عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 29-03-2019, 04:13 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,446
الدولة : Egypt
افتراضي رد: اللزوم العقلي في إشارة النص

اللزوم العقلي في إشارة النص


د.عبد الجليل زهير ضمرة[(*)]




المطلب الأول


الخصائص الذاتية للزوم العقلي في دلالة الإشارة

1-أن يكون اللزوم العقلي المحقق لدلالة الإشارة مترتباً عن الدلالة الوضعية للفظ الشارع مباشرة بغير توسط وسائط معنوية. وقد حرص أصوليو الحنفية على تقرير هذه الخصيصة في دلالة الإشارة حيث عبر عامتهم عنها بــ"ما يكون ثابتاً بنفس النظم"[(1)]، وعبر عنها السرخسي بــ"ما يعلم بالتأمل في معنى اللفظ"[(2)]، ويعبر فريق من المتأخرين كالفناري، ومنلاخسرو، والأزميري، والخادمي عن هذه الخصيصة بالقول: إن المعنى في دلالة الإشارة لابد "أن يكون ذاتياً: أي مستفاداً باللازم العقلي بغير واسطة"[(1)].
وإذا يممنا باتجاه متكلمة الأصوليين فيلاحظ أن الغزالي[(2)] قد نبه إلى معنى الذاتية من خلال ترتيبه اللزوم العقلي في الإشارة عن طريق اللفظ المفرد دون سياق الكلام وتركيبه، كما يفهم هذا المعنى عند الآمدي[(3)] وابن الحاجب[(4)] بإدراجهما الإشارة في المنطوق دون المفهوم.
في حين يعد البيضاوي[(5)] بإدراجه مثال إشارة النص ضمن مفهوم الموافقة، واعتداده بأن اللازم العقلي فيه قد استفيد بتركيب الكلام وجملة سياقه كالمصرح بأن اللزوم العقلي في إشارة النص ليس ذاتياً، بل مستفاداً بوساطة معنى السياق لا بأحد ألفاظه مباشرة، وأحسب أن هذا منه ركوب للمركب الخشن؛ حيث قد نأى بنفسه عما اعتمده عامة الأصوليين من فقهاء ومتكلمين في دلالة الإشارة.
2-أن يكون اللزوم العقلي في دلالة الإشارة متأخراً زمن ترتبه عن زمان فهم الدلالة الوضعية للفظ، بحيث تتحقق دلالة اللفظ على المعنى وضعاً بصورة تامة ثم يترتب عليه اللزوم العقلي المفيد لدلالة الإشارة، وعندئذ يقال: اللزوم العقلي في دلالة الإشارة متأخر، وهو على خلاف اللزوم العقلي المتقدم الذي يعد تقديره شرطاً يتوقف عليه صحة تحقيق الدلالة الوضعية للفظ الشارع أو تمام معناها.
ويلاحظ أن جماهير المتكلمين لم يصرحوا بهذه الخصيصة للزوم العقلي في دلالة الإشارة، وإن كانوا قد ألمحوا إليها بوضوح حين اعتمدوا في حصر أقسام الدلالات على ما يتوقف عليه فهم الملفوظ من اللوازم العقلية وما لا يتوقف[(1)].
وبالنظر إلى أصوليي الحنفية كأبي زيد الدبوسي[(2]، والبزدوي[(3)]، والسرخسي[(4)]، والنسفي[(5)]، وكثير ممن سار على منوالهم من أصوليي الحنفية، فيلاحظ أنهم قد ألمحوا إلى هذه الخصيصة على الجملة من غير التصريح بها[(6)].
ومع أن صدر الشريعة المحبوبي[(7)] كان من أوائل الناصين على أن اللازم العقلي في إشارة النص يتعين أن يكون متأخر التقرر عن زمن فهم ملزومه المستفاد بالدلالة الوضعية للفظ، ووافقه على هذا المحقق التفتازاني إلا أنهما اختلفا في طريقة تخريج معنى زوال ملكية المسلم عن ماله باستيلاء الكافر عليه وظفره به في الحرب بإشارة النص من قوله تعالى:{ لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَاناً}(ال حشر 8) حيث يرى المحبوبي أن المعنى الإشاري استفيد بجزء ما وضع له لفظ {لِلْفُقَرَاءِ} تضمناً، لا التزاماً، مما لم يقصد أصالة في السياق؛ إذ لا يصدق على المهاجرين مسمى الفقر ولهم أموال يملكونها في المدينة، فيكون هذا استدلالاً بدلالة الإشارة على ما اعتمده المحبوبي في معنى الإشارة[(8)].
وخالفه في هذا التفتازاني[(1)] حيث يرى إلى أن المعنى لا يتقرر بإشارة النص في المثال إلا بواسطة لازم عقلي متقدم لا متأخر؛ إذ صحة إطلاق لفظ الفقراء على المهاجرين متوقف على لزوم تقدير زوال ملكيتهم عما ظفر به الكافر في الحرب، فيتعين تقدير الزوال أولاً: تصحيحاً لإطلاق لفظ الفقراء.
وقد أفضى هذا الخلاف في كيفية الاستدلال بإشارة النص في المثال المتقدم إلى إثارة خلاف أصولي آخر في خصيصة اللزوم العقلي لدلالة الإشارة مما يتعلق بالتقدم والتأخر، بحيث انقسم متأخرو الحنفية إلى مذهبين[(2)]:
المذهب الأول: يرى أن اللزوم العقلي في الإشارة يحتمل أن يكون متأخر التحقق عن الدلالة الوضعية للفظ الشارع، كما يحتمل التقدم عليها، والتالي أن التأخر لا يعد خصيصة ذاتية للزوم العقلي في دلالة الإشارة، بل يعتد بها خصيصة عارضة يحتمل زوالها، وإلى هذا المذهب ينتسب الفناري[(3)]، وابن نظام الدين الأنصاري[(4)]، ومنلاخسرو[(5)]، والأزميري[(6)]، وحسن جلبي[(7)]، والخادمي[(8)].

