حكم استبدال الأوقاف في المذاهب الفقهية([1])
د. محمد المهدي ([2])
جاء في العمل المطلق:
وجاز بيع حبس لتوسعة طريق أو كمسجد للجمعة ([75]).
وتوجيه ذلك أن الأوقاف إنما تغير إلى المنافع العامة دون الخاصة، وذلك في مثل الجوامع، أما مساجد الجماعات فإنها خاصة، ويصح أن يكون في البلد الواحد منها كثير، فمتى ضاق مسجد بني بالقرب منه مسجد يتسع فيه ([76]).
ثم إذا أبى الموقوف عليهم - أو الناظر - بيع الوقف[(*)]، فقد اختلف الشيوخ المتأخرون في حكم ذلك على قولين:
- القول الأول: تؤخذ العين الموقوفة منهم بالقيمة جبرا، أحبوا أم كرهوا ([77])، وهذا قياس على ما روي عن ابن القاسم من أنه لا يحكم عليهم بجعل الثمن في عين أخرى تكون وقفا مكانها، لأنه إذا كان الحق يوجب أن تؤخذ منهم بالقيمة جبرا صار ذلك كالاستحقاق الذي يبطل الوقف، فلا يجب صرف الثمن المأخوذ فيه في وقف مثله .([78])
جاء في الذخيرة نقلا عن بعض الشيوخ: "يجبر الإنسان على بيع ماله في سبع مسائل: مجاور المسجد إذا ضاق، يجبر من جاوره على البيع ... وجار الطريق إذا أفسدها السيل، يؤخذ مكانها بالقيمة من جار الساقية"([79]).
- القول الثاني: لا يقضى عليهم ببيعها إذا أبوا، وهو لابن الماجشون، وهو قياس قوله: إنه يقضى عليهم أن يجعلوا الثمن الذي باعوا به في عين أخرى تكون وقفا مكانها، لأنهم إذا باعوها باختيارهم في موضع لا يحكم عليهم به لو امتنعوا منه، كان الحكم عليهم بصرف الثمن في عين تكون وقفا مكانها واجبا، لما في ذلك من الحق لغيرهم ([80]).. والمعتمد عند المالكية هو: القول الأول ([81]).
- في المذهب الشافعي: لا يرى الشافعية بيع الوقف أو استبداله إذا كان صالحا في أي حال من الأحوال.
- في المذهب الحنبلي: يميز الحنابلة في بيع الوقف العامر واستبداله بين ما إذا كان غيره كثر مصلحة منه، أو أقل، أو يساويه.
فإذا كانت المصلحة للوقف أو أهله مرجوحة في إيقاع عقد الاستبدال، كان العقد باطلا غير مسوغ، لعدم رجحان الحظ لجملة الوقف في ذلك. وكذلك الحكم إذا لم تكن راجحة ولا مرجوحة ([82])، أما إذا كان غيره كثر مصلحة منه وأنفع لأرباب الوقف، ففي حكم استبداله رأيان:
- الرأي الأول: لا يجوز استبداله، وهو للإمام أحمد. و لذلك جاء في كتاب المناقلة: "المعاوضة عن الأوقاف العامرة بالبيع والإبدال لا تجوز عند الإمام أحمد وأصحابه رضي الله عنهم، وهو متواتر عنه وعنهم"([83]).
وتوجيه هذا الرأي كما جاء في المغني: "أن الأصل تحريم البيع، وإنما أبيح للضرورة، صيانة لمقصود الوقف عن الضياع مع إمكان تحصيله، ومع الانتفاع وإن قل لا يضيع المقصود، اللهم إلا أن يبلغ في قلة النفع إلى حد لا يعد نفعا، فيكون وجود ذلك كالعدم"([84]).
- الرأي الثاني: يجوز استبداله للمصلحة، وفي هذا يقول ابن تيمية: "مع الحاجة يجب إبدال الوقف بمثله، وبلا حاجة يجوز بخير منه، لظهور المصلحة"([85]).
وهذا الرأي هو الأظهر في نصوص الإمام أحمد ([86])، وبه قال الشيعة الزيدية ([87])، غير أن الرأي الأول هو المعمول به عند الحنابلة، جاء في كتاب المناقلة: "فالقول بجواز ذلك - أي الاستبدال - والحكم به مخالف للمذهب المأذون في الحكم به، فلا يصح الحكم لعدم الإذن به"([88]).
