استئجار الأرحام دراسة فقهية مقارنة(2-2)
د/ حصة بنت عبد العزيز السديس
المبحث الأول: أفراد المسألة:
المطلب الأول: الرحم الظئر والأم البديلة.
أ – الأم المستأجرة "الرحم الظئر"(16).
وذلك يكون بأن تتقدم امرأة تستطيع الحمل والولادة إلى أسرة لا تستطيع الزوجة فيها أن تحمل أو تلد، إما لغياب الرحم لديها نهائياً أو عدم قدرته على احتضان الجنين أو لعدم وجود الرغبة لدى هذه الزوجة بالحمل ترفهاً وتجنباً لمشاق الحمل والولادة، فتأتي المرأة المستعدة للحمل وتقوم بإتمام العملية مقابل أجرة ويوثق ذلك بعقد(17).
وقد ظهرت الفكرة على الواقع عندما رفضت السيدة ماري وايتهد تسليم الطفلة التي حملتها بالنيابة بعد يومين من ولادتها إلى الزوجين اليزابيث ووليام ستيرن اللذين كانا قد تعاقدا معها(18).
وقد جرى التعاقد بواسطة مركز نيويورك للعقم، وذلك مقابل (10) آلاف دولار للسيدة وايتهد، ونفس المبلغ لمركز نيويوريك للعقم، بالإضافة إلى دفع مبلغ 500 دولار لتغطية نفقات أخرى(19).
وقد وصلت المشكلة إلى القضاء في أمريكا، وحكم القاضي بصحة التعاقد وبأن الطفل للزوجين إليزابيث ووليام، وقد أعلن المحامي نويل كوين صاحب الوكالة التي أشرفت على توقيع العقد أن ماري لم تكن أول أم بالوكالة في الولايات المتحدة، فقد سبقتها أمهات أخريات، بل ورفضت أربع منهن تسليم أطفالهن، ولكن حالة ماري أول حالة تصل إلى القضاء وأضاف أن 65 طفلاً أمريكياً ولدوا هذا العام بمقتضى عقود من هذا النوع، وأن في أمريكا اثني عشر مركزاً لخدمة هذا الغرض(20).
وفي حالة ثانية فقد وافقت ريتا باركر على أن تكون أماً بديلة ورحماً مستعاراً لزوجين هما بولين وهاري تايلر وذلك مقابل أجر.
وحملت الأم المستعارة لقيحة الزوجين، وبدأ هاري تايلر يتردد على المرأة التي حملت له ولده، ووقع في غرامها، وعندما وضعت رفضت تسليم الوليد الذي حملته إلى الزوجين تايلر، ورفع الأمر إلى القضاء(21).
يقول د. بكر أبو زيد رحمه الله: (وقد أثبتت الإحصائيات والأخبار العالمية الموثقة وجود أعداد غير قليلة من القضايا والمنازعات على المواليد من هذه الطرق بين ذات الرحم وذات الماء، وبين ذات الرحم وصاحب الماء)(22).
وفي بريطانيا وضعت أم بديلة تدعى كيم كوتون طفلة لزوجين لا تعرف عنهما شيئاً، بواسطة وكالة تقاضت مبلغ 14 ألف جنية من الزوجين للأم البديلة و 65000 جنيهاً لها منها ألف جنية لتغطية نفقات العلاج(23)، ورفضت كذلك هذه الأم تسليم وليدتها(24).
وأصبحت الصحف تزودهم بأسماء الوكالات التي توفر أرحاماً للإيجار وعناوينها من أمريكا إلى لندن إلى فرانكفورت وأسعارها(25).
المطلب الثاني: الأم القريبة(26).
الأم القريبة الجدة الأم، الأخت الأم، ويظهر ذلك في أسرة لا تستطيع الزوجة فيها أن تحمل أو تلد، ولا تملك نفقات أم مستأجرة، فتلجأ إلى إحدى قريباتها لتقوم بالحمل عنها بدون أجر. وقد حصلت هذه الحالة في صورتين:
1 – الجدة الأم:
والأم البديلة في هذه الصورة هي والدة صاحبة البييضة. والحادثة حصلت في مدينة جوهانسبرج بجنوب إفريقيا، حيث وضعت سيدة من جنوب إفريقيا ثلاثة توائم بعد أن اتفقت مع ابنتها وزوجها على أن تكون أماً بديلة.
ذلك أنه بعد زواج كارين من أكيلنو فبراير عام 1983م، حملت الزوجة بعد الزواج مباشرة ووضعت مولودها الأول ألكينو ولكنها أصيبت بالسرطان واستئصال الرحم، وأمام رغبتها في الإنجاب والإشارة عليها باللجوء إلى الأم البديلة من قبل الأطباء وضعف الإمكانيات المادية، كان الحل بعرض أمها أن تكون هي الأم البديلة وهي في الثامنة والأربعين من عمرها، وبالفعل تم توقيع العقد وحملت الجدة ثم وضعت ثلاثة توائم لابنتها(27).
2 – الأخت الأم:
والأم البديلة في هذه الصورة هي ابنة صاحبة البييضة: والحادثة كانت في إيطاليا، حيث وضعت جيوفانا كابريللي 20 عاماً ابناً نيابة عن والدتها مانيولا كابريللي، 48 سنة وكانت الأخيرة قد تزوجت بعد وفاة زوجها والد جيوفانا من شاب يدعى ماركو برزنتو 36 عاماً، وقد كانت مانيولا أنجبت من زوجها الأول ولدين وبنتاً هي جيوفانا ولكنها كانت تسعى لتحقيق رغبة زوجها ولم تكن باستطاعتها الإنجاب وهي في هذا السن، فأشار عليها الأطباء باللجوء إلى الأم البديلة.
وأمام النفقات الضخمة توقف تنفيذ العملية إلى أن عرضت جيوفانا على أمها أن تكون هي الأم البديلة.
وبالفعل تم تخصيب بييضة الأم بماء الزوج وأودع كل ذلك في رحم الابنة جيوفانا فحملت بشكل طبيعي وأنجبت طفلاً سلمته لأمها(28).
