استلحاق مجهولي النسب
د.سعد بن تركي الخثلان
الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم على نبينا محمد, وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
وبعد:
فإن حفظ النسب إحدى الضروريات الخمس التي جاءت جميع الشرائع السماوية بحفظها ، وقد امتن الله على عباده بأن جعل منهم نسبا, فقال ــ تعالى ـــ : { وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا }1 ، ومن أبرز حكم تحريم الزنى: حفظ الأنساب؛ فإنه بالزنى تختلط الأنساب, فلا يستطيع الإنسان أن يعرف أباه أو قرابته ..، بل ينشأ مقطوع النسب، وربما افتقد الرعاية والقيام على شؤونه, فيظهر أثر ذلك على سلوكه, وعلى نظرته للحياة وللمجتمع ...
ومن هنا فقد جاء تحريم الزنى في جميع الشرائع السماوية، ومع ذلك فهو واقع وموجود قديما وحديثا، وقد وقع في جيل الصحابة وقت نزول التشريع بين ظهراني النبي – صلى الله عليه وسلم - وأمر – صلى الله عليه وسلم - بإقامة حد الزنى على عدد من الرجال والنساء الذين وقعوا في هذه الفاحشة، ولكنه في وقتنا الحاضر قد أصبح أكثر شيوعا، خاصة في المجتمعات غير الإسلامية، بل أصبح مقننا في بعض تلك المجتمعات ...
ومن هنا فقد برزت مشكلة كبيرة في نسب الأولاد الناتجين من الزنى، وبخاصة لدى بعض المسلمين الجدد، حيث يكون لأحدهم خليلة أو أكثر قبل إسلامه وتلد منه، ثم بعد إسلامه أو إسلامهما يريد أن يستلحق هذا الولد الناتج من الزنى إليه, فهل يسوغ هذا الاستلحاق ؟ !
هذه مسألة كبيرة ومهمة ، وقد وقع فيها الخلاف بين أهل العلم قديما وحديثا .. ، فأحببت أن أكتب حول هذا الموضوع, وقد جعلته بعنوان:
استلحاق مجهولي النسب
وقد كان منهجي في هذا البحث على النحو الآتي :
1-تصوير المسألة التي تحتاج إلى إيضاح تصويراً دقيقاً قبل بيان حكمها ليتضح المراد بها.
2 -عرض الآراء في المسائل حسب الاتجاهات الفقهية، ونسبة كل رأي من قال به من أصحاب المذاهب.
3 -عرض أدلة الأقوال، مع بيان وجه الدلالة إذا احتاج الأمر إلى ذلك.
4-إيراد المناقشة على الأدلة أو الاستدلال بها. ولو كانت تلك المناقشة للقول الذي ظهر رجحانه، وما أنقله من غيري أصدره بعبارة وقد اعترض وفي الإجابة بعبارة وقد أجيب ، وما لم أنقله من غيري أصدره بعبارة ويمكن الاعتراض وفي الإجابة بعبارة ويمكن الجواب .
5-بيان ما توصلت إلى رجحانه من الآراء مع بيان سبب الترجيح.
ذكر أرقام الآيات وأسماء السور الواردة فيها.
6-تخريج الأحاديث من مصادرها, فإن كان الحديث في الصحيحين, أو في أحدهما موصولا, فأكتفي بالعزو إليه، وإلا خرجته من كتب السنن والمسانيد والآثار مبيناً آراء المحدثين في درجته.
7-ختم البحث بخاتمة تتضمن ملخصاً للموضوع وأهم ما تتضمن من نتائج .
8-تذييل البحث بفهرس للمصادر والمراجع المستفاد منها في كتاب البحث.
وقد قسمت البحث إلى مقدمة وأربعة مباحث على النحو الآتي:
المبحث الأول: تعريف الزنا ومفاسده
المبحث الثاني: عناية الإسلام باللقطاء.
المبحث الثالث : استلحاق ولد الزنا إذا كانت أمه فراشا لزوج أو سيد.
المبحث الرابع: استلحاق ولد الزنا إذا لم تكن أمه فراشا لزوج أو سيد.
خاتمة البحث، وتتضمن أهم نتائج البحث .
والله أسأل أن أكون قد وفقت في في كتابة هذا البحث الذي يتناول هذا الموضوع الحساس والهام .. ، وأن أكون قد وفقت في النتائج التي وصلت إليها ..
