فقه اللغة العربية وأثراه في فقه الحديث النبوي الشريف وفهمه
الأستاذ الدكتور بنعيسى بويوزان
2- مثال المشترك بين معان مختلفة غير متضادة:
وحسبنا من هذا النوع من المشترك قوله صلى الله عليه وسلم في رؤية هلال شهر رمضان، فيما رواه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غم عليكم فاقدروا له»([76]).
والشاهد في هذا الحديث الشريف، هو: «فاقدروا له»، حيث اختلف الفقهاء في معنى هذه الجملة، على اعتبار أنها تحتمل معنيين:
أ- الأول هو معنى التضييق، من «قدر عليه الشيء يقدره ويقدره قدرا وقدرا وقدرة: ضيقه».
ب- الثاني هو بمعنى التدبير من: «قدر القوم أمرهم يقدرونه قدرا: دبروه، وقدرت عليه الثوب قدرا
فانقدر، أي جاء على المقدار»([77]).
وتبعا لهذين الاحتمالين اللذين يحيل عليهما المعنى المستفاد من دلالة هذه الجملة النبوية، فقد «اختلف العلماء في تحديد يوم الشك الذي لا يجوز صومه، فإذا انقضى من شعبان تسعة وعشرون يوما، وجب على المسلمين التماس هلال رمضان، إن رأوه صاموا بالإجماع ؛ وإن لم يروه، فإن كانت السماء مصحية ليس فيها غيم أو قترٌ لم يجز صومه عن رمضان بالإجماع أيضا، لعدم رؤية الهلال، وهو من شعبان عند الجمهور لعدم رؤية الهلال مع صفاء السماء، وهو يوم الشك عند الحنبلية لاحتمال أنه ظهر ولم يره الناس، إذ الأصل أن يكون الشهر القمري تسعة وعشرين يوما، وإذا كانت السماء غير مصحية فقد اختلفوا:
أ- ذهب أحمد في الرواية المشهورة التي اختارها الحنبلية، إلى أنه من رمضان، وقد حال دون الهلال غيم أو قتر فيجب صومه»([78]).
ب- وذهب «الجمهور. ومنهم أحمد في رواية ثانية. إلى أنه إن لم ير الهلال بعد تسع وعشرين يوما من شعبان، فاليوم التالي يعد الثلاثين سواء كانت السماء مصحية أو غير مصحية»([79])، وعليه فإنهم قالوا بأن «المراد بقوله صلى الله عليه وسلم «فاقدروا له» أي انظروا في أول الشهر واحسبوا تمام الثلاثين، ويرجع هذا التأويل، الروايات المصرحة بالمراد, وهي ما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم «فأكملوا العدة ثلاثين»، ونحوها، وأولى ما فسر الحديث بالحديث، وقد وقع الاختلاف في حديث أبي هريرة في هذه الزيادة، فرواها البخاري كما ترى بلفظ «فأكملوا عدة شعبان ثلاثين» وهذا أصرح ما ورد في ذلك»([80]).
ولا شك في أن حجة ابن حجر قوية جدا، خاصة وأنه قد استشهد بحديث شريف آخر، يصب في حمل الجملة «فاقدروا له» على التدبير والتخمين، وليس على التضييق، ثم إن الجمع بين الأحاديث النبوية الشريفة، والمقارنة بين أساليبها يساعد كثيرا على ضبط دلالة السياق فيها، فقد ورد حديث آخر في صحيح مسلم بالصيغة ذاتها، وهو حديث طويل، لكن الشاهد فيه هو: «قلنا يا رسول الله صلى الله عليه وسلم: فذلك اليوم الذي كسنة، أتكفينا فيه صلاة يوم، قال: لا، أقدروا له قدره»([81])؛ فقال التونجي: «اقدروا له قدره، قدروا زمانه وعدده، يعني زمان ما بين الصلاتين، يقال: قدرت لأمر كذا، أقدر له وأقدر: نظرت فيه ودبرته وقايسته»([82]).
