عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 24-03-2019, 07:40 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,615
الدولة : Egypt
افتراضي المقاصد الأخلاقية من ضوابط الاستثمار في السنة النبوية

المقاصد الأخلاقية من ضوابط الاستثمار في السنة النبوية
د. ربيع لعور







جاءت الشريعة الإسلامية لعمارة الدارين؛ دار الدنيا ودار الآخرة، وقد جعل الله تبارك وتعالى من مقاصد الخلق عمارة الأرض مصداقا لقوله تبارك وتعالى: ï´؟ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ï´¾ [هود: 61].




وطرق عمارتها كثيرة من جملتها استثمار المال، وقد فتحت الشريعة الإسلامية الباب على مصراعيه لاستحداث أنواع من المعاملات المالية التي تيسر على الناس معاشهم، فلم تقيدهم بلون من التعامل بل أطلقت الحكم بالإباحة، فتقرر عند المحققين من أهل العلم أن الأصل في المعاملات هو الحل.




وهي وإن أرخت العنان في باب التعامل، إلا أنها قيدته بجملة من القيود والضوابط، التي يقصد منها حفظ مصالح المكلفين لا التضييق عليهم؛ لأن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح و تكثيرها وبدرء المفاسد وتقليلها.




والمتأمل في هذه الضوابط الشرعية، يجد أنها تضمنت حِكَمًا أخلاقية، ومقاصد أدبية تكفل للمتعامل دينه وماله، وللمجتمع رقيه وانسجامه، وهذا ما عزمت على إماطة لثامه، وكشف أسراره مستعينا بالله تعالى في ذلك، من خلال هذه المداخلة الموسومة ب -: " المقاصد الأخلاقية من الضوابط الشرعية للاستثمار في السنة النبوية ".




ونظرا لأهمية الموضوع، وطول ذيله، فقد ارتأيت أن أبحث الموضوع مركزا على النقاط الآتية:

أولا: المقصد الأخلاقي من تحريم الاتجار في المحرمات:

أرسل الله تعالى نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بالحنيفية السمحة، وبيَّن نعته في الكتب السابقة بقوله تبارك وتعالى: ï´؟ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ ï´¾ [الأعراف: 157].



فما من شيء يحله إلا وهو طيب، وما من شيء يحرمه إلا وهو خبيث، فكل شيء محرم فهو مفسدة محضة أو غالبة، وقد وردت في السنة نصوص كثيرة تنهى عن استثمار المال في المحرمات، ولعل من أوعبها حديث جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، الذي لأهميته لم يخل منه كتاب من كتب أدلة الأحكام كمنتقى الأخبار للمجد بن تيمية وعمدة الأحكام للمقدسي وبلوغ المرام لابن حجر، ونصه أنَّ جَابِر رضى الله عنه سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ عَامَ الْفَتْحِ وَهُوَ بِمَكَّةَ: " إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْأَصْنَامِ "؛ فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ شُحُومَ الْمَيْتَةِ؛ فَإِنَّهَا يُطْلَى بِهَا السُّفُنُ وَيُدْهَنُ بِهَا الْجُلُودُ وَيَسْتَصْبِحُ بِهَا النَّاسُ؛ فَقَالَ: " لَا هُوَ حَرَامٌ "، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ ذَلِكَ: "قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ إِنَّ اللَّهَ لَمَّا حَرَّمَ شُحُومَهَا جَمَلُوهُ ثُمَّ بَاعُوهُ فَأَكَلُوا ثَمَنَهُ ".[1]



فقد تضمن هذا الحديث النهي عن استثمار المال في جملة من المحرمات، وهي الخمر والميتة والخنزير والأصنام، وكل هذه المحرمات ورد تحريمها في نصوص قرآنية.



