وفي هذا المَقال نَعرض لهدْي الإسلام في المحافظة على البيئة مِن التلوُّث بالقمامة في أربع نقاط على النحو التالي:
الأولى: هدْي الإسلام في الحث على نظافة الطرق العامة والمساجد:
1- نظافة الطرق العامة:
اهتمَّ الإسلام كعادته في المُحافظة على النظافة والصحة بنظافة الطرقات العامة من كل أذى يُلقيه فيها المارة، ووضَع النبي صلى الله عليه وسلَّم في حديثه حقوقًا للطريق العام، أوجَبَ على المسلمين رعايتها والالتزام بها؛ حتى يتحقَّق انتفاع الكافة بها، فالطريق ملكيَّة عامة للناس، يحافظون عليه ويستخدمونه الاستخدام الأمثل الذي لا يضرُّ الغير، وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلَّم المسلمين من الجلوس في الطرقات، قالوا: ما لنا بدٌّ من مجالسنا نتحدث فيها، فقال: ((فإن أبيتم إلا المجالس، فأعطوا الطرق حقها))، قالوا: وما حق الطريق؟ قال: ((غضُّ البصر، وكفُّ الأذى، وردُّ السلام، والأمر بالمعروف، والنَّهي عن المنكر)).
وجعل النبي صلى الله عليه وسلَّم إماطة الأذى عن الطَّريق شعبةً مِن شُعب الإيمان، واعتبَرَ هذا العمل الخفيف الجليل صلاةً مرَّةً، وصدقةً مرة أخرى؛ ففي الحديث: ((حملك عن الضعيف صلاة، وإنحاؤك الأذى عن الطريق صلاة)).
وفي حديث آخر: ((بكلِّ خطوة يَمشيها إلى الصلاة صدقة، ويُميط الأذى عن الطريق صدقة))؛ أي: إزالة الأذى من حجر أو شوك أو نجاسة أو قمامة تلوِّث الطريق، أو ما أشبه ذلك.
عن أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه قال: قلتُ: يا رسول الله، علِّمني شيئًا أنتفِع به، قال: ((اعزِلِ الأذى عن طريق المسلمين)).
وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلَّم: ((على كل ميسم من الإنسان صلاة كل يوم))، فقال رجل مِن القوم: هذا من أشد ما أنبأتنا به، قال: ((أمرُك بالمعروف ونهيُك عن المنكر صلاة، وحملك عن الضعيف صلاة، وإنحاؤك القذر عن الطريق صلاة))، وفي رواية: ((وإماطتك الحجر والشوكة والعَظْم عن طريق الناس صدقة)).
إن عناية الإسلام بالنظافة والصحة جزء من عنايته بقوة المسلمين المادية والأدبية، فهو يتطلب أجسامًا تجري في عروقها دماء العافية، ويَمتلئ أصحابها فتوة ونشاطًا؛ فإن الأجسام المهزولة لا تطيق عبئًا، والأيدي المُرتعشة لا تقدِّم خيرًا.
وللجسم الصحيح أثر لا في سلامة التفكير فحسب، بل في تفاعل الإنسان مع الحياة والناس، ورسالة الإسلام أوسع في أهدافها وأصلب في كيانها من أن تَحيا في أمة مُرهقة موبوءة عاجزة؛ ومِن أجل ذلك حارَب الإسلام المرض، ووضَع العوائق أمام جراثيمه؛ حتى لا تَنتشر فينتشر معها الضعف والتراخي والتشاؤم، وجاءت أحاديث نبيه صلى الله عليه وسلَّم تجعل المُحافظة على نظافة الطريق العام سببًا لدخول الجنة، وزيادة الحسنات.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلَّم: ((مرَّ رجل بغصن شجرة على ظهر طريق، فقال: والله لأنحينَّ هذا عن المسلمين لا يؤذيهم، فأُدخل الجنة))، ويقول صلى الله عليه وسلَّم: ((لقد رأيتُ رجلاً يتقلب في الجنة في شجرة قطعها من ظهر الطريق كانت تؤذِي الناس))؛ أي: يتنعم في الجنة بملاذِّها بسبب قطعه الشجرة، وكان شُريح إذا مات لأهله سِنَّور، أمر بها فألقيت في جوف داره؛ اتقاءً لأذى المسلمين.
