عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 30-03-2019, 05:15 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,763
الدولة : Egypt
افتراضي رد: حجية الاستحسان عند الإمام مالك

حجية الاستحسان


عند الإمام مالك



د. مسعود صبري إبراهيم [*]


النوع الأول: الاستحسان بالعرف:


وله عدة تعاريف عند المالكية، من ذلك: انه تخصيص الدليل العام بالعادة لمصلحة الناس في ذلك ([53]) . ومنها: انه العدول عن القياس للعرف، وهو منسوب إلى أشهب، كما نقله الشيخ حلولو، وابن عاشور-رحمهما الله - ([54]) . والجامع بين التعريف انه تقديم لمقتضى العرف والعادة على ما يقتضيه الدليل، سواء اكان دليلا عاما، ام كان خاصا بالقياس.

الأمثلة على الاستحسان بالعرف: من ذلك: استحسان مالك -رحمه الله-الشفعة في الثمار؛ مع ضعف ضرر الشركة فيها" رعيا لعرف الناس في اجتنائها بطونا وعدم رغبتهم في شراء ما يتجمع منها كل يوم" ([55]) .

النوع الثاني: الاستحسان بالمصلحة: وهو: الأخذ بمصلحة جزئية في مقابل دليل كلي او قياس كلي ([56]) . ومعناه: تقديم المصالح المرسلة على القياس، كما قال الشاطبي ([57]) .

ومن أمثلة الاستحسان بالمصلحة: ان الإمام مالك -رحمه الله -كان يرى تضمين الصناع " استحسانا، فقد جاء في المدونة كتاب تضمين الصناع القضاء في تضمين الحائك إذا تعدى قلت: لعبد الرحمن بن القاسم: ارايت إن دفعت إلى حائك غزلا ينسجه سبعا في ثمان فنسجه لي ستا في سبع فأردت ان اخذه ايكون لي ذلك في قول مالك؟ قال: نعم" ([58]) . ومثله: انه -رحمه الله -كان يرى تضمين حمال الطعام ([59]) .

النوع الثالث: الاستحسان بإجماع أهل المدينة: واختلف النقل عن المذهب في المسألة، هل المراد بالإجماع أصل الدليل العام، او يراد به إجماع اهل المدينة.

الاستحسان بالإجماع: يقصد به تقديم الإجماع على القياس عند التعارض؛ لأن القياس فيه احتمال الخطأ والغلط، فبالنص او الإجماع يتعين فيه جهة الخطأ فيه فيكون واجب الترك لا جائز العمل به في الموضع الذي تعين جهة الخطأ فيه؛ ولأن الإجماع كالنص من كتاب او سنة في كونه موجبا العلم، كما ان الإجماع دليل فوق الراي والقياس من حيث القوة. ومثل له بشرب الماء من ايدي السقائين من غير تقدير لزمان السكون وتقدير الماء والأجرة مع اختلاف عادة الناس في استعمال الماء وطول اللبث، وعلى شرب الماء من السقاء، مع اختلاف العادات في مقدار الري؛ فهذان طرفان في اعتبار الغرر وعدم اعتباره؛ لكثرته في الأول، وقلته مع عدم الانفكاك عنه في الثاني ([60]) .

الاستحسان بإجماع أهل المدينة: ومثاله: إيجاب الغرم على من قط ذنب بغلة القاضي، "يريدون غرم قيمة الدابة، لا قيمة النقص الحاصل فيها، ووجه ذلك ظاهر، فإن بغلة القاضي لا يحتاج إليها إلا للركوب، وقد امتنع ركوبه لها بسبب فحش ذلك العيب، حتى صارت بالنسبة إلى ركوب مثله في حكم العدم " فألزموا الفاعل غرم قيمة الجميع، والإجماع محل خلاف، " لكن الأشهر في المذهب المالكي ما تقدم، حسبما نص عليه القاضي عبد الوهاب " ([61]) .

