قيم النهضة في القرآن الكريم (دراسة وتطبيق)
د. حامد يعقوب يوسف الفريح ([*])
ثامنا- الأخذ بالأسباب المادية مع التوكل عل الله
إن سنة الآخذ بالأسباب من- من أهم السنن الربانية التي لها علاقة قوية بمسالة النهضة، ولقد وجه الله المؤمنين إلى وجوب مراعاة هذه السنة في كل شؤونهم الدنيوية والآخروية، والنصوص في القرآن التى تحث المسلمين على الآخذ بالأسباب كثيرة متضافرة، منها: قوله تعالى (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُون َ) (التوبة: 105 ، وقال تعالى (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مناكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) الملك: 15 ، بل إن النصوص تشير إلى أن الآمر قد يكون مكتوباً في الصحف، ثم يتغير [39] لسبب من الأسباب: كالدعاء وصلة الرحم [40]، قال تعالى (يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ) (الرعد:39 ، ولقد أوحى الله إلى مريم- عليها السلام- وهي في المخاض- أن تهز بجذع النخلة ليسقط الرطب، ومن المعلوم: أن المرأة أشد ما تكون ضعفا وهي على هذا الحال، ومع هذا أمرها الله بذلك، وهذا يؤكد ضرورة الآخذ بالأسباب في كل الأحوال والظروف بقدر الاستطاعة.
والله سبحانه قادر على أن ينصر المؤمنين في قتالهم للكافرين ويلحق الهزيمة بأعدائهم، ومع هذا أمرهم بأعداد العدة والأخذ بالأسباب، فقال تعالى (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ ) (الأنفال:60 ، وقال تعالى (ذَٰلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَٰكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ) محمد:4 ، بل حتى الأنبياء المؤيدون بالوحي من السماء، مأمورون بالأخذ بهذه السنة الربانية، فهذا موسى- عليه السلام- أمره الله أن يضرب بعصاه البحر، وماذا عساها أن تفعل هذه العصا الصغيرة بهذا البحر المتلاطم الأمواج، ولكنها الأسباب، فاذا البحر فرقان، كل فرق كالطود العظيم، ولو شاء الله لجعله كذلك من دون ضرب، ولكنه سبحانه أراد أن يعلم عباده المؤمنين الأخذ بالأسباب (فَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) الشعراء: 63.
تاسعاً- قيمة الجزاء من جنس العمل:
إن الله قد أودع هذا الكون سنناً ثابتة لا تتغير ولا تتبدل، ينسج على منوالها نظام هذه الحياة، فالمسلم العاقل من يساير هذه السنن ولايصادمها، ومن هذه السنن: سنة "الجزاء من جنس العمل" فالعامل إنما يجزى من جنس عمله إن خيرا فخير، وان شرا فشر (جَزَاءً وِفَاقًا) النبأ: 26، وقد وردت أدلة كثيرة في القرآن تدل على هذه القاعدة، قال تعالى (ليْسَ بِأَمَانِيِّكُم ْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) النساء:123,وقال تعالي (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ) (الصف: 5، وقال تعالى (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَىٰ) (يونس: 26، قال ابن تيمية- رحمه الله- "الثواب والعقاب يكونان من جنس العمل في قدر الله وفي شرعه، فإن هذا من العدل الذي تقوم به السماء والأرض" [41]
هذه قاعدة العدل في دين الله، والتي قامت عليها السموات والأرض، وهي التي تدفع الإنسان إلى العمل والبذل من أجل تحقيق الخير وازالة الشر، وهل هناك خير أعظم من السعي في سبيل نهضة المسلمين والتمكين لهذا الدين، وأي فساد أشد من تخلف المسلمين وذلهم وهوانهم على أعدائهم.
إذا أردنا نهضة الأمة، فلابد من إشاعة هذا المفهوم، مكافأة المحسن مادياً ومعنوياً على إحسانه؛ لكي يستمر في عطائه وبذله (هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ) الرحمن: 60، وأيضاً معاقبة المقصر على تفريطه وتقصيره من أجل أن يعتبر ولا يقع منه التقصير في المستقبل، ويكون عبرة لغيره (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا) الشورى: 40.