كما أسأله عز وجل أن يهدينا لما اختلاف فيه من الحق بإذنه ، وأن التوفيق والسداد ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ،،،،،،،،،،،
المبحث الأول:تعريف الزنا ومفاسده
أولا : تعريف الزنا في اللغة والشرع.
تعريفه في اللغة:
الزاي, والنون, والحرف المعتل الألف يمد ويقصر، قال الجوهري: "الزنى يمد ويقصر ، فالقصر لأهل الحجاز، والمد لأهل نجد .. "[1]وعلى هذا يكون فيها لغتان:
الأولى: اسم ممدود فيقال: الزنا، وهي لغة أهل نجد، وقيل لبني تميم منهم خاصةً.
الثانية: اسم مقصور، فيقال: الزنى، وهي لغة أهل الحجاز، و بها ورد القرآن الكريم، والأصل أن تكتب هكذا الزنى بألف مقصورة، وعليه جرى الرسم في القرآن, في قول الله ـــ تعالى ـــ { ولا تقربوا الزنى } [2]ويجوز لغة أن تكتب هكذا الزنا بألف ممدودة.
وعلى كلتا اللغتين ـــ القصر والمدـــ فهو مصدر: زنى يزنى زنا بالمد, أو زنى بالقصر، والنسبة إليه: زنوي وجمعه: زناة، واسم الفاعل منه: زانِ، يقال للرجل: زانٍ وللمرأة زانية, ومنه قول الله ــ تعالى ــ : ــ {الزانية والزاني فاجلدوا كلّ واحد منهما مائة جلدة... } [3].
هذه هي المادة من حيث تصريفها اللغوي[4].
أما من حيث معناها في لغة العرب, فهي تطلق على معان:
منها : الضيق، ومنه قيل للحاقن: زناء ؛ لأنه يضيق ببوله.
ويطلق على الرقي على الشيء ، ومنه يقال : زنأ في الجبل يزنأ إذا صعد.
ويطلق الزنىعلى مادون مباشرة المرأة الأجنبية, ومنه قول النبي – صلى الله عليه وسلم - : كتب على ابن آدم حظه من الزنى لا محالة، العينان: زناهما النظر، والأذنان: زناها الاستماع، واللسان: زناه الكلام، واليد: زناها البطش، والرجل: زناها الخطى، والقلب يهوى , و يتمنى، ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه [5].
ويطلق الزنى على وطء المرأة من غير عقد شرعي ، وهذا هو المعنى المراد منه في القرآن الكريم, كما في قول الله ـــ تعالى ـــ { يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئاً ولا يسرقن ولا يزنين ... } الآية [6], وقوله ـــ تعالى ـــ : { ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة ...} [7]الآية. وعلى هذا المعنى عامة نصوص الوعيد على الزنى في السنة [8].
تعريفه في الاصطلاح:
تعريف الزنى لغة بأنه: وطء المرأة, من غير عقد شرعي هو أصل في تعاريفه, في الاصطلاح، والاختلاف الحاصل في التعاريف, إنما هو من حيث القيود الواردة شرعاً.
فمنها: ما هو مطلوب تحققه في الفاعل.
ومنها: ما هو مطلوب تحققه في الفعل نفسه.
ومن حيث شموله للوطء في الدبر, من رجل أو امرأة, أو عدم شموله[9].
وفيما يأتي أبرز تعريفات الزنى عند المذاهب الأربعة:
تعريفه عندالحنفية:
عرف الزنى عند الحنفية بعدة تعريفات متقاربة، ومن أشهرها أنه: وطء في قبلٍ, خالٍ عن ملكٍ وشبهةٍ [10].
تعريفه عند المالكية :
عرفه خليل بأنه : "وطء مكلف مسلم فرجَ آدمي, لا ملك له فيه, باتفاق, تعمداً"[11].
وقريب منه تعريف ابن عرفة بأنه : "مغيب حشفة آدمي, في فرج آخر, دون شبهة حله"[12].
تعريفه عند الشافعية:
عرفه الغزالي بأنه : "إيلاج الفرج في الفرج المحرم قطعاً, المشتهى طبعاً"[13].
وقريب منه تعريف النووي بأنه : "إيلاج الذكر, بفرج محرم, لعينه, خال من الشبهة, مشتهى طبعاً"[14].
