علم أصول الفقه وأثره في صحة الفتوى(3-5)
د.عبدالرحمن بن عبدالعزيز السديس
ثالثا: وتنقسم السنة باعتبار نقلها ورواتها إلى متواترة وآحاد:
فالسنة المتواترة : هي التي نقلها عدد كثير يستحيل تواطؤهم على الكذب عن مثلهم في جميع طبقات السند، ويكون مستند خبرهم الحس، كمشاهدة، أو سماع، لا لمجرد إدراك العقل. وهذا مفيد للعلم القطعي الضروري بدون حاجة إلى البحث عن أحوال الرواة[54].
والتواتر يكون لفظيا، وهو ما تواتر لفظه ومعناه كحديث «من كذب عليّ متعمّدًا فليتبوأ مقعده من النار» فإنه نقله جم غفير عن جم غفير إلى منتهاه [55].
ويكون معنويا، وهو ما تواتر معناه دون لفظه، كأحاديث رفع اليدين في الدعاء، فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو مائة حديث في كل منها أنه صلى الله عليه وسلم رفع يديه في الدعاء [56].
وذكر الشاطبي في مقدمات "الموافقات" ما قال: إنه شبيه بالمتواتر المعنوي: وهو المستقرأ من جملة أدلة ظنية تظافرت على معنى واحدٍ حتى أفادت فيه القطع، فإن للاجتماع من القوة ما ليس للافتراق [57].
وما قصر عن التواتر هو الآحاد، ويتنوع إلى مشهور وعزيز وغريب، وعند الحنفية أن المشهور - وهو المستفيض على رأي - نوع متوسط بين المتواتر والآحاد. وهو: ما فقد شرط التواتر في طبقة الصحابة فقط، فهو في أصله آحاد، لكن انتشر، وصار ينقله قوم ثقات لا يتوهم تواطؤهم على الكذب، فصار بذلك بمنزلة المتواتر.
والآحاد بأنواعه منه مقبول. وهو الصحيح لذاته، أو لغيره، والحسن لذاته أو لغيره [58].
قال في جمع الجوامع: "يجب العمل به أي بخبر الآحاد في الفتوى والشهادة إجماعًا، وكذا سائر الأمور الدينية... " واستثنيت في ذلك أمور ومسائل لدى بعض أرباب المذاهب لأسباب اجتهادية يرون الاستدلال بها أقوى، وأحوط[59].
وقد عقد الإمام الشافعي رحمه الله في "الرسالة" بابًا كاملا في حجية الآحاد فقال: "الحجة في تثبيت خبر الواحد". وذكر تحت هذه الترجمة أدلة كثيرة ووقائع على ذلك، من عهده صلى الله عليه وسلم ، وعهد صحابته الكرام، وعهد التابعين لهم. وذكر الإجماع على ذلك من محدثي الناس، وأعلامهم بالأمصار [60].
وإذا وجد المفتي خبر الواحد أفتى به ولو عارضه القياس، وجاء في "غاية الوصول في شرح لب الأصول": «وجب العمل به أي بخبر الواحد في الفتوى والشهادة أي ما يفتي به المفتي ويشهد به الشاهد بشرطه، وفي معنى الفتوى الحكم إجماعًا.وفي باقي الأمور الدينية والدنيوية في الأصح وإن عارضه قياس»[61].
وقال الشوكاني رحمه الله : "وعلى الجملة فلم يأت من خالف في العمل بخبر الواحد بشيء يصلح للتمسك به، ومن تتبع عمل الصحابة من الخلفاء وغيرهم، وعمل التابعين فتابعيهم بأخبار الآحاد وجد ذلك في غاية الكثرة، وإذا وقع من بعضهم التردد في العمل به في بعض الأحوال؛ فذلك لأسباب خارجة عن كونه خبر واحدٍ من ريبة في الصحة، أو تهمة للراوي، أو وجود معارض راجح، أو نحو ذلك" [62].
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية ما مفاده: أن أحدًا من الأئمة لم يجوز إثبات حكم شرعي كاستحباب، أو كراهة بحديث ضعيف. وإنما غاية ما يقوله العلماء في الأخذ بالحديث الضعيف أن يكون العمل بمقتضاه مما قد ثبت أنه مما يحبه الله، أو مما يكرهه بنص أو إجماع. بمعنى أن النفس ترجوا ذلك الثواب، أو تخاف ذلك العقاب، كالترغيب والترهيب بالمنامات، وكلمات السلف والعلماء.. ونحو ذلك مما لا يجوز بمجرده إثبات حكم شرعي، كتقييد المطلقات التي أطلقها الشارع بنوع من التقدير والتحديد؛ لأن استحباب هذا الوصف المعين لم يثبت بدليل شرعي مقبول[63].