واعتنى هذا الفريق بتحرير الفرق بين دلالة الإشارة وبين دلالة الاقتضاء، حيث يشتركان بأن اللزوم العقلي فيهما متقدم، وإن كان التقدم في الأول محتمل، وفي الثاني متعين- أعني دلالة الاقتضاء-؛ فذهبوا في التفريق بينهما إلى أن اللازم العقلي المتقدم في الإشارة يتعين تقديره؛ لصحة إطلاق اللفظ على المعنى ابتداءً، في حين أن اللازم العقلي المتقدم في الاقتضاء يتعين تقديره؛ لتصحيح حكم الملفوظ عقلاً أو شرعا[(9)].
المذهب الثاني: يرى أن اللزوم العقلي في دلالة الإشارة لا يكون إلا متأخر التقرر عن الدلالة الوضعية للفظ الشارع، والتالي أن التأخر يعد خصيصة ذاتية متعينة في اللزوم العقلي لإشارة النص، وإلى هذا المذهب ينتسب الكمال بن الهمام[(1)]، وابن عبد الشكور[(2)]، وابن كمال باشا[(3)]، والرهاوي[(4)]. وقد اعتنى هذا الفريق بتأويل الآية في المثال المتقدم على نحو يتقرر فيه اللازم العقلي بصفة التأخر.