عاشراً- الوحدة بين المسلمين:
إن المتأمل في القرآن الكريم يجد أنه يركز على مفهوم الوحدة، من خلال استخدام الخطاب الجماعي في معظم التوجيهات القرآنية، سواء ما يتعلق بموضوعات العقيدة أو العبادات أو المعاملات، وهذا يدل على اهتمام القرآن بشأن الاجتماع والترابط والتآلف بين المسلمين، ونلاحظ أن الخطاب القرآني الموجه للمسلمين يزداد مع زيادة متطلبات حياتهم الاجتماعية ومتطلبات وحدة كيانهم، حيث نرى هذا الخطاب في المدينة أكثر وضوحا ودلالة على الوحدة، إما من خلال:
الحديث المباشر عن هذه الوحدة، كالأمر بها في قوله (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ال عمران:104 ، وهذا أمر من الله بتكوين الأمة، والأمة هي الجماعة التي يتحقق فيها معنى الارتباط والوحدة التي تجعل أفرادها على اختلاف وظائفهم وأعمالهم كأنهم شخص واحد [42]، وهذه الجماعة هي التي تأخذ على عاتقها مهمة التغيير في الأمة والعمل على نهضتها، وقال تعالى (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا) ال عمران: 103 ، وهو أمر لهم بالاستمساك بعهد الله أو القرآن مجتمعين، وقوله (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) المؤمنون:52 .
أو من خلال النهي عما يضاد الوحدة، وهو التفرق والاختلاف كما في قوله تعالى (ولاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ عمران:105 ، وقوله (وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) الأنفال:46 .
أو أن يكون الخطاب القرآني في الدعوة الى الوحدة بين المسلمين بشكل غير مباشر، مثل قوله تعالى (فَمَا لَكُمْ فِي الْمنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا) النساء:88 ، ففيه حث على الوحدة حتي على مستوى النقاش والكلام واتخاذ المواقف، وقال تعالى (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ التوبة:107 ، حيث جعل التفريق بين المؤمنين مقابل الكفر والإرصاد اشارة الى أهمية الوحدة وخطورة التفرق والتشتت.
إن الأمة الإسلامية لا يمكن لها أن تنهض من واقعها وتفير من حالها وهي متفرقة متنازعة، ولكن هذه الوحدة لابد أن تقوم على أسس واضحة ومتينة.
وبعد فهذه عشر قيم رئيسة أرى- والله اعلم- أن النهضة لا يمكن أن تقوم بدونها وهي قيم كما نلاحظ جاء القرآن لترسيخها والتأكيد عليها، وهي شاملة لكل مجالات الحياة سواء فيما يتعلق بالجانب الديني أو الدنيوي [43]، وهي ليست قيما نظرية ولكنها قابلة للتطبيق في واقع الحياة، وقد ذكر القرآن نماذج حية تمثلت هذه القيم واقعاً عملياً، وهذا ما سنعرض له في المحور التالي بإذن الله من خلال قصة ذي القرنين في سورة الكهف.
قيم النهضة في القرآن الكريم (دراسة وتطبيق)
د. حامد يعقوب يوسف الفريح ([*])
المحور الثاني
نموذج تطبيقي لقيم النهضة (قضة ذي القرنين)
توطئة:
إن مما يزيد من قناعة المرء بالقيم والمبادئ هو أن يراها متمثلة في نماذج حية في واقع الحياة، وإلا فسوف تبقى هذه القيم مجرد أفكار نظرية تراود حلم الإنسان، لاسيّما إذا كانت هذه القيم تتعلق بأمر عظيم كقضية النهضة التي تحتاج إلى جهود كبيرة لتحقيقها في الواقع، وهي ليست أمراً مستحيلا أو خارقاً للعادة، ولكنها تتطلب سعياً حثيثاً من أجل الوصول إلى ذلك المقصود، ويسهل هذا الأمر حين تنكر نماذج عملية تمثلت فيها النهضة واقعاً ملموساً، ولذلك أورد الله في القرآن قصصاً من أجل تدبرها والاستفادة مما فيها من الدروس والعظات والعبر (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ) يوسف: 111، ومن القصص التي أوردها القرآن قصة ذي القرنين في سورة الكهف، وهي التي سوف تكون بإذن الله النموذج التطبيقي الذي تحققت في النهضة من خلال القيم التي تمثلت في هذه القصة.
قيم النهضة من خلال قصة ذي القرنين:
إن الهدف من عرض هذه القصة العجيبة: هو التركيز على موضوع القيم، ولذلك سوف نعرض عن الخوض في الروايات المختلفة والمضطربة، والتي وردت في تحديد شخصية ذي القرنين، ولماذا سمّي بذلك، ومتى ظهر والأمكنة التي وصل إليها وتعيين الأقوام الذين تعامل معهم [44]؛ لأنه ليس هناك مستند من القرآن أو من الأحاديث الصحيحة لهذه الأقوال، ولأن المقصود من القصة هو العبرة المستفادة، وهي تتحقق دون الحاجة إلى تحديد الزمان والمكان في أغلب الأحيان [45].