وعن معاوية بن مرة قال: كنتُ مع معقل بن يسار رضي الله عنه في بعض الطرقات، فمرَرْنا بأذى، فأماطه أو نحَّاه عن الطريق، فرأيت مثله فأخذته فنحَّيتُه، فأخذ بيدي وقال: يا بن أخي، ما حملك على ما صنعت؟ قلت: يا عمِّ، رأيتُك صنعتَ شيئًا فصنعتُ مثله، فقال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم يقول: ((مَن أماط الأذى مِن طريق المسلمين، كُتبت له حسنة)).
وعن أبي ذرٍّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلَّم: ((عُرضت عليَّ أعمال أمتي حسنُها وسيئُها، فوجدت في محاسن أعمالها الأذى يُماط عن الطريق)).
ومِن وسائل الوقاية المُحكمة التي شرَعها الإسلام إيجابية قضاء الحاجة في أماكن معزولة؛ حتى تذهب الفضلات الحيوانية في مستقرٍّ سحيق، فلا يتلوث بها ماء، ولا يتنجَّس طريق ولا مجلس، ولو أنَّ الساكنين في وادي النيل أخذوا أنفسهم بهذا الأدب الجليل، لنَجَوْا مِن غوائل الأدواء التي هدَّتْ قواهم، وأنهكت قراهم، وجشَّمتهم العنت الكبير؛ فعن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلَّم أنه "نهى أن يُبال في الماء الراكد"، وعنه أيضًا: "نهى أن يُبال في الماء الجاري".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلَّم: ((اتقوا اللاعنَينِ))، قالوا: وما اللاعنان؟ قال: ((الذي يتخلى في طريق الناس أو في ظلهم)).
وعن معاذ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلَّم: ((اتقوا الملاعن الثلاث: البراز في الموارد، وقارعة الطريق، والظل))؛ أي: إن هذه الأمور تجلب على فاعلها اللعنة.
والشخص الذي يتخلى في الطريق العام ساقط المروءة، فهو يأتي فعلاً يُثير الاشمئزاز ويَستوجِب السخط، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلَّم: ((مَن آذى المسلمين في طرُقِهم، وجبتْ عليه لعنتهم))، وفي رواية: ((مَن غسل سخيمته على طريق من طرق المسلمين، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين)).
ومن آداب قضاء الحاجة: البُعد والاستتار عن الناس، لا سيما عند الغائط؛ لئلا يُسمع له (صوت)، أو تُشمَّ له رائحة؛ لحديث جابر رضي الله عنه قال: خرجْنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلَّم في سفر، فكان لا يأتي البراز - مكان قضاء الحاجة - حتى يغيب فلا يُرى.
وهذه المنهيات كلها أساس انتشار الأمراض المتوطِّنة على ضفاف النيل؛ إذ إنَّ العوام استهانوا بها فجرَّت عليهم الوبال، والأحاديث المذكورة آنفًا واضحة وظاهرة في فضل إزالة الأذى عن الطريق، سواء أكان الأذى شجرةً تُؤذي، أم غصنَ شوكٍ، أم حجرًا يُعثر به، أم قذرًا، أم جيفةً، أم غير ذلك، وهي حجة في وقاية الطريق العام من التلوث بكافة أنواعه، سواء أكان هذا في الطريق أم في الأسواق أم في النوادي وغيرها في كل بيئة يعيش فيها ويَرتادها الناس، وفي الأحاديث تنبيه على فضيلة كل ما نفع المسلمين وأزال عنهم الضرر.
2- نظافة المساجد:
فهي دُورُ العلم والعبادة، وأماكن اجتماع الناس ومواضع احتفالاتهم، فعندما يذهب الإنسان طاهرًا نظيفًا، ويجد المكان نظيفًا طاهرًا، ومَن جاوَرَه في المكان أيضًا نظيفًا طاهرًا متطيبًا، فإن هذا لا شكَّ أدعى إلى بعث السرور في النفس والانشراح في الصدور، وأبعث على طرد السأم والملل والضجر والفرار من المكان ومن فيه، وأيضًا فيه الوقاية من الأمراض والأوبئة، وفيه حفظ الصحة.
والمساجد في عهد النبي صلى الله عليه وسلَّم كانت مَفروشة بالحصباء، وليستْ كمَساجدنا اليوم، ولم تكن فيها دورات للمياه ولا أماكن للوضوء، وبالرغم من ذلك كان النبي صلى الله عليه وسلَّم يُخاطب الأمة في شخص أصحابه ويُعلِّمهم ضرورة المحافظة على نظافتِها.