وبعد إنعام النظر في المثال المتقدم- المثير للخلاف في مدى الاعتداد بالتأخر خصيصة متعينة للزوم العقلي في إشارة النص عند أصوليي الحنفية- يترجح للباحث أن التمثيل بهذا المثال على الإشارة غير قويم؛ ذلك أن الاستدلال بإشارة النص في الآية على معنى زوال ملكية المسلم عما يملكه باستيلاء الكافر عليه استناداً على أن مدلول لفظ {لِلْفُقَرَاءِ} محمول على الحقيقة لا المجاز، يجافي مقصود الشارع في الآية وينأى بها عن سياقها المعنوي؛ إذ مورد الآية سباقاً وسياقاً: الجبر على المهاجرين التاركين للأهل والديار، علاوة عما رزئوه من الأموال، مبتغين- في ذلك كله- رضوان الله عز وجل، فكيف يلائم هذا السياق المعنوي الدلالة على معنى زوال ملكيتهم عما يملكون وحرمانهم من أموالهم بظلم الكافر لهم؟!!
ويتجلى لدى الباحث أن توصيف المهاجرين بالفقر في الآية إنما كان استثارة لنزعة الإشفاق والإيثار في قلوب إخوانهم من الأنصار، مع دفع حزازة النفس وسخائمها بتقديم المهاجرين في استحقاق الفيء حيناً، أو اختصاصهم به أحياناً، كما جرى الأمر في فيء بني النضير[(5)]، والله تعالى أعلم بالصواب.
وعلى الجملة فالذي يترجح للباحث: أن اللزوم العقلي في دلالة الإشارة يتعين أن يكون متأخراً عن فهم الدلالة الوضعية للفظ الشارع؛ اعتماداً على اطراده في دلائل الشرع على هذا النحو، فضلاً عن أن دعوى التفريق التي أبداها أصحاب المذهب الأول بين دلالة الإشارة وبين دلالة الاقتضاء في اللزوم العقلي المتقدم غير محررة؛ إذ أي فرق يثبت بين صحة إطلاق اللفظ وبين تصحيح حكم ملفوظه؟!!
3-أن يكون اللازم العقلي لدلالة الإشارة غير مقصودة في كلام الشارع قصداً ابتدائياً أصلياً بل يجري في القصدية على جهة التبع.
وقد تظاهرت عبارات الأصوليين على إبراز هذه الخصيصة في دلالة الإشارة، سواء أكان من متكلمة الأصوليين[(1)] أن من أصوليي الحنفية[(2)].
والجدير بالذكر أن بعض متأخري الحنفية كالفناري[(3)]، وابن عبد الشكور[(4)]، وابن نظام الدين الأنصاري[(5)]، ومن المعاصرين: محمد بخيت المطيعي[(6)] كانت لهم تعبيرات غير محررة في التعريف بإشارة النص، حيث نصوا على أنه ((الدال على اللازم الذاتي غير المسوق له أصلاً))[(7)]، مفسرين قولهم: ((ما لم يقصد لا بالذات ولا بالتبع))[(].
وقد أثارت هذه التعبيرات استشكال فريق من الأصوليين: كالمنلاخسرو، والقاآني والصنعاني[(9)]، في حين حرص فريق آخر من متكلمة الأصوليين كصفي الدين الهندي[(1)]، وابن القاسم العبادي[(2)]، والعطار[(3)]، والبناني[(4)] بالتنبيه على ضرورة تقرر المقصد الشرعي في اللزوم العقلي لدلالة الإشارة بصفة التبعية، منبهين على استبعاد الاستدلال بما لم يقصده الشارع في نص كلامه بالكلية.
وحسبي أن العبارات غير المحررة سببها أن متقدمي أصوليي الحنفية[(5)] كانوا يعبرون عن دلالة الإشارة بما لم يقصد أصالة ولا تبعاً في نظم كلام الشارع؛ احترازاً في الاصطلاح عن مدلول عبارة النص، وتعييناً منهم للازم العقلي المقصود تبعاً المختص بإشارة النص، لكن مع الغفلة عن هذا التقييد غدت تعبيرات المتأخرين ناحية بإتجاه نفي القصدية أصلاً عن اللزوم العقلي، وقد يساء فهم هذا التعبير فيظن تضمنه نسبة معان لأدلة الشريعة، مما لا دلالة لها عليها، والتالي عن هذا ظاهر البطلان؛ لاقتضائه التقول على الله تعالى بما لم يشرع، وهو معنى التزوير والبهتان!!
وعليه يتجلى الاتفاق على أن المعنى غير المقصود أصلاً في سياق النظم لا بوضع اللغة ولا باللزوم العقلي لا يعد مسلكاً صالحاً للتدليل به على المعاني من قبل الشارع، ولا يصح اقتفاؤه في الاستدلال من قبل الفقيه.
وقد يسأل سائل: كيف يمكن التحقق من اندراج المعنى المستفاد باللزوم العقلي لدلالة الإشارة ضمن ما قصده الشارع بصفة التبعية في نظم كلامه؟
للإجابة عن هذا السؤال لابد من التحقق من أمرين:
الأول: سلامة المسلك المعنوي المستدل به على المعنى الإشاري.
إن المسلك المعنوي لدلالة الإشارة يمر بمرحلتين، وللتحقق من سلامة مسلكيته على المعنى لابد من التحقق من مرحلتيه، وهما:

أ-قوة الدلالة الوضعية للفظ الشارع على المعنى.
وهذا لابد له من شرطين:
الأول: ثبوت اللفظ عن الشارع ابتداءً بغلبة الظن.
الثاني: أن تكون دلالة اللفظ على المعنى جلية واضحة. فإذا ظهر أن المعنى الإشاري يستند لحديث ضعيف لم يتقرر ثبوته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلاً، أو يستند إلى لفظ دلالته محتملة أو غير ظاهرة على معنى لفظ الشارع، فإن المسلك المستدل به على المعنى الإشاري عندئذ يكون معيباً، لا يصلح للاستدلال به على المقصود الشرعي. ويمكن التمثيل عليه بما ينسب لرسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله: ((النساء ناقصات عقل ودين)). قيل: وما نقصان دينهن؟ قال: ((تمكث إحداهن شطر دهرها لا تصلي))[(1)]. فيلزم بإشارة النص من لفظ ((شطر دهرها لا تصلي)) أن أكثر فترة الحيض خمسة عشرة يوماً. لكن هذا الحديث لا تصح نسبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا اللفظ، علاوة على أن دلالة لفظ الشطر على معنى النصف- تصحيحاً للاستدلال على المعنى الإشاري المتقدم- محتمل، ويقابله في الاحتمال المعنوي الدلالة على مطلق الجزء سواء أكان أقل من النصف أم أكثر، وهذا الإجمال لفظ الشطر مانع من صحة الاستدلال على المعنى الإشاري[(2)].

ب-صحة استدعاء المعنى الإشاري عن طريق اللزوم العقلي.
تبين أن اللزوم العقلي الرابط بين المدلول الوضعي للفظ الشارع وبين لازمه في العقل، لابد أن يستند إلى رابطة موضوعية- عقلية أو عادية أو شرعية- تقتضي ثبوته، غير أن الرابطة الموضوعية قد تكون قوية بحيث يترتب عليها لزوم عقلي قوي ظاهر، وقد تكون ضعيفة بحيث يترتب عليها لزوم عقلي ضعيف واهن، وعليه فإن كان اللزوم العقلي ضعيفاً لم تصح نسبة المعنى الإشاري عندئذ إلى المقصود الشرعي ولو كان تبعياً[(1)].
ويمثل على ضعف اللزوم العقلي بقوله تعالى:{سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْر}(القدر 5) فالآية دالة على أن ليلة القدر سالمة من السوء والشر إلى طلوع الفجر، واعتماداً على أن دلائل الشريعة تامة الدلالة على جميع ما يحتاج إليه العباد من أحكامها وقضاياها، وعدم التصريح بتعيين ليلة القدر وإن كان حفزاً للهمم على تحريها وتحصيلاً لعظيم أجرها، لكن لابد أن يكون في الأدلة ما يشير إلى تعيينها بوجه من الوجوه؛ وقد ظهر أن عدد كلمات سورة القدر ثلاثون كعدة أيام شهر رمضان وأن الضمير المنفصل المشير إلي ليلة القدر بـ{هِيَ} موقع عده من بين كلمات السورة هو سبع وعشرون، وتأسيساً على أنه لا يجوز إهدار ما تضمنته الآية من دلالة معنوية، تشكلت مقدمة عقلية ذات رابطة شرعية تستدعي لازماً لها في العقل، حاصله: أن ليلة القدر متعينة في ليلة السابع والعشرون من رمضان[(2)]، وهذا استدلال بلازم عقلي مقصود تبعاً؛ فيكون إشارة نص. وتتمثل الإشكالية في هذا المثال بأن اللزوم العقلي يستند على رابطة شرعية قائمة على حساب الكلمات وترقيمها بالعد، ومثله لا يشكل مسلكاً شرعياً يعتد به في قضايا الأحكام[(3)]؛ فيكون اللزوم العقلي مما لا يعتمد عليه في استثارة المعنى الإشاري.
الثاني: صحة الاندراج الموضوعي للمعنى الإشاري ضمن ما قصد الشارع أصالة.