ولا يرد على هذا اختلاف أنظار المجتهدين في نفس التصحيح والتحسين والتضعيف، فهو شيء آخر؛ لأنه من موارد الاجتهاد، كما قال الحافظ الذهبي[64] رحمه الله : "ثم لا تطمع بأن للحسن قاعدةً تندرج كل الأحاديث الحسان فيها، فأنا على إياس من ذلك. فكم من حديث تردد فيه الحفاظ، هل هو حسن أو ضعيف أو صحيح؟ بل الحافظ الواحد يتغير اجتهاده في الحديث الواحد. وهذا حق... إذ الحسن لا ينفك عن ضعف ما، ولو انفك عن ذلك لصح باتفاق"[65].
ولا شك أن القول بالعمل بالأحاديث الضعيفة في الفضائل ونحوها قد يترتب عليه ترك البحث عن الأحاديث المقبولة لدى كثيرٍ من المنتسبين إلى العلم، بله العامة، والاكتفاء بالأحاديث الضعيفة بدعوى أن في العمل بها مندوحة. وفي هذا مخالفة صريحة للأحاديث الصحيحة التي تحذر من التحديث إلا بعد التثبت والتحري.
لذا؛ فإن كثيرًا من المحققين يرون أنه لا يصح العمل بالحديث الضعيف، إلا في مجال التراجيح لأحد المعاني [66].
ومن مجموع ما سبق، يتبين ما يجب معرفته في مقام الفتوى من مسائل السنة، وأهمية معرفة الرواية والدراية للمفتي، قال الإمام الغزالي رحمه الله: " يتوجب على المفتي فيما يخص السنة أن يكون على معرفة بالرواية، وتمييز الصحيح منها عن الفاسد، والمقبول عن المردود، فإن ما لا ينقله العدل عن العدل فلا حجة فيه والتخفيف فيه أن كل حديث يفتى به مما قبلته الأمة فلا حاجة به إلى النظر في إسناده، وإن خالفه بعض العلماء، فينبغي أن يعرف رواته وعدالتهم، فإن كانوا مشهورين عنده، كما يرويه الشافعي عن مالك عن نافع عن ابن عمر مثلا اعتمد عليه، فهؤلاء قد تواتر عند الناس عدالتهم وأحوالهم، والعدالة إنما تعرف بالخبرة والمشاهدة أو بتواتر الخبر، فما نزل عنه فهو تقليد، وذلك بأن يقلد البخاري ومسلما في أخبار الصحيحين، وإنهما ما رووها إلا عمن عرفوا عدالته، فهذا مجرد تقليد، وإنما يزول التقليد بأن يعرف أحوال الرواة بتسامع أحوالهم وسيرهم، ثم ينظر في سيرهم أنها تقتضي العدالة أم لا، وذلك طويل وهو في زماننا مع كثرة الوسائط عسير، والتخفيف فيه أن يكتفي بتعديل الإمام العدل بعد أن عرفنا أن مذهبه في التعديل مذهب صحيح، فإن المذاهب مختلفة فيما يعدل به ويجرح، فإن من مات قبلنا بزمان امتنعت الخبرة والمشاهدة في حقه، ولو شرط أن تتواتر سيرته فذلك لا يصادف إلا في الأئمة المشهورين، فيقلد في معرفة سيرته عدلا فيما يخبر، فنقلده في تعديله بعد أن عرفنا صحة مذهبه في التعديل، فإن جوزنا للمفتي الاعتماد على الكتب الصحيحة التي ارتضى الأئمة رواتها قصر الطريق على المفتي، وإلا طال الأمر وعسر الخطب في هذا الزمان مع كثرة الوسائط، ولا يزال الأمر يزداد شدة بتعاقب الأعصار"[67].
المبحث الثالث: الإجماع
وعرفه الأصوليون بتعريفات لعل أشهرها أنه: "اتفاق مجتهدي أمة محمد صلى الله عليه وسلم بعد وفاته، في عصر من الأعصار، على أمر من الأمور" [68].
وقد اتفقوا على أن الأمة لا تجتمع على حكم أو على أمر إلا عن مأخذ ومستند يوجب الاجتماع [69].