المبحث الثاني: التكييف الفقهي للمسألة.
المطلب الأول: الصور المحرمة(29).
تأجير الأرحام هو عقد إجارة على محرم، وذلك للآتي:
1 – أن الصورة التي يجري عليها تأجير الأرحام – وهي التي يكون فيها المني من الزوج والبييضة من الزوجة والرحم من أجنبية – محرمة شرعاً للمفاسد التي تقدم بعضها.
2 – أن الذي يجري بين الزوجين صاحب المني وصاحبة البييضة من جهة وصاحبة الرحم من جهة أخرى من اتفاق هو عقد إيجار(30)، وأن القياس بين الرضاع واستئجار الرحم هو قياس مع الفارق، وذلك لأن عقد الرضاعة عقد إجارة شرعي، بنص الكتاب، قال تعالى: (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) [الطلاق:6]. أما استئجار الرحم لأجل الحمل، فهو عقد إجارة غير شرعي، والإجارة على المحرم محرمة.
والمرأة التي لا تملك تأجير رحمها، فلا تباح بالإباحة، لأن الرحم يدخل في موضوع الفروج، والأصل في الفروج الحرمة، قال تعالى: (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ) [المؤمنون:5-7].
وأيضاً فالعقد على إجارة الرحم، يعد إجارة لمنفعة الرحم ابتداءً، ولكن في الحقيقة هو بيع للطفل المولود انتهاءً، وبيع الحر حرام.
أيضاً فإن اللبن بطبعه معد للخروج، فهو إفراز من إفرازات الجسم، وهو فضلة طاهرة، خلقت في الجسم ليقذفها إلى الخارج، فينتفع به الغير، أو ليتخلص منه الجسم، أما الرحم فهو جزء خلق ثابتاً في الجسم، ويؤدي وظيفة الحمل فيه، والحمل هذا يؤثر تأثيراً بالغاً في الأم، إذ يؤدي إلى تغيرات فسيولوجية ونفسية وجسدية أثناء الحمل، وبعد الوضع، ويختلف هذا كثيراً عما يحدث في عملية الإرضاع.
ثم إن مشاعر الأم البديلة تتغير بالحمل والولادة، تشعر بأنها أم ذلك المولود، ولا تستطيع التفريط فيه، لقيام الروابط النفسية العميقة بينهما، وقد يؤدي بها الأمر إلى أن تضحي بنفسها من أجل وليدها، ولا يحدث مثل هذا في عملية الرضاعة بالنسبة إلى المرضعة.
ثم إن الحمل والوضع قد يؤدي إلى هلاك الأم، فإن هلكت بسبب ذلك فإنها تعد شهيدة في ميزان الإسلام.
فقياس الرحم على الإرضاع قياس مع الفارق، ثم إن استئجار الثدي للإرضاع لا يحتاج إلى عقد زواج بين الزوج والمرضعة، بينما لا بد من عقد زواج بين الزوج وصاحبة الرحم المستأجر لتقليل المفاسد.
الصورة الثانية: وهذه الصورة هي الصورة الأولى، إلا أنه تنقل اللقيحة الجنين المجمد (frozen embryo) إلى الأم البديلة، ولكن بعد وفاة الزوجين(31)، وهذه الصورة محرمة؛ لأنها تأخذ أحكام الصورة الأولى المشابهة لها، وتزيد بولادة من لم تنجبه حية.
الصورة الثالثة: تلقيح بويضة الزوجة بماء رجل غريب ليس زوجها وتوضع اللقيحة في رحم امرأة أخرى، ويلجأ إلى هذه الصورة إذا كان الزوج عقيماً، والزوجة عندها مانع وخلل في رحمها، ولكن بييضها سليم، وهذه الصورة محرمة بسبب تلقيح البويضة بماء غير زوجها يقيناً لأنها تؤدي إلى اختلاط الأنساب المحرمة شرعاً، وحفظ الأنساب من ضروريات الشرع، وهذا المولود لا يجوز لزوج المرأة الحامل إلحاقه بنسبه لأنه يعلم يقيناً أنه ليس منه، بل يجب عليه نفيه، كما أنه لا يجوز إلحاقه بصاحب المني، قال – عليه الصلاة والسلام – فيمن استلحق ابناً من الزنا: "لا يلحق به ولا يرث به"، وفي رواية "هو لأهل أمه من كانوا"(32)، وكذلك لا يجوز إلحاقه بزوج صاحبة البويضة، إذا علم أن هذا الولد من التلقيح الصناعي بمني أجنبي، لذا وجب عليه نفيه، وإلا فإنه يكون مستلحقاً لغير ابنه، وهذا حرام وكبيرة، وعليه فولد الزنا هنا يلحق بأمه صاحبة البويضة ولا يثبت له نسبٌ من ناحية الأب.
الصورة الرابعة: في هذه الصورة يتم تلقيح نطفة مأخوذة من الزوج وبويضة مأخوذة من امرأة ليست زوجته، ثم تزرع اللقيحة في رحم امرأة أخرى، لتحمله في رحمها، وتستخدم هذه الصورة إذا كانت الزوجة مصابة بمرض المبايض بحيث لا يمكن أن تفرز بويضات، ولا يمكنها أن تحمل أو تكون المرأة قد وصلت إلى سن اليأس، وهذه الصورة محرمة؛ لأن المرأة التي أخذت بويضتها أجنبية عن الزوج الذي لقحت البويضة بنطفته، وأيضاً فإن رحم المستأجرة استعمل بشكل غير مشروع.
ثانياً: الصورة المختلف في تحريمها:
في هذه الصورة يتم تلقيح بويضة الزوجة بماء زوجها، ثم تعاد اللقيحة إلى زوجة أخرى لذات الرجل، وذلك بمحض اختيارها للقيام بهذا الحمل عن ضرتها، عند قيام الحاجة، كأن يكون رحم إحدى الزوجتين معطلاً أو منزوعاً ولكن مبيضها سليم، بينما يكون رحم ضرتها سليماً.