ولعل أهم مقصد أخلاقي يستفاد من هذا الضابط هو إذكاء خلق الغيرة في قلب المؤمن، فالمؤمن الصادق هو الذي يكون ولاؤه لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين، فهو يحب ما يحبه الله تعالى ويبغض ما يبغضه الله تعالى، وإلا فكيف يستقيم الإيمان بالله مع الرضا ببيع الأصنام التي تعبد من دون الله، مهما كان الربح سريعا والغُنم وفيرا.



والناظر في سيرة بعض المستثمرين يرى أنهم لا يراعون هذا المبدأ جهلا أو غفلة وأنا أربأ بهم من الثالثة، وهي طلب المال على حساب الدين، فيخشى على صاحبه أن يكون ممن يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل؛ ومن صور ذلك استيراد ألبسة تتضمن رسوما صليبية أو نجمة سداسية أو صورا لمعبودات وثنية، والأقبح من هذا وذاك أن يتعمد استيراد أحذية يكتب تحتها اسم الجلالة أو اسم الرسول صلى الله عليه وسلم.



إن الغيرة تقود إلى استشعار الفرد مسؤوليته على الأمة؛ لأنَّه جزء من نسيجها، فهو كالبضعة من الجسد يألم لألمه، ويصح بصحته، أما الفرد الميت فهو الذي لا يستشعر آلام أمته، فهو قطعة ميتة حقيق بها أن تبتر.



ولذلك ورد النهي عن الاتجار في الخمر؛ لأن ترويجها إخلال بواجب الفرد تجاه أمته، وعلامة على ذهاب غيرته، ودليله سعيه إلى الإفساد وإن لم يرده، فالخمر أصل كل بلوى، ومنشأ كل شر، وقد جاء في الأثر ما يبين خطورتها كما في حديث عُثْمَانَ رضى الله عنه يَقُولُ: " اجْتَنِبُوا الْخَمْرَ فَإِنَّهَا أُمُّ الْخَبَائِثِ إِنَّهُ كَانَ رَجُلٌ مِمَّنْ خَلَا قَبْلَكُمْ تَعَبَّدَ فَعَلِقَتْهُ امْرَأَةٌ غَوِيَّةٌ فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ جَارِيَتَهَا فَقَالَتْ لَهُ إِنَّا نَدْعُوكَ لِلشَّهَادَةِ فَانْطَلَقَ مَعَ جَارِيَتِهَا فَطَفِقَتْ كُلَّمَا دَخَلَ بَابًا أَغْلَقَتْهُ دُونَهُ حَتَّى أَفْضَى إِلَى امْرَأَةٍ وَضِيئَةٍ عِنْدَهَا غُلَامٌ وَبَاطِيَةُ خَمْرٍ فَقَالَتْ إِنِّي وَاللَّهِ مَا دَعَوْتُكَ لِلشَّهَادَةِ وَلَكِنْ دَعَوْتُكَ لِتَقَعَ عَلَيَّ أَوْ تَشْرَبَ مِنْ هَذِهِ الْخَمْرَةِ كَأْسًا أَوْ تَقْتُلَ هَذَا الْغُلَامَ قَالَ فَاسْقِينِي مِنْ هَذَا الْخَمْرِ كَأْسًا فَسَقَتْهُ كَأْسًا قَالَ زِيدُونِي فَلَمْ يَرِمْ حَتَّى وَقَعَ عَلَيْهَا وَقَتَلَ النَّفْسَ فَاجْتَنِبُوا الْخَمْرَ فَإِنَّهَا وَاللَّهِ لَا يَجْتَمِعُ الْإِيمَانُ وَإِدْمَانُ الْخَمْرِ إِلَّا لَيُوشِكُ أَنْ يُخْرِجَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ ".[2]



فالمتأمل لهذا الحديث الموقوف، يدرك خطورة الخمر، وسبب تحريمها؛ لأنها تقود إلى كل رذيلة كما هو حاصل في الأثر المتقدم، ولهذا لا نستغرب الحملة الأمريكية الداعية إلى منع الخمر في الثلاثينات من القرن المنصرم، لأن عقولهم وتجربتهم أوصلتهم إلى هذه النتيجة، وإن كان جهدهم لم يكلل بالنجاح، لعدم اقتران وازع السلطان بالإيمان.