وقد دلّ الكتاب والسنة على أن الإجماع حجةٌ يجب اتباعها والمصير إليها، قال تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} النساء: 115 وهي أقوى الأدلة من الكتاب [70].
وقال أبو المظفر السمعاني: "والاستدلال بهذه الآية أي على حجية الإجماع في نهاية الاعتماد، وقد احتج الشافعي رحمه الله عليه بهذه الآية" [71].
ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم في حديث عمر بن الخطاب: "من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة" [72]. واستدل به الإمام الشافعي على حجية الإجماع [73].
وقوله صلى الله عليه وسلم:" إن أمتي لا تجتمع على ضلالة" [74].
وقد روى هذا المعنى جمع من الصحابة بألفاظ متعددة مع أن طرقها كلها لا تخلو من نظر [75] ولمعنى هذا الحديث شواهد في الصحيحين وفي غيرهما "من الأحاديث التي لا تحصى كثرة، ولم تزل ظاهرة مشهورة بين الصحابة معمولاً بها، ولم ينكرها منكر، ولا دفعها دافع" [76].
واتفق على أنه لابد أن يستند الإجماع إلى نص من كتاب أو سنة، واختلف في استناده إلى اجتهاد أو قياس، وجوزه الأكثرون؛ لإجماع الصحابة على خلافة أبي بكر الصديق من طريق الاجتهاد، وإجماعهم على تحريم شحم الخنزير قياسًا على لحمه [77]، ولعل هذا من قبيل الخلاف اللفظي؛ لأن جميع المسائل المجمع عليها من هذا القبيل يمكن استنادها إلى النصوص العامة فتكون من قبيل المنصوص عليه. كما يقرر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حيث يقول: "فلا يوجد قط مسألة مجمع عليها إلا وفيها بيان من الرسول، ولكن قد يخفى ذلك على بعض الناس... وقد استقرأنا موارد الإجماع فوجدناها كلها منصوصة، وقد لا يعلم كثير من العلماء أنها منصوصة...كالمضار� �ة فإن مستندها السنة التقريرية" اهـ بتصرف [78].
وأما عن وقوع الإجماع، فقد وقع الاتفاق عليه في عصر الصحابة [79]، وتنوزع في إجماع من بعدهم[80].
والذي تدل عليه الروايات عن الإمام أحمد بلا خلاف أنه يأخذ بإجماع الصحابة عند اتفاقهم، ولا يخرج عن أقوالهم عند اختلافهم. وفي اعتباره إجماع التابعين والاعتداد به خلاف مشهور. وعلى هذا حمل بعضهم قوله المشهور:"من ادعى الإجماع فهو كاذب، لعل الناس اختلفوا. "[81].
وقصارى القول هنا: أنه لم يتفق العلماء ولم يجمعوا على وقوع إجماع كلي عام قطعي إلا إجماع الصحابة، فإن إجماعهم ثبت وقوعه بالتواتر.فلم تكن ثَمَّتَ عوائق، ولا موانع تمنعه، ولم يتعذر الاطلاع عليه. أما بعد عصر الصحابة فمن العسير القطع بوقوع الإجماع الكلي العام القطعي، وأقصى ما يستطاع قوله أن أحكامًا اجتهادية اشتهرت، ولم يعرف لها مخالف... [82].
ولا نزاع بين العلماء في وقوع الإجماع القطعي على ما هو معلوم من الدين بالضرورة، كالإجماع على وجوب الصلوات الخمس، وعلى بقية أركان الإسلام، وكالإجماع على حرمة الزنا، والسرقة، وشرب الخمر، والربا، وللإجماعات التي من هذا القبيل مراتب وأنواع معلومة مشهورة وهي حجة مقطوع بها لا ينازع فيها منازع [83].
ومما يجري مجرى هذا إجماع أهل المدينة فيما سبيله النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم كنقلهم لمقدار الصاع، والمدّ. فهذا كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية حجة بالاتفاق؛ ولهذا رجع أبو يوسف [84] إلى مالك فيه، وقال: لو رأى صاحبي أي أبو حنيفة كما رأيت لرجع كما رجعت. ورجع إليه في الخضروات لما قال له: هذه مباقيل أهل المدينة لم يؤخذ منها صدقة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أبي بكر ولا عمر... [85].