وقد قسم الباحثون في شرعية هذه الصورة إلى فريقين:
الفريق الأول: المانعون: قالوا: هذه الصورة لما يندرج تحتها من المشاكل، ولاحتمال أن الزوجة الأخرى هي التي تم تلقيح بويضتها إذا لم يمتنع عنها زوجها، وفي هذه الحالة لم يعلم من هي الأم.
وقد كان المجمع الفقهي قد أجاز هذه الصورة في دورته السابعة في عام 1404هـ، بشرط الحيطة الكاملة في عدم اختلاط النطف وأن لا يتم ذلك إلا عند قيام الحاجة، ولكن عاد المجمع وألغى هذا القرار في دورته الثامنة عام 1405هـ، وذلك: (لأن الزوجة الأخرى التي زُرعت فيها لقيحة بويضة الزوجة الأولى، قد تحمل قبل انسداد رحمها على حمل اللقيحة من معاشرة الزوج لها في فترة متقاربة من زرع اللقيحة، ثم تلد توأمين، ولا يعلم ولد اللقيحة من ولد معاشرة الزوج، كما لا تعلم أم ولد اللقيحة التي أُخذت منها البويضة من أم ولد معاشرة الزوج، كما قد تموت علقة أو مضغة أحد الحملين، ولا تسقط إلا مع ولادة الحمل الآخر الذي لا يعلم أيضاً أهو ولد اللقيحة، أم حمل معاشرة الزوج، ويوجب ذلك اختلاط الأنساب لجهة الأم الحقيقية لكل من الحملين، والتباس ما يترتب على ذلك من أحكام الميراث والنفقة والبر، وإن ذلك كله يوجب التوقف عن الحكم في الحالة المذكورة(33).
وأطباء الحمل والولادة يؤيدون احتمال وقوع الحمل الثنائي من معاشرة الزوج من حالة اللقيحة واختلاط الأنساب من جهة الأم.
والذي يظهر أن هذا الاحتمال وإن كان وارداً نظرياً لكنه من الناحية العلمية مستبعد؛ لأن زرع اللقيحة تحتاج إلى تحضيرات، وهذه التحضيرات كفيلة بمنع اتصال الزوج بها، ولا تخرج من المستشفى إلا بعد أن يكون المبيض قد أغلق بعد العلوق، لذلك فإن الحمل الثاني مستبعد من الناحية العلمية، وإن كان ذلك ممكن نظرياً، وهذا ما قرره فريق من الأطباء المعتمدين(34).
ثم إن الزوج إذا أخذ بالاحتياط بأن يعتزل الزوجة الحاضنة اعتزالاً تاماً، حتى يتبين الحمل، فإن المحذور آنذاك ينتفي، ولا يبقى مع انتفائه سببٌ لسحب الجواز.
واستدل المانعون أيضاً لهذه الصورة بقياسها على حرمة السحاق، فقالوا: إذا كان السحاق محرماً، فهذا النقل لماء امرأة إلى امرأة أخرى لا ينبغي أن يكون في هذه العملية(35).
والذي يظهر أن قياس الأم البديلة الزوجة الثانية على السحاق بجامع نقل ماء امرأة إلى أخرى هو قياس مع الفارق؛ لأن القصد من السحاق هو المتعة والشهوة، وليس الاستيلاد، والمتعة والشهوة مفقودة في مسألة الأم البديلة الزوجة الثانية؛ لأن هدف هذه الصورة هو الاستيلاد فقط دون شهوة، ولا يكون في السحاق إنزال الماء دوماً فهو محرم وإن لم يتم القذف من المرأتين.
ثم إن في عملية السحاق لا تنتقل البويضات إلى الطرف الثاني، بخلاف الأم البديلة التي تنقل إليها البويضة المخصبة بعملية جراحية.
الفريق الثاني: المجيزون: قالوا بجواز هذه الصورة باعتبار أنهما زوجتان لرجل واحد، ولأن الزوجة الأخرى قد تبرعت بحمل اللقيحة لضرتها، وفي هذه الصورة فإن وحدة الأبوة متحققة، والتماسك العائلي موجود، ومظلة الأسرة قائمة وسليمة ولا يوجد في هذه الحالة اختلاط أنساب بالنسبة للزوج، ولا بالنسبة إلى الزوجة إذا أخذ بالاحتياط ضمن ضوابط وضمانات وإجراءات تدعو إلى الاطمئنان في عدم اختلاط الأنساب، لأجل هذا أباح المجمع الفقهي لرابطة العالم الإسلامي بالأغلبية هذه الصورة في دورته السابعة(36)، ولكن بشرط الحيطة الكاملة في عدم اختلاط النطف، لأن الخطأ في اختلاط بويضة ملقحة بأخرى ستمتد آثاره إلى أجيال وأجيال، وأيضاً اشترط أن لا يتم ذلك إلا عند قيام حاجة.
والذي يظهر أن الاحتياط الواجب أخذه يتحقق في الضمانات والضوابط والإجراءات الكافية قدر الإمكان، وبما هي متاحة، وبقدر ما يستطيعه الإنسان، ولا يكلف الإنسان فوق طاقته لمنع الخطأ والتلاعب ولا ينبغي منع مثل هذه المصالح الشرعية في الإنجاب بحجة احتمال ارتكاب الخطأ والتلاعب؛ لأنه لو بنينا مشاريعنا على قاعدة الخوف من الخطأ فلن يُنجز أي شيء، ولا بد من إيجاد طرق لمنع الخطأ والتلاعب، وعلى سبيل المثال: فقد يحصل اختلاط في الأطفال في بعض مستشفيات الولادة حين تخطئ الممرضات في وضع الأساور التي تحمل التعريف بالطفل، فهل يعني ذلك تحريم دخول مستشفيات الولادة خوفاً من اختلاط الأولاد؟ أم لا بد من لعمل لوضع ضوابط وإجراءات قوية وحاسمة لمنع مثل هذه الإشكالات، ومع ذلك يجب أن نأخذ تلك المحاذير بعين الاعتبار، علينا أن نحتاط لديننا ونحتاط لأنسابنا، ولكن ليس الاحتياط المضيق المتشدد الذي يوقع في حرج شديد، والذي يؤدي إلى تحريم الحلال، فنغلق الباب أمام حلال شرعي، فكما نحلل حراماً قد نُحرم حلالاً(37)، أو نُحرم ما هو جائز وقت الحاجة والضرورة.