* موازنة وترجيح:
يمكن أن نخلص من خلال موازنة آراء الفقهاء ونظرياتهم حول الحكم الشرعي لاستبدال الوقف تام المنفعة - سواء أكان عقارا أو منقولا - إلى أن من الفقهاء من حكم فقه المصلحة في قوله بالجواز، كما هو الشأن عند الحنفية على القول المفتى به، والحنابلة في رواية عن الإمام أحمد، ومنهم: من حكم فقه الضرورة في ذلك، كما هو الشأن عند المالكية، في حين نجد الشافعية والحنفية في الأصح قد منعوا البيع، سواء أترتب عنه مصلحة أم لا.
واذا تأملنا القول بالجواز وجدناه وجيها، وأكثر عدالة وتحقيقا للمصلحة، فقد تكون الدار الموقوفة مثلا في حي قد أحاطت به المتاجر من كل جانب، وسوق رائجة يقبل عليها الناس من كل حدب وصوب، وهي ضيقة قد لا تتسع لمن وقفت عليهم، فإذا بيعت كان ثمنها كبيرا، لموقعها وصلاحيتها لما يحتاج إليه التجار، فيشترى به مكان أوسع رحابا وأطيب مقاما، وأصلح للسكنى من تلك الدار التي صارت في حي صاخب لا هدوء فيه.
ونفس الشيء يقال في أرض زراعية وسط مدينة عامرة، فلو أخذنا بنظرية المانعين من الاستبدال لكان من الممكن أن نرى وسط المدن والقرى حقولا وضياعا لا ينتفع مستحقوها بعشر ما كان من الممكن الانتفاع به منها لو كانت ملكا طليقا من الوقف.
- المسالة الثانية: استبدال المسجد وأمواله.
من أعمال البر التي يخلد بها الذكر الحسن، وتنال بها الدرجات الرفيعة عند الله سبحانه: بناء المساجد للصلاة، لقوله عليه السلام: "من بنى مسجدا يذكر فيه اسم الله بنى الله له بيتا في الجنة"([89])، فإذا بنيت أصبحت وقفا، وارتفع ملك العباد عنها، لقوله تعالى: (وأَنَّ المَسَاجِدَ لِلَّهِ)([90])، ولاشك أن وقفها من أفضل القربات، لكونها بيوت الله في الأرض، يجتمع فيها المصلون لأداء الفريضة التي هي أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين.
واذا كان الأمر كذلك، فهل يصح بيعها واستبدالها برغم ما لها من الحرمة أم لا؟، وهل أموالها سواء الموقوفة عليها أو تلك المشتراة من غلاتها لها نفس الحكم أم لا؟، عن هذه التساؤلات نحاول الإجابة، من خلال فقرتين، نخصص الأولى لحكم استبدال رقبة المسجد، ونخصص الثانية لبيان حكم استبدال أموال المسجد.
أولا- حكم استبدال المسجد:
ونتناوله من خلال عرض الآراء الفقهية ومناقشتها على النحو التالي:
* عرض الآراء الفقهية:
- في المذهب الحنفي: إذا كان المسجد سليما، والناس من حوله يتوافدون عليه، فإنه لا يجوز بيعه عند الحنفية قولا واحدا، أما إذا كان متخربا، فقد اختلف صاحبا أبي حنيفة في حكمه على رأيين[(*)]:
- الرأي الأول: لا يباع إطلاقا، وهو مسجد أبدأ إلى قيام الساعة[(**)]، ولا يعود بالاستغناء عنه إلى الواقف ولا إلى ورثته؛ لأنه قد أسقط ملكه عنه لله، والساقط لا يعود، وهو لأبي يوسف، وحجته في ذلك القياس على الكعبة، فإن الإجماع حاصل على عدم خروج موضعها عن المسجدية والقربة.
- الرأي الثاني: لا يباع، ويعود إلى ملك الواقف إن كان حيا، أو إلى ورثته إن كان ميتا، لأنه عينه لقربة مخصوصة، فإذا انقطعت رجع إلى الملك، أما إذا لم يعلم بانيه ولا ورثته، فحينئذ يجوز بيعه وصرف ثمنه في مسجد آخر، وهو قول محمد([91]).
والفتوى على رأي أبي يوسف ([92])، وهو ما رجحه ابن الهمام ([93]).
- في المذهب المالكي: اتفق المالكية على عدم جواز بيع المسجد في أي حال من الأحوال، ومهما كانت الظروف والأسباب، حتى ولو خرب أو انتقل أهل القرية والمحلة، وانقطع المارة عن طريقه، بحيث يعلم جزما أنه لا يمكن أن يصلي فيه إنسان، مع ذلك كله يجب أن يبقى على ما هو بدون أن يباع ([94]).