النوع الرابع: الاستحسان بالتيسير لرفع المشقة وايثار التوسعة على الخلق: وهو إيثار ترك مقتضى الدليل على طريق الاستثاء والترخص، لمعارضة ما يعارض به في بعض مقتضياته، فترك الدليل في اليسير لتفاهته لرفع المشقة وإيثار التوسعة على الخلق ([62]) . قال ابن رشد الجد: "وما كان قال مالك من إجازته في اليسير، إنما هو استحسان " لأنه عدل عن اتباع مقتضى القياس وطرد العلة في القليل والكثير" ([63]) . واشار الشاطبي إلى هذا المعنى في النوع السابع من الاستحسان بقوله: "وجه ذلك: ان التافه في حكم العدم " ولذلك لا تنصرف إليه الأغراض في الغالب، وان المشاحة في اليسير قد تؤدي إلى الحرج والمشقة، وهما مرفوعان عن المكلف " ([64]) .

ومن أمثلة الاستحسان بالتسير ورفع الحرج: جواز التفاضل اليسير في المراطلة: فقد اجاز مالك -رحمه الله -التفاضل اليسير في المراطلة ([65]) . الكثيرة ، وذلك جواز إبدال الدرهم الناقص بالوازن رفقا بالناس ورفعا للحرج . "سئل مالك عن الدراهم النقص يبتاع الناس بها في اسواقهم، اترى ان تغير؟ فقال: بل ارى ان تترك، وارى في ذلك رفقا للناس، حتى إن الرجل ليأتي بالدرهم الوازن، فما يعطى به إلا شبه ما يعطى بالناقص، والمرأة تأتي بغزلها وما اشبهه، فأرى ان يتركوا ولا يمنعوا، وهو مرفق بالناس. ووجه ذلك ان التافه في حكم العدم " ولذلك لا تنصرف إليه الأغراض في الغالب، وان المشاحة في اليسير قد تؤدي إلى الحرج والمشقة، وهما مرفوعان عن المكلف" ([66]) .

ومنه: إجازة بيع وصرف في اليسير: جاء في المدونة: " ولو ان رجلا ابتاع من رجل سلعة إلى اجل بنصف دينار ينقده النصف الدينار والسلعة إلى اجل، فلما وجب البيع بينهما ذهب به ليصرف ديناره وينقده النصف الدينار والسلعة إلى اجل، فقال البائع: عندي دراهم فادفع إلى الدينار، وانا أرد إليك النصف دراهم، ولم يكن ذلك شرطا بينهما. قال مالك: لا خير فيه. قلت: لم كرهه مالك؟ قال: لأنه راه صرفا وسلعة تأخرت السلعة لما كانت إلى اجل، فلا يجوز ذلك. قلت: اليس قد قلت: لا يجوز صرف وبيع في قول مالك؟ قال: بلى. قلت: فهذا بيع وصرف في المسألة الأولى وقد جوزه مالك في الذي يأخذ عشرة دراهم بدينار وسلعة مع الدراهم يدا بيد قال: الم اقل لك، إنما ذلك في الشيء اليسير في العشرة الدراهم ونحوها يجيزه، فإذا كان كثيرا واجتمع الصرف والبيع لم يجز ذلك، كذلك قال مالك: فيهما ([67]) .

ومنه: مسألة رؤية العبد شعر سيدته: فقد سئل مالك: ايرى العبد شعر سيدته وقدميها وكفيها؟ فقال: اما الغلام الوغد ([68]) فلا بأس بذلك، واما الغلام الذي له هيئة فلا احبه. قيل افيرى ذلك غلام زوجها منها؟ فكأنه كرهه. قال محمد بن رشد: أجاز للعبد الوغد ان يرى شعر سيدته، وكره ذلك إذا كان له منظر ولم يحرمه، لقول الله عز وجل: { أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } (النساء: 3). وقوله في غلام زوجها لما سأله عنه فكأنه كرهه، يدل على انه فرق في ذلك بين عبدها وعبد زوجها، ومعناه في الوغد استحسانا للمشقة الداخلة عليها في الاحتجاب منه مع كثرة تردده وتطوفه؛ والقياس أنه كعبد الأجنبي في ذلك. واما الذي له منظر من عبيد زوجها فلا يجوز له ان يرى شعر زوج سيده ([69]) .