لقد أخبر القرآن بأن الله مكن لذي القرنين (إنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ ) الكهف: 84، واعترف هو بتمكين الله له وقال ما (قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ) الكهف:95 ، والآيات هنا لم تحدد ماهية التمكين، ولكنها أشارت إلى مظاهر هذا التمكين بعبارة موجزة (وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا) الكهف:84 ، فينصرف الذهن إلى كل وجوه التمكين في الأرض [46]، التي تمكن من خلالها من أن يقيم نهضة تعد *في ذلك الزمن- قمة في الحضارة والتقدم، أقامها على أسس راسخة يمكن أن نستمدها، من هذه القصة، وهذه القيم هي:
أولاً- الاخذ بالأسباب:
وهذه أول القيم التي تبرز في هذه القصة، فهذا الملك الصالح العادل الذي مكن الله له في الأرض وهيأ له الأسباب والوسائل لتحقيق النهضة، يخبر القرآن أنه قد استفاد مما منحه الله إياه من طرق وأسباب ووسائل، وأنه أحسن استغلالها وتوظيفها والتعامل معها (فَأَتْبَعَ سَبَبًا) الكهف:85 ، فأخذ بهذه الأسباب والوسائل، مع أن الذي مكنه هو رب السموات والأرض الخالق المدبر المتصرف في شؤون هذا الكون كيف يشاء (إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) النحل:40 ، فالنهضة والتمكين في الأرض على الوجه الصحيح لا يمكن أن يتحقق إلا بالجمع بين:
*الأسباب المادية [47] الظاهرة التي يمكن من خلالها التصرف وفق سنن الله في هذا الكون من أجل تسخيرها لتحقيق المصالح ودفع المفاسد.
الأسباب الغيبية من الإيمان بالله والتوكل عليه، والاسترشاد بالوحي الإلهي والسير على ضوء الهدايات المستمدة منه.
إن فقدان أحد هذين الجانبين سوف يؤدي إلى نتائج لا تحمد عقباها، وهذا ما حصل للنهضة اليونانية والرومانية سابقا، وللنهضة الغربية- في الوقت المعاصر- التي اعتمدت على الأسباب المادية فقط، فسبب لها الشقاء، بينما اعتمدت الحضارة النصرانية على الجانب الروحي فقط، فأصابها العجز والفشل.
لقد جمع ذو القرنين بين الاعتماد على الله، وبين الأخذ بالأسباب [48] المادية، وضرب في الأرض في رحلاته الثلاث إلى مغرب الشمس ومطلعها وشمالها، حتى تمكن من تحقيق مقصوده في إقامة نهضة إيمانية وعمرانية.
ثانياً- إقامة العدل والجزاء بالمثل:
لما انطلق ذو القرنين ووصل إلى مغرب الشمس [49]، وجد هناك قوماً، فخيره الله بعد أن مكنه منهم بين أن يعزبهم وبين أن يعاملهم بالحسنى [50]، وكان بإمكانه - وهو الذي ملك القوة والسلطان وهم القوم المغلوبون- أن يبادر إلى استئصالهم والتخلص منهم، لكنه أعلن دستوره في معاملة البلاد التي فتحها واستولى عليها، (فقال أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً 87 وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَآءً الحسنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً) الكهف: 87 -88 .
إنها سياسة العدل التي تورث التمكين في الأرض، فالمؤمن الصالح ينبغي أن يجد الكرامة والتيسير والجزاء الحسن عند الحاكم [51]، والمعتدي الظالم يجب أن يلقى العذاب والإيذاء، وحين يجد المحسن في المجتمع جزاء إحسانه جزاء حسناً، ومكاناً كريماً وعوناً، وتيسيراً، ويجد المعتدي الظالم جزاء إفساده عقوبة واهانة، حينها يجد الناس ما يدفعهم إلى العمل، ويحفزهم إلى الصلاح والإنتاج، أما إذا اختل ميزان العدل فأصبح المعتدون الظالمون مقربين مكومين عند الحاكم، والعاملون المخلصون مبعدين منبوذين، فعند ذلك يسود الظلم وتنتشر الفوضى ويعم الفساد [52].
