عرض مشاركة واحدة
  #7  
قديم 12-04-2019, 12:34 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,689
الدولة : Egypt
افتراضي رد: علم أصول الفقه وأثره في صحة الفتوى

علم أصول الفقه وأثره في صحة الفتوى(3-5)
د.عبدالرحمن بن عبدالعزيز السديس




المبحث الخامس:الاستدلال وأثره في صحة الفتوى


وفيه تمهيد وخمسة مطالب:

تمهيد:

للاستدلال في إطلاق الفقهاء إطلاقان، عام وهو: إقامة الدليل مطلقا، وخاص وهو المراد هنا، وهو: نوع خاص من الأدلة غير الأربعة المتفق عليها، الكتاب والسنة والإجماع والقياس، على خلاف في تقييد القياس وإطلاقه [111].

والكلام فيه بهذا الاعتبار الأخير - كمنهج مسلوك للاستنباط والبحث عن الدليل والاهتداء إليه - يشمل الكلام عن الأدلة المختلف فيها؛ لأنها أنواع وأفراد من الاستدلال، وقد عنون غير واحد من الأصوليين لغير المتفق عليه من الأدلة "بالاستدلال" [112]، وهو بهذا الإطلاق الخاص اصطلاح حادث لدى متأخري الأصوليين [113]... وقد أخذ هذا المصطلح في التقدم وفي التطور الدلالي، وأطال متأخروا الأصوليين البحث في حقيقته، وبيان معناه، وأنواعه، وطبيعته باعتباره دليلاً مستقلاً [114]... الأمر الذي يتضمن توضيحًا لتلك الاختلافات حوله، وهي اختلافات تحركها اختيارات ومآخذ مذهبية، أو اعتبارات منطقية استدلالية... ويحركها كونها منتزعة من موارد ومشارب متعددة من الشريعة في منقولها ومعقولها، ومقاصدها، وفي كلياتها المأخوذة منها بالاستقراء والتتبع...

لذا؛كان الاستدلال أحد المظاهر التي تتجلى فيها خصوصية الاجتهاد، وتتجلى في تشخيصه مع تحري موافقة ما تقتضيه مقاصد الشريعة صحةُ الفتوى.

يقول تاج الدين ابن السبكي: "واعلم أن علماء الأمة أجمعوا على أنَّ الاستدلال دليلٌ شرعي غير ما تقدم يعني الأربعة الأدلة المتفق عليها واختلفوا في تشخيصه... وهو يعني الاستدلال شيء قاله كل إمام بمقتضى تأدية اجتهاده، فكأنّه اتّخده دليلا، وهذا معنى مليح في سبب تسميته بالاستدلال... " [115] ومهما يكن من الاختلاف في تشخيص "الاستدلال"؛ فإن مراعاة معقولات النصوص، ومستنبطاتها، ومعانيها، وعللها، وما ترمي إليه المقاصد والكليات الشرعية أمورٌ هي محل اتفاق، سيما إذا حرر محل النزاع. وعند ذلك؛ فالخلاف في المسميات لا يضر إذا روعيت الحقائق...! وبهذا يظهر أثر "الاستدلال" وتشخيصه في صحة الفتوى.

وللاستدلال أنواع كثيرة [116] لكن مسائل بعضها متداخلة.

لذا فسأقتصر في هذا المبحث على خمسة منها في المطالب الآتية:

المطلب الأول: الاستدلال بالاستصحاب.

المطلب الثاني: الاستدلال بالمصلحة المرسلة.

المطلب الثالث: الاستدلال بالاستحسان.

المطلب الرابع: الاستدلال بسد الذرائع وبإبطال الحيل.

المطب الخامس: الاستدلال بالعرف والعادة.