هذا، ولخطورة الخمر لعن من أجلها عشرة أشخاص كما في حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: " لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْخَمْرِ عَشْرَةً عَاصِرَهَا وَمُعْتَصِرَهَا وَشَارِبَهَا وَحَامِلَهَا وَالْمَحْمُولَةُ إِلَيْهِ وَسَاقِيَهَا وَبَائِعَهَا وَآكِلَ ثَمَنِهَا وَالْمُشْتَرِي لَهَا وَالْمُشْتَرَاةُ لَهُ ".[3]



والسر في لعنهم أنهم لا غيرة لهم على محارم الله، ومن ثمة فالمستثمر في الخمر عديم الغيرة؛ لأنه يرضى لنفسه أن يتأكَّل بما يغضب الله تعالى وبما يكون داعيا للمسلمين إلى الانحراف عن الصراط المستقيم.



وما قلناه في الخمر يقال مثله في بيع الميتة والخنزير، وقد نص القرآن على تحريمهما، حيث قال الحق تعالى: ï´؟ قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ ï´¾ [ [الأنعام: 145].



وقد نصَّت الآية على علة تحريم الخنزير، وهي النجاسة، يقول القرافي: " والرجس في اللغة القذر؛ فكما أن العذرة لا تقبل التطهير فكذلك الخنزير؛ لأنه سوى بينه وبين الدم ولحم الميتة، وهما لا يقبلان التطهير؛ فكذلك هو ".[4]



وبسبب نجاسته أهدر الشارع مصلحة وفرة لحمة، وغزارة دهنه، وهو ليوم الناس هذا من أبخس الدهون سعرا، وعليه معتمد الشركات الغربية ومن لف لفها في إنتاج الدهون الحيوانية، ومنع المسلم من الاستثمار فيه ترويض له على طلب الطهر في المأكل والمطعم وفي شأنه كله، كما أنه دليل على غيرته على محارم الله، وليس هذا فحسب؛ بل هو تربية له على الغيرة على العرض؛ فمن عجيب ما ذُكِرَ أن الخنزير عديم الغيرة على أنثاه، وأن إدمان أكله يورث الدياثة، والعياذ بالله.



يقول الإمام البقوري مبينا تأثر الآكل بالمأكول: " ومما يقال: إن العرب سرى إليها الكرم والحقد من أكل لحم الإبل، والفرس اكتسبت القساوة من أكل لحم الخيل، والإفرنج اكتسبت عدم الغيرة من أكل الخنزير، والسودان أفادها الرقص أكل لحم القردة، والله أعلم ".[5]



وزبدة القول أن المستثمر بامتناعه عن استثمار ماله في المحرمات، يثبت فعلا غيرته على محارم الله تعالى، وأنعم به من خلق.



ثانيا: المقصد الأخلاقي من تحريم الربا:

يعد الربا أحد أخطر عوائق الاستثمار ولهذا جاءت الشريعة المحمدية بتحريمه، وليست هي بدعا في التحريم، بل هذا ما كانت عليه الشرائع السابقة أيضا، بل توافق معها حتى بعض الفلاسفة الإغريق كأرسطو وأفلاطون.[6]




وقد جاءت نصوص كثيرة تقرر هذا المنع في القرآن والسنة، أكتفي من القرآن بقوله تبارك وتعالى: ï´؟ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ï´¾ [البقرة: 278].