إن المعنى المستفاد بإشارة النص هو لازم عقلي مستوحى من نظم كلام الشارع، وإن لم يكن السياق المعنوي لأجله في الأصل، غير أنه مما لا يجوز إهماله؛ لأنه قد تقرر بالدليل اعتداد الشارع به وقصده إليه على الجملة، وهذا لا يلزم ((غير المعصوم عند المحققين؛ لإمكان الغفلة أو الفارق أو الرجوع عن الأصل حين الإلزام))[(1)].
ويتعين التنبيه إلى أن المعنى المستفاد باللزوم العقلي التبعي يشترط فيه أن يكون متفرعاً عما قصده الشارع أصالة بنظم كلامه، عائداً عليه بالتقوية والتأكيد والتحقيق على الجملة، ويترتب على هذا الأصل اشتراط شرطين لابد من تحققهما في المعنى الإشاري:
أولهما: قوة تفرع المعنى الإشاري عن المقصود الأصلي للشارع بنظم كلامه؛ ذلك أنه إذا ظهر ضعف صلة المعنى الإشاري بما قصد أصالة في سياق النظم حتى نأى وابتعد عنه، فيغدو المعنى الإشاري آخذاً بالاستقلال والتفرد في القصدية للمعني، وقد فرضناه تابعاً لا متبوعاً، وهذا خُلف؛ فيسقط الاعتداد بالمعنى الإشاري عندئذ[(2)].

ويمكن التمثيل على ضعف تفرع المعنى الإشاري عما قصد أصالة بنظم كلام الشارع بقوله تعالى:{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ}(الأ نبياء 26) فالآية دالة بمنطوقها على تنزيه الله عز وجل عن اتخاذ الولد- تعالى عن ذلك علواً كبيراً- وإثبات العبودية لجميع الخلق، ومن جملتهم: الملائكة المكرمون.
ولما دلت القاعدة العقلية على أن الخروج عن أحد القسيمين المحصورين دخول في الآخر ضرورة؛ إذ نفي نسبة الوالدية عن الله تعالى وإثبات العبودية لكل ما سواه يقتضي في العقل لازماً، حاصله: أن البنوة بالولدية، والعبودية بالتملك: حكمان شرعيان، يتنافيان مطلقاً، والتالي أن الوالد لا يملك ولده، ولا يجوز له أن يبيعه قناً[(3)].
ويلاحظ أن المعنى الإشاري المتحصل عليه بالآية قد نأى عما قصد تقريره في السياق أصالة- من تنزيه الله عز وجل- حتى إن هذا الاستدلال ليجري بصورة الاستقلال المعنوي عن منطوق الآية، والتالي عدم صحة هذا الاستدلال الإشاري المتوصل إليه.
وفي السياق نفسه يتعين التنبيه إلى أن المعنى الإشاري إن كان الاستدلال به في صورة لازم اللازم عقلاً، بحيث يكون اللزوم العقلي فيه غير مباشر لتوسله بلزوم عقلي آخر مستفاد بالدلالة الوضعية للفظ الشارع، فإذا كانت هذه صورة الاستدلال ظهر أن المعنى الإشاري المتوصل إليه قد نأى عما قصد أصالة في السياق المعنوي للدليل الشرعي، فلا يعتد به عندئذ[(1)]. ويمثل عليه بقوله تعالى:{وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}( البقرة 233) تدل الآية بمنطوقها على وجوب نفقة الوالدات بالرزق والكسوة على الآباء، ويستدل بإشارة النص من قوله تعالى:{وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ} أن نسب الوليد ثابت للأب دون الأم، وأن الأب يختص بالانفاق على الوليد لا يشاركه غيره، ويرتب أصوليو الحنفية لوازم عقلية- يعدونها إشارية- تتوسل عن طريق المعنى الإشاري السابق، منها[(2)]: أن الوليد يكون قرشياً إذا كان أبوه قرشياً ولو كانت أمه أعجمية، وأن اختصاص الأب بالإنفاق يثبت له حق الانتفاع بمال ابنه بغير عوض، وأن الأب لو سرق مالاً لابنه فيه شركة أو شبهة ملك لم يقطع؛ درءاً للحد بالشبهة، وأن الوالد لو قتل ابنه عمداً فإنه لا يقتل به، ولو زنى بجاريته لم يحد، إلى أغيارها من المعاني المدعاة أنها إشارية، غير أنها استقلت عن السياق المعنوي المقصود بالدليل فتوهن فيها جهة التبعية للمقصود الشرعي المشترط في المعنى الإشاري.
ثانيهما: ألا يعود المعنى الإشاري على مقصود الشارع في نظم كلامه بالمعارضة والمنادة؛ ذلك أن التبعية في القصد تعني الموافقة لا المعارضة، فإذا ظهرت معارضة المعنى الإشاري للمقصود الأصلي في الدليل الشرعي تبين عدم صلاحيته للاستدلال به. وقد مر مثاله باستدلال أصوليي الحنفية على زوال ملكية المسلم عن ماله باستيلاء الكافر عليه في الحرب بقوله تعالى:{لِلْفُقَر َاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَاناً}(ال حشر 8).