المطلب الأول: الاستدلال بالاستصحاب:


ومعناه: أن ما ثبت في الزمن الماضي فالأصل بقاؤه في الزمن المستقبل [117]، وهو معنى قولهم: الأصل بقاء ما كان على ما كان حتى يوجد المزيل، فمن ادعاه فعليه البيان، كما في الحسيّات أن الجوهر إذا شَغَل المكان يبقى شاغلاً إلى أن يوجد المزيل، مأخوذ من المصاحبة، وهو ملازمة ذلك الحكم ما لم يوجد مغيِّر، فيقال الحكم الفلانيّ قد كان، فلم نظنّ عدمه، وكل ما كان كذلك، فهو مظنون البقاء[118].

وللاستصحاب أنواع:

النوع الأول: استصحاب البراءة الأصلية، أو العدم الأصلي المعلوم بدليل العقل في الأحكام الشرعية قبل ورود السمع، فالأصل براءة الذمة من التكاليف الشرعية والحقوق المالية حتى يدل دليل شرعي على شغلها، كالحكم بعدم وجوب صلاة سادسة، وكالحكم بعدم الدين على من ادعى عليه ذلك.

وهذا النوع لا خلاف في اعتباره بشروط معينة[119].

بل عده ابن قدامة رحمه الله رابع الأدلة المتفق عليها[120].

النوع الثاني: استصحاب دليل الشرع، وله فرعان:

الأول: استصحاب عموم النص حتى يرد تخصيص.

الثاني: استصحاب العمل بالنص حتى يرد ناسخ.

واختلف في تسمية هذا "استصحابا"، ولا نزاع في صحته[121].

النوع الثالث: استصحاب حكم الإجماع في محل النزاع.

قال ابن قدامة رحمه الله: «ليس بحجة في قول الأكثرين»[122]، مثاله: أن يقول في المتيمم إذا رأى الماء في أثناء الصلاة: الإجماع منعقد على صحة صلاته ودوامها، فنحن نستصحب ذلك حتى يأتينا دليل يزيلنا عنه[123].

وهناك قواعد مبنية على الاستصحاب يستعان بها في صحة الفتوى، وهي:

1- أن الأصل بقاء ما كان على ما كان حتى يثبت ما يغيره.

2- أن الأصل في الأشياء الإباحة.

3- أن الأصل في الذمة البراءة من التكاليف والحقوق.

4- أن اليقين لا يزول بالشك[124].

ولمعرفة الاستصحاب والرجوع إليه عند عدم الدليل أهمية كبرى للمفتي، حتى يصيب الحكم الصحيح.

وفي رجوع المفتي إلى الاستصحاب والبراءة الأصلية عند عدم الدليل، يقول الآمدي رحمه الله: "لو لم يظفر المفتي في الواقعة بدليل ولا خبر الواحد، فإنه لا يمتنع خلو الواقعة عن الحكم الشرعي والمصير إلى البراءة الأصلية"[125].

ويقول الشوكاني: "وهو آخر مدار الفتوى: فإن المفتي إذا سئل عن حادثة يطلب حكمها في الكتاب ثم في السنة ثم في الإجماع ثم في القياس، فإن لم يجده، فيأخذ حكمها من استصحاب الحال في النفي والإثبات، فإن كان التردد في زواله، فالأصل بقاؤه وإن كان التردد في ثبوته، فالأصل عدم ثبوته" انتهى[126].

وجاء في المسودة: "معرفة المفتي الأصل ينبني عليه استصحاب الحال من حظر أو إباحة أو وقف. عندما لا يجد المفتي دليلاً ويأخذ باستصحاب الحال، فينبغي أن يعرف الأصل الذي ينبني عليه استصحاب الحال من حظر أو إباحة أو وقف، قال ابن عقيل: من شروط المفتي أن يعرف ما الأصل الذي ينبني عليه استصحاب الحال، هل هو الحظر أو الإباحة أو الوقف؛ ليكون عند عدم الأدلة متمسكًا بالأصل إلى أن تقوم دلالة تخرجه عن أصله"[127].