- في المذهب الشافعي: لا يجيز الشافعية بيع المساجد، حتى ولو تخربت وتعذر إعادتها، كما هو الشأن عند المالكية وأبي يوسف من الحنفية، لأن ما زال الملك عنه لحق الله تعالى لا يعود إلى الملك ببيع أو بغيره، كما لو أعتق عبد ثم زمن لا يرد إلى الملك ([95])، ولإمكان الانتفاع بها حالا بالصلاة في أرضها ([96]).
- في المذهب الحنبلي: اختلف الحنابلة في حكم بيع المسجد إذا تخرب وتعطلت منافعه وتعذرت إعادته مسجدا، أو ضاق بأهله وتعذر توسيعه في محله، أو تعذر الانتفاع به لخراب الناحية التي هو بها، أو استقذار موضعه بما يمنع الصلاة فيه، على قولين، أقواهما: عدم الجواز، وعليه تنقل آلات المسجد ([97])، وحجة القائلين بالجواز القياس على الفرس الموقوف على الغزو إذا كبر ولم يعد صالحا للغزو مع إمكان الانتفاع به في شيء آخر، فقد أجمعوا على أنه يجوز بيعه ويشترى بثمنه ما يصلح للغزو ([98]).
وأما إذا لم تتعطل منافعه، فقيل بعدم استبداله ([99])، وقيل بجوازه للمصلحة، لما ثبت عن عمر بن الخطاب، من أنه أبدل مسجد الكوفة القديم بمسجد آخر، وصار المسجد الأول سوقا للتمارين [(*)]([100]).
- في المذهب الشيعي: اتفق الجعفرية على عدم جواز بيع المسجد، عامرا كان أم غامرا ([101])، على اعتبار أن وقف المسجد يقطع كل صلة بينه وبين الواقف وغيره إلا الله سبحانه وتعالى ([102]).
* مناقشة وتقييم:
إذا تأملنا القول بجواز استبدال المساجد وجدنا بعض أصحابه يستندون إلى القياس على جواز بيع الفرس الحبيس على الغزو الذي لم يعد صالحا، وهو قياس مع الفارق - كما هو واضح -، لأن المسجد موصوف بالتأبيد، على الأقل من جهة عرصته، بحيث يمكن الصلاة فيها على الدوام، في حين أن الفرس إذا تعطل تعذر الانتفاع به بأي شكل من الأشكال في الوجه المحبس فيه.
ومع ذلك فإن في هذا القول ما يحقق النفع العام، فقد يخرب المسجد وتضيق غلاته عن عمارته، ولا توجد أوقاف ينفق من غلاتها عليه، فيبقى خرابا في وسط العمران، خاوي العروش، يلقى فيه كل ما تتقزز منه النفس، فلو بيع واشتري بما يحصل بثمنه ما يصلح لأن يكون وقفا يستفيد منه الناس لكان في ذلك نفع وفائدة .
لكن إذا تأملنا القول بعدم جواز استبدالها، سواء كانت عامرة أم غامرة، - وهو ما عليه جمهور من الفقهاء - وجدناه أيضا - لا يخلو من الوجاهة- إن لم نقل أكثر وجاهة -، ذلك أن العين متى كانت مسجدا صارت أبدا بيتا لله، وخالصة له من دون عباده باتفاق المسلمين، ولذلك فمن المرفوض عادة أن نجعل المكان في زمن بيتا من بيوت الله معدا للعبادة وذكر الله، ثم نبيعه في زمن آخر لشخص قد يجعله كنيفا أو مربط ماشية أو دواب.
ثانيا- حكم استبدال أموال المسجد وتوابعه:
في الغالب أن يكون للمسجد أوقاف، كحانوت أو دار أو أشجار أو قطعة أرض ينفق ريعها على مصالحه، من إصلاح وفرش وخدم، ومن البداهة القول بأن هذا النوع لا يترتب عليه أحكام المسجد من الاحترام وأفضلية الصلاة فيه، للفرق بين الشيء نفسه، وبين أمواله وأملاكه التابعة له.
وهذه الأموال على أقسام ثلاثة، منها: ما يحدثه الناظر من ريع أوقافه، ومنها: أنقاضه التي تسقط منه، ومنها: الأموال التي يتبرع بها المحسنون عليه، ولكل قسم حكمه الخاص.
- القسم الأول: ما ينشئه الناظر من ريع الوقف.