تعريفه عند الحنابلة :
عرفه المجد ابن تيمية, فقال: "تغييب حشفة, في قبل, أو دبر, حراماً محضاً"[15].
وقريب منه تعريف البهوتي بأنه: "فعل الفاحشة, في قبل أو دبر"[16].
التعريف المختار:
يمكن تقسيم التعاريف السابقة إلى قسمين:
1. تعريف الجمهور.
من المالكية, والشافعية, والحنابلة, الذين جعلوا الزنى شاملا للوطء في القبل, وفي الدبر اللواط.
2. تعريف الحنفية.
الذين خصوا الزنى بالوطء في القبل، وعندهم أن اللواط لايدخل في معنى الزنى.
والأقرب هو تعريف الحنفية ؛ لأن الوطء في الدبر, لايسمى زنى, لالغة, ولا شرعاً, ولا عرفاً [17], وحكمه مغاير للزنى, فهو: القتل بكل حال, كما أجمع على ذلك الصحابة – رضي الله عنه - وإن اختلفوا في صفة القتل[18], بينما الزنى: الجلد, والتغريب, لغير المحصن ، والرجم للمحصن[19], ولهذا فالتعريف المختار هو تعريف الحنفية, وهو: وطء في قبل, خال عن ملك, وشبهة .
شرح التعريف :
وطء يخرج به مادون الوطء, كالمباشرة, والقبلة, ونحوها، وإن كانت قد تسمى زنى لغة, كما في الحديث: .. العينان: زناهما النظر، والأذنان: زناها الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليد: زناها البطش، والرجل: زناها الخطى .. [20]. إلا أنها لاتدخل في الزنى بمعناه الاصطلاحي .
في قبل يخرج به الوطء في الدبر، وهو اللواط، فلا يسمى زنى, كما سبق تقرير ذلك.
خال عن ملك أي: عن نكاح, يملك به الزوج حق الاستمتاع بالمرأة, أو ملك يمين [21].
أو شبهة أي: شبهة النكاح, أو شبهة ملك اليمين, فلا يسمى ذلك زنى.
كما لو وطئ امرأة بعقد نكاح, ثم تبين أنها أخته من الرضاع، أو زفت إليه امرأة, ظنها زوجته, أو جاريته, فوطئها, فلا يعد هذا من الزنى, وإنما هو وطء بشبهة.
ثانيا: مفاسد الزنى.
سمى الله الزنى فاحشةً, فقال: { واللاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ... } [22].
وسماه سفاحاً, فقال: { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ...}" [23], والسفاح الزنى" [24].
وسماه عنتاً, فقال: { ذلك لمن خشي العنت منكم ... } [25]و العنت الزنى [26].
وسماه بغاءً, فقال: {ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء...[27] } والبغاء الزنى[28] .
ومفاسد الزنى, وأضراره عظيمة جداً, سواء على الفرد, أو الأسرة, أو المجتمع, أو الأمة.
ومن أحسن من تكلم عن مفاسد الزنى ابن القيم ـــ رحمه الله ـــ وننقل طرفاً من كلامه حول هذه المفاسد.
قال ــ رحمه الله ــ: " مفسدة الزنى من أعظم المفاسد، وهى منافية لمصلحة نظام العالم في حفظ الأنساب، وحماية الفروج، وصيانة الحرمات .. وهي تلي مفسدة القتل, فى الكبر؛ ولهذا قرنها الله ــ سبحانه ــ بها, فى كتابه, ورسوله – صلى الله عليه وسلم - فى سنته، قال الإمام أحمد: " لا أعلم بعد قتل النفس شيئاً, أعظم من الزنا، وقد أكد ـــ سبحانه ــ حرمته بقوله : { والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ... } [29], فقرن الزنا بالشرك, وقتل النفس, وجعل جزاء ذلك الخلود فى النار, فى العذاب المضاعف المهين ما لم يرفع العبد موجب ذلك بالتوبة والإيمان والعمل الصالح، وقد قال ــ تعالى ـــ : { ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا } [30]فأخبر عن فحشه فى نفسه, وهو القبيح الذي قد تناهى قبحه, حتى استقر فحشه فى العقول، حتى عند كثير من الحيوانات,
كما ذكر البخاري فى صحيحه [31] عن عمرو بن ميمون الأودي – رضي الله عنه - قال: رأيت فى الجاهلية قردا, زنى بقردة فاجتمع القرود عليهما, فرجموها, حتى ماتا .