وقال القاضي [128]: "واعلم أنه لا يجوز إطلاق هذه العبارة؛ لأن من الأشياء ما لا يجوز أن يقال أنها على الحظر، كمعرفة الله تعالى ومعرفة وحدانيته، ومنها مالا يجوز أن يقال أنها على الإباحة: كالكفر بالله والجحد له، والقول بنفي التوحيد، وإنما يتكلم في الأشياء التي يجوز في العقول حظرها وإباحتها: كتحريم لحم الخنزير وإباحة لحم الأنعام، وتتصور هذه المسألة في شخص خلقه الله فى برية لا يعرف شيئا من الشرعيات، وهناك فواكه وأطعمة، هل تكون الأشياء فى حقه على الإباحة؟ أو على الحظر حتى يرد شرع "[129].

وفي المسودة أيضًا: مسألة استصحاب أصل براءة الذمة من الواجبات، حتى يوجد الموجب الشرعى دليل صحيح، ذكره أصحابنا: "وله مأخذان أحدهما: أن عدم الدليل، دليل على أن الله ما أوجبه علينا؛ لأن الإيجاب من غير دليل محال، والثاني: البقاء على حكم العقل المقتضى لبراءة الذمة، أو دليل الشرع لمن قبلنا، ومن هذا الوجه يلزم بالمناظرة" قال القاضى: "استصحاب براءة الذمه من الواجب، حتى يدل دليل شرعي عليه، هو صحيح بإجماع أهل العلم كما فى الوتر"[130].

وجاء فيها أيضًا: "قوله استصحاب في نفي الواجب احتراز من استصحاب نفي التحريم أو الإباحة، فإن فيه خلافا مبنيا على مسألة الأعيان قبل الشرع، وأما دعوى الإجماع على نفي الواجبات بالاستصحاب، ففيه نظر، فإن من يقول بالإيجاب العقلي من أصحابنا وغيرهم لا يقف الوجوب على دليل شرعي، اللهم إلا أن يراد به في الأحكام التي لا مجال للعقل فيها بالاتفاق، كوجوب الصلاة، والأضحية، ونحو ذلك"[131].

المطلب الثاني: الاستدلال بالمصلحة المرسلة:


المصلحة المرسلة هي: ما لم يشهد الشرع لاعتباره ولا لإلغائه بدليل خاص، فخرج بهذا المصلحة المعتبرة شرعًا التي جاءت الأدلة من الكتاب، أو السنة، أو الإجماع، أو القياس باعتبارها. وكذا الملغاة شرعًا التي جاءت هذه الأدلة نفسها بمنعها، وإلغائها.

وتسمى - المصلحة المرسلة - الاستدلال المرسل، والمناسب المرسل، والاستصلاح [132].

ويشترط للاستدلال بالمصلحة المرسلة أمور منها:

1- ملاءَمتها لتصرفات الشرع ومقاصده، وهو أن يوجد لذلك المعنى جنس اعتبره الشارع في الجملة بغير دليل معين.

2- أن لا تنافي أصلا من أصول الشرع، ولا دليلاً من أدلته.

3- أنه لا مدخل للمصلحة المرسلة في التعبدات، ولا ما جرى مجراها من الأمور الشرعية؛ لأن عامة التعبدات لا يعقل لها معنى على التفصيل، كالطهارات بأنواعها، وكعدد ركعات الصلوات الخمس، فإن شيئا من التعبدات لم يكله الشارع إلى آراء العباد، فلم يبق إلا الوقوف عند ما حده، دون ابتداع زيادة أو نقصًا.


4- أن يكون حاصل المصلحة المرسلة يرجع إلى رفع حرج في الدين، والتخفيف على المكلفين، فهي من الوسائل لا من المقاصد [133].

5- ألاّ تعارضها مصلحة أرجح أو مساوية لها، وألاّ يستلزم العمل بها مفسدة أرجح منها، أو مساوية لها، وألاّ يتوصل بها إلى الذرائع والحيل المحرمة [134].