وعليه، فإن الجمع بين الأحاديث النبوية الشريفة، والتدبر في سياقاتها المختلفة، إضافة إلى المقارنة بين أسلوب النبي صلى الله عليه وسلم فيها، يساعد كثيرا على تجاوز ما قد يثيره المشترك من الألفاظ من إبهام، نتج عنه اختلاف الفقهاء في التفسير وتوضيح المقاصد منها.
3- الحقيقة والمجاز:
الحقيقة والمجاز هما قطب اللغة العربية وروحها، وعلى أساسهما تأسست البلاغة العربية، كما أن البحث فيهما كان السبب المباشر في التعمق في الأساليب العربية المختلفة، كما هي واردة سواء في الشعر العربي منذ العصر الجاهلي، أو في القرآن الكريم، أو في الحديث النبوي الشريف.
والحقيقة عادة ما تعرف في الإصلاح العربي، بأنها اللفظ المستعمل فيما وضع له أصلا في اللغة أو في الشرع أو في العرف أو في الإصلاح([83])؛ وأما المجاز، فإنه يعرف في الاصطلاح بأنه اللفظ المستعمل في التعبير اللغوي عن غير ما وضع له أصلا لعلاقة ما، بين المعنيين المعبر عنهما، مع قرينة مانعة من إرادة المعنى الحقيقي([84])، وعليه فإن «كل لفظ وضعه واضع اللغة بإزاء شيء ويدل عليه من غير وساطة، فهو حقيقة له، فإذا استعمل في غيره لمناسبة ما، كان مجازًا لا حقيقة»([85]).
والحقيقة أنواع، هي: الحقيقة اللغوية والحقيقة العرفية والحقيقة الاصطلاحية والحقيقة الشرعية([86])، وأما المجاز فإنه ينقسم كذلك إلى أقسام، هي: المجاز اللغوي والمجاز الشرعي والمجاز العرفي الخاص والمجاز العرفي العام([87])، وأما عند البلاغين فإنه ينقسم من حيث علاقة المعنى الحقيقي بالمعنى المجازي إلى قسمين كبيرين، هما:
أ- الاستعارة بكل أنواعها، وهي مبنية على علاقة هي المشابهة.
ب- المجاز المرسل بأنواعه أيضا، ويكون مبنيا على علاقة غير المشابهة مع قرينة مانعة من إرادة المعنى الأصلي، وله علاقات مختلفة ومتنوعة.
ومعلوم أن هناك اختلافًا بين الفقهاء في وقوع المجاز في القرآن الكريم والحديث الشريف، والجمهور يرى بأن «المجاز وقع في الأصح في اللغة وفي القرآن الكريم والحديث الشريف»([88])، حتى إن ابن رشيق قال بأن «العرب كثيرا ما تستعمل المجاز، وتعده من مفاخر كلامها، فإنه دليل الفصاحة، ورأس البلاغة، وبه بانت لغتها عن سائر اللغات»([89]).
وبالتالي، فإن وقوع المجاز في كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، يكون إما في اللفظة الواحدة، وإما في السياق أو التركيب، كما يظهر من خلال ما يلي:
أ- المجاز الواقع في اللفظة الواحدة: وحسبنا من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقي ثلث الليل الآخر، يقول من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له»([90])؛ وقد اعتمد الفقهاء في تفسير معنى هذا الحديث الشريف على ما درج عليه العرب في الاستعمال اللغوي لمثل هذه التعابير، لذلك قال البطليوسي: «ولهذا الحديث تأويلان صحيحان لا يقتضيان التشبيه:
أحدهما: أشار إليه مالك رحمه الله، وقد سئل عن هذا الحديث فقال: «ينزل أمره كل سحر، فأما هو عز وجل فإنه دائم لا يزول ولا ينتقل سبحانه لا إله إلا هو»، وسئل عنه الأوزاعي فقال: «يفعل الله ما يشاء»، وحقيقة الذي ذهبا إليه رحمهما الله، أن العرب تنسب الفعل إلى من أمر به، كما تنسبه إلى من فعله وباشره بنفسه، فيقولون: كتب الأمير لفلان كتابا، وقطع الأمير يد اللص، وضرب السلطان فلانا، ولم يباشر شيئا من ذلك بنفسه، إنما أمر بذلك، ولأجل هذا أحتيج إلى التأكيد الموضوع في الكلام، فقيل: جاء زيد نفسه، ورأيت زيدا نفسه، فمعناه على هذا. أن الله تعالى يأمر ملكا بالنزول إلى السماء الدنيا فينادي بأمره. .. فهذا تأويل. كما تراه: صحيح جارٍ على فصيح كلام العرب في محاوراتها، والمتعارف من أساليبها ومخاطباتها»([91]).