ويمثل عليه أيضاً باستدلال ابن عطية الأندلسي في قوله تعالى:{لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ}(الشورى49-50). حيث عبر عن منطوق الآية قائلاً: ((آية اعتبار دالة على القدرة والملك المحيط بالجميع، وأن مشيئته عز وجل نافذة في جميع خلقه... فإن الذي يخلق ما يشاء ويخترع فإنما هو الله عز وجل، وهو الذي يقسم الخلق فيهب الإناث لمن يشاء- أي يجعل ذريته نساء- ويهب الذكور لمن يشاء على هذا الحد، أو ينوعهم مرة يهب ذكراً ويهب أنثى)). ثم انعطف بعدها مستدلاً على معنى إشاري حاصله: ((أن هذه الآية تقضي بفساد وجود الخنثى المشكل))[(1)]؛ اعتماداً على بدو القصد إلى حصر الأقسام في الإناث أو الذكران أو المزاوجة بينهما. وقد انتقده ابن العربي[(2)] على استدلاله الإشاري المتقدم؛ إذ تقرير المعنى على هذا النحو يعد مجافاة للسياق المعنوي للآية، كما ينم عن قصور في معرفة سعة القدرة المطلقة لله عز وجل، علماً بأن الإغضاء عن ذكر الخنثى في الآية كان لندرته، وعد ملاءمته لسياق الامتنان المقصود تقريره فيها.

المطلب الثاني


مدى قوة إشارة النص مقارنة بغيره من الدلالات اعتماداً على الخصائص الذاتية للزومه العقلي