إن ذا القرنين يقدم منهجاً واضحا لكل من يتصدى لأمر النهضة، هذا المنهج يقوم على سياسية العدل بين الناس ويطبق على الجميع دون استثناء، ويعطى كل ذي حق حقه، يكافئ المحسن على إحسانه، ويعاقب المسيء على إساءته، وبهذا تستقيم الأمور، ويفيء الناس إلى ظلال العدل الوارفة [53].
ثالثاً- تحقيق الأمن:
من القيم التي حرص ذو القرنين على إيجادها وتحقيقها من خلال مسيرته الإصلاحية في رحلاته الثلاث قيمة الأمن، وهي بلا شك مطلب أساس لا يمكن أن تقوم نهضة وتدوم دون توافر الأمن بجميع مجالاته؛ الداخلي والخارجي، وأيضاً الأمن الفكري والسياسي والاجتماعي والاقتصادي.
ولاشك أن تحقيق الأمن ثمرة من ثمار سياسية العدل التي سار عليها ذو القرنين، إلا أننا- على ضوء رحلاته- يمكن أن نتلمس جوانب تحقيق هذا الأمن، وهي:
*في رحلته الأولى إلى مغرب الشمس، حيث اتخذ مبدأ مكافأة المحسن ومعاقبة المسيء، وهذا من أعظم أسباب الأمن؟؛ لأن الإنسان إذا علم بأن حقوقه محفوظة، لا يتعدى عليها أحد، وأنه مطالب بأن يؤدي حقوق الآخرين كاملة من غير نقصان، يستوي في ذلك الجميع، شعر بالأمن والأمان النفسي والبدني، وانطلق إلى البذل والعطاء.
في رحلته إلى مطلع الشمس [54]، حيث (وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا) الكهف: 90، بمعنى أنه لا يوجد ما يسترهم عن الشمس [55]، وهي حالة تدل على مستوى من التخلف الحضاري والعمراني الذي يعيشونه، وهو بلا ريب من أسباب انعدام الأمن الاجتماعي والاقتصادي، والسياق لم يذكر ما صنعه ذو القرنين مع هؤلاء القوم، لكنه أشار بقوله (كذلك) ومعناه: فعل معهم كفعله مع الأولين أهل المغرب [56]، وهو الدستور الذي أعلنه في الشعوب الذي تمكن منها: الإصلاح واقامة العدل، ورفع الظلم وحماية المستضعفين، وهي كفيلة بتحقيق الأمن والرخاء.
*في رحلته الثالثة إلى ما بين السدين، حيث طلب منه القوم المستضعفون [57] أن يحصيهم من هجوم الأعداء المفسدين عليهم (قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَىٰ أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا) الكهف:94 ، فقام ببناء السد للدفاع عنهم، وبذلك حقق لهم الأمن الخارجي، وهو في غاية الأهمية؛ إذ لا يمكن أن تحصل نهضة في الداخل إذا كان أمن البلاد مهدداً من الخارج "ففرض على الحاكم أو من يتولى شأن نهضة المسلمين أن يقوم بحماية الخلق في حفظ بيضتهم، وسد فرجتهم، واصلاح ثغرهم" [58].
رابعاً- إعلاء شأن العمل الجماعي:
وهذه القيمة تبدو جلية في قصة ذي القرنين، وذلك من خلال الخطاب الجماعي المتكرر الذي كان يوجهه ذو القرنين إلى القوم الذين وجدهم دون السدين [59]، في قوله (فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ) الكهف 95، فهو يطلب منهم المساعدة والمظاهرة في بناء السد، فمنهم القوة البشرية والجهد العضلي وتوفير المواد الأولية، ومنه الدعم المالي والإشراف العام، وتعد هذه العبارة القرآنية الموجزة (فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ) معلماً قراًنيا بارزاً في تضافر الجهود وتوحيد الطاقات والقدرات والقوى [60]، وأيضا في قوله (اءتوني زبر الحديد) الكهف: 96 وهو أمر لهم بأن يناولوه القطع الكبيرة من الحديد، فنضدها وبناها، حتى ساواها بقمتي الجبلين، ثم أمرهم بإيقاد النار تحت هذا الحديد المنضود (قَالَ انْفُخُوا) الكهف:96 ، ثم أمرهم بأن يُحضروا النحاس المذُاب ليصبه على الحديد المصهور (قَالَ آتُونِي ([61]) أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا) الكهف:9 .