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلَّم: ((البزاق في المسجد خطيئة، وكفَّارتها دفنُها))، وعنه رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم يقول: ((التفل في المسجد خطيئة، وكفارتها دفنُها))، وعنه كذلك قال: بينَما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلَّم إذ جاء أعرابي يَبول في المسجد، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلَّم: مه مهٍ! قال رسول الله صلى الله عليه وسلَّم: ((لا تزرموه، دعوه))، فتركوه حتى بال، ثم إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم دعاه فقال له: ((إن هذه المساجد لا تصلُح لشيء مِن هذا البَول ولا القذر؛ إنما هي لذِكر الله عزَّ وجلَّ، والصلاة، وقراءة القرآن))، أو كما قال صلى الله عليه وسلَّم، فأمَر رجلاً من القوم فجاء بدَلوٍ من ماء فشنَّه عليه.
وفي الحديث: صيانة للمساجد وتزيينها عن الأقذار والقذى والبصاق وخلافه، ويحرم إدخال النجاسة إلى المسجد، وأما مَن على بدنه نجاسة، فإن خاف تنجيس المسجد لم يَجُز له الدخول، فإن أمن ذلك جاز.
وأما إذا افتصد في المسجد (شق العرق، وافتصد فلان: إذا قطع عرقه) فإن كان في غير إناء فحرام، وإن قطر دمه في إناء فمكروه، ويستحبُّ استحبابًا متأكدًا كنْسُ المسجد وتنظيفه.
وقال الله سبحانه وتعالى: ﴿ وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُود ﴾ [البقرة: 125]، والمعنى: طهِّراه من الأوثان والأنجاس، وطواف الجنب والحائض، والخبائث كلها.
وعن أبي ذرٍّ رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلَّم قال: ((عُرضت عليَّ أعمالُ أمَّتي، حسنُها وسيئُها، فوجدت في مساوئ أعمالها: النُّخاعة تكون في المسجد لا تُدفَن)).
وعن عائشة رضي الله عنها: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلَّم رأى بصاقًا في جدار القِبلة أو مخاطًا أو نخامة، فحكَّه.
لقد أراد النبي صلى الله عليه وسلَّم بهذا أن يؤصِّل في الناس عادات جديدة تتماشى مع القواعد الصحيحة، فاستعمل أسلوبًا مثيرًا مؤثِّرًا؛ ليزيح به عن البيئة بعض الأخطاء التي التصقت بها، وعدم المبالاة بالبصق أو التمخُّط في الطرق العامة، فاهتمَّ صلى الله عليه وسلَّم بنظافة ما تجمَّد منها بنفسه بالعراجين (وهي سباطة البلح بعد نزعه منها)؛ ليكون ذلك بيانًا عمليًّا للحرص على النظافة، وعلى كل إنسان أن يُسهم بصورة حيَّة ومَلموسة في نظافة البيئة التي يحيا في وسطها؛ فإن ذلك فضلاً عن كونه واجبًا صحيًّا، فهو واجبٌ شرعي أيضًا.
واعلم أن البزاق في المسجد خطيئة، على صاحبها أن يكفر عنها بدفنها، ويرى جمهور العلماء دفنها في تراب المسجد ورملِه وحصاته إن كان فيه تراب أو رمل أو حصاة، وإلا فليُخرِجها، والقبح والذمُّ لا يختص بصاحب النخامة، بل يدخل فيه هو وكل مَن رآها ولا يُزيلها بدفن أو حك ونحوِه.
وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: إذا تنخَّم أحدكم في المسجد، فليُغيِّب نخامته؛ أن تُصيب جلد مؤمن أو ثوبه فتُؤذيه.
وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلَّم: ((من تنخَّع في المسجد فلم يَدفِنه فسيِّئة، وإن دفنه فحسنة))، وقال ابن أبي جمرة: لم يقلْ يُغطِّيها؛ لأنَّ التغطية يستمرُّ الضرر بها؛ إذ لا يأمن أن يجلس غيره عليها فتُؤذيه، بخلاف الدَّفن فإنه يُفهَم منه التعميق في باطن الأرض.