ومنه: الأجل في السلم: قال القرافي -رحمه الله -: " واما الأجل إلى الجذاذ والحصاد وما اشبه ذلك: فأجازه مالك، ومنعه ابو حنيفة والشافعي، فمن رأى ان الاختلاف الذي يكون في امثال هذه الآجال يسير جاز ذلك " إذ الغرر اليسير معفو عنه في الشرع، وشبهه بالاختلاف الذي يكون في الشهور من قبل الزيادة والنقصان، ومن رأى انه كثير -وإنما كثر من الاختلاف الذي يكون من قبل نقصان الشهور -لم يجزه " ([70]) .

النوع الخامس: الاستحسان بالضرورة: تعريف الاستحسان بالضرورة: يدخل الاستحسان بالضرورة ضمن تعريف الاستحسان بأنه: " إيثار ترك الدليل على طريق الاستثناء والترخص " ([71]) . إذا الضرورة استثناء من الأصل، وذلك بمعارضته ما يعارضه في بعض مقتضياته ([72]) . ومن امثلة الاستحسان بالضرورة عند المالكية : سئل مالك عن معاصر الزيت زيت الجلجلان والفجل يأتي هذا بأرادب وهذا بأخرى حتى يجتمعوا فيها فيعصرون جميعا . قال : إنما يكره هذا" لأن بعضه يخرج اكثر من بعض، فإذا احتاج الناس إلى ذلك فأرجو ان يكون خفيفا" لأن الناس لا بد لهم مما يصلحهم، والشيء الذي لا يجدون عنه غنى ولا بد، فأرجو ان يكون لهم في ذلك سعة إن شاء الله، ولا ارى به بأسا والزيتون مثل ذلك، قال سحنون : لا خير فيه . قال محمد بن رشد: قول سحنون هو القياس، وقول مالك استحسان دفعه للضرورة إلى ذلك، إذ لا يتأتى عصر اليسير من الجلجلان والفجل على حدته ، مراعاة لقول من يجيز التفاضل في ذلك من اهل العلم ([73]) .
النوع السادس : الاستحسان باعتبار القرينة : فالقياس باعتبار إيجاب المقدمتين وسلبهما وكليتهما وجزئيتهما يسمى قرينة وضربا، إذ الظاهر ان القرينة كما تطلق على الاقتران كذلك تطلق على القياس بالاعتبار المذكور ([74]) .

ومن أمثلة الاستحسان باعتبار القرينة: طلب الوديعة دون إشهاد: سئل مالك عن الوديعة يستودعها الرجل فيقر بها الذي هي عنده عند نفر من غير ان يشهد عليه. ففرق بين الطلب بعد طول المدة وتقادمها، كأن يمر عشرون سنة، وقد مات صاحبها، فلا يحق له الطلب، وبين ان يكون العهد قريبا كالأشهر والسنة وما اشبهه ثم مات فله طلب ذلك. وعلق ابن رشد الجد ان التفرقة بين القرب والبعد استحسان، ووجهه: ان الذي يغلب على الظن في البعد انه ردها، وفي القرب انه استسلفها؛ لأن الودائع في اغلب الأحوال لا تترك عند المودع الدهور والأعوام ([75]) .

ومنه: الرهن إذا لم يصفه الراهن ولا المرتهن؛ فقد فرق مالك بين الرهن الذي يغاب عليه والرهن الذي لا يغاب عليه، فجعل في الأول الضمان دون الثاني. قال ابن رشد الجد: " والصحيح ما ذهب إليه مالك من الفرق بين ما يغاب عليه وبين ما لا يغاب عليه، ومن الفرق فيما يغاب عليه بين ان تقوم بينة على هلاكه، او لا تقوم ". وصرح ابن رشد الحفيد بأن هذا استحسان من مالك -رحمه الله -: واما تفريق مالك بين ما يغاب عليه وبين ما لا يغاب عليه: فهو استحسان، ومعنى ذلك ان التهمة تلحق فيما يغاب عليه، ولا تلحق فيما لا يغاب عليه " ([76]) .