وهكذا نرى أن هذا الإنجاز العظيم وهذه النهضة العمرانية الضخمة ما كانت لتتم إلا بفضل من الله، ثم بالعمل الجماعي الذي تكاتفت فيه الجهود [62]، وحشدت فيه القوى البشرية، واستثمرت بواسطته الطاقات والقدرات، فعلى القيادة الواعية في هذه الأمة أن تستفيد من تجربة ذي القرنين في الجمع والتنسيق والتعاون وأن ترفع شعار (فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ).
خامسا - العمل المتقن:
القرآن في الأساس كتاب هداية ودعوة، ولكن هذا لا يمنع أن يستفاد منه في الجوانب العلمية والحياتية الأخرى، ومن ذلك: تجربة ذي القرنين في بناد السد، والعمل المتقن الذي تمكن من خلاله من إقامة هذا البناء الشامخ المتماسك. لقد استطاع ذو القرنين بفضل تمكين الله له، ثم بفضل ذكائه وفطنته من الاهتداء إلى هذه الطريقة العجيبة في بناد هذا السد، وهي الجمع بين الحديد والنحاس والتي تعد سبقاً علمياً متقدًما، يقول سيد قطب: وقد استخدمت هذه الطريقة في تقوية الحديد، فوجد أن إضافة نسبة من النحاس إليه تضاعف مقاومته وصلابته، وكان هذا الذي هدى الله إليه ذا القرنين، وسجله في كتابه الخالد سبقاً للعلم البشري الحديث بقرون لا يعلم عددها إلا الله [63].
وقد توصلت الباحثة المصرية المهندسة ليلى عبد المنعم عبد العزيز الخبيرة بإحدى الموسوعات الأمريكية إلى تركيبة جديدة من "الخرسانة المسلحة" تقول عنها إنها استخدمت فيها نفس المواد التي اعتمد عليها ذو القرنين في إقامة الحاجز الذي يفصل بيننا وبين يأجوج ومأجوج، هذه الخرسانة تتكون من أحد منتجات البترول مضافاً إليه الحديد المنصهر مع الإسفلت، فتنتج خلطة شديدة التماسك، لها قدرة على مقاومة الزلازل وعوامل التعرية وغيرها من القوى المؤثرة على المباني مهما بلغت شدتها، واستلهمت الباحثة دراستها من قوله تعالى (آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا) الكهف: 96 .
توقفت الباحثة أمام هاتين الآيتين وتدبرتهما، وبعد عدة تجارب توصلت إلى هذه التركيبة.
يقول د. زغلول النجار: إن ما توصلت إليه الباحثة هو لمحة من لمحات الإعجاز القرآني في العلم الذي يتكشف لنا يوماً بعد يوم، وأضاف: إن الباحثة استمدت سر تركيبتها من قصة ذي القرنين الذي ألهمه الله استخدام مادة القطران التي اختلف العلماء حول تعريفها، فقال عنها بعضهم: إنها من النحاس المذاب [64]، بينما عرفها آخرون بأنها إحدى مشتقات البترول [65]، وأضاف عليها ذو القرنين قطع الحديد المنصهر؛ لتكوين مادة صلبة يستحيل طرقها، ثم بنى فوقها السد لحماية القوم من يأجوج ومأجوج [66].
ولم يكتف ذو القرنين بإتقان بناء السد، وانما وضع معياراً لجودة الأداء [67] واختبار متانة هذا السد واتقان بنائه، وهذا المعيار هو أن يأجوج ومأجوج حاولوا أن يظهروا ويتسلقوا عليه، فلم يستطيعوا؛ لارتفاعه وشذة ملاسته، وحاولوا- أيضاً- أن يهدموه وينقضوه فلم يتمكنوا؛ لصلابته وسماكته (فَمَا اسْطَـعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا) الكهف: 97 .
سادساً- إعلاء قيمة الوقت:
بينا في المحور السابق أهمية الوقت كقيمة أساسية من قيم النهضة، وقد تمثلت هذه القيمة بشكل واضح في قصة ذي القرنين من خلال ما قام به من إنجازات عظيمة في وقت قصير جداً بحساب زمن النهضات.