أما الأحاديث فكثيرة جدا منها حديث عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضى الله عنه قال: قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "الْوَرِقُ بِالذَّهَبِ رِبًا إِلَّا هَاءَ وَهَاءَ وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ رِبًا إِلَّا هَاءَ وَهَاءَ وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ رِبًا إِلَّا هَاءَ وَهَاءَ وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ رِبًا إِلَّا هَاءَ وَهَاءَ ".[7]




وتحريم الربا أمر معلوم من الدين بالضرورة، وقد تشوَّفَ الشارع في تحريمه إلى عدة مقاصد تشريعية، ويندرج ضمنها مقاصد أخلاقية من أهمها منع الظلم؛ ذلك أن المرابي ظالم لغيره، فهو يبيع الشيء بجنسه متفاضلا، وهو ما يسمى بربا الفضل، وهو ما منعته السنة، فعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رضى الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ مِثْلًا بِمِثْلٍ سَوَاءً بِسَوَاءٍ يَدًا بِيَدٍ فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الْأَصْنَافُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ ".[8]




ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يتساهل مع أصحابه في هذا المنع لانطوائه على الظلم مهما كان التفاضل يسيرا، ومن أدلته أن أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ رضى الله عنه قَالَ جَاءَ بِلَالٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِتَمْرٍ بَرْنِيٍّ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَيْنَ هَذَا؟ قَالَ بِلَالٌ كَانَ عِنْدَنَا تَمْرٌ رَدِيٌّ فَبِعْتُ مِنْهُ صَاعَيْنِ بِصَاعٍ لِنُطْعِمَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ ذَلِكَ أَوَّهْ أَوَّهْ عَيْنُ الرِّبَا عَيْنُ الرِّبَا لَا تَفْعَلْ وَلَكِنْ إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَشْتَرِيَ فَبِعْ التَّمْرَ بِبَيْعٍ آخَرَ ثُمَّ اشْتَرِهِ ".[9]



بل إن السنة حسمت مادة التفاضل حتى مع الشك في وجوده؛ فجعلت الشك في التماثل كالعلم بالتفاضل، ولهذا منعت المزابنة، فعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ الْمُزَابَنَةِ وَالْمُزَابَنَةُ بَيْعُ الثَّمَرِ بِالتَّمْرِ كَيْلًا وَبَيْعُ الْكَرْمِ بِالزَّبِيبِ كَيْلًا ".[10]



وسرُّ المنع أن الرطب إذا جف ينقص وزنه، فتنتفي المماثلة بينه وبين اليابس، ولهذا جاء في حديث سَعْدٍ رضى الله عنه سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُسْأَلُ عَنْ اشْتِرَاءِ التَّمْرِ بِالرُّطَبِ؛ فَقَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ: " أَيَنْقُصُ الرُّطَبُ إِذَا يَبِسَ؟ "، قَالُوا: نَعَمْ؛ فَنَهَى عَنْ ذَلِكَ ".[11]



لكن هذا المنع للربا يصير مباحا للحاجة في العرية، وهي أن يهب الرجل حائطه لفقير، فيتضرر بدخوله على أهله، فيرخص له أن يشتري منه ذلك الثمر خرصا، فَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رضى الله عنه " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَخَّصَ لِصَاحِبِ الْعَرِيَّةِ أَنْ يَبِيعَهَا بِخَرْصِهَا مِنْ التَّمْرِ ".[12]



ومدرك الترخيص أن الظلم الذي من أجله منع الربا منتف في هذه المعاملة، بل هي في الأصل معاملة مبنية على التبرع والإحسان.



أما الصورة الثانية من الربا، فهي بيع العرض الربوي بمثله إلى أجل، وهي ظلم واضح، وتجنٍّ فاضح، وإلا فكيف يباع الجنس الربوي بمثله أو أكثر منه إلى أجل، وهو ما يفضي إلى التفاوت بين القيمتين، فيكون سببا في إلحاق الظلم بأحد الطرفين.




ومن صوره أيضا الإقراض بفائدة ربوية!، هذه الصورة القديمة التي لم تزل ترزح بثقلها على البشرية ولا يزال الاقتصاد العالمي يعاني من ويلاتها إلى يوم الناس هذا.