وبهذا يتبين رجحان جواز زرع اللقيحة في رحم الزوجة الأخرى لذات الرجل، بشرط وجوب الأخذ بالاحتياط لضمان عدم اختلاط الأنساب من جهة الأم(38)، وهذا هو حل شرعي ورؤية إسلامية أراها راجحة وهي الزواج بزوجة ثانية لحل مشكلة الأم البديلة، والتي اخترعها الغرب وشاعت فيه.
وينبغي أن تكون لهذه الزوجة حقوق الزوجة الأولى نفسها، وأن لا يكون هذا الزواج زواجاً بنية طلاق، وأن يتم ذلك برضاها، ثم تسلم الأم البديلة هذا المولود إلى الزوجة الأولى، ومن محاسن هذه الرؤية إحداث نوع من التأليف بين قلبي الزوجتين؛ لأن هذا الطفل سوف يربط بينهما أكثر، ولا تشعر الأم الحامل آنذاك أيضاً بأن وليدها قد اغتصب منها قسراً، إذ إن الطفل يعيش معهم ضمن العائلة فلا ينتزع منها، أما في الغرب فإن الذي يحدث هو أن صاحبة الرحم المستأجر توقع هذا العقد، وربما تحت سطوة حاجتها إلى المال، ولكن مشاعرها حين توقيع العقد تختلف تماماً عن مشاعرها حين تضع الوليد، فهذا الانتزاع قد يترك في قلب هذه الأم جروحاً قد لا تلتئم على مر الزمان، والقضايا الكثيرة في محاكم الغرب تشهد على ذلك.
ومن ناحية ثانية؛ إن قلنا بعدم جواز التأجير في مسألة الأرحام فإن هذا لا يمنع من تقديم هدية ومكافأة إلى الزوجة صاحبة الرحم، وإكرامها لقاء تضحيتها ومعروفها، فعن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أتى إليك معروفاً فكافئوه"(39).
ولكن المشكلة تكمن في قوانين بعض الدول التي تمنع تعدد الزوجات، ولأن هذا الأسلوب لا يجري في البلدان التي تعارض أنظمتها تعدد الزوجات، وقد يكون الحل في هذه الحالة إجراء عقد زواج شرعي عرفي على الزوجة الثانية، وليس زواجاً رسمياً، حتى لا يخضع الزوجات للمساءلة القانونية، والعقد العرفي هذا مقبول من الناحسة الشرعية في هذه الحالة(40).
المطلب الثاني: حكم الإجارة على محرم(41).
رأي الفقهاء في الإجارة على محرم.
يشترط الفقهاء لصحة عقد الإجارة أن تكون المنفعة مباحة، فإذا كانت المنفعة محرمة لم يجز العقد عليها(42).
ثم إن المنفعة المحرمة لا يصح الاستئجار لها؛ لأنه استئجار على منفعة غير مقدورة الاستيفاء شرعاً(43).
وقد نص الفقهاء على حرمة بذل الأجرة وأخذها في الإجارة المحرمة، وقد خالف أبو حنيفة في حكم أخذ الحمال المستأجر لحمل الخمر أجرته رائياً أنه يجوز له ذلك، وإن اتفق معهما في حرمة أخذ الأجرة في استئجار الإماء للزنا(44)، ووجه قول أبي حنيفة في حمال الخمر أن نفس الحمل ليس بمعصية بدليل أن حملها للإراقة مباح، وكذا ليس بسبب المعصية وهو الشرب؛ لأن ذلك يحصل بفعل فاعل مختار وليس الحمل من ضرورات الشرب فكانت سبباً محضاً(45).
وذهب الحطاب المالكي إلى وجوب التصدق بالأجرة على المساكين، إذا فات الأمر وحصلت الإجارة المحرمة وانتهت(46)، وهو وجه عند الحنابلة(47).
من كل ذلك يظهر ما يلي:
1. حرمة استئجار الأرحام؛ لأن الصورة التي يجري عليها محرمة فلا يجوز العقد عليها.
2. حرمة بذل الأجرة من الزوجين الراغبين بالإنجاب.
3. حرمة أخذ الأجرة من الأم المستأجرة.
4. لو حصلت فإنه يجب على الأم المستأجرة أن تتصدق بالأجرة على المساكين.
المبحث الثالث: ما يترتب على المسألة من أحكام.
المطلب الأول: نسب المولود.
أهمية نسب المولود في مسألة الرحم المستأجر:
أولت الشريعة اهتماماً كبيراً بحفظ النسب، وجعلت له سوراً محكماً، حتى لا يدخل إليه من هو ليس منه، ولا يخرج منه من هو فيه، فحرّم الإسلام التبني، فالابن المتبنَّى غريب عن العائلة، بعيد عن نسبها، وأوجب أن يُدعى كل إنسان لأبيه، وكما حرم التبني ليمنع من دخول الآخرين حرم أن يرغب الإنسان عن نسبه، فيُدعى إلى غير أبيه، فقد قال عليه الصلاة والسلام: "من ادعى إلى غير أبيه، وهو يعلم أنه غير أبيه فالجنة عليه حرام"(48).
وللنسب آثار مهمة من الناحية الشرعية؛ إذ ترتب عليه أحكام تتعلق بالآباء والأبناء، أو بهما معاً، أما الأحكام المتعلقة بالأبناء فمنها: بر الوالدين، وعدم الخروج للجهاد الذي هو فرض كفاية إلا بإذن والديه، لا سيما إذا كان يعولهما، وسقوط القصاص عن الأب في قتل ابنه، والأم إذا قتلت ولدها، وسقوط حد القذف إذا رمى أب ولده ذكراً أو أنثى بالزنا، والولاية على النكاح، والولاية على المال بالنسبة إلى الصغير.