وقد أحسن ابن حجر حين علق. وهو يتحدث عن هذا الحديث الشريف. على كلام لأبي إسماعيل الهروي حيث قال عنه: «وقد أجاد هو في قوله في آخر كتابه (الفاروق)، فأشار إلى ما ورد من الصفات، وكلها من التقريب لا من التمثيل، وفي مذاهب العرب سعة، يقولون: أمر بين كالشمس وجواد كالريح وحق كالنهار، ولا تريد تحقيق الاشتباه، وإنما تريد تحقيق الإثبات والتقريب على الأفهام، فقد علم من عقل أن الماء أبعد الأشياء شبهًا بالصخر، والله يقول (فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ)، فأراد العظم والعلو لا الشبه في الحقيقة، والعرب تشبه الصورة بالشمس والقمر، واللفظ بالسحر، والمواعيد الكاذبة بالرياح، ولا تعد شيئا من ذلك كذبا ولا توجب حقيقة، وبالله التوفيق»([92]).
ب- المجاز العارض من طريق التركيب/ السياق: ومثاله ما رواه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما فقال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب: «لا يصلين أحد العصر إلا في بني فريظة »، فأدرك بعضهم العصر في الطريق، فقال بعضهم: لا نصلى حتى نأتيهم، وقال بعضهم: بل نصلي لم يرد منا ذلك، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فلم يعنف واحدًا منهم»([93]).
فكلام «النبي صلى الله عليه وسلم سمعه العرب الفصحاء منه واختلفوا في فهمه:
أ- صلى بعضهم في الطريق على الوقت المحدد سابقًا، وقالوا: لم يرد الرسول صلى الله عليه وسلم أن تدعوا الصلاة، أي إنما اراد التعجيل بهذا الكلام، لا تغيير وقت تلك الصلاة، وبمعنى آخر، إن النص ليس على ظاهره وحقيقة ألفاظه، بل هو مجاز يراد منه السرعة.
ب- وأخرها بعض آخر إلى أن وصلوا، فصلوها بعد الوقت المحدد المتعارف عليه سابقًا، تمسكا بظاهر اللفظ في النص الجديد»([94]).
ج- مثال تعارض الحقيقة والمجاز: فعن حكيم بن حزام رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما»([95])؛ والشاهد في هذا الحديث الشريف هو قوله صلى الله عليه وسلم «البيعان» و« ما لم يتفرقا»، إذ من المعلوم لدي أهل اللغة أن فعلي «شري» و«باع» من الألفاظ المشتركة، كما أنها من الأضداد، ففي اللسان: «شاراه من الشراء والبيع جميعا، وشريت بعت، وشريت أي اشتريت، قال الله عز وجل (ولَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ)، قال الفراء: بئسما باعوا به أنفسهم، وللعرب في شروا واشتروا مذهبان: فالأكثر منهما أن يكون شروا: باعوا، واشتروا: ابتاعوا، وربما جعلوهما بمعنى باعوا، شريت الشيء أشريه شراء إذا بعته وإذا اشتريته أيضًا، وهو من الاضداد»([96])، وقال أيضا: «البيع ضد الشراء، والبيع: الشراء أيضا، وهو من الأضداد»([97]).