هذا الإنجاز حققه من خلال رحلاته الثلاث، فبمجرد ما حصل له التمكين وتهيأت له الأسباب والوسائل، لم يتوان ولم يسوف [68]، بل اغتنم الفرصة وأحسن استغلال المناسبة، فأتبع الأسباب التي أتاه الله إياها بأسباب أخرى من عنده [69] وانطلق في رحلته إلى أقصى الأرض غرباً، يقيم حضارة ونهضة هناك من خلال دستور العدل والإصلاح الذي أعلنه.
ولم تقف همة هذا الملك المجاهد عند هذا الحد، بل شمر عن ساعد الجدَّ وركب البحر واجتاز القفر، وأخذ بالأسباب؛ حتى بلغ أقصى الأرض شرقاً [70]، وقام بتطبيق المنهج الذي خطه ورسمه في رحلته الأولى.
ولم تنته آمال هذا الحاكم العادل عند هذا الطموح، وانما أخذ يسابق الزمن؛ لأن حركة النهضة لا تنتظر الكسالى والفاترين، وانطلق إلى مهمة أخرى تختلف عن الرحلتين السابقتين من حيث طبيعة الأرض ونوعية البشر، وقام بعمل عمراني هامل بمقياس ذلك الزمن، والسياق القرآني يسير إلى أهمية عامل الوقت والاستخدام الأمثل له فى بناء السد من خلال إشارات لطيفة، فبعد أن عرض فكرته عليهم سرع مباسرة في التنفيذ (ءآتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ) ثم اتبع هذه المرحلة فورا بمرحلة أخرى؛ استثمارا للوقت (حَتَّىٰ إِذَا سَاوَىٰ بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قال انفخوا) ثم تلتها مرحلة ثالثة دون توان أو تأخير (حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًاً) والذي يظهر أنه كون فرق عمل ووضع برنامجاً زمنياً؛ استثمارا للوقت ولإنهاء هذه المهمة الجسيمة في الوقت المحدد.
إن رواد النهضة اليوم يجب أن يستفيدوا من تجربة ذي القرنين في استثماره للوقت، وكيف تمكن خلال فترة وجيزة- هي عمره القصير- أن يحقق هذا الإنجاز، ولو أنا حللنا تجربة هذا الملك، لوجدنا أن هناك عوامل كثيرة أثرت في إنجازاته، لكن يبقى العامل المهم هو الزمن.
سابعاً - وحدة الكلمة:
إن ذا القرنين في رحلاته الثلاث التي ذكرت في سورة الكهف، تمكن أن يخضع كثيراً من الأقاليم والأمم ويضمها إلى سلطانه، ولا شك أن هذه الأمم والشعوب متباينة في لغاتها وفي طباعها، وفي مستواها الفكري والحضاري، ولكن ذا القرنين استطاع بما أتاه الله من التمكين في سياسة النفوس أفراداً وجماعات، وبما يملك من الفطنة والذكاء، أن يوحد كلمة هذه الشعوب، ويمزج بين هذه الأمم المختلفة، ويقوي أواصر العلاقة بين الناس، ويزيل ما بين النفوس من تقاطع وتدابر وذلك من خلال المبادئ والقيم التي سار عليها [71].
إن شعار توحيد الكلمة واضح في الخطاب الذي كان يوجهه ذو القرنين إلى الشعوب التي كان يقودها، فهو يعبر بكلامه عن الأمة بمجموعها، إنه يقول: (نعذبه) فلم يقل: أعذبه، وأيضاً قال: (وسنقول) ولم يقل: وسأقول، فلكأنه يقول لهم: هذا هو حكمكم أنتم وليس هو حكمي فقط، وهذا قولكم أنتم وليس هو قولي فقط. وأيضاً هذا الأسلوب يمكن أن نلاحظه في خطابه إلى القوم الذين وجدهم دون السد، هذا الخطاب واضح فيه حرصه على جمع الكلمة وتوحيد الصف، يمكن أن نلمح ذلك في الصيغة الجماعية وفي التوجيه، لاحظ العبارات التي وردت في الآية (فأعينونى) (ءآتُونِي) (انفخوا) (ءآتُونِي) فإنها تدل على المعنى الذي ذكرنا، وهو توحيد الكلمة ورص الصفوف والمزج بين الآراء المختلفة والتنسيق بينها، للخروج برأي واحد يخدم الهدف الأساس، وهو نهضة الأمة.