ومثاله أن يكون للمسجد بستان، فيؤجره الناظر ويشتري -أو يبني- بناتجه دكانا لفائدة المسجد.
ومعرفة حكم استبدال هذا القسم تقتضي معرفة طبيعة المشترى، هل يعتبر وقفا أم ملكا؟، وقد انقسم الفقهاء بصدد ذلك على رأيين:
- الرأي الأول: ذهب الحنفية إلى القول المختار والشافعية والجعفرية والزيدية إلى القول بأن ما اشتراه الناظر من غلات أوقاف المسجد ليس وقفا، وانما هو ناتج ومال للمسجد، فيتصرف فيه الناظر تبعا للمصلحة، تماما كما يتصرف بثمر البستان الموقوف لمصلحة المسجد ([103]).
جاء في الدر المختار: "اشترى المتولي بمال الوقف دارا للوقف، لا تلحق بالمنازل الموقوفة، ويجوز بيعها في الأصح"([104]).
ويستثني فقهاء الشيعة الجعفرية من هذا الحكم ما إذا تولى الحاكم الشرعي إنشاء وقف ما اشتراه الناظر، ففي هذه الحالة لا يباع[(*)]، إلا مع وجود سبب يبرر البيع ([105])، أما الشافعية فلا يرون صحة وقف ما اشتري من فاضل غلات أوقاف المساجد، إلا إذا اقتضته الضرورة، كما إذا خيف عليه من يد ظالم أو خراج مرتب عليه ظلما، أو نحو ذلك، ففي هذه الحالة يجوز وقفه ([106])، والذي له ذلك هو الناظر ([107]).
- الرأي الثاني: ذهب المالكية و فريق من الحنفية إلى اعتبار ما اشتراه الناظر من غلات الوقف وقفا، ينطبق على بيعه واستبداله نفس الأحكام السابقة في استبدال غير المسجد.([108])
وقد أفتى ابن رشد بجواز بيعه - باعتباره وقفا- إذا أذن القاضي الناظر، بعد أن يثبت عنده وجه النظر في ذلك ([109]).
ولاشك في أن اعتبار ما اشتراه الناظر من غلات الوقف ملكا هو الأولى والأرجح، وليس في تحبيسه وجه من النظر، لأن الوقف يحتاج إلى أركان منها الواقف، والواقف كما هو معلوم يشترط فيه أن يكون مالكا، والناظر أو الحاكم ليس كذلك، فضلا عن أن بقاءه على الملكية فيه منفعة، لأنه قد يضطر إلى بيعه تحت أي ظرف من الظروف، كإصلاح الأعيان المشرفة على الانهدام، فإذا ما اعتبرناه وقفا، أو عملنا على تحبيسه - على القول باعتباره ملكا - منع علينا بيعه، وأصاب الوقف من جراء ذلك ضرر بين.
- القسم الثاني: أنقاض المسجد.
ومثاله أن ينهدم المسجد، فلا يبقى منه إلا نقضه، من أحجار وأخشاب وأبواب وسائر الآلات، وحكم هذا النقض فيه تفصيل المذاهب، نعرض له مع الموازنة على النحو التالي:
1- عرض الآراء الفقهية:
- في المذهب الحنفي: يرى الحنفية جواز بيع النقض في حالتين ([110]):
- الحالة الأولى: إذا تعذر إعادة عينه إلى موضعه، بيع وصرف ثمنه إلى المرمة، صرفا للبدل إلى مصرف المبدل ([111]).
- الحالة الثانية: إذا خيف هلاكه باعه الحاكم، وأمسك ثمنه لعمارته عند الحاجة ([112]).
ومحل هاتين الحالتين إذا انهدم من الوقف بعضه، أما لو انهدم كله ولم ترج عمارته صح بيع أنقاضه بأمر الحاكم واشتري بثمنها ما يحل محله، فإن لم يمكن رد إلى ورثة الواقف إن وجدوا، والا صرف للفقراء ([113]).
قال ابن عابدين: "الظاهر أن البيع مبني على قول أبي يوسف، والرد إلى الورثة أو إلى الفقراء على قول محمد، وهو جمع حسن، حاصله: أنه يعمل بقول أبي يوسف حيث أمكن، وإلا بقول محمد"([114]).
- في المذهب المالكي: قسم المالكية الأنقاض إلى ثلاثة أقسام: قسم يعلم أنه من الوقف، وقسم يعلم أنه غير وقف، وقسم يجهل أمره .