وقد ذكر الشاطبي رحمه الله أمثلة للمصالح المرسلة الملائمة لتصرفات الشرع، كاتفاق أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على جمع المصحف. فإنه راجع إلى حفظ الشريعة، وإلى منع الذريعة للاختلاف في القرآن الكريم.

وكقضاء الخلفاء الراشدين بتضمين الصّنّاع؛ لأنه لا يصلح الناس إلا ذلك. فلولا تضمينهم ـ مع مسيس الحاجة إليهم ـ لادعوا هلاك الأموال وضياعها، ولقلّ الاحتراز، وتطرقت الخيانة، فكانت المصلحة في تضمينهم [135].

وبالجملة فالضابط في تحديد المصلحة المرسلة هو الشرع نفسه، وما نصبه من مقاصد وأحكام وعلل وغايات، لا مجرد العقول والآراء، هذا وإنّ قصر المصلحة على المنافع الدنيوية الحسية فقط اختزال لمفهومها الشرعي. فإن ذلك يحصل للحيوانات العجماوات فلها إحساس يميز بين الشعير والتراب، وبين الماء والنار...!! بل منافع العباد الدينية الأخروية - وإن لم يدركها البعض، أو عدت مضارًا - أولى بالاعتبار، وأحرى بالاهتمام [136]. ومصداق ذلك قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} البقرة: 216.

والفتوى بالمصالح المرسلة وفق الشروط والضوابط المعتبرة محل وفاق بين المذاهب الأربعة من حيث الجملة. ومن تتبع فروع المذاهب علم صحة ذلك. قال ابن دقيق العيد[137]: "الذي لاشك فيه أن لمالكٍ ترجيحًا على غيره من الفقهاء، في هذا النوع يعني المصالح المرسلة ويليه أحمد بن حنبل، ولا يكاد يخلو غيرهما من اعتباره في الجملة... " [138].

وقال القرافي رحمه الله: "قد تقدم أن المصلحة المرسلة في جميع المذاهب عند التحقيق؛ لأنهم يقيسون، ويفرقون بالمناسبات، ولا يطلبون شاهدًا بالاعتبار، ولا نعني بالمصلحة المرسلة إلا ذلك..".[139].

وبما تقدم يتقرر أهمية مراعاة المفتي للمصالح الشرعية، غير أنه لا مجال للفتوى بالمصالح عند وجود النصوص إطلاقًا، والعلماء الذين خالفوا في الاستدلال بالمصالح المرسلة، وردوا الفتوى بها، إنما فعلوا ذلك خشيةً من إهدار النصوص ومدلولاتها، كما ينبغي على المفتي الحذر من المصالح الموهومة، حتى لا يوقع المكلفين بما يخالف الشريعة [140].

وفي وجوب مراعاة المفتي للمصلحة وأنه ثابت بفعل الصحابة رصي الله عنهم ، يقول الخطيب البغدادي رحمه الله: "إذا رأى المفتي من المصلحة عندما تسأله عامة أو سوقة أن يفتي بما له فيه تأول، وإن كان لا يعتقد ذلك، بل لردع السائل، وكفه، فعل، فقد روي عن ابن عباس أن رجلاً سأله عن توبة القاتل، فقال: لا توبة له، وسأله آخر فقال: له توبة، ثم قال: أما الأول: فرأيت في عينيه إرادة القتل فمنعته، وأما الثاني: فجاء مستكينا، وقد قتل فلم أؤيسه"[141].

المطلب الثالث: الاستدلال بالاستحسان:


وقد اختلف الأصوليون في حده وحجيته.

