عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 24-03-2019, 04:38 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,922
الدولة : Egypt
افتراضي رد: أصول الأخلاق الإسلامية قصة يوسف عليه السلام أنموذجا

أصول الأخلاق الإسلامية قصة يوسف عليه السلام أنموذجا




أ.د. وليد بن محمد بن عبد الله العلي[(*) ]




المطلب الثالث


شكر الله على أياديه؛ ونسبة الفضل لمبتديه

إن من النماذج الأخلاقية المستوحاة من قصة نبي الله يوسف عليه السلام: شكر مولاه تعالى على نعمه الظاهرة والباطنة، والاعتراف بماله من الإنعام، فيقول بمعرض الثناء على آلائه؛ والشكر له على جميع نعمائه: {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آَبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ}[41]
وقد نسب إلى الله تعالى نعمة التعليم؛ التي تحف المنعم بها بالتبجيل والتكريم، {قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ}[42].
كما نسب إلى الله تعالى ما أنعم عليه به سائر النعم الدنيوية، وشكر هذه النعم في أن يسخرها المنعم عليه في مرضاة رب البرية، {قَالُوا أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}[43].
وقد جمع يوسف عليه السلام بين ذكر فضل الله عليه بالتعليم؛ وبين الاعتراف بما أسداه إليه الله تبارك وتعالى من الخير العميم، فقال: {رَبِّ قَدْ آَتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ }[44].
فيوسف عليه السلام قد ناجى (ربه بالاعتراف بأعظم نعم الدنيا؛ والنعمة العظمى في الآخرة، فذكر ثلاث نعمٍ: اثنتان دنيويتان وهما: نعم الولاية على الأرض، ونعمة العلم، والثالثة أخروية وهي نعمة الدين الحق المعبر عنه بالإسلام)[45].
فقول يوسف عليه السلام: {وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي}[46] فيه دلالة على (أنه ينبغي لمن أنعم الله عليه بنعمةٍ بعد شدةٍ وفقرٍ وسوء حالٍ أن يعترف بنعمة الله عليه، وأن لا يزال ذاكرًا حاله الأولى؛ ليحدث لذلك شكرًا كلما ذكرها)[47].
وفي ختام هذا المبحث الأول؛ وعن محتويات مطالبه أقول: هذه نماذج من تخلق يوسف الصديق عليه السلام مع ربه ومولاه، وأرفع ذلك تخلقه مع الله بالإحسان وهو عبادته تعالى كأنه يراه.

المبحث الثاني


نماذج من تخلق يوسف عليه السلام مع نفسه

إن هذه السورة الكريمة قد تجلت في آياتها الحسان أخلاق يوسف الصديق، وإن من مقامات التخلق هو: تخلق العبد مع نفسه ومجاهدتها على التحقيق، وبيان ذلك في المطالب الثلاثة الآتية:

المطلب الأول


الاستقامة في الصغر؛ والاستعصام في الكبر


إن من النماذج الأخلاقية المستوحاة من قصة نبي الله يوسف عليه السلام: هو نشأته المقترنة بعبادة الله سبحانه فان ممن آمن بربه تبارك وتعالى ثم استقام، قال تعالى: وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ)[48].
وإذا نشأ الشاب محاطاً بكنف شرع الله المصون: فهو ممن لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}[49].
ولما كان الله تعالى قد جعل الجزاء من جنس العمل: كان حفظ هذه الأعضاء من أثر حفظها من الزلل، فإذا حفظ العبد مولاه في صباه وفتوته: فإن الله يحفظه إذا استعرت نار شهوته، كما أخرج أحمد والترمذي من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: (كنت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا فقال: يا غلام؛ إني أعلمك كلماتٍ، احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت: فاسأل الله، وإذا استعنت: فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيءٍ: لم ينفعوك إلا بشيءٍ قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيءٍ: لم يضروك إلا بشيءٍ قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام؛ وجفت الصحف)[50].
(فكل من أحسن في عمله أحسن الله جزاءه، وجعل عاقبة الخير من جملة ما يجزيه به)[51]، وقد تجلى ذلك حين أدخل يوسف الصديق عليه السلام في كير المراودة فخرج ذهبًا أحمر، وقد انقشعت عنه دجم الفتن- ظلامها-، وظلم المحن وهو بفضل مولاه تعالى أقدر على دفعها وأصبر، يصدق ذلك قول امرأة العزيز: {فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ}[52].
قالت {فَاسْتَعْصَمَ}، والزيادة في المبنى: للزيادة في المعنى، فزيادة السين والتاء؛ لزيادة التمنع والإباء، فاللفظ (يدل على الامتناع البليغ والتحفظ الشديد، كأنه في عصمةٍ وهو يجتهد في الاستزادة منها)[53].
نعم؛ لقد عصم الله تعالى يوسف من الضلال؛ فاستعصم بلسان المقال ولسان الحال:
أما عن الاستعصام بلسان لمقال؛ فيتجلى في قوله تعالى عن الصديق: {قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ}[54].
وأما عن الاستعصام بلسان الحال؛ فيتجلى في قوله تعالى عن يوسف عليه السلام وامرأة العزيز: {وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ}[55].
وبهذا يكون يوسف عليه السلام قد اختار العقوبة الدنيوية؛ وآثرها بصبره واستعصامه على العقوبة الأخروية[56]، {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ}[57].
وهكذا (ينبغي للعبد إذا ابتلى بين أمرين- إما فعل معصيةٍ، وإما عقوبةٌ دنيويةٌ- أن يختار العقوبة الدنيوية على مواقعة الذنب الموجب للعقوبة الشديدة في الدنيا والآخرة[58]، وهذا مقام تذوق طعم الإيمان ووجد حلاوته لذا فهو يصبر صبر اختيار، لأنه يكره أن يجترح السيئات ويغشى الكبائر كما يكره أن يلقى في النار، كما أخرج البخاري ومسلمٌ عن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثٌ من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن أحل عبدًا لا يحبه إلا الله، ومن يكره أن يعود في الكفر- بعد إذ أنقذ الله-، كما يكره أن يلقي في النار)[59].
لذا؛ فإن البلاء (بمخالفة دواعي النفس والطبع: من أشد البلاء، فإنه لا يصبر عليه إلا الصديقون، وأما البلاء الذي يجري على العبد بغير اختياره؛ كالمرض والجوع والعطش ونحوها: فالصبر عليه لا يتوقف على الإيمان، بل يصبر عليه البر والفاجر، ولاسيما إذا علم أنه لا معول له إلا الصبر، فإنه إن لم يصبر اختيارًا: صبر اضطرارًا.
ولهذا كان بين ابتلاء يوسف الصديق صلى الله عليه وسلم لما فعل به إخوته من الأذى والإلقاء في الجب وبيعه بيع العبيد والتفريق بينه وبين أبيه؛ وابتلائه بمراودة المرأة وهو شابٌّ عزبٌ غريبٌ بمنزلة العبد لها، وهو الداعية له إلى ذلك: فرقٌ عظيمٌ؛ لا يعرفه إلا من عرف مراتب البلاء.
فإن الشباب داعٍ إلى الشهوة، والشاب قد يستحي بين أهله ومعارفه من قضاء وطره؛ فإذا صار في دار الغربة زال ذلك الاستحياء والاحتشام، وإذا كان عزبًا كان أشد لشهوته، وذا كانت المرأة هي الطالبة كان أشد، وإذا كانت جميلة كان أعظم، فإن كانت ذات منصب كان أقوى من الشهوة، فإن كان ذلك في دارها وتحت حُكمها بحيث لا يخاف الفضيحة ولا الشهرة كان أبلغ، فإن استوثقت بتغليق الأبواب والاحتفاظ من الداخل كان أقوى أيضًا للطلب، فإن كان الرجل مملوكها وهي الحاكمة عليه الآمرة الناهية كان أبلغ في الداعي، فإذا كانت المرأة شديدة العشق والمحبة للرجل قد امتلأ قلبها من حبة فهذا الابتلاء الذي لا يصبر معه إلا مثل الكريم ابن الكريم صلوات الله عليهم أجمعين.
ولا ريب أن هذا الابتلاء: أعظم من الابتلاء الأول، بل هو من جنس ابتلاء الخليل صلى الله عليه وسلم بذبح ولده، إذ كلاهما ابتلاءٌ بمخالفة الطبع ودواعي النفس والشهوة ومفارقة حكم الطبع جملة، وهذا بخلاف البلوى التي أصابت ذا النون صلوات الله وسلامه عليه، والتي أصابت أيوب صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين)[60].