فأما القسم الأول: فقد اختلفوا في حكم بيعه على قولين ([115]):
- القول الأول: لا يجوز بيعه ولا شراؤه، كالوقف ([116]).
- القول الثاني: لا بأس ببيعه إذا خيف عليه الفساد للضرورة، أما في غياب الضرورة فينظر: إن رجيت عمارة المسجد وقف له ذلك النقض، وان لم ترج بيع وأعين بثمنه في غيره، أو صرف إلى غيره كما في فتوى لابن عرفة تقضي برفع أنقاض جوامع خربت وقع اليأس من عمارتها إلى مساجد عامرة احتاجت إليها([117]).
وأما القسم الثاني: الذي يعلم أنه غير وقف، فهذا يجوز بيعه، ومن جملة ما يعلم به أنه غير وقف أن يرى بأيدي الناس يباع ويشترى، وتنتقل فيه الأملاك على طول الزمان من غير نكير ولا ثبوت رسم بتحبيسه.
وبالنسبة للقسم الثالث الذي لا يعلم ما إذا كان وقفا أو غير وقف، أو يشك في ذلك، ولا دليل على أحد الأمرين، فهو من المتشابهات التي من تركها سلم، ومن أخذها كان كالرائع حول الحمى يوشك أن يقع فيه ([118])،؛ قوله عليه السلام: "الحلال بين والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات، لا يعلمها كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، وأن حمى الله محارمه"([119]).
- في المذهب الشافعي: لا يجيز الشافعية بيع النقض، ولا الاستبدال به، ويرون أنه لو تعطل المسجد وتفرق الناس عن بلده، أو خرب، ترك نقضه على حاله إن لم يخش عليه من أهل الفساد، يمالا حفظ، فإن رأى الحاكم أن يبني به مسجدا آخر جاز ([120]).
- في المذهب الحنبلي: علمنا فيما سبق عن بعض الحنابلة أنهم يجيزون بيع المسجد، فيكون بيع نقضه جائزا بالأولى.
- في المذهب الشيعي: يرى الجعفرية أن نقض المسجد - وغيره – لا يأخذ حكم المسجد، ولا حكم العقار الموقوف لصالحه من عدم جواز البيع إلا بمبرر، بل يكون حكمه حكم ناتج أوقافه تماما كإيجار الدكان، يتبع فيه المصلحة التي يراها الناظر ([121]).
* موازنة:
ومن هذا العرض يمكن القول: بأن الفقهاء بصدد حكم استبدال نقض المسجد على ثلاثة اتجاهات:
- الاتجاه الأول: لا يجوز بيعه أو استبداله، ويمثله الشافعية ورأي عند المالكية.
- الاتجاه الثاني: يفرق فيه بين رجاء عمارة المسجد وعدم رجائها، ففي الحالة الأولى يحفظ النقض ولا يباع، أما الحالة الثانية ففيها وجهان:
- الوجه الأول: يجوز استبداله. (وبه قال فريق من المالكية).
- الوجه الثاني: يجوز استبداله إذا كان مترتبا عن انهدام المسجد كله، أما إذا كان مترتبا عن انهدام جزء من المسجد فإنه يباع، لكن لا للاستبدال به، بل لصرف ثمنه إلى المرمة، (وبهذا قال الحنفية).
- الاتجاه الثالث: يمثله الحنابلة والجعفرية، ويفيد جواز استبدال نقض المسجد، غير أنه عند الحنابلة يستبدل به على أساس أنه وقف، أما عند الجعفرية فيباع على أساس أنه ملك.
- القسم الثالث: الأعيان التي ينشئ وقفها المحسنون لمصلحة المسجد، كمن أوصى بداره أو دكانه أو أرضه أن تكون وقفا للمسجد.
فهذه الأعيان يجري في حكم الاستبدال بها نفس الأحكام الخلافية التي سبقت في بيع غير المساجد ([122]).
المبحث الثاني
شروط صحة استبدال الوقف وأدلته.
أولا- شروط صحة استبدال الوقف:
لا يكون استبدال الوقف صحيحا - على القول به - إلا إذا روعيت فيه الشروط الآتية:
أن لا يكون البيع بغبن فاحش، لأن البيع بغبن فاحش ظلم وتبرع بجزء من عين الوقف، وذلك لا يجوز لأحد، سواء كان قاضيا أم كان غيره ([123]).