هذه الأحكام متعلقة بالآباء، أما الأحكام المتعلقة بالأبناء فمنها:
الرضاع باعتباره حقاً واجباً على الأبوين، والحضانة، والرعاية.
وعليه فإنه إذا حصل القطع واليقين في مصدر الجنين، بأن الولد ليس بزوج صاحبة الرحم، فإن المولود لا يلحق به؛ لأنه ليس منه؛ لأن سبب ثبوت النسب من الزوج كونه مخلوقاً من مائه، كمن تزوج فولدت امرأته لأقل من ستة أشهر، أو إذا ولدت زوجة الصغير، فالولد لا ينسب للزوج إجماعاً، ولو نسب إليه المولود بحسب الظاهر، وهو يعلم يقيناً أنه ليس منه، وجب عليه نفي الولد(49)؛ لأن استلحاق من ليس منه حرام(50)، وعليه فالمولود في هذه الصورة لا يلحق زوج المرأة صاحبة الرحم الحامل؛ لأن التلقيح تم خارج رحمها من بويضة ليست ليها، ومن مني ليس لزوجها، فالحمل ليس من مائه قطعاً ولا علاقة جينية بينهما، فلا يجوز نسبته إليه قطعاً، ولو نسب إليه بحسب الظاهر وجب نفيه(51).
أما نص الحديث فإنه يحكم به في حالة ما إذا شك في الجنين، ولم يحصل القطع واليقين في مصدره، فآنذاك ينسب الولد إلى صاحب الفراش، ما لم ينفه الزوج، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الولد للفراش وللعاهر الحجر"، وكأن تزني امرأة متزوجة ثم يظهر بها حمل، والحمل يمكن أن يكون من هذا الوطء، ويحتمل أن يكون من الزوج، يحكم بالحديث في مثل هذه الحالات(52).
المطلب الثاني: النفقات.
الأم البديلة في عملية شتل الجنين، هي الصورة التي يكون فيها المني والبييضة من زوجين والرحم من أخرى، فتكون صاحبة الرحم أماً بديلة لصاحبة البييضة. وسيتم بحث نفقاتها من جهتين:
أولاً: نفقة الأم البديلة أثناء الحمل:
يرى الدكتور يوسف القرضاوي(53): أن نفقة الأم البديلة صاحبة الرحم تكون على أب الطفل ملقح البييضة أو لوليه من بعده؛ لأن هذه المتبرعة تغذيه من دمها فلا بد أن تعوض عما تفقد، وأن نفقتها تكون طوال مدة الحمل والنفاس، واستدل بقوله تعالى في شأن المطلقات (وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) [الطلاق:6]، وقوله في شأن المرضعات: (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) [البقرة:233]، ثم قال: (وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ) [البقرة:233]. كما أن بعض الفقهاء يلزمون الواطئ في الوطء بشبهة بنفقة الموطوءة.
قال في "الدر المختار": (وللموطوءة بشبهة أن تقيم مع زوجها الأول وتخرج بإذنه في العدة لقيام النكاح بينهما، إنما حرم الوطء حتى تلزمه نفقتها وكسوتها)(54).
ويقول ابن عابدين مؤكداً عدم لزوم نفقتها للزوج: (واستشهد له بما في الخانية من أن المنكوحة إذا تزوجت رجلاً ودخل بها ثم فرق بينهما لا يجب على الزوج الأول نفقتها ما دامت في العدة، لأنها لما وجبت عليها العدة صارت ناشزة)(55).
نظم الدكتور يوسف القرضاوي أحكاماً عديدة للأم البديلة، ليصل إلى بحث نفقتها على وليدها، وعلى النحو التالي(56):
أ – إن جميع أحكام الرضاعة وآثارها تثبت هنا للأم البديلة من باب قياس الأولى، لأن هذا رضاع وزيادة.
ب – استثنى من هذه الأحكام ما يتعلق بزوج المرأة الحاضنة، فهو في الرضاع يعتبر أباً لمن أرضعته أمه إذ كان اللبن من قبله.
أما زوج المرأة الحاضنة فليس له أي علاقة بالجنين أو الوليد.
ج – إن من حق الأم الحاضنة أن ترضع وليدها إن تمسكت بذلك، فإن ترك اللبن في ثديها دون امتصاص يضرها جسمياً، كما يضرها نفسياً ذلك:
1 – أنه ليس من مصلحة الطفل أن يجري الله الحليب في صدر أمه ثم يترك عمداً ليغذى بالحليب الصناعي.
2 – إن الله جعل الرضاع مرتبطاً بالولادة فقال: (وَالْوَالِدَات� � يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ) [البقرة:233].
د – من كل ذلك قال: (في رأيي أن هذه الأمومة – إن حدثت – أن تكون لها مزايا فوق أمومة الرضاع، ومن ذلك إيجاب نفقة هذه الأم على وليدها إذا كان قادراً واحتاجت هي إلى نفقة)(57).
المطلب الثالث: الميراث وما يتعلق بالآباء والأمهات.
أما الأحكام المتعلقة بالآباء والأبناء فمنها:
الميراث، وتحريم الزواج، وتحمل الدية واستحقاقها، واستحقاق الدم، وهو حق الآباء في المطالبة بدماء أبنائهم، وبالعكس، وهو حق مقرر يتبادله كلٌ بالنسبة للآخر، بسبب النسب، وصدقة الفطر واجبة لكل من الآباء والأبناء، بحيث يدفعها القادر منهما عن الآخر، والنفقة كذلك، واجب متبادل بين الآباء والأبناء فيقوم به كلٌ منهما عند حاجة الآخر، وعدم التبرؤ، فلا الآباء يستطيعون أن يتبرؤوا من نسب أبنائهم، مهما كان هؤلاء من الفسق والكفر، ولا الأبناء يستطيعون أن يتبرؤوا من نسب آبائهم، ويكون التبرؤ من الكفر لا من النسب (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ) [التوبة:114].
فالنسب ثابت مهما كانت أفعال الآباء والأبناء، وأيضاً ينبني على النسب سفر المرأة مع محرم، وكذلك صلة الرحم، وغيرها من الأحكام(58).