والحقيقة أن أقوال المانعين والمجوزين له لم تتوارد على شيء واحد، فالمانعون - وفي مقدمتهم الإمام الشافعي رحمه الله - منعوا الاستحسان بمعنى ما يستحسنه المجتهد بمجرد عقله، وما ينقدح في ذهنه، وفي هذا من الفتوى بالتلذذ والتشهي، واتباع الهوى ما لا يخفى، ولاشك أن هذا منكر، وضلال مبين ولم يقل به أحدٌ من الأئمة، والمجوزون له يقصدون به العدول بالمسألة عن نظائرها لوجه هو أقوى، أو لدليل معتبر من أدلة الشرع، أو ترجيح دليل على دليل يعارضه بمرجح معتبر شرعا؛ لقصد التخفيف ورفع الحرج.

وبالجملة فهو غير خارج عن مقتضى الأدلة ومآلاتها [142]. كما قال الإمام الشاطبي رحمه الله: "فهذا كله يوضح لك أن الاستحسان غير خارج عن مقتضى الأدلة، إلا أنه نظر إلى لوازم الأدلة ومآلاتها" [143]، وقال في السياق نفسه: "ولا يرد الشافعي مثل هذا أصلاً" [144]. وبهذا يتبين أن الخلاف في الاستدلال بالاستحسان يكاد يكون لفظيا، ولا مشاحة في التسمية متى روعيت الحقائق[145]. وقد جاء عن الإمام الشافعي نفسه أنه قال: "أستحسن" في أشياء... [146].

ويُمثَّل للعدول بالمسألة عن نظائرها بدليل الكتاب قوله تعالى {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا}التوبة: 103 فظاهر العموم في جميع ما يُتَموَّل به، وهو مخصوص بالأموال الزكوية خاصة.

ومن الاستحسان بالعرف: جواز دخول الحمام من غير تقدير أجرة ولا مدة اللبث، ولا الماء المستعمل والأصل في هذا المنع، ولكن تقتضيه قواعد فقهية في أبواب المعاملات. ومن الاستحسان ترك مقتضى الدليل في اليسير لرفع الحرج والمشقة، كجواز التفاضل اليسير في المراطلة الكثيرة [147].

ومن ضروب الاستحسان عند المالكية قاعدة "مراعاة الخلاف" وهو: إعطاء كل واحد من الدليلين ما يقتضيه الآخر أو بعض ما يقتضيه. كقولهم في النكاح المختلف في فساده إنه يفسخ بطلاق وفيه الميراث؛ لما جاء في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: "أيما امرأة نكحت بغير إذن وليِّها، فنكاحها باطل باطل باطل" ثم قال صلى الله عليه وسلم: "فإن دخل بها، فلها المهر بما أصاب منها" [148] قال الشاطبي رحمه الله: "وهذا تصحيح للمنهي عنه من وجه، ولذلك يقع فيه الميراث، ويثبت النسب للولد، وإجراؤهم النكاح الفاسد مجرى الصحيح في هذه الأحكام، وفي حرمة المصاهرة وغير ذلك دليل على الحكم بصحته على الجملة، وإلا كان في حكم الزنى، وليس في حكمه اتفاقًا، فالنكاح المختلف فيه قد يُراعى فيه الخلاف، فلا يقع فيه الفرقة إذا عثر عليه بعد الدخول، مراعاة لما يقترن بالدخول من الأمور التي ترجح جانب التصحيح. وهذا كله نظر إلى ما يؤول إليه ترتب الحكم بالنقض والإبطال من إفضائه إلى مفسدة توازي مفسدة النهي أو تزيد " اهـ [149].