ثامنا- المشاركة بين الراعي والرعية:
على الرغم من أن ذا القرنين كان ملكاُ، وأن الله قد مكن له في الأرض وآتاه من كل شيء سبباً، وأنه قد امتدّ سلطانه إلى مغرب الأرض ومشرقها وشمالها، ودانت له أمم وشعوب كثيرة، إلا أنه كان مثالاً حيا وأنموذجاً عمليا في التواضع، فهو لم يجلس في برج عال ويأمر وينهى ويعطي التوجيهات للناس، وانما نزل إلى الميدان وخالط الناس، وشارك مع العمال والصناع في بناء السد، فكان منهم الجهد البشري من الطاقة العمالية والمواد الأولية، ومنه الخبرة والإشراف والإدارة والدعم المالي، وهذه المشاركه من هذا الحاكم نواها واضحه جليه من خلال الآيات القرآنية الكريمة، فلم يتركهم يعملون وحدهم في تشييد هذا السد، وانما كان معهم بجسده وعقله وروحه في كل خطوة وفي كل مرحلة من مراحل البناء، في بداية الأمر استمع إلى شكواهم (قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) على الرغم من ضعف قدراتهم عن التعبير عما يريدون أو عن فهم ما يقال لهم، كما وصفهم القرآن (لَّا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ [72] قَوْلاً) وفي هذا دلالة على ضرورة استماع القائد أو الحاكم إلى مشاكل الناس؛ للتعرف على أحوالهم ومعاناتهم؛ ولكي يتمكن من وضع الحلول المناسبة، ثم حاول أن يعلمنهم ويهدى من خوفهم ورعبهم (قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ) الكهف: 95، ثم طلب منهم العون والمساعدة بكل ما أوتوا من قوة (فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ) وأطلعهم على المهمة المطلوب تنفيذها، فأوضح لهم الهدف وحدده؛ لكي يشاركوا في التنفيذ (أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا) ثم كلفهم بأن يأتوه بقطع الحديد (آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ) وأمرهم أن يضعوها بين الجبلين، ثم جاء دور خبرته وذكائه في جعل مستوى قطع الحديد مساوياً لمستوى الصدفين [73] (حَتَّىٰ إِذَا سَاوَىٰ بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ) ثم أمرهم بالنفغ لا يقاد النار لتسخين الحديد (قَالَ انْفُخُوا) حتى اذا جعله نارا لشدة احمراره وتوهجه، طلب منهم أن يؤتوه بالنحاس المذاب، ثم جاء دور ذي القرنين في وضع اللمسات الفنية الاخيرة على هذا المشروع الضخم (قَالَ ءآتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا)
وهكذا نرى هذا التلاحم بين الحاكم والمحكوم، بين القيادة والجماهير، ونلاحظ هذه المشاركة من أول خطوة في هذا المشروع إلى أن وصل إلى صورته النهائية، ليست مشاركة صورية، وانما مشاركة حقيقية في كل شيء، وهكذا النهضة لا يمكن أن تقوم في هذه الأمة إلا من خلال هذه المشاركة بين قيادة الأمة وبين شعوبها.
تاسعاً- الأمانة:
تعد الأمانة من أهم القيم الأساسية في نهضة الأمة ,ولا يمكن لأمة أن تنهض وتسود الإ إذا كانت
الأمانة روحاً تسري في جسدها قيادة وشعباً، وليست مجرد شعار يرفع ويردد باللسان، قال تعالي (يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) القصص: 26، فإذا كانت الأمانة مطلوبة في شأن استئجار شخص، فكيف إذا كان الأمر يتعلق بقضية تهم الأمة بأكملها وهو شأن نهضتها ورقيها؟
إن الأمانة قيمة من القيم التي نادى بها ذو القرنين، وجعلها مبدأ يسير عليه، وطبقها على نفسه قبل أن يطالب بها غيره. لقد كان أميناً في التعامل والتصرف مع القوم الذين وجدهم عند مغرب الشمس، فمع أنه خير في التصرف بهم؛ إلا أنه عاملهم بالعدل والمساواة، فكافأ المحسن وعاقب المسيء.
كان أميناً على ثروات القوم الذين لقيهم دون السد، لما عرضوا عليه أن يعطوه مالاً لكي يبني لهم سداً يحميهم من أعدائهم، لم يطمع في أموالهم ولم يستغل حاجتهم وخوفهم، ولم يتخذ الملك وسيلة للمغنم [74]، وانما قال: (قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا) الكهف: 95.