وقبل أن نتبين نسب المولود في هذه المسألة، يجدر بنا أن نبين علاقة الرحم المستأجر بجريمة الزنا، فهل زرع اللقيحة المأخوذة من الزوجة وزوجها في رحم الأم البديلة يُعدُّ زنا في ميزان الشرع، وهل تترتب عليه آثاره؟ لأن هذا ينعكس على الحكم الفرعي الآخر، وهو حكم الوليد الذي تلده صاحبة الرحم المستأجر، لأن الأمر إذا كان زنا فالزنا لا يثبت نسباً من ناحية الأب.
والذي يظهر أن هناك فرقاً بين الزنا، وبين زرع اللقيحة في رحم الأم البديلة، وذلك: لأن الركن الأساسي في جريمة الزنا الموجبة للحد هو الاتصال الجنسي أي الإيلاج المحرّم الخالي من شبهة الحل، وهذا الركن معدوم هنا، لذلك فإن مرتكب هذا الفعل لا يعد من الناحية الجنائية زانياً فلا يقام عليه حد، ولكن لما كان هذا الفعل محرماً، فإن كل من يساهم فيه يستحق التعزير، ولكن هل يلتقي هذا الفعل مع الزنا في حقيقته؟، بحيث يصب في نفس النتيجة التي هي: وضع نطفة رجل غريب عمداً في رحم امرأة غريبة عنه؟
والذي يظهر أنهما يفترقان في نقاط ويلتقيان في نقطة واحدة:
إذ إن وضع مني رجل في رحم امرأة غريبة عنه قد يلقح بويضتها داخل رحمها، هذا الأمر يختلف عن وضع لقيحة زوج وزوجة في رحم أجنبية، ففي الصورة الأولى يحدث اختلاط الأنساب إذا تم تلقيح البويضة، وفي الصورة الثانية، فإن عدم اختلاط الأنساب فيها مأمون – إذا أخذنا بالاحتياط – إذ إن في عملية الزنا قد يختلط ماء الرجل ببويضة المرأة الزانية فيلقحها، أما هنا فلا اختلاط بين ماء الزوجين، وماء صاحبة الرحم؛ لأن زرع اللقيحة يتم بعملية جراحية ودور صاحبة الرحم الحامل مثل دور المرضع تعطيه الغذاء، ولا تعطيه الصفات الوراثية، فالرحم هنا عبارة عن وعاء ومحضن ومستودع فقط، ونسبة الولد إلى الزاني، بل القصد منه المتعة واللذة الجنسية، أما الرحم المستأجر فالقصد منه الاستيلاد ابتداء، وليس للشهوة والعاطفة والمشاعر مكان هنا، وقد يوجد الزنا، ولا يوجد الحمل، وذلك بالاحتيال على منع الحمل بدواء أو حائل.
هذا هو الفارق بين الحالتين، أما من الناحية الأخرى فإن هذا العمل يلتقي مع الزنا بجامع دخول ماء رجل غريب في رحم امرأة غريبة عنه ليس بينهما عقد زواج شرعي، وإن كان لا يحدث اختلاط في الأنساب.
وللمرء أن يتساءل فيقول: إن الذي يدخل في رحم المرأة المستأجر ليس ماء رجل غريب، كما في حالة الزنا – والذي يلقح بويضتها بماء الزاني – بل الذي يحدث في حالة الأم البديلة، أن الحيوان المنوي للزوج "الحيمن" يدخل في بيضة الزوجة في أنبوبة الاختبار فيلقحها، فيتحول إلى بويضة مخصبة (zigot) ثم تزرع في الرحم المستأجر، دون اختلاط في الأنساب، وهنا ينبغي ملاحظة ما يلي:
إن الحيمن انتهى كليةً، وكذلك تركيبه الكيمياوي، فبعد أن كان خلية أحادية متكونة من 23 كروموسوماً فقط ورأس وذيل، انتهى الأمر إلى خلية متكونة من 46 كروموسوماً، بعد أن فقد ذيله، فهو يدخل في جسم غريب آخر يكبر حجمه أكثر من مائة ألف مرة وهي البويضة، ومن هنا فهذه الكروموسومات الـ23 للزوج بعد دخولها في البويضة لم تعد حيمناً ولا له أي صفة حيمنية، فلا يقال: إن ماء رجل غريب دخل في رحم امرأة غريبة، خاصة إذا علمنا أن الأنساب تبقى نقية 100% لأن الزرع يتم بعملية جراحية.
والذي يظهر: هو أن حقائق الأشياء تتقرر بجوهرها، لا بكبرها وصغرها، فالحيمن رغم صغره فإنه يحمل جوهر الإنسان وحقيقته، ورغم أن الذي يدخل الرحم ليس هو المني كله كما في عملية الجماع، بل جزء يسير منه، وهو حيمن واحد لتلقيح البويضة في أنبوبة الاختبار لا في الرحم، فإن الذي يحدث فعلاً ويصدق القول به هو أن هذه العملية هي في النتيجة ماء رجل غريب في رحم امرأة غريبة ولكن دون أن تختلط الأنساب إذا أخذ بالاحتياط، ومع ذلك فإننا نقول إن الأصل في الفروج التحريم، ولا تحل إلا بعقد زواج صحيح(59).