المطلب الرابع: الاستدلال بسد الذرائع وبإبطال الحيل:


والمراد به كما قال القرافي رحمه الله :"حسم مادة وسائل الفساد دفعًا لها، فمتى كان الفعل السالم عن المفسدة وسيلة لها منع من ذلك الفعل .."[150]، والمشهور عن الإمام مالك وأحمد أنهما يستدلان بسد الذرائع ويكثران من الفتوى بمقتضاه؛ لأنه متفرع عن النظر في المآلات[151]. وفي هذا يقول الشاطبي رحمه الله:" وهذا الأصل ينبني عليه قواعد منها: قاعدة سد الذرائع التي حكّمها مالك في أكثر أبواب الفقه؛ لأن حقيقتها التوسل بما هو مصلحة إلى ما هو مفسدة" [152]، وإن المحافظة على الشريعة في أحكامها ومقاصدها، وعللها وغاياتها، يقتضي منع الوسائل إلى المحرمات، ومنع التوسل بالمشروعات إلى الممنوعات. فقاعدة سد الذرائع من القواعد التشريعية التطبيقية التي توائم بين الوسائل والمقاصد، وأثر هذا في صحة الفتوى واضح بيِّن، إذ المفتي إذا عرضت عليه مسألة تؤدي إلى حرام، فينبغي عليه أن يفتي بتحريمها، والعكس بالعكس.

ويرى الشاطبي وآخرون "أن قاعدة الذرائع متفق على اعتبارها في الجملة، وإنما الخلاف في أمر آخر" [153] ومراده رحمه الله أن الخلاف في المناط الذي يتحقق فيه التذرع، وهو من تحقيق المناط في الأنواع [154]، أو هو خلاف في بعض أقسام الذرائع؛ لأن من الذرائع ما سده محل إجماع، كالمنع من حفر الآبار في الطرق، ومنها ما سده ملغى إجماعًا كزراعة العنب فإنها لا تمنع خشية الخمر، ومنها ما هو مختلف فيه، كبيوع الآجال. وفي هذا المختلف فيه مراتب متفاوتة باعتبار إفضائها إلى المفسدة، وباعتبار نوع نتائجها، ويختلف الترجيح فيها بحسب تفاوتها [155].

وقد أبدع ابن القيم رحمه الله في سرد الأدلة في حجية سد الذرائع والمنع من فعل ما يؤدي إلى الحرام ولو كان جائزًا في نفسه، فبلغت تسعة وتسعين دليلا، وقال: "إن سد الذرائع ربع التكليف"[156].

وإبطال الحيل مشابه لسد الذرائع، فهما استدلالان متشابهان متداخلان، وقد يلتقيان، وقد يفترقان أحيانًا. ومن تكلم من الأصوليين على أحدهما؛ تكلم على الآخر تباعًا، والذرائع أعم، والحيل أخص. ويشترط القصد فيها لا في الذرائع [157]. وهما متفرعان عن النظر في مآلات الأفعال، وأنه معتبر مقصود شرعًا [158].

ولذلك يتوجب على المفتي أن ينظر إلى ما يؤول إليه الفعل، فقد يكون الفعل مباحا، ولكنه يؤول إلى محرم مثلا، قال الشاطبي رحمه الله: "النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعا كانت الأفعال موافقة أو مخالفة، وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام، إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل مشروعا لمصلحة فيه تستجلب أو لمفسدة تدرأ، ولكن له مآل على خلاف ما قصد فيه، وقد يكون غير مشروع لمفسدة تنشأ عنه، أو مصلحة تندفع به، ولكن له مآل على خلاف ذلك، فإذا أطلق القول في الأول بالمشروعية، فربما أدى استجلاب المصلحة فيه إلى المفسدة تساوى المصلحة أو تزيد عليها، فيكون هذا مانعا من إطلاق القول بالمشروعية، وكذلك إذا أطلق القول فى الثاني بعدم مشروعية ربما أدى استدفاع المفسدة إلى مفسدة تساوي أو تزيد، فلا يصح إطلاق القول بعدم المشروعية، وهو مجال للمجتهد، صعب المورد، إلا أنه عذب المذاق، محمود الغبّ، جار على مقاصد الشريعة"[159].

وحقيقة الحيل: تقديم عمل ظاهر الجواز لإبطال حكم شرعي وتحويله في الظاهر إلى حكم آخر، فمآل العمل فيها خرم قواعد الشريعة في الواقع، كالواهب ماله عند رأس الحول فرارًا من الزكاة[160].