أن لا يكون لمن لا تقبل شهادته للبائع، إذ في ذلك يتطرق الاتهام، فلو باع الناظر من ولده الصغير لم يصح عند الحنفية، ولو باعه من ولده الكبير فكذلك عند أبي حنيفة، خلافا لمحمد وأبي يوسف .([124])
وقد نقل بعضهم الخلاف على غير هذا الوجه، فقال: إن كان أكثر من القيمة صح عند الكل، دمان كان بمثل القيمة صح عند الصاحبين، خلافا لأبي حنيفة، لأنه يشترط في نفي التهمة الزيادة عن القيمة، وهما يكتفيان بمساواة الثمن لها.
أما المالكية: فيرون أن الحاكم يتعقب فعل الناظر، فإن رآه صوابا أمضاه والا رده ([125]).
ويرى الحنابلة أنه لا يصح أن يبيع من نفسه ولا من ولده ووالده ونحوه ممن لا تقبل شهادته له، قياسا على الوكيل([126]).
أن لا يكون للمشتري دين على البائع، وهو يريد أن يشتري بماله عليه، لأن البائع قد يعجز عن الوفاء فيضيع الوقف، ولا سبيل لرد المبيع وقفا كما كان بعد تمام البيع.
وقد ذكر صاحب البحر حادثة فتوى كان البيع فيها لمن له دين عليه، وهذا نص ما قاله: "باع من رجل له دين على المستبدل، وباعه الوقف بالدين، ولم أر فيها نقلا، وينبغي ألا يجوز على قول أبي يوسف وهلال، لأنهما لا يجوزان البيع بالعروض، فبالدين أولى"([127]).
وشرط في الإسعاف أن يكون المستبدل قاضي الجنة[(*)]، المفسر بذي العلم والعمل، لئلا يحصل التطرق إلى إبطال أوقاف المسلمين ([128]).
وقد علق ابن عابدين على هذا الشرط بقوله: "ولعمري إن هذا أعز من الكبريت الأحمر، وما أراه إلا لفظا يذكر، فالأحرى فيه السد؛ خوفا من مجاوزة الحد، والله سائل كل إنسان"([129]).
ويقول الشيخ أبو زهرة في هذا الصدد: "وقد نخالف ابن عابدين فنقول: قد يكون أكثر من الكبريث الأحمر، ولكن أي مقياس وضع لمعرفته، وأي ميزان كان لتبينه، ذلك أمره إلى الله"([130]).
فهذا الشرط لا يبدو شرطا عمليا، لأن معرفة علاقة القاضي بربه وخوفه إياه، والكشف عما يخفي صدره من حب للدنيا وايثار لها، وغفلته عن مولاه ليس أمرا سهلا، وانما يكشف عن ذلك سيرة الرجل في عمله، فولي الأمر يجتهد ويتحرى الصالح والمعروف بالأمانة والعلم فيوليه القضاء، وبهذا الاجتهاد قد يصيب وقد يخطئ.
فشرط كهذا يسطر في الكتب فقط، ليس له ثمرة من ناحية التطبيق العملي، ولا يشك أحد ولا يمتري في أن القاضي هو قطب الرحى، فهو الذي يحافظ على حقوق الناس من الضياع، وبواسطته يسهل على الظالمين اغتصاب الوقف إن أرادوا، فأصبح الأمر متوقفا على مراقبة الله ونهي النفس عن الهوى ([131]).
ولم يشترط أحد من المالكية هذا الشرط، بل ولم يشترطوا أن يكون المستبدل هو القاضي، وان كانوا قد اختلفوا فيما إذا وقع الاستبدال بدون مطالعته على رأيين:
- الرأي الأول: إذا وقع الاستبدال بدون مطالعته كان غير تام، ويفسخ، وبهذا أفتى الشيخ محمد بن عبد القادر الفاسي ومن وافقه.
- الرأي الثاني: إن الاستبدال في هذه الحالة ماض إذا وقع على السداد، وبهذا أفتى القاضي سيدي العربي برده، مستبعدا أن تكون مطالعة القاضي من الأمور التعبدية، وانما هي معقولة المعنى، واذا كانت معقولة ووجد ذلك المعنى الذي هو المقصود منها، فلا يبقى للفسخ محل ([132]).
أن لا يكون البيع بالعروض، وهذا عند أبي يوسف، لأنه لا يجيز البيع بالعروض للوكيل، فكذا هنا، أما على قياس قول أبي حنيفة فيصح البيع بالعروض من أول الأمر بدلا ([133]).