ثم أخبر عن غايته بأنه : ساء سبيلاً فإنه سبيل هلكة, وبوار, و افتقار فى الدنيا، وسبيل عذاب, وخزي, ونكال, فى الآخرة، وعلق ــ سبحانه ــ فلاح العبد على حفظ فرجه منه, فلا سبيل له إلى الفلاح بدونه, فقال : {قد أفلح المؤمنون الذين هم فى صلاتهم خاشعون...} إلى قوله ـــ تعالى ـــ : {فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون} [32] وهذا يتضمن ثلاثة أمور : من لم يحفظ فرجه لم يكن من المفلحين، وأنه من الملومين، ومن العادين، ففاته الفلاح, واستحق اسم العدوان، ووقع فى اللوم، فمقاساة ألم الشهوة ومعاناتها, أيسر من بعض ذلك .. [33].
ثم قال ـــ رحمه الله ــ : ".. والمرأة إذا زنت, أدخلت العار على أهلها, وزوجها, وأقاربها ونكست رؤوسهم بين الناس، وإن حملت من الزنى: فإن قتلت ولدها, جمعت بين الزنى والقتل، وإن حملته على الزوج, أدخلت على أهله, وأهلها أجنبيا, ليس منهم ، فورثهم وليس منهم، ورآهم وخلا بهم، وانتسب إليهم, وليس منهم .. إلى غير ذلك من مفاسد زناها...وأما زنى الرجل, فإنه يوجب اختلاط الأنساب أيضا, وإفساد المرأة المصونة، وتعريضها للتلف
والفساد, وليس بعد مفسدة القتل أعظم من مفسدته، ولهذا شرع فيه القتل على أشنع الوجوه وأفحشها وأصعبها، ولو بلغ العبد أن امرأته أو حرمته, قتلت, كان أسهل عليه من أن يبلغه أنها زنت.
و عن سعد بن عبادة – رضي الله عنه - لو رأيت رجلا مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح, فبلغ ذلك رسول الله – صلى الله عليه وسلم - فقال: أتعجبون من غيرة سعد؟ والله, لأنا أغير منه, والله أغير مني، ومن أجل غيرة الله حرم الفواحش, ما ظهر منها, وما بطن متفق عليه [34].
وخص سبحانه حد الزنا من بين سائر الحدود بثلاث خصائص :
إحداها: القتل فيه بأشنع القتلات، وحيث خففه جمع فيه بين العقوبة على البدن بالجلد, وعلى القلب بتغريبه عن وطنه سنة.
الثانية: أنه نهى عباده أن تأخذهم بالزناة رأفة في دينه؛ بحيث تمنعهم من إقامة الحد عليهم؛ فإنه ـــ سبحانه ـــ من رأفته بهم, ورحمته بهم, شرع هذه العقوبة؛ فهو أرحم منكم بهم، و لم تمنعه رحمته من أمره بهذه العقوبة؛ فلا يمنعكم أنتم ما يقوم بقلوبكم من الرأفة من إقامة أمره.
الثالثة: أنه سبحانه أمر أن يكون حدُّهما بمشهد من المؤمنين، فلا يكون في خلوة بحيث لا يراهما أحد، وذلك أبلغ في مصلحة الحد, وحكمة الزجر.
وحدُّ الزاني المحصن : مشتق من عقوبة الله ـــ تعالى ـــ لقوم لوط بالقذف بالحجارة؛ وذلك لاشتراك الزنى واللواط في الفحش، وفى كل منهما فساد, يناقض حكمة الله في خلقه وأمره ... [35].
وقال ـــ رحمه الله ـــ : "... والزنى يجمع خلال الشر كلها, من قلة الدين، وذهاب الورع ، وفساد المروءة، وقلة الغيرة، فلا تجد زانيا معه ورع, ولا وفاء بعهد, ولا صدق في حديث, ولا محافظة على صديق, ولا غيرة تامة على أهله،
فالغدر, والكذب, والخيانة, وقلة الحياء, وعدم المراقبة, وعدم الأنفة للحرم, وذهاب الغيرة من القلب, من شعبه وموجباته.
ومن مفاسده : أنه يسلبه أحسن الأسماء, وهو اسم العفة, والبر, والعدالة, ويعطيه أضدادها, كاسم الفاجر, والفاسق, والزاني, والخائن.