وقال النووي في رياض الصالحين: "المراد بدفنها ما إذا كان المسجد ترابيًّا أو رمليًّا، فإذا كان مبلطًا مثلاً فدَلكها عليه بشيء، فليس ذلك بدفن، بل زيادة في التقذير"، قال الحافظ ابن حجر: "لكن إذا لم يبقَ لها أثر ألبتَّة، فلا مانع، وعليه يُحمَل حديث عبدالله بن الشخِّير: ثمَّ دلَكه بنعلِه، وفي رواية طارق: وبزق تحت رجله ودلَكَ"، وقال الحافظ: "الروايتان عند أبي داود إسنادهما صحيح".
وعن أبي عبيدة بن الجراح "أنه تنخَّم في المسجد ليلةً فنسي أن يدفنها حتى رجع إلى منزله، فأخذ شُعلةً من نار ثم جاء فطلَبها حتَّى دفَنَها، ثم قال: الحمد لله الذي لم يكتب عليَّ خطيئةً الليلة".
الثانية: هدي الإسلام في الحث على نظافة البيوت:
فالبيوت هي مكان الاستقرار والراحة، يأوي إليها الإنسان مستغيثًا من شدة الحرِّ وزمهرير البرد؛ ولذلك حثَّ النبي صلى الله عليه وسلَّم على طهارتها ونظافتها؛ حتى يتميَّز المسلمون عن غيرهم من اليهود الذين يَجمعون الأكباء (الزبالة والقاذورات) في دُورهم؛ يقول عليه الصلاة والسلام: ((إن الله طيب يحب الطِّيب، نظيف يحب النظافة، كريم يُحبُّ الكرم، جواد يحب الجود، فنظِّفوا أفنيتكم وساحاتكم، ولا تشبَّهوا باليهود يجمعون الأكباء في دورهم)).
وقد نبه الإسلام إلى تخلية البيوت من الفضلات والقمامة؛ حتَّى لا تكون مباءةً للحشَرات ومصدرًا للعِلَل، وكان اليهود يُفرِّطون في هذا الواجب، فحُذِّرَ المسلمون من التشبُّه بهم؛ فعن عامر بن سعد عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلَّم: ((طهِّروا أفنيتَكم؛ فإن اليهود لا تطهِّر أفنيتَها))، وفي رواية: ((نَظِّفُوا أفنيَتَكُم؛ فإنَّ اليهود أَنتَنُ النَّاس))؛ الترمذي عن سعد بن أبي وقاص، كتاب الأدب، باب النظافة، وحسَّنه الألباني في المشكاة.
وفي هذه الوصية دليل على أنَّ الجَمال الإسلامي كان أصيلاً، ولم يكن بتأثيرٍ من البيئة الحارَّة، كما اعتقد بعض الباحثين الغربيِّين، أو مِن تأثير مناهج أو شرائع سابقة.
ولشدة حِرْص الإسلام على نظافة البيوت والاعتناء بها، فقد حثَّ على صلاة النوافل فيها؛ فعن جابر أنه قال: "إذا قضى أحدكم الصلاة في مسجدِه، فليجعل لبيته نصيبًا من صلاته؛ فإنَّ الله جاعلٌ في بيته من صلاته خيرًا"، وبهذا كانت البيوت مساجد أخرى صُغرى، وكان لا بُدَّ من طهارتها كي تصلح للصلاة، وبهذا أمر النبي أُمَّته؛ فعن سمرة بن جندب قال: "أمَرَنا رسول الله أن نتخذ المساجد في ديارنا، وأمَرَنا أن نُنظِّفها"؛ أبو داود كتاب الصلاة، وأحمد، واللفظ له.
إنَّ الأماكن الطيبة النظيفة هي التي تنزل فيها الملائكة التي تحبُّ المكان النظيف الذي يفوح منه الرائحة الطيبة، وتنفر من الروائح الخبيثة، أما الشياطين، فإنها تنفر من الأماكن النظيفة ذات الرائحة الطيبة، وأحب شيء إليها الأماكن الكريهة المنتنة الرائحة.