*كان أميناً على ما في باطن الأرض من ثروات ومعادن نفيسة، كان بإمكانه- وهو الذي معه الجيوش- أن يستولي على هذه الثروة الكبيرة، وأن يسرقها هو وجنوده ويحرم الشعب من أن يستفيد منها [75]، لكنه كان أميناً عفيفاً، فوجه هذه الثروة لبناء المشاريع التي يحتاجها الناس في هذه المنطقة.
*كان أمينأ على أرواحهم، فلما شكوا له جور الأعداء عليهم قام ببناء السد حفاظا على أرواحهم ودمائهم؟ لأنه يشعر بالمسؤولية عن الأرواح.
ان أميناً بتبليغ الرسالة لهم، فلما انتهى من بناء السدّ بيّن لهم أن السد سيكون مانعاً لصد القوم المفسدين إلى أجل محدد وهو مجيء وعد الله (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا) الكهف:98 .
عاشراً وأخيراً- الإيمان بالله وربط الأعمال كلها به:
وهذه القيمة هي رأس الأمر وعماده، وإنما أخّرنا ذكرها لتكون مسك الختام. إنّ الإيمان بالله واليوم الآخر هو الأساس الذي يجب أن تقوم عليه جميع الأعمال؛ وذلك لأن المسلم إنما يستمد قوته من الله وحده (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ) يونس: 9.
إن قضية الإيمان بالله وربط الأعمال به كان أمراً جليا في قصة ذي القرنين، فانطلاقته الأولى كانت منبعثة من إيمانه بالله واستمداد العون منه (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْض) الكهف:84 ، فالله سبحانه وتعالى هو الذي مكن له في الأرض وأمدّه بالأسباب، والتمكين لا يتحقق إلا بعد استيفاء شروطه التي ذكرها الله في القران، وهي الإيمان بالله والعمل الصالح (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَن َّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَ ّ لَهُمْ دينهم الذى ارتضي لهم ) النور: 55 ، فالإيمان بالله إذا هو أساس التمكين، وهو الركيزة الأولى التي تنطلق منها النهضة، وليس الأيمان بالمبادئ الأرضية التي أثبتت فشلها في نهضة الأمة على مر العقود [76].
لقد كان ذو القرنين مؤمنا بالله موحداً له، يربط أعماله التي يقوم بها بالله *عز وجل- فهو حينها أعلن دستوره العادل في الحكم بين الناس، لم ينس أن يذكر بفناء هذه الدنيا، وأن المرجع والمآل إلى الله في الأخرة حيث العدل المطلق والجزاء الحقيقي (ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا) الكهف:87 .
ولما عُرض عليه المال مقابل ما يقوم به من بناء السد، كان جوابه بأن ما مكّنه الله فيه من الإيمان والعمل الصالح والأسباب الدنيوية الأخرى، خير له مما عرض عليه من متاع الحياة الدنيا (قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ) الكهف:95 .
ولما أنجز ذو القرنين هذا المشروع الضخم الرائع، لم تأخذه نشوة البطر والكبرياء، ولم تسكره لذة الملك والانتصار، وانما أرجع النعمة والفضل إلى المنعم المتفضل، وربط الأعمال كلها بالله، وقال بلسان المؤمن المعترف بفضل الله عليه وتوفيقه وامتنانه (قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي) الكهف:98 .
وأخيراً وقف ذو القرنين أمام هذا البناء الشامخ وهذه النهضة العمرانية العظيمة، وتذكر المصير الذي ستؤول إليه هذه الأرض ومن عليها من الجبال والحواجز والسدود من الدك والتدمير قبل يوم القيامة، وانطلقت منه المشاعر الإيمانية تجاه الخالق المتصرف في هذا الكون الذي بيده مقاليد السموات والأرض (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا) الكهف: 98.
وهكذا نرى كيف أن الإيمان كان مصاحباً لذي القرنين في كل حركاته وسكناته، فهو قد انطلق من ايمانه بالله وختم مسيرته بالإيمان بالله واليوم الاخر، وخلال مسيره كان أعماله وانجازاته موصولة بالله.
وبعد فهذه عشر قيم حاولت- حسب اجتهادي- استنباطها من قصة ذي القرنين، وأراها قيماً أساسية قامت عليها النهضة التي أشادها ذو القرنين في ذلك الزمن الذي عاش فيه، وربما تكون هناك قيم أخرى غيرها، لكنها تدخل ضمن هذه القيم الرئيسة، فما كان فيها من توفيق فمن الله وحده، وما كان فيها من خطأ وتقصير فمن نفسي والشيطان، واستغفر الله وأتوب إليه.
يتبع