فالمقرض سواء كان فردا أو بنكا يقرض في مقابل هذه الزيادة، ويزيد فيها كلما تأخر المقترض في دفع المستحقات، فيصير الدين أضعافا مضاعفة ولمَّا يسدَّد بعد، وما تعيشه اليونان - مثلا - في هذه الأيام ما هو إلا أنموذج لهذا الظلم الذي يعانيه الإنسان من أخيه الإنسان.




ولهذا جاء تحريم الربا قطعيا في الكتاب والسنة، وقد صوَّر القرآن هذا النمط من الربا بصورته البشعة؛ فقال الله تبارك وتعالى: ï´؟ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ï´¾ [آل عمران: 130].




كما أن السنة حسمت حكمه فمنعته بصورة قاطعة؛ حيث جعل الرسول صلى الله عليه وسلم كل عقد ربوي تحت قدمه، فقال: " أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمَيَّ مَوْضُوعٌ وَدِمَاءُ الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعَةٌ وَإِنَّ أَوَّلَ دَمٍ أَضَعُ مِنْ دِمَائِنَا دَمُ ابْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ كَانَ مُسْتَرْضِعًا فِي بَنِي سَعْدٍ فَقَتَلَتْهُ هُذَيْلٌ وَرِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ وَأَوَّلُ رِبًا أَضَعُ رِبَانَا رِبَا عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ كُلُّهُ ".[13]




وإذا كانت الشريعة اليهودية المحرفة قد منعت الربا بين اليهود فقط، وأباحته مع غيرهم بناء على قاعدتهم المشؤومة التي حكاها الحق عنهم؛ فقال: ï´؟ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ ï´¾ [آل عمران: 75]، فإن التحريم ورد في الكتاب والسنة عاما في المتعاملين؛ لأن الإسلام جاء برفع الظلم عن المسلم وغيره، ولم ينازع في هذا إلا أبو حنيفة؛ فأباحه في دار الحرب فقط،[14] ومذهبه مرجوح، وليس هذا مقام تحرير هذا الموضوع.




هذا، وما قرره الإسلام من منعٍ للربا لانطوائه على الظلم، أقر به بعض المخالفين وتوصلوا إليه بعد بحث وتجربة، فمن أشهرهم عالم الاقتصاد الشهير البريطاني لورد كين - ز، الذي دعا إلى إلغاء الفائدة الربوية نهائيا حتى لا يقع الحيف والظلم على المجتمع، وكذلك العالم الاقتصادي موريس آليه الذي حصل على جائزة نوبل في الاقتصاد، وغيرهما كثير. [15]



وزبدة القول أن الشريعة المحمدية حرمت الربا لأنه ظلم، والظلم ظلمات يوم القيامة، وما أحوجنا إلى مثل هذا المقصد الأخلاقي الذي لما أهمل استُعْبِدَ الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا.



ثالثا: المقصد الأخلاقي من تحريم الغرر:

الاستثمار المالي عملية اقتصادية تحتمل الربح والخسارة، وقد أُمِرْنَا بتثمير المال بالطرق المشروعة، أما إتلاف المال في معاملات يغلب عليها فوات المقصد من التجارة، ويدخل النقص على المال، فهذا يدخل في حيِّز الغرر الذي جاء الشرع بالنهي عنه، فورد تحريمه قاطعا عاما في القرآن كما في قوله تبارك وتعالى:ï´؟ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ ï´¾ [النساء: 29].