وتبعا لهذا التضاد الوارد في اللفظين، اختلف الفقهاء في المراد بهذا الحديث الشريف؛ فأما الأحناف والمالكية ومعهم الفقهاء السبعة بالمدينة المنورة، فقد قالوا بأن «البيعان» هنا، هما المتساومان، لأنهما ما زال بصدد البيع والمساومة، والعرب تطلق الشيء على ما يقاربه، كما أن المراد بـ «ما لم يتفرقا»، أي افتراقهما بالقول، أي الفراغ من إبرام العقد؛ وعليه، فمعنى الحديث عندهم، هو أن البيعان أو المتبايعان «بالخيار ما داما في المساومة وتقرير الثمن قبل تمام العقد، لأنهما قبل تمام العقد لا يسميان متبايعين حقيقة، وإنما يقال: كان متبايعين، فإذا أمضيا العقد فقد افترقا ولزم البيع، فالحديث في اجتهادهم لا يدل على خيار المجلس»([98])، وبالتالي فإن «خيار المجلس مقصور عند هؤلاء على ما قبل تمام العقد، فإذا أوجب أحد المتعاقدين، فالآخر بالخيار إن شاء قبل في المجلس وإن شاء رد، وهذا هو خيار القبول وخيار الرجوع»([99]).
وأما الحنابلة والشافعية، ومعهم سفيان الثوري وإسحاق، فقد ذهبوا إلى «إلى أن المراد بالمتبايعين: البائع والمشتري حقيقة، لأنه اسم مشتق من البيع، فما لم يوجد البيع لم يجز الاشتقاق منه، وما داما في المقاولة، يسميان متساومين لا متبايعين»([100])، كما أن الجملة «ما لم يتفرقا»، المراد منها «التفرق بالأبدان»، والرجوع بالتفرق إلى العادة، فما عده الناس تفرقًا، فهو تفرق، وما لا فلا، لأن التفرق ورد مطلقًا، فوجب أن يحمل على التفرق المعهود، ومعنى الحديث: أن البائع والمشتري بعد إبرام العقد بالخيار في فسخ العقد ما دام في المجلس»([101])، كما أن من الحجج التي اعتمد عليها هؤلاء، هو أن «إطلاق المتبايعين على المتساومين مجاز، وإطلاق التفرق على التفرق بالأقوال مجاز أيضًا، والأصل في الكلام الحقيقةُ، ولا يصار إلى المجاز إلا إذا تعذرت، ولم تتعذر هنا»([102]).
وخلاصة الأمر في هذا الحديث الشريف، وما فهمه الفريقان، هو أن الفرق الأول، حمل الشاهدين المشار إليهما على المجاز، بينما حملهما الفرق الثاني على الحقيقة، وعزز رأيه بالاحتكام إلى العرف اللغوي، فخلص إلى أن حمل الشاهدين على المجاز لا مسوغ له، ما دام وجه الحقيقة وهو الأقوى، كما أنه الأصل، ولا يعدل عنه إلى سواه إلا لضرورة، وهي هنا منتفية كما هو ظاهر؛ وعليه فإن حمل هذا الحديث الشريف على المجاز يعارض حمله على الحقيقة، لذلك كان الفهم بين الفريقين متباينًا، ولعل هذا ما جعل ابن حجر يورد، وبإسهاب، آراء مختلفة في تفسير هذا الحديث الشريف، حيث نلاحظ هيمنة الشق اللغوي والبلاغي على أقوال الفقهاء([103]).
4- الوضوح والإبهام في دلالة الحديث النبوي الشريف:
أ- دلالة المنطوق:
تعرف دلالة المنطوق بأنها «دلالة اللفظ على حكم ذكر في الكلام ونطق به مطابقة أو تضمينا أو التزاما»([104])، وينقسم من حيث الصراحة إلى قسمين كبيرين، هما:
منطوق صريح ومنطوق غير صريح.