ومنها أنه يسلبه اسم المؤمن, كما في الصحيحين [36] عن النبي – صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن..." فسلبه اسم الإيمان المطلق, وإن لم يسلب عنه مطلق الإيمان.
ومنها أن يعرض نفسه لسكنى التنور الذي, رأى النبي – صلى الله عليه وسلم - فيه الزناة والزواني [37].
ومنها: أنه يفارقه الطيب الذي وصف الله به أهل العفاف، ويستبدل به الخبيث الذي وصف الله ــ تعالى ــ به الزناة، كما قال الله ــ تعالى ــ: {الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات...} [38].
ومنها ضيقة الصدر, وحرجه, فإن الزناة يعاملون بضد قصودهم, فإن من طلب لذة العيش, وطيبه بما حرمه الله عليه, عاقبه بنقيض قصده, فإن ما عند الله لا ينال إلا بطاعته, ولم يجعل الله معصيته سببا إلى خير قط،
ولو علم الفاجر ما في العفاف, من اللذة والسرور وانشراح الصدر, وطيب العيش, لرأى أن الذي فاته من اللذة, أضعاف أضعاف ما حصل له ... [39].
ومن مفاسد الزنى كذلك: أن الزاني ينزع منه نور الإيمان, قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ – رضي الله عنه -: " يُنْزَعُ مِنْهُ نُورُ الإِيمَانِ فِي الزِّنى" [40].
ومنها: اختلاط الأنساب, وكثرة اللقطاء, وأولاد الزنى, الذين قد لا يجدون الرعاية الكافية، والتربية السليمة، وإن وجدوا, فلا بد أن تظهر آثار زنى والديهم على نفسياتهم, في الغالب، وكثير منهم يغلب عليه طابع الانعزال عن المجتمع, والعدوانية، و الحقد على من حولهم؛ وربما أصبحوا بيئة خصبة للجرائم، والانحراف السلوكي ..
ومنها: انتشار بعض الأمراض الوبائية، كمرض نقص المناعة الإيدز ، والزهري ، والسيلان، فإنه من المقرر عند الأطباء, أن من أبرز أسباب انتشار هذه الأمراض الزنا.
وأضرار الزنا ومفاسده كثيرة؛ ولذلك فهو مستقبح من قديم الزمان, لدى ذوي العقول الراجحة, والفطر السليمة.
وقد كان من العرب في الجاهلية من يتجنب الزنى، بل في وقتنا الحاضر, لايزال كثير من العقلاء في جميع الأمم يستقبحونه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ــ رحمه الله ــ: " أكثر عقلاء بني آدم, لا يسرقون ولا يزنون, حتى في جاهليتهم, وكفرهم, فإن أبا بكر – رضي الله عنه - وغيره, قبل الإسلام, ما كانوا يرضون أن يفعلوا مثل هذه الأعمال, ولما بايع النبي – صلى الله عليه وسلم - هند بنت عتبة بن ربيعة, أم معاوية, بيعة النساء على أن لايسرقن, ولا يزنين,
قالت: أو تزني الحرة؟ [41], فما كانوا في الجاهلية يعرفون الزنى إلا للإماء.[42].
المبحث الثاني :عناية الإسلام باللقطاء
عنيت الشريعة الإسلامية بالتكافل الاجتماعي وتأصيله في نفوس المسلمين ، وهذا التكافل له صور شتى وألوان متعددة...
و من صور هذا التكافل: العناية باللقطاء؛ فإن هذا الطفل اللقيط بريئ, ولا ذنب له ولم يرتكب جريمة، ومن القواعد العظيمة في الشريعة الإسلامية أن الإنسان لايحمل جريرة غيره، قال الله ــ تعالى ـــ: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [43].
وقد عنيت الشريعة الإسلامية بحفظ حقوق هذا الطفل البريء، ورتبت أحكاما كثيرة لحفظ حقوقه, وحمايته من التعدي عليها.
ونظرا لكثرة الأحكام الشرعية المتعلقة باللقيط, نجد أن معظم كتب الفقه, قد خصصت بابا مستقلا في اللقيط؛ لبيان الأحكام التي ترعى شؤونه، و تبين الحقوق التي يستحقها [44].