وإذا تقرر هذا؛ فيجب التأكد من صحة حكاية الإجماعات، والتفريق بين ما هو منها كلي عام مطلق مقطوع به يجب المصير إليه بلا خلاف، وبين ما هو منها ظني سكوتي، أو مذهبي، أو إضافي، أو إقليمي. هذا أمر في غاية الأهمية...!! [86]
ومما هو بسبيل هذا قول بعض الأئمة "لا أعلم خلافا بين أهل العلم في كذا"، كقول الإمام الشافعي في زكاة البقر: "لا أعلم خلافا في أنه ليس في أقل من ثلاثين منها تبيع" والخلاف في ذلك مشهور [87].
وبعد ذكر أهم مسائل الإجماع، أذكر أهمية معرفته في مقام الفتوى، إذ يتوجب على المفتي أن يعرف ما أجمع عليه العلماء، ولا يفتي بخلافه، قال الإمام الغزالي رحمه الله: "ينبغي أن تتميز عنده مواقع الإجماع حتى لا يفتي بخلاف الإجماع، كما يلزمه معرفة النصوص حتى لا يفتي بخلافها، والتخفيف في هذا الأصل أنه لا يلزمه أن يحفظ جميع مواقع الإجماع والخلاف، بل كل مسألة يفتي فيها، فينبغي أن يعلم أن فتواه ليست مخالفًا للإجماع، إما بأن يعلم أنه موافق مذهبًا من مذاهب العلماء أيهم كان، أو يعلم أن هذه واقعة متولدة في العصر لم يكن لأهل الإجماع فيها خوض فهذا القدر فيه كفاية"[88].
وإذا كان من العسير القطع بوقوع الإجماع الكلي العام القطعي الذي صوره علماء الأصول بعد عصر صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن عدم إمكان وقوعه في هذا العصر - على فرض التسليم بأنه حجة ماضية في كل عصر كما هو عند الجمهور - من باب أولى.
وتصور ذلك تصوّر لحالة نظرية مثالية غير واقعية البتة...!! ما لم تتواص الأمة الإسلامية بالحق وتتعاون على البر والتقوى، وتتناد بالاعتصام بالكتاب والسنة، عقيدة، ومنهجًا، وسلوكًا، وفكرًا...!!؛ لأنه بذلك يُهيَّأ للشورى الجماعية الحرة النزيهة التي عليها يتكئ الإجماع وينبني مناخٌ ملائمٌ للنظر، والتناظر، وتبادل الآراء على الجادّة الصحيحة، سيما في النوازل المدلهمات ذات الصلة بقضايا "الأمة" ومصالحها العامة...
ولاشك أن قرارات المجامع الفقهية المعاصرة، والهيئات واللجان العلمية من قبيل الشورى الجماعية المباركة، وتؤدي دورًا ذا أهمية عظمى في هذا الشأن، وهي أولى بالقبول من الفتاوى الفردية؛ لمعنى الاتفاق الأغلبي عبر الاجتهاد الجماعي فيها. ولا يصح اعتبارها إجماعًا كالذي اصطلح عليه الأصوليون، وإن تكلف ذلك البعض [89].
والذي يتعين قوله هنا ويقلِّل من جدوى تكلف الإجماع واعتسافه في هذا العصر: أن الواجب على جميع المسلمين رد الاعتبار للكتاب والسنة وإثبات صلاحيتهما، واعتقاد وفائهما بجميع الأحكام، والتحاكم إليها مع الرضى والتسليم بذلك، كما قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً}النساء: 65.
فلا يوجد مسألة قط مجمع عليها إلا وفيها بيان من الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن قد يخفى ذلك على بعض الناس. فالشأن كلَّ الشأن في رد الاعتبار إلى سند الإجماع. كما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى. وهو تحقيق في المسألة نفيس أنيس... [90].
ولهذا فإنه ينبغي على المفتي اعتبار فتوى المجامع الفقهية والاهتمام بها، فضلاً عن الاستئناس بها، وجعلها محور إفتائه في النوازل والمستجدات، والله أعلم.
المبحث الرابع: القياس
وهو في اصطلاح الأصوليين: "حمل فرع على أصل في حكم بجامع بينهما"[91]، وعُرِّف بتعريفات أخرى متقاربة [92].
ومحصل جميع هذه التعريفات: أنه لابد للقياس الذي هو رابع الأدلة المتفق عليها من أركان أربعة يتألف منها، وهي: أصل، وفرع، وعلة، وحكم [93].