النوع السابع: الاستحسان بالقياس الخفي: يدخل الاستحسان بالقياس الخفي في تعريف المالكية للاستحسان بأنه: القول بأقوى الدليلين، وهو ما قاله ابن خويذ منداد وابن العربي ([77]) ؛ إذ القول بالقياس الخفي يكون -احيانا-اقوى من القول بالقياس الجلي. كما يدخل الاستحسان بالقياس الخفي في تعريف الاستحسان بأن يؤدي طرد القياس إلى غلو ومبالغة في الحكم، ويستحسن في بعض المواضع مخالفة القياس لمعنى يختص به ذلك الموضع من تخفيف او مقارنة " ([78]) ، وإن كان التعريف ليس خاصا بالاستحسان الخفي، لكنه يدخل ضمنه.

صحة الاستحسان بالقياس الخفي عند مالك: يرى كثير ممن كتبوا عن الاستحسان عند الإمام مالك -رحمه الله -ان ترك القياس الجلي لقياس خفي هو من انواع الاستحسان عند الحنفية، وهو ليس من انواع الاستحسان عند المالكية، بل يعدون هذا من الفروق بين المذهبين. ([79]) . واعتبار القياس الخفي في المذهب المالكي محل خلاف بين فقهاء المالكية، ولكنه ليس بمنكور مطلقا، ومن النصوص التي تدل على تقديم القياس الجلي على الخفي في المذهب المالكي: "ولا يرجع إلى القياس الخفي إلا بعد القياس الجلي " ([80]) . والحق ان الاستحسان بالقياس الخفي هو عند التحقيق يكاد يكون عند غالب الأئمة " إذ هو من العمل بأقوى الدليلين، وهو راي الشافعي في القديم، مع إنكار الشافعي للاستحسان، فقد نقل الإمام الماوردي -رحمه الله -ان الإمام الشافعي يقدم القياس الخفي على القياس الجلي إن كان مع الأول قول صحابي في المذهب القديم، ثم رجع عنه في المذهب الجديد، وقال: العمل بالقياس الجلي اولى ([81]). ولقد نص اثنان من محققي المذهب المالكي، هما: الشيخ الطاهر ابن عاشور، والشيخ محمد الخضر حسين -رحمهما الله -على اخذ المذهب المالكي بالقياس الخفي مقابل القياس الجلي ([82]) .

ومن الأمثلة على القياس الخفي : مسألة : إذا جرحت أم الولد خطأ فتوفي سيدها: " قال ابن القاسم : وسمعت مالكا قال : إذا جرحت ام الولد خطأ فتوفي سيدها اخذ عقلها وكانت مالا للورثة ، قال ابن القاسم : ثم قال بعد ذلك اراه لها؛ لأن ام الولد ليست كغيرها لها حرمة ، وليست بمنزلة العبد، ولذلك إذا لم يقبضه سيدها حتى مات قال ابن القاسم : وقد رأيت مالكا كأنه يعجبه هذا القول ويستحسنه ، قال ابن القاسم: وانا استحسن قول مالك الذي رجع إليه . قال محمد بن رشد: لابن القاسم في كتاب ابن المواز إن قوله الأول هو القياس ، ونحن نستحسن ما رجع إليه ، وكذلك لو اعتقها قبل ان تؤخذ دية الجناية كانت لها، وقال اشهب : بل ذلك للسيد، وقال سحنون في المبسوطة بالقول الأول اقول وهو الفقه فيها" ([83]) .

النوع الثامن: الاستحسان بمراعاة الخلاف: هو مراعاة دليل المخالف في بعض الأحوال " لأنه ترجح عنده فيها، ولم يترجح عنده في بعضها فلم يراعه ([84]) . فمراعاة قول المخالف في المسائل الخلافية، " وإن كان على خلاف الدليل الراجح عند المالكي، فلم يعامل المسائل المختلف فيها معاملة المتفق عليها".

وقد صرح الشيخ عليش ان مراعاة الخلاف من انواع الاستحسان في المذهب، وانه قد بني عليه مسائل كثيرة جدا قد يصعب حصرها، فقال: " ومن الاستحسان: مراعاة الخلاف، وهو أصل في المذهب، ... وهذا المعنى أكثر من ان ينحصر" ([85]) .