وهو ما قررته السنة النبوية فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضى الله عنه قَالَ: " نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعِ الْحَصَاةِ وَعَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ ".[16]




كما وردت عدة نصوص نبوية تضمنت النهي عن آحاد الغرر، فمن ذلك بيع الحصاة الوارد في الحديث السابق وله صور كثيرة في تفسيره ترجع جميعا إلى الجهالة في المبيع، منها قول البائع: بعتك من هذه الأثواب ما وقعت عليه الحصاة التي أرميها، أو بعتك من هذه الأرض من هنا إلى ما انتهت إليه هذه الحصاة، أو بعتك على أنك بالخيار إلى أن أرمى بهذه الحصاة.[17]




ومن صوره بيع حبل الحبلة وقد منعته السنة النبوية؛ فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ حَبَلِ الْحَبَلَةِ وَكَانَ بَيْعًا يَتَبَايَعُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ كَانَ الرَّجُلُ يَبْتَاعُ الْجَزُورَ إِلَى أَنْ تُنْتَجَ النَّاقَةُ ثُمَّ تُنْتَجُ الَّتِي فِي بَطْنِهَا ". [18]




وعلة المنع هو جهالة المدة في البيع، قال الإمام مالك: " هذا الحديث أصل في النهى عن البيوع إلى الآجال المجهولة ".[19]



ومن صوره النهي عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا نَهَى الْبَائِعَ وَالْمُبْتَاعَ ".[20]




ووجه الغرر فيه هو احتمال طروء الهلاك على الثمار بسبب الجائحة، فيحصل الضرر للمشتري، وهذا ما ورد صريحا في حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضى الله عنه: " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى تُزْهِيَ "،فَقِيلَ لَهُ وَمَا تُزْهِي؟!، قَالَ: حَتَّى تَحْمَرَّ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " أَرَأَيْتَ إِذَا مَنَعَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ بِمَ يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ؟! ". [21]




ومن صوره بيعا المنابذة والملامسة فعن أبي سَعِيدٍ رضى الله عنه: " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ الْمُنَابَذَةِ وَهِيَ طَرْحُ الرَّجُلِ ثَوْبَهُ بِالْبَيْعِ إِلَى الرَّجُلِ قَبْلَ أَنْ يُقَلِّبَهُ أَوْ يَنْظُرَ إِلَيْهِ وَنَهَى عَنْ الْمُلَامَسَةِ وَالْمُلَامَسَةُ لَمْسُ الثَّوْبِ لَا يَنْظُرُ إِلَيْهِ ". [22]




يقول ابن بطال: " لا يجوز بيع الملامسة والمنابذة عند جماعة العلماء، وهو من بيع الغرر والقمار؛ لأنه إذا لم يتأمل ما اشتراه ولا علم صفته فلا يدرى حقيقته، وهو من أكل المال بالباطل، وكان مالك يقول: المنابذة أن ينبذ الرجل ثوبه وينبذ الآخر إليه ثوبه على غير تأمل منهما، ويقول كل واحد منهما لصاحبه: هذا بهذا ".[23]




والذي يستوقفنا ونحن نصغي إلى مضامين هذه الأحاديث هو اهتبال الرسول صلى الله عليه وسلم بالتنصيص على صور الغرر، رغم اندراجها جميعا تحته، ويشير النووي إلى حكمة ذلك؛ فيقول: " واعلم أن بيع الملامسة وبيع المنابذة وبيع حبل الحبلة وبيع الحصاة وعسب الفحل وأشباهها من البيوع التي جاء فيها نصوص خاصة هي داخلة في النهي عن بيع الغرر ولكن أفردت بالذكر، ونهي عنها لكونها من بياعات الجاهلية المشهورة، والله أعلم ".[24]