واختلفوا - أيضا- في جواز الاستبدال بالدراهم والدنانير، فمنعه صاحب البحر، حيث قال: "يجب أن يزاد في شرائط الاستبدال أن يكون البدل عقارا، لا دراهم ولا دنانير، لأن النظار يأكلونها وقل أن يشتروا بها بدلا"([134])، وهو نفس المعنى نجده في فتوى لأبي سعيد بن لب من المالكية، حيث سئل "عن دار محبسة على مسجد، خربت وصارت رحبة، فجاء رجل فبناها من ماله وقال: أعطي فيها كذا دينارا وأصلين من القسطل..."، فأجاب: "إذا أعطى في الرحبة المحبسة الرجل الذي أراد شراءها أصل ما يملك يكون حبسا عوضا منها، ويكون في ذلك فضل بين ورجحان لجانب الحبس جاز ذلك، وأما بالثمن فلا ينبغي ([135])، وبمقتضى هذا المعنى جرى عمل أهل فاس ([136]).
ولكن صريح كلام الشيخ قاضيخان وكثير من علماء الحنفية يقتضي جواز الاستبدال بهما، على أن يشترى بالثمن عقار يكون وقفا مكان الأول ([137])، وهذا هو المنقول في المذهب الحنفي ([138])، وعليه مشى جمهور الفقهاء من المذاهب الأخرى، حيث رأوا أنه لا فرق بين أن يعاوض بعقار آخر، أو يباع ويشترى بثمنه ما يحل محله ([139]).
وإذا كانت العلة - في رأي صاحب البحر ومن حذا حذوه - هي كون الدراهم يخشى عليها من كل النظار، فقد ذهب بعضهم إلى أنه إذا كان المستبدل هو قاضي الجنة فالنفس به تكون مطمئنة، فلا يخشى من الاستبدال بالدراهم ([140]).
غير أن ابن عابدين اعترض عليه بأن قاضي الجنة شرط للاستبدال فقط لا للشراء بالثمن أيضا، فقد يستبدل قاضي الجنة بالدراهم ويبقيها عنده أو عند الناظر، ثم يعزل القاضي ويأتي في السنة الثانية من لا يفتش عنها فتضيع ([141]).
ولهذا ينبغي الاعتراف بأن في رأي صاحب البحر احتياطا واضحا لمصالح الوقف من ضياع مال البدل، سيما في هذا العصر الذي فشا فيه الفساد وتربعت على كرسيه الخيانة، وهذا ما يؤكده ابن عابدين فيقول: "ولاشك أن هذا - إشارة إلى قول صاحب البحر - هو الاحتياط، ولاسيما إذا كان المستبدل من قضاة هذا الزمن، وناظر الوقف غير مؤتمن"([142]).
كما أن دراهم البدل قد تكون عرضة لأن تستولي عليها الأيدي، إما بموت القاضي أو بموت الناظر مجهلا لها ([143]).
ثانيا- الأدلة العامة في استبدال الوقف:
إذا كنا قد رأينا في السابق حكم استبدال الوقف وشروطه، فإنه يحسن بنا هنا بيان أدلته، ليتضح المستند الشرعي لمجيزيه ومانعيه.
أ- أدلة المجيزين:
استدل القائلون باستبدال الوقف بما يلي:
بما اشتهر عن عمر رضي الله عنه أنه كتب إلى سعد بن مالك لما بلغه أنه قد نقب[(*)] بيت المال الذي بالكوفة: أن انقل المسجد الذي بالتمارين، واجعل بيت المال في قبلة المسجد، فإنه لن يزال في المسجد مصل[(**)].
جاء في السلسبيل: "وجه الدلالة منه أنه أمره بنقله من مكانه، فدل على جواز نقل الوقف من مكانه وإبداله بمكان آخر، وهذا معنى البيع"([144]).
فهذه الواقعة اشتهرت بالحجاز والعراق، والصحابة متوافرون، فلم ينقل إنكارها ولا الاعتراض فيها من أحد منهم، فكان إجماعا، فدل هذا على مساغ القصة والإقرار عليها والرضى بموجبها ([145])، وهذه حقيقة الاستبدال .
وكما يدل هذا على مساغ بيع الوقف عند تعطل نفعه، فهو دليل أيضا على جواز الاستبدال عند رجحان المبادلة، لأن المسجد المذكور لم يكن متعطلا، وانما ظهرت المصلحة في نقله لحراسة بيت المال الذي جعل في قبلة المسجد الثاني ([146]).
