187] على صوم من أصبح جنبا.

3- دلالة الإيماء والتنبيه، وهي: أن يقترن بالحكم وصف لو لم يكن تعليلاً لهذا الحكم؛ لكان في ذكره حشوٌ لا فائدة فيه، وذلك ما تُنزه عنه ألفاظ الشارع. كقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]، فلو لم تكن السرقة تعليلاً للقطع؛ لكان الكلام معيبًا عند العقلاء.

وقد أدرج بعضهم الدلالة الالتزامية بأقسامها في المفهوم [15].

المطلب الثاني: دلالة المفهوم.


وهي: المستفادة من اللفظ لا من حيث النطق به [16].

وتنقسم إلى قسمين: مفهوم الموافقة ومفهوم المخالفة.

فدلالة مفهوم الموافقة هي: دلالة اللفظ على ثبوت حكم المنطوق للمسكوت عنه نفيًا وإثباتا. وهي "دلالة النص" عند الحنفية [17]. فإن كان المفهوم المسكوت عنه أولى بالحكم من المنطوق، فتسمى فحوى الخطاب. كدلالة {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] على أن حرمة ضربهما أولى بالتحريم. وإن كان مساويا للحكم المنطوق، فتسمى لحن الخطاب. كدلالة {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً} [النساء: 10] على تحريم إحراق أموالهم؛ لأنه مساوٍ للأكل المنطوق في التحريم.

وذهب بعض الأصوليين إلى أن دلالة مفهوم الموافقة قياسًا جليًا فتكون دلالته قياسية [18].

وقد أجمع العلماء على الاحتجاج بدلالة مفهوم الموافقة والفتوى بمقتضاها. وإنكار بعضهم لها - كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -: "من بدعهم التي لم يسبقهم بها أحدٌ من السلف" [19].

ودلالة مفهوم المخالفة هي: دلالة اللفظ على ثبوت حكم للمسكوت عنه مخالف لما دل عليه المنطوق؛ لانتفاء ما يعتبر في الحكم من القيود، ويسمى - عند الجمهور القائلين به - دليل الخطاب؛ لأن الخطاب دالٌّ عليه، وتنبيه الخطاب[20]. واعتبر الحنفية التمسك به من التمسكات بالنصوص بوجوه فاسدة [21].

ويتنوع مفهوم المخالفة إلى أنواع متعددة أذكرها حسب ترتيبها في القوة: فأقواها مفهوم الحصر بأداة النفي والإثبات، نحو: لا إله إلا الله، إذ قيل: إنه منطوق صراحة، فمفهوم الحصر بإنما ومفهوم الغاية، حيث قيل: إنهما منطوقان بالإشارة، وهو قول ضعيف، فمفهوم الشرط، فمفهوم الوصف المناسب للحكم، فمفهوم الوصف الذي لم تظهر له مناسبة، فمفهوم العدد، وأنكره قومٌ من القائلين بمفهوم "الوصف" الذي قبله، فتقديم المعمول؛ لأنه يفهم منه الحصر، وأضعفها مفهوم اللقب، وجمهور العلماء على أن اللقب لا مفهوم له [22]، وفائدة سردها حسب قوتها تقديم الأقوى عند التعارض [23].

وقد ذهب الجمهور إلى الأخذ بدلالة مفهوم المخالفة والفتوى بمقتضاها من حيث الجملة؛ لكن بشروط منها: ألا يكون القيد خرِّج للغالب، وألا يكون لبيان الواقع، وألا يكون للامتنان، وألا يكون للتوكيد، وألا يكون جوابًا على سؤال مقيد به، أو حادثة تتعلق به، وألا يكون القيد بسبب الخوف أو نحوه كالجهل[24]. والضابط لهذه الشروط وما في معناها ألا يظهر لتخصيص المنطوق فائدة غير نفي الحكم عن المسكوت عنه[25].

المبحث الثالث


منطوقات الدلالات باعتبارات أخرى




وفيه مطلبان موجزان:



المطلب الأول: النص، والظاهر، والتأويل، والمجمل، والمبيَّن.


فالنص في اصطلاح الأصوليين: ما لا يحتمل إلا معنى واحدًا فقط، ولا يتطرق إليه تأويل، كقوله تعالى: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة: 196]. والنص هنا هو الذي في مقابلة الظاهر والمجمل[26]. ودلالته على معناه دلالة قطعية وتتعين الفتوى بها، ولا يجوز العدول عنها إلا بناسخ[27].

والظاهر في اصطلاحهم هو: اللفظ الذي يحتمل معنيين أو أكثر، أحدهما أو أحدها أرجح مع تجويز غيره [28].

ودلالته على معناه دلالة ظنية راجحة، سواء أكانت هذه الدلالة ناشئة عن الوضع اللغوي، كدلالة العام على جميع أفراده، كالأسد فإنه موضوع للحيوان المفترس، أم عن العرف الشرعي الخاص، كالصلاة في عرف الشرع فإن الظاهر أنها المفتتحة بالتكبير المختتمة بالتسليم، أم عن العرف العام، كلفظ الدابة، فإن الظاهر أنها ما يمشي على أربع. ودلالة الظاهر عند الجمهور يجب الفتوى بمقتضاها، ولا يعدل عنها إلا بدليل مرجِّح، أو بتأويل صحيح [29].