فالركن الأول الأصل: والراجح فيه أنه محل حكم النص، كالخمر والبر، كما قال الآمدي رحمه الله : "والأشبه أن يكون الأصل هو المحل، على ما قاله الفقهاء؛ لافتقار الحكم والنص إليه ضرورة من غير عكس، فإن المحل غير مفتقر إلى النص ولا إلى الحكم" [94].
والركن الثاني الفرع: والمرجَّح قول الفقهاء إنه: المحلّ المشبَّه. فالنبيذ بعينه فرع في إلحاقه بالخمر [95].
والركن الثالث العلة: "وهي الوصف، أو المعنى الجامع المشترك بين الأصل والفرع الذي باعتباره صحت تعدية الحكم" [96].
وللعلة مسالك وهي: الأدلة أو الطرق التي تدل على أن الوصف المعيَّن علّة للحكم المعيَّن، وهي:
النص، والإجماع، والإيماء، والسبر والتقسيم، والمناسبة، والشبه، والدوران، والطرد، وتنقيح المناط، وإلغاء الفارق، ونحوها [97].
والركن الرابع حكم الأصل: وهو الحكم المقصود حمل الفرع عليه، وعُرف بأنه: "قضاء الشرع المستفاد من خطابه، أو إخباره الوضعي بوجوب، أو ندب، أو كراهة، أو حظر، أو إباحة، أو صحة، أو فساد، أو غير ذلك من أنواع قضائه" [98].
وتكتنف كلَّ واحد من هذه الأركان الأربعة شروطٌ ذكرها الأصوليون [99].
ولعلك ترى – أخي القارئ اللبيب – أن في اعتبار هذه الشروط وتحققها صونا وحمايةً لصورة القياس الشرعي الصحيح، الذي يهدي إليه اعتبار أولي الأبصار، واستدلال المستدل، وفكرة المجتهد المستنبط. . .
ويدل هذا على أن معقولات النصوص ومستنبطاتها إن كانت صحيحة صريحة فهي والمنقولات الصحيحة الصريحة على جادّة تشريعية أصلية... ذلك؛ لأن الشريعة جاءت بالجمع بين المتماثلات، والتفريق بين المختلفات، وكذلك القياس الشرعي الصحيح، فإنه تسوية بين المتماثلين، وتفريق بين المختلفين، ودلالته توافق دلالة النص، وكل قياس خالف دلالة النص فهو قياس فاسد لا يخلو من قوادح؛ ولأن النصوص الشرعية - بمعقولاتها وعللها، ومقاصدها، وغاياتها، وحكمها، وأسرارها - دالة على جمهور الحوادث، وعلى النوازل المستجدات بمقتضى شمول الشريعة وإحاطتها بأفعال المكلفين، وصلاحيتها لكل زمان ومكان [100].
وهذا القياس الشرعي حجة عند الجمهور، وعُدَّ عندهم رابع الأدلة الشرعية المتفق عليها [101].
قال الغزالي رحمه الله: "والذي ذهب إليه الصحابة رضي الله عنهم بأجمعهم، وجماهير الفقهاء، والمتكلمين بعدهم ـ رحمهم الله ـ وقوع التعبد به شرعًا... ".
وذكر أن تواتر إجماع الصحابة على الحكم بالقياس والتعبد به ناشئ "عن مستندات كثيرة خارجة عن الحصر، وعن دلالات، وقرائن أحوال، وتكريرات، وتنبيهات تفيد علمًا ضروريًا بالتعبد بالقياس، وربط الحكم بما غلب على الظن كونه مناطًا للحكم... إلى أن قال: فيكفينا مؤنة البحث عن المستند لما علمناه على التواتر من إجماعهم" [102].
والأدلة على القياس كثيرة [103]، فمن القرآن قوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} الحشر: 2.
وأما في السنة، فقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى القياس في مواطن، وعلل الأحكام، وبين الأوصاف المؤثرة فيها.
من ذلك: حديث عمر ابن الخطاب رضي الله عنه قال: هششت يومًا فقبلت وأنا صائم، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: صنعت اليوم أمرًا عظيما، فقبلت وأنا صائم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أرأيت لو تمضمضت بماءٍ وأنت صائم" قلت لا بأس بذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ففيم؟" [104].
ومنها حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: دخل عليّ قائف، والنبي صلى الله عليه وسلم شاهد، وأسامة ابن زيد، وزيد بن حارثة مضطجعان، فقال: "إن هذه الأقدام بعضها من بعض"، قال: فسرّ النبي صلى الله عليه وسلم بذلك وأعجبه، فأخبر به عائشة. اهـ[105].