بالنظر إلى قوله عليه السلام: "فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم"([147])، ويشهد له الهدي إذا عطب في السفر دون محله، فإنه يذبح في الحال ([148])، إذ لما تعذر تحصيل الغرض بالكلية استوفي منه ما أمكن، وترك مراعاة المحل الخاص عند تعذره، لأن مراعاته مع تعذره تفضي إلى فوات الانتفاع بالكلية، وهكذا الوقف المعطل المنافع([149]).
وبما روي عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: "يا عائشة، لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية لأمرت بالبيت فهدم، فأدخلت فيه ما أخرج منه وألصقته بالأرض، وجعلت له بابين، بابا شرقيا وبابا غربيا، فبلغت به أساس إبراهيم"([150]).
وجه الاحتجاج بهذا الحديث أن عمارة البيت الذي هو أشرف المساجد بين الرسول الكريم أنه لولا المانع من حدثان عهد القوم كما ذكر لهدمها وغير وضعها وهياتها طولا وزيادة من الحجر، وإلصاقا لبابها بالأرض، فدل ذلك على مساغ مطلق الإبدال في الأعيان الموقوفة للمصالح الراجحة بالأولى ([151]).
وبما أخرجه مسلم في صحيحه من أن رجلا أعتق ستة مملوكين له عند موته ليس له مال سواهم، فدعاهم النبي صلى الله عليه وسلم فجزأهم ثلاثة أجزاء، وأقرع بينهم، فاعتق منهم اثنين وأرق أربعة وقال له قولا سيئا ([152]).
وجه الاحتجاج به أنه إذا لم يكن له مال سواهم، فإنما ينفذ عتقه في ثلثهم، فقيل: بالإقراع تعين الثلث من كل واحد، والرسول الكريم كمل هذا الإعتاق وجمع هذا التحرير في اثنين منهم، قصدا لتكميل التحرير وطلبا لعدم تشقيص العتق، فنقل ذلك إلى الوجه الأكمل.
واذا كان هذا هو الحكم المتعين إيجابا في الإعتاق فلأن تبدل الأعيان الموقوفة عند رجحان المصالح جوازا أولى وأحرى، فإن السعي في أكمل المصلحتين وأتمهما أمر مطلوب شرعا، والأحكام في الأوقاف مشابهة للأحكام في العتق، لكون الوقف مشابها للتحرير ([153]).
وبما احتج به الإمام أحمد رضي الله عنه من إلحاق محل النزاع بموقع الإجماع، حيث جوز الأئمة الكبار بل أجمع علماء الحنابلة على جواز بيع الدواب الموقوفة إذا لم تعد صالحة لما وقفت له، فالفرس الحبيس ونحوه إذا عاد عاطلا عن الصلاحية للجهاد يجوز بيعه إجماعا وان كان فيه نفع من وجه آخر من أنواع الانتفاع من الحمل والدوران ونحوه.
ومن المعلوم أن الفرس الحبيس ونحوه لو لم يبق فيه نفع مطلقا لما أمكن بيعه، إذ لا يجوز بيع ما لا نفع فيه، فعلم أن منفعته ضعفت وجاز الاستبدال بأرجح منه، فتبين أن ذلك دائر مع رجحان المصلحة في جنس الاستبدال ([154]).
وبفعل الصحابة، فقد سوغ بعضهم نقل الملك في أعيان موقوفة، تارة بالتصدق بها، وتارة ببيعها، فعمر رضي الله عنه كان ينزع كسوة الكعبة في كل عام فيقسمها على الحجاج فيستظلون بها على السمرة [(*)]([155]).
وقالت سيدتنا عائشة رضي الله عنها عن كسوة الكعبة حين أخبرت أنها قد تدارك: تباع ويجعل ثمنها في سبيل الخير[(**)]، وهذا ظاهر في مطلق نقل الملك عند رجحان المصلحة ([156]).
ويبدو أن هذا الدليل هو في بيع الوقف لإنهائه، وليس لاستبداله.
ولأنه يجب المحافظة على صورة الوقف ومعناه، فلما تعذر إبقاء صورته وجب المحافظة على معناه([157]).
ولأن الأعيان الموقوفة كالدور والمزارع والمنقولات إنما وقفت ليعود ريعها على المستحقين، فالمطلوب من ذلك حصول النماء لأهله ووقوعه في أيدي مستحقيه مع زيادته واستنمائه، فإذا ظهرت المصلحة في زيادة الريع وتنمية المغل ولم يعارض معارض ظهرت مصلحة الاستبدال طلبا لتنمية المصالح وتكميلا للمقاصد ([158]).
يتبع