والإمام الشافعي رحمه الله قد يسمي الظاهر نصًا في مجاري كلامه؛ لأن النص من الظهور، وهذا باعتبار الوضع اللغوي، لا باعتبار "الاصطلاح" [30].

والتأويل في الاصطلاح المشهور عند الأصوليين: حمل الظاهر على المحتمل المرجوح بدليل يصيِّره راجحًا [31]. فهذا هو حدّ التأويل الصحيح الذي تكون دلالته معتبرة، فإن قرُب التأويل لقرينة تدل عليه، كفى أدنى مرجِّح، نحو قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [المائدة: 6]، أي إذا أردتم القيام إليها، وإن بعُد لعدم قرينة تدل عليه افتقر إلى مرجِّح أقوى، وإن عُدِم الدليل المرجِّح، أو كان متخيَّلا وجب ردّ التأويل؛ لأنه حينئذٍ فاسدٌ متخيَّلٌ مظنون؛ لما فيه من تعطيل النصوص عن ظواهرها بلا حجة قائمة. كتأويل قوله صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما في زكاة الغنم "في كل أربعين شاةً شاةٌ"[32] على إرادة قيمتها [33].

المجمل والمبيَّن - بفتح الياء -:

فالمجمل في اصطلاح الأصوليين : "ما تردّد بين مُحْتَمَلَيْنِ فأكثر على السواء" [34].

والمجمل واقع في الكتاب والسنة [35].

ويكون الإجمال في حرف كالواو المترددة بين العطف والاستئناف في قوله تعالى: {وَالرَّاسِخُون� � فِي الْعِلْمِ} [آل عمران: 7]، وفي اسم كالقرء المتردد بين الحيض والطهر، وفي مركّب كقوله تعالى: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237]، فإنه متردد بين الوليّ، والزوج، ويكون الإجمال لأسباب أخرى.

ودلالة المجمل دلالة غير واضحة؛ لعدم تَعيُّن المراد منه، فلا تجوز الفتوى ولا العمل بأحد محتملاته إلا بدليل خارجٍ عن لفظه مُبيِّنٍ للمراد به [36].

والمبيَّن - بفتح التحتية المثناة -: إخراج الشيء من حيِّز الإشكال والغموض إلى حيِّز التجلِّي والوضوح.

فهو بهذا التعريف المشهور عند الأصوليين خاص بما يقابل المجمل [37].

ويكون بيان المجمل بقول الله تعالى، أو بقول رسوله صلى الله عليه وسلم. وبفعله صلى الله عليه وسلم ، وبكتابته، وإشارته، وإقراره، وسكوته، وتركه. ويدخل في هذا تخصيص العموم، وتقييد المطلق [38].

قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله [39] في مقدمة "أضواء البيان": "واعلم أن التحقيق جواز بيان المتواتر من كتاب أو سنة بأخبار الآحاد، وكذلك يجوز بيان المنطوق بالمفهوم... " [40] والله أعلم.

المطلب الثاني: الأمر والنهي، والعام والخاص، والمطلق والمقيد.


1- الأمر والنهي:

فالأمر هو: "استدعاء الفعل بالقول على وجه الاستعلاء" [41].

وله أربع صيغ دالة عليه:

الأولى: فعل الأمر، نحو: {أَقِمِ الصَّلاةَ} [الإسراء: 78].

الثانية: الفعل المضارع المجزوم بلام الأمر، نحو: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63].

الثالثة: اسم فعل الأمر، نحو: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} [المائدة: 105].

الرابعة: المصدر النائب عن فعله، نحو: {فَضَرْبَ الرِّقَابِ} [محمد: 4].

فالكلام النفسي، ونحوه كالإشارة لا تصح دلالته على الأمر بمقتضى الكتاب، والسنة، واللغة، والصرف [42].

وصيغ الأمر المطلقة المتجردة عن القرائن دلالتها تقتضي الوجوب عند السلف، وجمهور الأمة. وتحقيق هذا -كما تدل عليه ظواهر النصوص- يقتضي الفورية والمبادرة. فإذا اقترنت بها قرائن حملت - أي صيغ الأمر - على ما تقتضيه هذه القرائن من وجوب، أو ندب، أو إباحة، أو فورية، أو تراخٍ، أو غير ذلك بلا نزاع [43].

والذي يظهر - والله أعلم - أن دلالة الأمر - المجرد من القرائن الحالية والمقالية الصارفة عن الوجوب - على الوجوب قطعية، وقد تزداد هذه القطعية بالقرائن المؤيِّدة للوجوب [44].

وأما النهي: فعلى وزان الأمر على العكس، فلا حاجة إلى التكرار إلا في اليسير. كما قال ابن قدامة في "روضة الناظر" [45].

ويكون بصيغة "لا تفعل" [46] نحو: {لا تَأْكُلُوا الرِّبا} [آل عمران: 130] أو بما يجري مجراها [47].