مَن الأم الحقيقية ومَن الأم الصناعية؟
إن صور الرحم المستأجر – مع القول بتحريمها – إذا وقعت فعلاً ونتج عنه مولود، فلمن ينسب هذا المولود. للزوجين مصدر اللقيحة، أم لصاحبة الرحم المستأجر وزوجها؟ أيهما الأم الشرعية التي لها حق الميراث والنفقة والحضانة وغير ذلك؟ هل هي الأم صاحبة البويضة أو هي صاحبة الرحم؟ أيهما الأم الأصلية، وأيهما الأم التقليدية؟ هي الأم البيولوجية صاحبة الجينات الوراثية التي تنقل الصفات والملامح إلى المولود أو هي التي تحمله وتغذيه من دمها وتضعه بعد تسعة أشهر؟ هنا حصل خلاف بين الباحثين وانقسموا إلى فريقين:
الفريق الأول(60): يرى أن الأم النسبية والحقيقية والتي ترث هي صاحبة البويضة، أما صاحبة الرحم المستأجر التي حملته وولدته فهي مثل أم الرضاع، فهي أم حكمية، أي نحكم لها بأنها أم باعتبار الحضانة والتغذية، ولا يثبت لها النسب، وإنما يثبت لها حكم الرضاع، وذلك للأسباب التالية:
هذه الصورة مبينة على أساس أن اللقيحة جاءت من بويضة امرأة لقحت بماء زوجها، ثم بعد التلقيح زرعت في رحم امرأة أخرى، إذن فالجنين قد انعقد من بويضة امرأة وماء رجل؛ بينهما نكاح شرعي صحيح، وما دام الأمر كذلك، فالجنين ينسب إليهما، أما صاحبة الرحم فإنها غذت الجنين بدمها بعد بداية تكونه حتى تكامل وولد، فهي لذلك تأخذ حكم الأم من الرضاعة من باب أولى، فالمرضعة غذت بلبنها، وهذه غذته بدمها، وتلك غذته بعد أن تم نموه وولد إنساناً سوياً، وهذه غذته وحضنته في أحشائها منذ بداية تكوينه، وكانت تغذيته هي السبب في تكامل نموه وولادته، فكل ما حكمت به الشريعة للمرضعة بسبب الرضاع تستحقه هذه من باب أولى.
أيضاً فإن خصائص الإنسان وصفاته الوراثية تتقرر في البويضة والحيوان المنوي فقط، وليس لصاحبة الرحم المستعار أي دخل في ذلك لأن الرحم ما هو إلا محضن ومستودع.
ثم إن المرأة بنت البذرة، لا بنت الأرض، فمن يزرع برتقالاً يجني برتقالاً مهما كانت الأرض المزروع بها، ومن يزرع تفاحاً يجني تفاحاً فالأرض وإن كانت تجهز البذرة بكل ما تحتاجه إليه، لكنها لا دخل لها بنوع أو جنس النبات الذي سينمو فيها(61)، وكشتل الشجر بعد نموه وكبره، فينقل إلى مكان آخر، فتنسب الشجرة إلى البذرة، وليس إلى التربة.
وأيضاً فإن هذه البويضة الملقحة لو أنها أتمت مراحل حياتها في أنبوبة الاختبار – وهو يسعى إليه العلماء – أو في رحم صناعي، أو ربما في رحم قرد، لو أمكن تحقق ذلك – فخرج الولد منها إنساناً سوياً، فهل الأم هي أنبوبة الاختبار، أو الرحم الصناعي أو القرد، أم أنها هي صاحبة البويضة، وليست هي الأنبوبة ولا الرحم الصناعي ولا القرد(62).
الفرق الثاني(63): وقد ذهب هؤلاء إلى أن الأم الحقيقية التي ترث هي الأم صاحبة الرحم التي حملت وولدت(64)، أما صاحبة البويضة فهي أم حكمية مثل الرضاع، فهؤلاء ينظرون إلى الولد بمنظار الولادة، فيثبتون النسب من المرأة التي تلده، باعتراف الزوج، أو شهادة الشهود(65)، فالأم التي ترث هي صاحبة الرحم، وينسب الولد إلى زوجها، لأن الولد للفراش حسب القاعدة الشرعية التي تضمنها الحديث الشريف.
واستدلوا بما يلي:
النصوص القرآنية الدالة على القطع بأن الأم هي التي ولدت:
ومنها قوله تعالى: (إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ) [المجادلة:2]، فقد نفى الله تعالى الأمومة عن التي لم تلد، خاصة أن هذا نص قطعي الثبوت والدلالة وجاء على صيغة الحصر، فأمه التي ولدته، هي والدته، وكلمة الوالدة اسم فاعل من فعل الولادة، فكيف تكون هي التي ولدته، أي: والدته، ولا تكون أمه، وإن في الآية الكريمة نافيه، والنفي والإثبات من أقوى طرق القصر عند العرب، لذلك كانت كلمة التوحيد (لا إله إلا الله) إثباتاً للألوهية لله، ونفيها عما سواه.
ومنها قوله تعالى: (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً) [الأحقاف:15]؛ فبين تعالى أن التي تحمل الولد كرهاً وتضعه كرهاً هي أمه، وهي صاحبة البويضة كذلك، ومنها قوله تعالى: (وَالْوَالِدَات� � يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ) [البقرة:233].
ومعلوم أن التي ترضع الولد هي التي ولدته، ولو كانت البويضة من غيرها، ومنها قوله تعالى: (لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا) [البقرة:233]، ومعلوم أن الحقيقة هي المقدمة على المجاز، والوالدة حقيقة هي التي ولدت، ثم إن كل أطوار خلق الإنسان في رحم أمه من النطفة الأمشاج، إلى الولادة تحدث في الرحم، ومن يحدث لها ذلك سماها القرآن أماً.
ومنها قوله تعالى: (يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ) [الزمر:6].
ومنها قوله تعالى: (وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ) [النجم:32].
ومنها قوله تعالى: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً) [النحل:78].
ومنها قوله تعالى: (وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ) [لقمان:14]، فهل صاحبة البويضة حملته وهناً على وهن.
ومنها قوله تعالى: (لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ) [النساء:7].
فالذي يرث المرأة هو الطفل الذي ولدته، فصارت بذلك والدة حقيقية لا التي أخذت البويضة منها.
ومنه قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك" الحديث. رواه ابن مسعود(66).
هذه أدلة هذا الفريق من نصوص القرآن والحديث، وعليه، فهذا الولد ابن لهذه التي حملته وولدته، ويأخذ كل أحكام الولد بالنسبة لأمه، والأم بالنسبة لولدها من حيث الميراث ووجوب النفقة والحضانة، وامتداد الحل والحرمة إلى أصلها وفروعها وحواشيها وغير ذلك.