يتجلى مما تقدم: أن اللزوم العقلي في دلالة الإشارة يختص بثلاث خصائص ذاتية تميزه عن غيره من اللوازم العقلية، ومع أن عامة الأصوليين من متكلمة وفقهاء يعترفون بهذه الخصائص للزوم العقلي في دلالة الإشارة على الجملة، إلا أنهم يظهرون اختلافاً بيناً في مدى الاعتداد بقوة دلالة الإشارة إذا ما قورنت بغيرها من الدلالات المستفادة باللزوم العقلي، حيث يذهب جماهير المتكلمين إلى أن دلالة الإشارة تعد من أضعف اللوازم العقلية مقارنة بغيرها من الدلالات، في حين يذهب عامة أصوليي الحنفية إلى أن الإشارة تعد من أقوى اللوازم العقلية دلالة على المعنى، وعندئذ يثور السؤال عن نكتة الخلاف في هذه الجزئية بين الفريقين؟
بعد التدقيق والمراجعة للمصنفات الأصولية لم يلف الباحث أحداً من المتقدمين يكشف تصريحاً عن نكتة الخلاف بين الفريقين، مما استدعى جمع تفاريق العبارات وصولاً إلى كشف هذه الدقيقة!
بالنظر إلى متكلمة الأصوليين يظهر أن معتمدهم في قسمة الدلالات هي المعاني المستدل عليها[(1)]، مستندين في الترجيح فيما بينها على عاملين:
الأول: مدى ظهور المعنى بين يدي المستدل.
والثاني: مدى قوة اندراج المعنى في المقصود الشرعي.
لذا تجدهم يعتدون بأن اللزوم العقلي في دلالة الاقتضاء أقوى اللوازم العقلية؛ إذ هو لازم عقلي ذاتي مقصود متقدم، لا يتحرر المعنى المنطوق به في دليل الشرع إلا بتقديره؛ كي يصدق به المعنى عادة، أو يصح به عقلاً أو شرعاً. وعليه فهم يقدمون الاقتضاء على الإيماء والإشارة؛ إذ ما يتوقف عليه فهم المعنى المنطوق به أظهر بين يدي المستدل وأرعى في المقصود الشرعي من غيره. يقول المحلي: ((يرجح الاقتضاء على الإشارة والإيماء؛ لأن المدلول عليه بالأول مقصود يتوقف عليه الصدق أو الصحة وبالثالث- يعني الإيماء- مقصود، لا يتوقف عليه ذلك، وبالثاني غير مقصود، فيكون الأول أقوى))[(2)].
وكذا يقدمون الإيماء على الإشارة، بناء على أن الأول مقصود أصالة دون الثاني مما يجعل المعنى في إشارة النص أخفى بين يدي المستدل على الجملة([1]).
والسؤال الذي يتعين الإجابة عليه في هذا المقام: هل اللزوم العقلي في إشارة النص أقوى أو أضعف دلالة منه في المفهوم –الموافق والمخالف-؟
اختلف متكلمة الأصوليين في المسألة على ثلاث توجهات:
الأول: مال إليه الآمدي([2]) إذ نص على ترجيح دلالة الاقتضاء والإيماء على المفهوم، في حين سكت عن ترجيح الإشارة على المفهوم، بما يفيد عدم راجحيته على المفهوم، وتابعه على هذا الصنيع ابن الحاجب وشراح مختصره([3])، وابن النجار من الحنابلة وشراح تحريره([4])، والشوكاني([5]).

الثاني: مال إليه التاج ابن السبكي، حيث نص على ترجيح الإشارة على المفهومين معاً؛ لقوة المنطوق وراجحية دلالته على المفهومين الموافق والمخالف، ووافقه على هذا الشارح المحلي، وعامة محشي جمع الجوامع([6]).

الثالث: مال إليه الصفي الهندي([7]) حيث نص على ترجيح الإشارة على مفهوم المخالفة دون الموافقة؛ اعتداداً منه بتقديم المنطوق على مفهوم المخالفة دون الموافقة؛ إذ مفهوم الموافقة أوضح دلالة من إشارة النص، ومقصود الشارع في مفهوم الموافقة أظهر، وعندئذ لا يصار إلى ترجيح اللازم العقلي الإشاري بكون ذاتي مباشر فقط؛ إذ العبرة بقوة المقدمات المقتضية للدلالة، وليس بكونها ذاتية مباشرة أولا([8]).