ومن أمثلة الاستحسان بمراعاة الخلاف: كل نكاح فاسد اختلف فيه، فإنه يثبت به الميراث، ويفتقر في فسخه إلى الطلاق. ومنه: إذا دخل مع الإمام في الركوع وكبر للركوع ناسيا تكبيرة الإحرام " فإنه يتمادى مع الإمام مراعاة لقول من قال: إن تكبيرة الركوع تجزئ عن تكبيرة الإحرام. ومنه: من قام إلى ثالثة في النافلة وعقدها يضيف إليها رابعة " مراعاة لقول من يجيز التنفل بأربع بخلاف المسائل المتفق عليها" فإنه لا يراعي فيها غير دلائلها ([86]) . ومنه: القول بجواز الصلاة على جلود السباع إن دبغت، فقد روى ابن القاسم عن مالك: السباع إذا ذكيت بجلودها حل بيعها ولباسها والصلاة عليها ([87]) . ومنه: ان الماء اليسير إذا حلت فيه النجاسة اليسيرة ولم تغير أحد اوصافه انه لا يتوضأ به، بل يتيمم ويتركه، فإن توضأ (به) وصلى، اعاد ما دام في الوقت، ولم يعد بعد الوقت، وإنما قال: يعيد في الوقت، مراعاة لقول من يقول: إنه طاهر مطهر (ويرى) جواز الوضوء به ابتداء، وكان قياس هذا القول ان يعيد ابدا إذ لم (يتوضأ) إلا بماء يصح له تركه، والانتقال عنه إلى التيمم ([88]) . ومنه: أن مالكا أجاز الصبي في النافلة دون الفريضة، قال محمد بن رشد: وهو استحسان على غير قياس، مراعاة لقول من يرى صلاة المأموم غير مرتبطة بصلاة إمامه، فيجيز إمامة الصبي في الفريضة والنافلة، وللرجل ان يصلي الفريضة خلف من يصلي نافلة. والقياس على مذهبه في ان صلاة المأموم مرتبطة بصلاة إمامه قوله، في " المدونة": ان لا يؤم الصبي في النافلة. وما وقع من كراهة ذلك له في رسم "حلف" ([89]) من سماع ابن القاسم ؛ لأن نافلته وإن وافقت صلاة الصبي في كونها نافلة له على مذهب من يرى انه مندوب إلى فعل الطاعات، فلا يأمن ان يصلي به على غير وضوء او بغير نية ؛ إذ لا حرج عليه في ذلك ؛ لكونه غير مكلف، وبالله التوفيق " ([90]) .

المبحث الخامس


الاستحسان بين الاستقلال والتبعية في الأدلة

ذهب الإمام الشاطبي إلى ان الاستحسان من الأدلة القطعية ، ذلك ان كل اصل شرعي لم يشهد له نص معين ، وكان ملائما لتصرفات الشرع ، ومأخوذا معناه من ادلته " فهو صحيح يبنى عليه ، ويرجع إليه إذا كان ذلك الأصل قد صار بمجموع ادلته مقطوعا به؛ لأن الأدلة لا يلزم ان تدل على القطع بالحكم بانفرادها دون انضمام غيرها إليها، ومنها : الاستدلال المرسل ( المصالح المرسلة )، والاستحسان " لأن معناه يرجع إلى تقديم الاستدلال المرسل على القياس ([91]).ولكن الذي يبدو من كلام الشاطبي انه لا يريد بالاستحسان دليلا مستقلا كبقية الأدلة ، بل يقصد به القاعدة الكلية ، فالاستحسان يرجع عنده إلى اصل اعتبار المآل في الأحكام ، من غير اقتصار على مقتضى الدليل العام والقياس العام ([92]) . فهو اراد "ان الاستحسان غير خارج عن مقتضى الأدلة، إلا انه نظر إلى لوازم الأدلة ومآلاتها" ([93]) . وبهذا يتضح ان الاستحسان من لوازم الأدلة، وليس دليلا مستقلا، بل يستعمل في تعارض الأدلة؛ ولذا فقد أدرجه في كتاب "الاجتهاد" من (الموافقات)، ولم يجعله في كتاب الأدلة. فهو -كما سماه الدكتور الدريني – خطة تشريعية يسير عليها المجتهد لتطبيق الأحكام واقعا" تحريا لمقاصد المشرع من رفع الحرج والأخذ بما هو ارفق وتحقيق المصلحة.