وينقسم المنطوق غير الصريح من حيث كونه مقصودًا للمتكلم من اللفظ بالذات أو لا، إلى ثلاثة أقسام، قسمان فيما إذا كان المتكلم مقصودًا للمتكلم، وهما:
دلالة اقتضاء:
وتعرف بأنها «دلالة اللفظ على معنى خارج يتوقف على تقديره صدق الكلام أو صحته شرعا وعقلا»([105])، ومثاله قوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه»([106])؛ فالشاهد في هذا الحديث هو الفعل «وضع» وفي رواية «رفع»، فإن «الخطأ والنسيان لم يرفعا، بدليل وقوع الأمة في كل منهما، وكذلك رفع العمل بعد وقوعه محال، مع أن ظاهر النص يفيد أن الخطأ والنسيان وما استكرهت عليه الأمة موضوع عنها، وعلى هذا، فلا بد لصدق هذا الكلام. وهو واقع من الرسول المعصوم عليه السلام. من تقدير محذوفٍ، بأن تقول «وضع إثم الخطأ. .. أو حكمه»، وبهذا التقدير يتفق الكلام مع الواقع ولا يخالفه»([107]).
بذلك، فإن سياق الحديث الشريف يقتضي تقدير المحذوف بما يناسب المقام، حتى يرفع اللبس عن المقصود فيتضح جليا، كما تتضح المجالات والحدود التي ينبغي أن يستشهد فيها بهذا الحديث الشريف([108]).
دلالة الإيماء:
وتعرف بأنها «دلالة اللفظ على لازم مقصودٍ للمتكلم، لا يتوقف عليه صدق الكلام، ولا صحته عقلا أو شرعا، لكنه مقترن بوصف، لو لم يكن علة لكان بعيدًا»([109])، ومثاله من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أحيا أرضًا ميتة فهي له»([110])، فالشاهد في الفعل «أحي» وحرف «الفاء»، لأن «الحكم هو الإحياء، حيث رتب الملكية على إحياء الأرض بحرف الفاء»([111])، لذلك فإن «ما رتب عليه الحكم (بالفاء) يكون علة للحكم، لكون (الفاء) في اللغة ظاهرة في التعقيب، ويلزم من إفادتها التعقيب السببية، لأنه لا معنى لكون الوصف سببًا إلا أن يثبت الحكم عقيبه، وإن كان ذلك على سبيل الظاهر لا على سبيل القطع»([112]).
دلالة الإشارة:
وتعرف هذه الدلالة بأنها «دلالة اللفظ على لازم غير مقصود للمتكلم، لا يتوقف عليه صدق الكلام ولا صحته، أي يؤخذ من إشارة اللفظ لا من اللفظ نفسه»([113])، ويستشهد لهذا النوع من الدلالة بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يده قبل أن يدخلها في وضوئه، فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده»([114]).
وقد اختلف الفقهاء في الإشارة التي يشير إليها الرسول صلى الله عليه وسلم، من حيث الوجوب أو الندب أو الاستحباب، فقد أخذ بعموم الحديث الإمام «الشافعي والجمهور، فاستحبوه عقب كل نوم، وخصه أحمد بنوم الليل. .. فاستحبابه بعد النوم أولى، ويكون تركه لبيان الجواز»([115]).
ب- دلالة المفهوم:
وتعرف هذه الدلالة بأنها «دلالة اللفظ على حكم لم يذكر في الكلام ولم ينطق به، أي فهم غير المنطوق بدلالة سياق الكلام ومقصود الكلام»([116])، وهي نوعان كبيران، هما:
مفهوم الموافقة: وهو «أن يكون المسكوت عنه موافقا في الحكم للمنطوق»([117]).
مفهوم المخالفة: وهو «أن يكون المسكوت عنه مخالفا في الحكم للمنطوق»([118]).