وفي تقديري أن سبب ذلك أيضا هو ترسيخ منع الغرر في النفوس بذكر آحاد صوره، حتى لا يفهم من سكوته جواز مثل هذه المعاملة، والحاصل أن الشارع حسم مادة الغرر في المعاملات، وخاصة إذا كان فاحشا، فنهى عن هذه البيوع، والعلة في المنع هو ما فيه من أكل لأموال الناس بالباطل، وهو ما يفضي إلى كثرة الخصومة التي تستتبع انتشار البغضاء والقطيعة، وهذا ما يستشف من حديث زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رضى الله عنه قَالَ: كَانَ النَّاسُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَتَبَايَعُونَ الثِّمَارَ فَإِذَا جَدَّ النَّاسُ وَحَضَرَ تَقَاضِيهِمْ قَالَ الْمُبْتَاعُ إِنَّهُ أَصَابَ الثَّمَرَ الدُّمَانُ أَصَابَهُ مُرَاضٌ أَصَابَهُ قُشَامٌ عَاهَاتٌ يَحْتَجُّونَ بِهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا كَثُرَتْ عِنْدَهُ الْخُصُومَةُ فِي ذَلِكَ: " فَإِمَّا لَا فَلَا تَتَبَايَعُوا حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُ الثَّمَرِ "كَالْمَشُورَةِ يُشِيرُ بِهَا لِكَثْرَةِ خُصُومَتِهِمْ. [25]




إذن، فالمقصد الخلقي حاضر معنا في هذا الضابط، وهو قطع دابر البغضاء، لأن فشوها في الأمة مؤذن بخرابها؛ لأنه يفضي إلى الاختلاف المؤدي إلى التقاتل والتهارج والتقاطع.




وقد جاءت الشريعة المحمدية بتثبيت أواصر الأخوة، وتوطيد علائقها، ودعت إلى حفظها من جهتي الوجود والعدم، فمن جهة الوجود أمرت بحقوق الأخوة والإحسان إلى الخلق ونحوها من الشرائع، ومن جهة العدم منعت كل وسيلة تفضي إلى الشحناء بين الناس، وهذا ما نستنبطه من تحريم الغرر، لأنَّه ذريعة إلى التنازع والتطاحن.




وانطواء القلب على البغضاء نقص في الدين، كما يدل عليه حديث الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ رضى الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ الْحَسَدُ وَالْبَغْضَاءُ هِيَ الْحَالِقَةُ لَا أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعَرَ وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا أَفَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِمَا يُثَبِّتُ ذَاكُمْ لَكُمْ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ ".[26]




إذن، فالتعامل المالي في السنة ليس عملية اقتصادية صِرْفَةً تتجرد عن القيم والأخلاق، ويقصد منها الربح على كواهل الخلق، بل المقصد من هذه الضوابط استحضار حقوق الأخوة، ومنع الإساءة إلى الخلق، ويتأكد الأمر إذا كان المتعامل مسلما، فهو قبل أن يكون مستثمرا هو مسلم له حقوق الأخوة، وندرك هذا المعنى الخلقي أكثر من خلال هذين المثالين:

الأول: ما جاء عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضى الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " مَنْ أَقَالَ مُسْلِمًا أَقَالَهُ اللَّهُ عَثْرَتَهُ".[27]




فالحديث يحض المسلم على إقالة أخيه، وذلك في حال ندمه على إبرام الصفقة، موعودا بهذا الثواب الجزيل، رغم أن البيع تم باتا ولا خيار للمبتاع في ذلك، ومع هذا فقد استحبت السنة الإقالة لما فيها من إحسان، وزيادة المحبة بين أهل الإيمان.




والثاني: ما جاء عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " لَا يَبِعْ الرَّجُلُ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ وَلَا يَخْطُبْ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ إِلَّا أَنْ يَأْذَنَ لَهُ ".[28]




فقد تضمَّن الحديث النهي عن البيع على البيع وهذا في حال تراكن المتعاقدين إلى بعضهما، ومكمن النهي هو إفضاؤه إلى البغضاء بين المسلمين.





وصفوة القول أن تحريم الغرر له مقاصد تشريعية من أهمها هذا المقصد الأخلاقي، وهو نفي البغضاء بين المستثمرين، وخاصة إذا كانوا مسلمين.



يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 42.19 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 41.56 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.49%)]