تربية الكلاب في البيوت تلوِّثها وتهدِّد صحة ساكنيها:
ووجود الكلاب ببيت المسلم مظنَّة لنجاسة الأواني ونحوها مما يَلَغُ فيه الكلبُ، وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلَّم: ((إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم، فليَغسِله سبع مرات إحداهنَّ بالتراب))، فاقتناء الكلاب للزينة حرام بالإجماع؛ فهي تمنع الملائكة من دخول البيوت، فتَسكنُها الشياطين، وعن النبي صلى الله عليه وسلَّم قال: ((أتاني جبريل عليه السلام فقال لي: أتيتُكَ البارحة فلم يَمنعني أن أكون دخلتُ إلا أنه كان على الباب ثماثيل، وكان في البيت قرام (ستر) فيه تماثيل، وكان في البيت كلبٌ، فمُرْ برأس التمثال الذي في البيت يُقطع فيصير كهيئة الشجرة، ومُرْ بالستر فليقطع فيجعل منه وسادتان تُوطأان، ومُرْ بالكلبِ فليُخرَج)).
والنهي عن اقتناء الكلاب في البيوت ليس معناه القسوة عليها أو الحكم بإعدامها؛ فقد قال عليه الصلاة والسلام: ((لولا أنَّ الكلاب أمَّة من الأمم، لأمرتُ بقَتلِها)).
فقد قص النبي صلى الله عليه وسلَّم على أصحابه قصة الرجل الذي وجد كلبًا في الصحراء يلهث (يأكل الثري) من العطش، فذهب إلى البئر ونزع خفَّه فمَلأها ماءً حتى رويَ الكلب، قال صلى الله عليه وسلَّم: ((فشكَر الله له، فغَفَر له)).
والمباح اقتناؤه من الكلاب ما كان للصيد أو لحراسة ما لا يُمكن حراستُه إلا بالاستعانة بالكلب لاتساع المكان المحروس، على أن يتمَّ إبعاده عن مخالطة أهل البيت.
وسبب امتناع الملائكة من دخول البيت وفيه كلب: كثرة أكلِه النجاسات، ولأنَّ بعضها تتلبَّس به الشياطين كما جاء به الحديث، والملائكة ضد الشياطين، ولقُبحِ رائحة الكلب، والملائكة تكره الرائحة القبيحة، هذا فضلاً عما أثبَتَه العلم الحديث من وجود الدودة الشريطيَّة في لعاب الكلاب، التي قد تؤدي بحياة المصابين بأمراض، ممَّن يُداعبون الكلاب ويُقبِّلونها، ويَسمحون لها بلمس أيدي الصغار والكبار.
الثالثة: اهتمام الإسلام بالتشجير والزراعة لحماية الأرض من التلوث:
وقد تجلى هذا الاهتمام في أمرين:
الأول: تهيئة الله عزَّ وجل الأرض للإنبات والزرع بجعلها ذلولاً وبساطًا، فهي نعمة من الخالق أسبغها على خلقِه، يجب عليهم أن يذكروها ويَشكروها ويُحافظوا عليها؛ قال تعالى: ﴿ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا * لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا ﴾ [نوح: 19، 20]، وقال أيضًا: ﴿ وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ * فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ * وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ * فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴾ [الرحمن: 10 - 13]، وقال كذلك: ﴿ وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ ﴾ [ق: 7، 8].
الثاني: الحث على الغرس والزَّرع حتى آخر لحظة من عمر الدنيا؛ فمِن سَعة الله ورحمته وكرمه الذي أكرم به عباده أنْ حثَّهم على لسان نبيه باستمرار الغرس والزرع حتى يُثيبهم عليه، سواء كان مأكولاً أو مُنتفعًا به، ولو مات غارسُه أو زارِعه، ولو انتقل إلى ملك غيره، وهذا الثواب ينتفع به في الحياة وبعد الممات؛ فعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلَّم: ((ما من مسلم يغرس غرسًا إلا كان ما أكل منه صدقة، وما سرق منه له صدقة، ولا يرزؤه (ينقصه) أحد إلا كان له صدقة إلى يوم القيامة))، وفي رواية له: ((فلا يَغرس المسلم غرسًا فيأكل منه إنسان ولا دابَّة ولا طير، إلا كان له صدقة إلى يوم القيامة))، وفي رواية أخرى له: ((لا يغرس المسلم غرسًا ولا يزرَع زرعًا فيأكل منه إنسان ولا دابة ولا شيء، إلا كانت له صدقة))، وقد روي أن رجلاً مرَّ بأبي الدرداء رضي الله عنه وهو يغرس جوزة فقال: أتغرِس هذه وأنت شيخ كبير وهذه لا تُثمر إلا في كذا وكذا عامًا؟ فقال أبو الدرداء: ما عليَّ أن يكون لي أجرُها ويأكل منها غيري؟
وعن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلَّم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلَّم يقول بأذني هاتين: ((مَن نصَب شجرةً فيصبر على حفظها والقيام عليها حتى تُثمِر، فإنَّ له في كل شيء يُصيب مِن ثمرها صدقة)).