وسأقتصر للتمثيل من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم على مفهوم المخالفة، بقوله صلى الله عليه وسلم: «مطل الغني ظلم، فإذا أتبع أحدكم على ملي فليتبع»([119])، فقد قال ابن حجر في هذا الحديث الشريف: «الذي يشعر به حديث الباب، التوقف عن الطلب، لأن المطل يشعر به، ويدخل في المطل كل من لزمه حقٌّ كالزوج لزوجته والسيد لعبده، والحاكم لرعيته، وبالعكس، واستدل به على أن العاجز عن الأداء لا يدخل في الظلم، وهو بطريق المفهوم، لأن تعليق الحكم بصفة من صفات الذات، يدل على نفي الحكم عن الذات عند انتفاء تلك الصفة، ومن لم يقل بالمفهوم، أجاب بأن العاجز لا يسمى ماطلا، وعلى الغني الذي ماله غائب عنه لا يدخل في الظلم»([120]).
ولهذا المفهوم. مفهوم المخالفة. أنواع، هي:
أ- مفهم الصفة:
ويعرف بأنه «دلالة اللفظ المقيد على نقيض الحكم الثابت للموصوف عند انتفاء ذلك الوصف»([121])، وعليه، فهو «تعليق الحكم على الذات بأحد الأوصاف وجودا عدما، لأن يثبت الحكم في المنطوق المقيد بوصفٍ بما جاء به اللفظ، وينفيه إذا تخلف الوصف»([122])، وهذا هو عينه الذي يشير إليه ابن حجر في كلامه السابق عن الحديث الشريف المستشهد به.
ومن الأمثلة التي يستشهد بها من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذا النوع إضافة إلى الحديث الشريف السابق. قوله صلى الله عليه وسلم من حديث طويل: «في صدقة الغنم في سائمتها إذا كانت أربعين إلى عشرين ومائة، شاة»([123])؛ فإن هذا الحديث الشريف «يدل في منطوقه على وجوب الزكاة في الغنم السائمة، ويدل بمفهومه المخالف على أن الغنم المعلوفة لا زكاة فيها، وذلك لانتفاء وصف السوم الذي قيد به وجوب الزكاة في المنطوق»([124]).
ب- مفهوم الشرط:
ويعرف بأنه «دلالة اللفظ المفيد لحكم معلق بشرط على انتفاء ذلك عند عدم الشرط، فهو ثبوت نقيض الحكم المقيد بشرط عند عدم تحققه، لأن الحكم المقترن بشرط يوجب العدم عند عدم الشرط»([125])، ومثاله من الحديث النبوي الشريف، ما رواه مسلم من أن «يعلى بن أمية قال: قلت لعمر بن الخطاب (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا)، فقد أمن الناس، فقال: عجبت مما عجبت منه فسألت صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال: صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته»([126])؛ فقد دل فيهم عمر رضي الله عنه «على أن تعليق الحكم على شرط، يدل على انتفاء الحكم عند انتفاء الشرط، ولولا أن الأمر كذلك، لما تبادر إلى عمر ويعلى رضي الله عنهما هذا الفهم، ولما تعجب من جواز قصر الصلاة حالة الأمن، ولما أقر الرسول صلى الله عليه وسلم فهم عمر وتعجبه، وجعل القصر جاريا مجرى الرخصة، وكان يمكن أن يبين لعمر أن الآية ليست كما فهم، ولا داعي للتعجب»([127]).
ج- مفهوم الغاية:
ويعرف بأنه «دلالة اللفظ الذي قيد فيه الحكم بغاية على نقيض ذلك الحكم لما بعده»([128])، وعليه فإذا كان «في النص لفظ (إلى) أو (حتى) الدالة على الغاية، فإنه يدل مفهوم المخالفة على ثبوت حكمٍ مخالفٍ للحكم المنطوق به، فيما عدا تلك الغاية»([129])؛ ومثال ذلك ما رواه الإمام الترمذي من أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يشب، وعن المعتوه حتى يعقل»([130]).
فهذا الحديث الشريف واضح في أنه يفيد بمنطوقه «أن التكليف مرفوع عن ثلاثة، عن النائم حتى يستيقظ من نومه، وعن المبتلي بداء الجنون حتى يفيق من جنونه ويعقل، وعن الصبي وإن ميز حتى يبلغ، وأفاد بمفهوم المخالف عدم رفع القلم ووقوع التكليف بعد اليقظة وبعد الإفاقة وبعد البلوغ»([131]).