والذي يظهر أن استدلال هذا الفريق بتلك الأدلة هو استدلال في غير موضعه؛ لأن النصوص التي تقضي بأن الأم هي التي ولدت، وهي الوالدة، فإن الاستدلال بها لا ينهض حجة لتأييد هذا الرأي، وذلك لأن الأم الحقيقية في الإسلام، ووقت تنزيل القرآن، بل وفي جميع الأديان، وعلى مر التاريخ الإنساني، هي حقيقة قائمة، فالأم هي مجموعة الهيئة التي هي صاحبة الحمل والوضع وهي ذاتها وفي الوقت نفسه البويضة والجينات الوراثية، إذ لكل مولود بأمه صلتان:
الأولى: صلة تكوين ووراثة، وأصلها (البويضة) منها.
والثانية: صلة حمل وولادة وحضانة، وأصلها (الرحم) منها، فهذا هو المولود المتصل بأمه شرعاً وطبعاً(67)، فعلى هذه الصفة نزلت آيات القرآن المتضمنة لمعنى الأمومة والوالدة القرآنية هي التي تحمل وتلد الجنين، وهي ذاتها التي تلد البويضة من مبيضها، فولادة الجنين وولادة البويضة كلاهما منها وحدها، فاستحقت بذلك أن تسمى الوالدة والأم، أما إطلاق الأم على التي حملت ووضعت فقط من غير أن تكون البويضة منها، أي إطلاق الأم على التي ولدت من غير الهيئة الكاملة لها وقت التنزيل، فإنه استدلال يحتاج إلى النظر.
فقوله تعالى: (إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ) [المجادلة:2]. معناه: أي ولدن الجنين وولدن البويضة، لأننا لو قصرنا الولادة على ولادة الجنين فقط، فهذا يخالف الواقع الذي فيه التنزيل.
أما الاستدلال في هذه المسألة بآية الظهار في قوله تعالى: (الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً) [المجادلة:2]، فهو استدلال بعيد، إذ معنى الآية: الذين يشبهون أزواجهم بأمهاتهم، فيقول أحدهم لامرأته: أنتِ عليّ كظهر أمي ونحوه، أي: إنك عليّ حرام كحرمة أمي، ما نساؤهم بأمهاتهم، فذلك كذب منهم، فليست أمهاتهم في الحقيقة إلا اللاتي ولدنهم، وإن هؤلاء المظاهرين يقولون بهذا قولاً منكراً، فتشبه الزوجة بالأم خبر زور وكذب، فإن الزوجة لا تشبه الأم(68)، هذا هو معنى الآية.
لذلك فالذي يظهر أنه لا ينبغي أن لا نقحم معاني هذه الآيات في تفسير ظاهرة عصرية جديدة لا يحتملها النص، في غير ما نزلت الآية من أجلها؛ لأن هذه الآية نزلت جواباً على واقعة محددة وهي: هل الزوجة أم؟ فردّ القرآن الكريم بأن هذا كذب وزور، فالزوجة ليست أماً، ولا تشبهها في الحرمة؛ لأن الزوجة محللة، والأم محرمة، وتشبه المحللة بالمحرمة كذب وزور، ولم تنزل الآية جواباً للسؤال المعروض في هذا العصر، هل الأم الحقيقية والنسبية هي صاحبة البويضة، أو التي حلمت ووضعت؟ فسبب نزول الآية يحدد المعنى، إذ إن هذه القضية لم تكن أصلاً معروضة على بساط البحث، هذه قضية جديدة، وربط معنى الظهار بهذه القضية الجديدة، هو تحميل للنص ما لا يحتمل.
ولا يقال هنا: إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب في قوله تعالى: (إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ) [المجادلة:2]؛ لأن خصوص السبب هنا تلك المرأة التي ظاهر منها زوجها وهي سلمة بنت صخر، إذ إن آية الظهار نزلت في رجل وامرأة بعينهما، هذا هو الخصوص، أما العموم في الآية الكريم، فهو كل حالة مماثلة، أي كل امرأة تلد مولودها وتلد البويضة أيضاً (إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ)، فأمهاتهم ولدنهم، في الآية الكريمة كما ذكرنا أن الجنين منهما، والبويضة منها أيضاً، هكذا نزلت الآية القرآنية على هذه الحقيقة الواقعة، أما إذا اختلف المحل، فولدت الأم الجنين ولم تلد البويضة، كما في القضية التي معنا (الرحم المستأجر) فإن الحكم آنذاك يختلف، هنا لا تدخل هذه الواقعة الجديدة ضمن عموم اللفظ؛ لأن المحل قد اختلف، ومناط الحكم لم يتحقق، والحكم لم يصب المحل، فنحن نسلم بقاعدة "العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب"، ولكن الخلاف في تحقيق السبب ووجوده فلا نسلم تحقيق السبب وتوافره في قضية الأم البديلة ليترتب عليه المسبب، أي الحكم، فمدلول السبب لم يتحقق في هذه القضية الجديدة، فالاستدلال بالآية على قضية الرحم المستأجر استدلال ليس في محله(69).
ثم إن ظاهر الآية يقتضي أنه لا أم إلا الوالدة، إذ جاءت الآية بصيغة الحصر: (إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ) [المجادلة:2]، ومع ذلك فإن المرضعة أم كما في قوله: (وَأُمَّهَاتُكُ� �ُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ) [النساء:23]، وزوجة الرسول صلى الله عليه وسلم أم: (وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ) [الأحزاب:6]. إذن فهن أمهات في حرمة النكاح.
وبناءً على ما تم مناقشته، يترجح أن المرأة صاحبة البويضة هي الأم الحقيقية ويثبت لها جميع أحكام الميراث والنفقة والحضانة وغيرها، وذلك باعتبار البويضة، ولأن الطفل يأخذ من صاحبة البويضة كل الصفات الوراثية، أما المرأة صاحبة الرحم المستأجر – الأم البديلة – فهي أم حكمية، لا يثبت لها النسب وإنما يثبت لها حكم الرضاع.
يتبع