فإذا فرض أن الحيل لا تهدم أصلا شرعيا، ولا تناقض مصلحة، شهد الشرع باعتبارها؛ فغير داخلة في النهي ولا هي باطلة.

والحيل ثلاثة أقسام: ما لا خلاف في بطلانه كحيل المنافقين والمرائين، وما لا خلاف في جوازه، كالنطق بكلمة الكفر للمكره، قال الشاطبي: "وكلا القسمين بالغ مبلغ القطع"، وما لم يتبين بدليل قاطع موافقته أو مخالفته لمقصد الشارع، وهذا محل خلاف بين العلماء، فمن رأى أنه غير مخالف لمقصد الشارع أجاز الحيلة فيه، ومن رآه مخالفا منع الحيلة فيه، لا أن أحدًا من الأئمة يجيز مخالفة قصد الشارع اهـ [161]. وقد ناقش ابن القيم من يقول بالحيل المحرمة، أو ينسب شيئا منها لأحد من الأئمة، وأفاض في ذلك [162].

ولا يصح إطلاق القول بأن أحدًا من الأئمة يجوز الحيل لإبطال الأحكام، ولهدم أصل من أصول الشريعة، ومن نسب شيئًا من الحيل المحرمة لواحد منهم؛ فهو جاهل بأصوله. أما إنفاذ بعض الحيل إذا فعلت عند بعض الأئمة؛ فشيءٌ آخر، ولا يعني هذا إذنه فيها ابتداءًا [163].

ولذا فإن على المفتي أن يُعنى بسد الذرائع والحيل المفضية إلى محرم، فيتعين على المفتي النظر فيما إذا كان الفعل وسيلة أو حيلة تفضي إلى فعل محرم فيمنعه، ولو كان هذا الفعل في أصله مباحا، انطلاقًا من أن الوسيلة تأخذ حكم المقصد، كما دلت الأدلة والاستقراء على ذلك، قال الإمام ابن القيم رحمه الله: "لما كانت المقاصد لا يتوصل إليها إلا بأسباب وطرق تفضي إليها، كانت طرقها وأسبابها تابعة لها معتبرة بها، فوسائل المحرمات والمعاصي في كراهتها والمنع منا بحسب إفضائها الى غاياتها وارتباطاتها بها، ووسائل الطاعات والقربات في محبتها، والإذن فيها بحسب إفضائها إلى غايتها، فوسيلة المقصود تابعة للمقصود، وكلاهما مقصود لكنه مقصود قصد الغايات، وهي مقصودة قصد الوسائل، فإذا حرم الرب تعالى شيئا، وله طرق ووسائل تفضي اليه، فإنه يحرمها ويمنع منها تحقيقا لتحريمه وتثبيتا له، ومنعا أن يقرب حماه، ولو أباح الوسائل والذرائع المفضية اليه لكان ذلك نقضا للتحريم وإغراء للنفوس به وحكمته تعالى، وعلمه يأبي ذلك كل الإباء، بل سياسة ملوك الدنيا تأبى ذلك، فإن أحدهم إذا منع جنده أو رعيته أو أهل بيته من شيء ثم أباح له الطرق والأسباب والذرائع الموصلة اليه لعد متناقضا، ولحصل من رعيته وجنده ضد مقصوده، وكذلك الأطباء إذا أرادوا حسم الداء، منعوا صاحبه من الطرق والذرائع الموصلة إليه، والا فسد عليهم ما يرومون إصلاحه، فما الظن بهذه الشريعة الكاملة التي هي في أعلى درجات الحكمة والمصلحة والكمال، ومن تأمل مصادرها ومواردها علم أن الله تعالى ورسوله سد الذرائع المفضية الى المحارم، بأن حرمها ونهى عنها، والذريعة ما كان وسيلة وطريقا الى الشيء"[164].

يتبع

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 34.76 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 34.13 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.81%)]