رتبة الاستحسان:


ذهب ا لدكتور فريد الأنصاري إلى ان الاستحسان: " يحتل الرتبة ا لثالثة بعد مصطلحي (المآل) و(سد الذرائع)، وهو اعلى (مفتاحية) من (الحيل)؛ لمحدودية وظيفتها. . واعلى من (مراعاة الخلاف) ([94]) ؛ لكون هذا إنما هو فرع من فروعه في الحقيقة ([95]) . كما ان وظيفة الاستحسان هي: مراعاة لتحقيق مقاصد الأدلة، إن كان إجراء القياس على ظاهره يؤدي إلى غياب مقصود تلك الأدلة ([96]) . والقول: بأن الاستحسان ليس دليلا مستقلا هو ما ذهب إليه عدد من الأصوليين، فإنه إما ان يرجع إلى ادلة، فالقول بأنه دليل يقتضي التكرار، وإما ان يكون خارجا عنها، فيكون ليس من الشرع في شيء ([97]) . فالاستحسان يعود إلى نوعين:

النوع الأول: ادلة من ادلة التشريع، كالعرف، والمصلحة، والإجماع بما فيه إجماع اهل المدينة، والقياس.

والنوع الثاني: نوع من الترخص والاستثناء، فالاستحسان قد يعود إلى: التيسير، او الضرورة، او اعتبار القرينة، ومراعاة الخلاف، والاحتياط. وهو في الأول من باب تعارض الأدلة، والثاني من باب الترخص والاستثناء، فدل على انه ليس – في حقيقته -دليلا مستقلا بنفسه، لكنه حجة، ولذا أدرج في بعض الكتب الأصول في باب الاستدلال، وليس في باب الأدلة. وإن كان غيره من فقهاء المالكية قد جعله في باب الأدلة، كابن العربي ([98]) ، وابن الحاجب ([99]) ، والقرافي ([100]) وغيرهم ، وهو يدل على مكانة دليل الاستحسان واعتباره في فقه الإمام مالك، فهو إما دليل من الأدلة عندهم، او قاعدة كلية فهو حجة بكل حال.

الفرق بين الدليل والحجة: الحجة اعم من الدليل، فالدليل أحد انواع الحجج، وقد جعلها الدبوسي اربعة، هي: الآية، والدليل، والعلة، والحال.

فالحجة: اسم يعم الكل، وكذلك البينة والبرهان ([101]) . وكلاهما يجب العمل بهما. وذهب بعضهم إلى انه لا فرق بينهما ([102]) . وقال الروياني في البحر: " في الفرق بين الدليل والحجة وجهان:

أحدهما: ان الدليل ما دل على مطلوبك، والحجة ما منع من ذلك.

والثاني: الدليل ما دل على صوابك. والحجة ما دفع عنك قول مخالفك. اهـ.

وخص المتكلمون اسم الدليل ما دل بالمقطوع به من السمعي والعقلي، واما الذي لا يفيد إلا الظن: فيسمونه امارة. وحكاه في التلخيص " عن معظم المحققين. ([103]) .

فالحجة تشمل كل ما يحتج به ويلزم الآخرين من الاحتجاج " ولذلك فإن العلماء قد احتجوا بالدليل وغيره، كالقاعدة الفقهية والأصولية وغير ذلك.
نتائج البحث:


نقل البحث اختلاف علماء المالكية في نسبة الاستحسان إلى الإمام مالك، وانتهى إلى ان الاستحسان حجة عند الإمام مالك -رحمه الله.
يدور الاستحسان عند المالكية على عدة معان، هي: الأخذ بأقوى الدليلين عند التعارض، او يقوم الاستحسان على الاستثناء والترخص من الحكم العام للمصلحة، او مراعاة العرف او التخفيف خاصة إن كان في الأخذ بالقياس غلو في الحكم.
ان هناك علاقة بين الاستحسان والقياس، فإن من معاني الاستحسان: القياس الخفي، لكن الاستحسان اعم من القياس الخفي " فإن كل قياس خفي استحسان، وليس كل استحسان قياسا خفيا؛ لأن الاستحسان قد يطلق على غير ذلك من المعاني.
هناك علاقة وثيقة بين الاستحسان عند المالكية والمصلحة، فمن معاني الاستحسان استعمال مصلحة جزئية في مقابلة قياس كلي.
العلاقة بين الاستحسان والمصالح المرسلة: ان الاستحسان تقديم المصالح المرسلة على قياس كلي.
ان الفرق بين المصلحة المرسلة والاستحسان: ان الثاني تخصيص لدليل بالمصلحة، والأول إنشاء دليل بالمصلحة على مالم يرد فيه دليل خاص.
من الفروق -ايضا -ان: الاستحسان يدخل في جميع الأحكام، سواء اكانت معقولة المعنى ام غير معقولة المعنى، اما القياس والمصالح المرسلة فهي تجري فيما يعقل معناه دون غيره.
العلاقة بين الاستحسان والرخصة ان كلا منهما صرف للحكم عن أصله، بصارف المصلحة او التيسير.
الاستحسان في أصله يعود إلى اعتبار المآل، فهو في حقيقته نظر في مألات الأحكام، من غير اقتصار على مقتضى الدليل العام والقياس العام
الراجح: ان الإمام مالك -رحمه الله -كان يعتمد الاستحسان في اجتهاده، ويدل على ذلك: انه قد نص على ان الاستحسان تسعة اعشار العلم. وان الإمام ابن حزم -رحمه الله -رغم انه يرفض الاستحسان، إلا انه روى أثر مالك في الاستحسان بسند جيد. وان كتب مالك بن انس-رحمه الله -مشحونة بذكر الاستحسان في المسائل. وان من نسب الاستحسان إلى الإمام مالك فيهم من هو اعلى رتبة ممن نفاه عنه، كابن القاسم واشهب واصبغ، وابن المواز. وان مما دعا بعضهم إلى إنكار الاستحسان هو عدم وضوح معناه في بادئ الأمر. وان الإمام مالك – رحمه الله -ذكر مصطلح الاستحسان في المدونة الكبرى في موضعين، ولفظ " استحسن" في تسع مواضع، ولفظ: "استحسان" في ثلاثة مواضع، ولفظ "استحسنت" في ستة مواضع. وان من المعاني التي حملها "الاستحسان" في المدونة، استعمال الاستحسان في مقابلة القياس، وان من معاني الاستحسان في المدونة: التخفيف على الناس ومراعاة مصالحهم، وقد ورد ذلك في عشرة مواضع. فهذه ستة عشر موضعا في المدونة تدل على حجية الاستحسان عند الإمام مالك. وقد صرح أكثر من فقيه مالكي بكثرة المسائل، بل والأبواب التي اعتمد مالك-رحمه الله -فيها على الاستحسان.
الاستحسان ليس دليلا مستقلا، لكنه خطة تشريعية للاستدلال، فهو يعود إلى أحد نوعين:
الأول: ادلة من ادلة التشريع، كالعرف، والمصلحة، والإجماع بما فيه إجماع اهل المدينة، والقياس.
الثاني: نوع من الترخص والاستثناء، فالاستحسان قد يعود إلى: التيسير، او الضرورة، او اعتبار القرينة، ومراعاة الخلاف، والاحتياط.
ان تصنيف الاستحسان في المؤلفات الأصولية عند المالكية إما في الأدلة المختلف فيها، او في باب الاستدلال والاجتهاد.
ان ورود الاستحسان بغير المعنى الاصطلاحي في المدونة لا ينفي ثبوته بالمعاني الاصطلاحية.
ان عدم ذكر مالك -رحمه الله -لتعريف مصطلح الاستحسان ليس دليلا على عدم الحجية " لأن زمن مالك لم تكن المصطلحات الأصولية قد استقرت، وان اختلاف الأئمة المالكية في نسبة الاستحسان إلى مالك -رحمه الله -تدل على وجوده عنده " لأن المثبت مقدم على من نفى.
تعدد انواع الاستحسان عند المالكية " حيث وصل إلى عشرة انواع، ومثل لها بخمسة وعشرين مثالا -ليست هي كل الأمثلة -يدل دلالة واضحة على ثبوته في المذهب.
هذا ما تيسر لي كتابته، فإن يكن فيه نفع، فلله الحمد والمنة، وإن شابه خطأ او نسيان، فمني ومن الشيطان، واستغفر الله تعالى لذنبي.

يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 37.84 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 37.21 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.66%)]