وقد كرمت الشريعة الإسلامية اللقيط بجعله مسلما, إذا وجد في دار الإسلام, ولو كان فيها كفار [45]، وأنه يكون حرا في جميع أحكامه, ولو كان الملتقط عبدا؛ لأن الأصل في بني آدم الحرية.
قال الموفق ابن قدامة ــ رحمه الله ــ: " اللقيط حر في قول عامة أهل العلم, إلا النخعي؛ لأن الأصل في الآدميين الحرية, فإن الله ـــ تعالى ــــ خلق
آدم, وذريته أحراراً, وإنما الرق للعارض, فإذا لم يعلم ذلك العارض, فله حكم الأصل " [46].
وقد حكى ابن المنذر [47] ـــ رحمه الله ـــ الإجماع على أن اللقيط حر، كما حكى ابن هبيرة [48] ـــ رحمه الله ـــ اتفاق المذاهب على ذلك.
ويدل لهذا ماجاء عن سنين أبي جميلة, أنه وجد منبوذا, في زمان عمر ابن الخطاب ، فجاء به إلى عمر – رضي الله عنه - فقال: ما حملك على أخذ هذه النسمة ؟ قال: وجدتها ضائعة، فأخذتها، فقال له عريفي: يا أمير المؤمنين، إنه رجل صالح, قال: " كذاك؟ " قال: نعم, قال عمر : " اذهب فهو حر، ولك ولاؤه، وعلينا نفقته [49] وقول عمر: هو حر بنى الأمر على الأصل؛ فإن الأصل في بني آدم الحرية، والرق أمر عارض [50].
فاللقيط يستحق جميع حقوق الطفل، ما عدا حق النسب ــ في بعض الصورـــ على تفاصيل, سيأتي بيانها في المبحثين: الثالث, والرابع ـــ إن شاء الله تعالى ــ.
وإن هذه الحقوق لا تجب على شخص معين, وإنما على مجموع المسلمين, فهي فرض كفاية على المجتمع الإسلامي، ونفقته على مجموع المسلمين, أو في بيت مال المسلمين, وقد رغب الشرع الحنيف في كفالة اللقطاء، ورعايتهم ، وتقديم كل مساعدة لهم، ورتب على ذلك الثواب الجزيل والأجر العظيم ، والنصوص الواردة في فضل كفالة اليتيم والإحسان لليتامى تشمل كفالة اللقيط والإحسان إليه ؛ فإن اللقيط وإن لم يكن يتيما بالمعنى
الشرعي واللغوي لليتيم وهو من فقد أباه قبل البلوغ [51] إلا أنه يأخذ حكم اليتيم ، بل إن حال اللقيط أشد من حال اليتيم فإن اليتيم ــ على الأقل ـــ نسبه معروف فلا يعير به، ثم قد تكون أمه موجودة، بينما اللقيط نسبه غير معروف, وقد يعير به، وله أب وأم تخليا عنه, وكان هو ضحية لجريرتهما، وهذا أشد في الألم والبؤس ممن فقد أباه أو أبويه.
وعلى هذا فكل ماورد في شأن الإحسان لليتامى وعدم قهر اليتيم, وفضل كفالته ورعايته ينطبق على اللقيط من باب أولى, وقد أمر الله ـــ تعالى ـــ بالإحسان إلى اليتامى ، وقرن الأمر بالإحسان إليهم بالأمر بتوحيده، فقال ـــ جل وعلا ــــ: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَي ْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى [52] ، وتكرر لفظ اليتيم في القرآن الكريم بالجمع والمثنى والمفرد ثلاثا وعشرين مرة[53]، وقد جاء في السنة أحاديث كثيرة تدل على فضل كفالة اليتيم والإحسان إليه، ومن ذلك ماجاء في صحيح البخاري [54] عن سهل بن سعد – رضي الله عنه - قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا, وأشار بالسبابة والوسطى, وفرج بينهما.
وفي صحيح مسلم [55]عن أبى هريرة – رضي الله عنه - قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -:« كافل اليتيم له أو لغيره, أنا وهو كهاتين فى الجنة ». وأشار بالسبابة والوسطى.
وكما أعطى الإسلام اللقيط جميع الحقوق التي لغيره من المسلمين
فقد منع من أن يعامل بمعاملة دونية, أو يحتقر, أو يعير بجريرة والديه، ومن عيره, فيحد حد القذف ــــ إذا توفرت شروطه ــــ [56] [57].
يتبع