وبلغ من روعة الإسلام وحرصه على التشجير أنْ حثَّ على غرس الفسيلة والساعةُ قائمة، والحياة مولية، ولن ينتفع بها أحد، لكنه جعل هذا الغرس عبادةً لله حتى آخر لحظات الدنيا؛ فعن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلَّم: ((إذا قامت الساعة وفي يدِ أحدِكم فسيلة، فإن استطاع ألا يقوم حتى يغرسها فليغرسها))؛ رواه أحمد والبخاري في الأدب المفرد.
الرابعة: هدْي الإسلام في المحافظة على الأشجار والثمار حتى في حالة الحروب:
وقد تجلى ذلك في وصية الخلفاء الراشدين الذين تربوا في مدرسة النبوة بالحرص على البيئة وعدم قطع الأشجار أو ذبح الشياه والبَعير، إلا لمنفعة، فها هو أبو بكر الصدِّيق رضي الله عنه حين بعَثَ أسامة بن زيد إلى بلاد الشام يُوصيه وجندَه قائلاً لهم:
"لا تخونوا، ولا تغلُّوا، ولا تغدروا، ولا تُمثِّلوا، ولا تَقتُلوا طِفلاً صغيرًا، ولا شيخًا كبيرًا، ولا امرأةً، ولا تَعقروا نخلاً ولا تَحرقوه، ولا تقطعوا شجرةً، ولا تذبحوا شاةً ولا بقرةً ولا بعيرًا إلا لمأكلة".
ولما حاصر رسول الله صلى الله عليه وسلَّم بني النضير، كان بعض الصحابة قد شرع يقطع ويحرق في نَخيلهم؛ إهانة لهم وإرعابًا لقلوبهم، فقالوا: ما هذا إلا فساد يا محمد؟ إنك كنتَ تَنهى عن الفساد، فما بالك تأمر بقطع الأشجار؟ فأنزل الله هذه الآية الكريمة: ﴿ مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ ﴾ [الحشر: 5]؛ أي: ما قطعتُم أيها المؤمنون من شجرة نخيل أو تَركتُموها كما كانت قائمةً على سوقها، فبإذن الله وإرادته ورضاه؛ ليغيظ اليهود ويُذلَّهم بقطع أشجارهم ونخيلهم.
ويعيب الله عزَّ وجلَّ في كتابة العزيز على من يَسعى في أرضه بالفساد والإفساد، فيَعتدي على البيئة بقطْع الأشجار المُثمِرة، ويتوَّعده بأليم العذاب وشديد العقاب؛ فقد رُوي أن الأخنس بن شَرِيق أتى النبي صلى الله عليه وسلَّم فأظهر له الإسلام وحلَف أنه يُحبه، وكان منافقًا حسن العلانية خبيث الباطن، ثم خرج من عند النبي صلى الله عليه وسلَّم فمرَّ بزرعٍ لقوم من المسلمين وحُمُر، فأحرق الزرع وقتل الحمُر، فأنزل الله تعالى فيه الآيات: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴾ [البقرة: 204 - 206].
هذا هو منهج الإسلام في المحافظة على البيئة من تلويثها بالقمامة، حتَّى لو كانت هذه البيئة ملكًا لغير المسلمين، فإن الأمر بالمحافظة عليها أمر إلهي لا يَجوز مخالفته إلا في حالة استثنائية أوضحناها سلفًا، وما هذه المحافظة على البيئة من جانب الإسلام إلا لكونه دينَ السلام مع الله ومع الناس ومع جميع الكائنات.
كتبه
أ. د. عوض الله عبده شراقة
أستاذ القانون المدني بحقوق حلوان
المراجع:
• قانون حماية البيئة في ضوء الشريعة؛ د. ماجد راغب الحلو.
• شرح قوانين البيئة؛ للدكتور: عبدالفتاح مراد.
• قانون حماية البيئة المصري رقم 4 لسنة 1994.
• جرائم تلوث البيئة في القانون الليبي دراسة مقارنة، رسالة دكتوراه، فرج صالح الهريش، مكتبة كلية حقوق القاهرة، سنة 1997.
• حماية البيئة من النفايات الصناعية؛ د. عبدالعزيز مخيمر.