ودلالة النهي على التحريم حقيقية ظاهرة إلا مع القرائن والمعاني الصارفة.

فإن تجرد النهي عن المعاني والقرائن فهو للتحريم حقيقة عند الأئمة الأربعة وغيرهم [48].

ومع القرائن تحمل دلالة النهي على مقتضى هذه القرائن، ككراهة، ونحوها .

والمشهور عند الجمهور أن دلالة النهي تقتضي التكرار والفورية عند
انعدام القرائن [49]. والظاهر أن دلالة النهي المجرد على التحريم قطعية، وهذا لا ينافيه مجرد الاحتمال. وتزداد هذه القطعية بالقرائن المقويِّة للتحريم. وهذا يقابل ما تقدم في نوع
دلالة الأمر [50].


والنهي يقتضي الفساد بلا خلاف، إن كانت له جهة واحدة كالزنا، وشرب الخمر. وإن كانت له جهتان هو من إحداهما مأمور به، ومن الأخرى منهي عنه، فإن انفكت جهة الأمر عن جهة النهي لم يقتض الفساد اتفاقًا، وإن لم تنفك عنها اقتضاه؛ ولكن اختُلِف في انفكاك الجهة ما هو؟ ومن ثَمَّ وقع الخلاف في تصويره، كالخلاف في الصلاة بثوب حرير، وفي الأرض المغصوبة [51].

2- العام والخاص:

فالعام في اصطلاح الأصوليين هو: "اللفظ المستغرق لجميع ما يصلح له، بحسب وضع واحدٍ، دفعة، بلا حصر" [52]. ويخرج المشترك، والمطلق.

وللعموم ألفاظ دالة عليه وهي:

1- كل، وجميع.

2- الأسماء الموصولة، وأسماء الشرط، وأسماء الاستفهام. من المبهمات، وما تعتبر فيه "أل" من الموصولات الاسمية نحو: {وَالسَّارِقُ... }[المائدة: 38].

3- النكرة في سياق النفي، أو النهي، أو الشرط.

4- الجمع المعرّف "بأل" غير العهدية، ويشمل كل ما هو من باب الجمع، واسم الجمع، واسم الجنس الجمعي.

5- المفرد المحلى "بأل" التي لاستغراق الجنس، نحو: {إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر: 2].

6- المضاف إلى المعرفة.

فهذه الألفاظ كلها موضوعة للعموم عند الجمهور، وخلاف المخالف في هذا ضعيف لا يعول عليه؛ لإجماع الصحابة على ذلك، حيث كانوا يأخذون عمومات الكتاب والسنة بدون طلب دليل على العموم، إنما يطلبون دليل الخصوص؛ ولأن هذا هو مقتضى استعمال اللغة العربية التي بها نزل القرآن الكريم [53].

والعام ثلاثة أنواع، فهو إما: عام يراد به العموم قطعًا، فدلالة هذا على جميع أفراده دلالة قطعية؛ لأن معه قرينة تنفي احتمال تخصيصه، كقوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6]. فالمراد كل دابة دون استثناء، فهو عام لا خاصٌّ فيه البتة. وإما عام يراد به الخصوص قطعًا، فدلالته على بعض أفراده دلالة قطعية، وتسميته عامًا من باب المجاز، حيث دلّت قرينة تنفي بقاءه على عمومه، كقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران: 97]، فهذا عام مخصوص بالمكلفين، حيث دلَّت قرينة شرعية على عدم إرادة الصبيان والمجانين. وإما عام مطلق لم تصحبه قرينة تدل على عمومه أو خصوصه. ودلالة هذا على أفراده عند أكثر الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة دلالة ظنية. ومذهب جمهور الأصوليين [54] في هذا النوع وجوب حمل ألفاظه على عمومها، ووجوب اعتقاد ذلك، والعمل به من غير توقف على البحث عن المخصص، فإن اطلع على مخصص عمل به. ويجب العمل فيما بقي من أفراد لفظ هذا العام بعد التخصيص[55].

والخاص : "قصر العام على بعض أفراده" [56].

واتفق الجمهور على جواز تخصيص العام بدليل مقبول يجب الرجوع إليه.وأدلة التخصيص عند الجمهور هي المخصصات المتصلة والمنفصلة. فالمتصلة هي: الاستثناء، والشرط، والصفة، والبدل، والغاية. والمنفصلة هي: الحس، والعقل، والإجماع، والنص من كتاب أو سنة، وقول الصحابي إن كان له حكم الرفع، والعرف القولي، والمفهوم، والقياس.هذا من حيث الجملة، وثَمَّت أحكامٌ وتفاصيل وتقاسيم لهذه المخصصات... [57].

وحيث إن التخصيص بيان؛ فلا يشترط في أدلته أن تكون مساوية أو أقوى. فالتحقيق أن المتواتر قرآنًا أو سنة يخصص بالآحاد، وأن القطعي الدلالة يخصص بظنيِّها[58].

قال العلامة الأصولي سيدي عبد الله بن الحاج العلوي [59] في منظومة "مراقي السعود":

يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 35.40 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 34.77 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.77%)]