وتجدر الإشارة إلى أن أبا زهرة([9]) نسب للشافعية تقديمهم مفهوم الموافقة على إشارة النص اعتداداً بأن مفهوم الموافقة يتبادر فهمه عند العارف بالعربية، فيجري في وضوح المعنى مجرى المنطوق، في حين إن الإشارة قد تستند إلى علاقات لزوم عقلي غير ظاهرة ابتداءً، فيصعب إدراك معناها إلا بعد التدقيق والمراجعة، مما يقتضي تقديم ما تبادر معناه على ما لم يتبادر، علاوة على أن مقصود الشارع في مفهوم الموافقة أظهر منه في إشارة النص.
أما بالنظر إلى أصوليي الحنفية: فيظهر بجلاء أنهم يعتدون في قسمتهم للدلالات على جهات التدليل ونواحي الدلالة بغير مزيد اهتمام بالمعاني المستدل عليها، مستندين في الترجيح بين أنواع الدلالات على أصلين:
الأول: مدى قوة جهة التدليل المعنوي في إفادة المعنى وتحقيقه.

الثاني: مدى قوة اندراج المعنى المستدل عليه في المقصود الشرعي.

فاعتماداً على الأصل الأول- جهة التدليل المعنوي- يذهب الحنفية إلى أن اللازم الذاتي مقدم على غير الذاتي –المتحصل بوساطة المعني-؛ ذلك أن الذاتي ثابت بنفس نظم الكلام وبالمعنى معاً، في حين أن اللازم غير الذاتي ثابت بمعنى النظم فقط، فإذا تعارضا تساقط المعنيان وبقي النظم في الذاتي سالماً عن المعارضة فيقدم([10])، كما أنهم يعتدون بأن اللازم المتأخر مقدم على اللازم المتقدم؛ إذ ما يثبت لغير ضرورة النظم يقدم على ما ثبت بضرورة تصحيح المعنى عقلاً أو شرعا([11])؛ إذ الضرورة تقدر بقدرها؛ ولأن "دلالة الملزوم على اللازم المتأخر كالعلة على المعلول أقوى من دلالته على اللازم غير المتأخر كالمعلول على العلة، فإن الأولى مطردة دون الثانية"([12]).
واعتماداً على الأصل الثاني فيقدم ما كان مقصوداً قصداً أصلياً ابتدائياً على ما لم يكن كذلك، وعليه فهم يعتدون بأن اللازم في العبارة أقوى اللوازم العقلية؛ إذ هو ذاتي متأخر مقصود أصالة فيقدم على الإشارة؛ ثم تليه إشارة النص حيث إنها استفيدت باللازم الذاتي المتأخر المقصود تبعاً ([13]). كما يقدم الإشارة على الدلالة-المسمى بمفهوم الموافقة- بناء على أن اللازم في الإشارة ذاتي في حين أن اللازم العقلي في دلالة النص غير ذاتي، وتقدم الدلالة على الاقتضاء؛ لقوة اللازم المتأخر في دلالة النص على اللازم المتقدم في الاقتضاء([14]).
ويخالف في هذا ابن عبد الشكور منتحياً طريقة المتكلمين في الترجيح؛ إذ يذهب إلى أن "رجحان ما لا يقصد أصلاً كما في الإشارة على ما يقصد كما في الدلالة أو ما كان ضرورياً كما في الاقتضاء محل تأمل!! وما قالوا –أي بتقديم الإشارة على الدلالة- أن المعنيين تعارضا وبقي النظم سالماً ممنوع؛ بل المعنى المقصود لا يعارضه شيء، فيضمحل عنده غيره، فلم يتساقط ولم يبق النظم سالما!" ([15]).
بهذا يظهر التوجهان الأصوليان اللذان اعتمدهما المتكلمة والحنفية في الترجيح بين الدلالات حتى اعتد الفريق الأول بأن إشارة النص من أضعف الدلالات في حين اعتد الفريق الثاني بأن الإشارة من أقواها في الدلالة على المعنى، وحسبي أن الترجيح بينهما عمل اجتهادي شاق، يتعين فيه استقراء حاصر لدلائل الشرع، وهو ما لا يتيسر للباحث في مقامه هذا.

يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 39.07 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 38.44 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.61%)]