د- مفهوم العدد:
ويعرف بأنه «دلالة اللفظ الذي قيد فيه الحكم بعدد على نقيض ذلك الحكم فيما عدا ذلك العدد، فإذا ورد النص مقيدا بعدد معين، فهو في الحقيقة تعليق للحكم بذلك العدد، ولذلك يدل على انتفاء الحكم عند عدم تحقق هذا العدد زيادة أو نقصانا، وثبوت حكم للمسكوت عنه مخالفٍ لحكم المنطوق لانتفاء ذلك القيد»([132])؛ ومثال ذلك من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما رواه البخاري من طريق عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: «لما توفى عبد الله بن أبي، جاء ابنه عبد الله بن عبد الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه، فأعطاه، ثم سأله أن يصلي عليه، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه، فقام عمر، فأخذ بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، أتصلي عليه وقد نهاك ربك أن تصلي عليه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما خيرني الله فقال (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ, إن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً) وسأزيد على السبعين، قال: إنه منافق، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله (ولا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا ولا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ)»([133]).
وقد علق ابن حجر العسقلاني على هذا الحديث، وأجاد، فقال: «وقد تمسك بهذه القصة من جعل مفهوم العدد حجة، وكذا مفهوم الصفة من باب أولى، ووجه الدلالة، أنه صلى الله عليه وسلم، فهم أن ما زاد على السبعين بخلاف السبعين، قال «سأزيد على السبعين» وأجاب من أنكر القول بالمفهوم، بما وقع في بقية القصة، وليس ذلك بدافع للحجة، لأنه لو لم يقم الدليل على أن المقصود بالسبعين، المبالغة، لكان الاستدلال بالمفهوم باقيا»([134]).
خاتمة:
من خلال كل ما سبق. وقد أضربت عن أبوابٍ أخر بنماذجها خشية التطويل. يتبين بأن لفقه اللغة العربية الدور الأكبر فق فقه السنة النبوية الشريفة، فقد استعمل الفقهاء كل طاقاتهم لاستثمار معرفتهم العميقة بأسرار اللغة العربية، وبمعجمها الغني والمتنوع وبأساليبها التي درج العرب على التعبير بها في لغتهم التي أبدعوا بها، من أجل فهم مقاصد الأحاديث النبوية الشريفة ، خاصة وأنهم تقيدوا بما فصلنا فيه القول سابقا، من ضرورة الانطلاق من داخل العرف اللغوي للغة العربية لفهم حديث النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه هو أيضا صلى الله عليه وسلم كان ينطق ويعبر من داخل هذا العرف اللغوي ذاته، فقد رأينا كيف أنهم يحيلون دائما على أن العرب ألفوا التعبير عن كذا بكذا، مما يكون لهم في سلامة النتيجة، بعد صحة القياس.
ثم إننا وجدنا من خلال هذه النماذج اليسيرة، بأن الفقهاء كانوا يراعون السياق اللغوي الذي وردت فيه هذه العبارة أو تلك، بعد البحث عن كل المدلولات المعجمية لتلك العبارة في اللغة العربية، لعدم استبعادهم أي مدلول قريب من سياق الحديث الشريف.
كل هذا كان وعيا منهم، رحمهم الله، بأن اللسان الذي نطق به الرسول صلى الله عليه وسلم، ينبغي أن يفهم من الداخل، حتى يكون الحكم الفقهي نابعا من صلب الحديث الشريف وجوهره، وكما نطق به الرسول صلى الله عليه وسلم، مما يؤكد بأن فقه الحديث الشريف، يستلزم فقه اللغة العربية، بل هو قطبه الذي عليه المدار، عنه يصدر علماء الأصول، وإليه يعودون في التعامل مع السنة النبوية الشريفة.