ومنها حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أمِّي نذرت أن تحج، فماتت قبل أن تحج، أفأحج عنها؟ قال: "نعم حجي عنها، أرأيت لو كان على أمك دين، أكنت قاضيته؟" قالت: نعم، قال: "فاقضوا الله الذي له، فإن الله أحق بالوفاء" [106].
ولا يخفى أن إنكار القياس الشرعي الصحيح الذي ذكر الأصوليون أركانه، وما يشترط لكل ركن، وذكروا قوادحه والاعتراضات عليه مكابرة يقع في مخالفتها أصحابها، ولعلهم أرادوا القياس الفاسد والرأي المذموم [107].
وثمت مسائل اختلف فيها هل هي من باب القياس، أو من باب دلالة الألفاظ؟ مع اتفاق الجميع على العمل بها، والخطب فيها يسير إذا روعيت الحقائق، كالعلة المنصوصة، قال الشوكاني رحمه الله: "واعلم أنه لا خلاف في الأخذ بالعلة إذا كانت منصوصة، وإنما اختلفوا هل الأخذ بها من باب القياس، أم من العمل بالنص؟ فذهب إلى الأول الجمهور، وإلى الثاني النافون للقياس... "[108].
هذا ومن أجل اجتناب الأقيسة الفاسدة التي اشتهر ذمها عند الأئمة، وشنعوا على القائلين بها؛ عُني الأصوليون بضبط القياس الشرعي الصحيح - الذي يصار إليه عند الحاجة، ولا تعارض به نصوص الكتاب والسنة - وتحريره، فجعلوا له أركانا، ولهذه الأركان شروطًا وضوابط واعتبارات، وبينوا قوادح العلة ومبطلاتها [109]، التي يعترض بها على صحة القياس وصلاحيته، بما فيه من الجدلية الأصولية، وفي ذلك ما يوقع في الاعتساف، والتكلف، والشطط، ويبعد عن ميزان الحق والعدل، مما يؤكد أهمية القياس الصحيح، المستجمع للأركان، المستوفي للشروط المنتفية عنه الموانع، وبهذا يظهر تأدية القياس أثرًا واضحًا في صحة الفتوى، فمثلاً حينما يفتي المفتي بتحريم النبيذ قياسًا على الخمر؛ لعلة الإسكار، وحرمة الربا في غير الأصناف الستة المعروفة؛ لعلة الكيل أو الوزن أو الطعم أو الثمنية يعد قياسه صحيحًا وفتواه سليمة، وعلى المفتي الحذر من الأقيسة التي يختل فيها شرط من الشروط المعتبرة، ولهذا فإذا كان دليل الفتوى قياسًا غير جلي وليس نصًا واضحًا صريحًا، فلا ينبغي للمفتي ذكره للمستفتي.
يقول الشيخ أحمد بن حمدان رحمه الله: "يجوز أن يذكر المفتي في فتواه الحجة إذا كانت نصا واضحا مختصرا، وأما الأقيسة وشبهها فلا ينبغي له أن يذكر شيئا منها، ولم تجر العادة أن يذكر المفتي طريق الاجتهاد، ولا وجه القياس والاستدلال، إلا أن تكون الفتوى تتعلق بنظر قاض، فيوميء فيها على طريق الاجتهاد، ويلوح بالنكتة التي عليها بني الجواب، أو يكون غيره قد أفتى فيها بفتوى غلط فيها عنده، فيلوح بالنكتة التي أوجبت خلافه ليقيم عذره في مخالفته، وكذا لو كان فيما لقي به غموض فحسن أن يلوح بحجته، وهذا التفصيل أولى مما سبق من إطلاق المنع من تعرضه للاحتجاج ... ولا بنبغي لعامي أن يطالب المفتي بالحجة فيما أفتاه به، ولا يقول له لم ولا كيف، فإن أحب أن يسكن نفسه بسماع الحجة في ذلك سأل عنها في مجلس آخر، أوفي ذلك المجلس بعد قبول الفتوى مجردة عن الحجة، وقيل له أن يطالب المفتي بالدليل لأجل احتياطه لنفسه، وإنه يلزمه أن يذكر الدليل إن كان قطعيًا، ولا يلزمه ذلك إن كان ظنيا، لافتقاره إلى اجتهاد يقصر عنه العامي"[110].
يتبع