المطلب الثاني


صدق البيان؛ وعفة اللسان

إن من النماذج الأخلاقية المستوحاة من قصة نبي الله يوسف عليه السلام: ما اجتباه به ربه تبارك وتعالى وهداه للصدق في الحديث والعفة في الكلام.
فأما صدق الحديث فقد شهدت به امرأة العزيز، وإنما كان الحق ما شهدت به الأعداء لأنه عزيزٌ، فقالت: {الْآَنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ}[61].
والصدق طمأنية للقلب وقرةٌ للعين، كما أنه منجاةٌ لصاحبة في الدارين، {قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}[62].
وقال كعب بن مالكٍ رضي الله عنه: (يا رسول الله، إن الله إنما أنجاني بالصدق، وإن من توبتي أن لا أحدث إلا صدقًا ما بقيت. قال: فوالله؛ ما علمت أن أحدًا من المسلمين أبله الله في صدق الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا أحسن مما أبلاني الله به، والله؛ ما تعمدت كذبه منذ قلت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا، وإني لأرجو أن يحفظني الله فيما بقي) أخرجه البخاري ومسلمٌ[63].
ومع صدق يوسف في البيان: فقد كان أيضًا عفيف اللسان، فهو يتنزه عن ذكر تفاصيل ما يستفحش وما يسوء من الكلام الذميم، إذا لم يذكر للعزيز تفاصيل مراودة امرأته وما كادته من الكيد العظيم، وإنما {قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي}[64].
فجرى يوسف عليه السلام عند ذكرها (على سجايا الكرام، بأن سكت سترًا عليها وتنزهًا عن ذكر الفحشاء)[65] والحرام.
وهذا خلق المصطفين الأخيار، وهدى عباد الله تعالى الأبرار، قال عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: (لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم فاحشًا ولا متفحشًا، وكان يقول: إن من خياركم أحسنكم أخلاقًا) أخرجه البخاري ومسلمٌ[66].

المطلب الثالث


ضبط النفس ساعة العتب؛ وكظم الغيظ عند الغضب

إن من النماذج الأخلاقية المستوحاة من قصة نبي الله يوسف عليه السلام: أن يتخلى المرء بإزار الحلم ورداء الأناة في المواطن التي هي مظنة الخصام، لاسيما في زمن تغير الأمور ووقت تبدل الأحوال وساعة تداول الأيام، قال تعالى: {وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58) وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ}[67].
فلم يعاجل يوسف عليه السلام إخوته وقد عرفهم بالعتاب، وإنما تملكه الحلم والأناة واستدرجهم لمراده بألطف الأسباب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأشج- أشج عبد القيس-: (إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة) أخرجه مسلمٌ من حديث عبد الله بن عباسٍ رضي الله عنهما[68].
ولقد أعطي يوسف (عليه السلام من الحلم والصبر والأناة ما تضيق الأذهان عن تصوره، ولهذا ثبت في الصحيح[69] من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي): يعني: الرسول الذي جاء يدعوه إلى الملك[70].
فثوب الصبر الذي كسا به يوسف الصديق النفس؛ بعد طول لبثها في السجن ومدة مكثها في الحبس: (دليلٌ على أن السعي في براءة العرض حسنٌ؛ بل واجبٌ)[71]، فيوسف عليه السلام أبي (أن يخرج إلا أن تصح براءته عند الملك مما قذف به؛ وأنه حبس بلا جرم)[72]، وقال لرسول الملك: {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ}[73].
فهذه من النماذج الأخلاقية المستوحاة من قصة نبي الله يوسف عليه السلام: وهو أن يجتهد المرء في طهارة عرضه فيرفع عن نفسه الريبة ويدفع عنها الاتهام.
ومن دلائل صبر يوسف عليه السلام: أن إخوته لما وجهوا إليه سهام الاتهام؛ حلم ورفق بهم، ولم يعاجلهم بالانتقام، وذلك حين {قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ}[74].
فحل عليهم وتأنى بهم ولم يفصح عن المقال؛ وذلك (للمصلحة التي اقتضت كتمان الحال)[75].
وعن معاذ بن أنسٍ الجهني رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من كظم غيظًا وهو قادرٌ على أن ينفذه: دعاه الله تبارك وتعالى على رؤوس الخلائق؛ حتى يخيره من أي الحور شاء) أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه[76].
فهذه الأخلاق الكريمة لا يمكن أن يتجمل بها الإنسان؛ إلا وقد اختصه الله سبحانه بالتقوى والصبر والإحسان، كما قال يوسف عليه السلام: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}[77].
وإنما قدم التقوى والصبر لأنه لابد (للإنسان من شيئين: طاعته بفعل المأمور وترك المحظور، وصبره على ما يصيبه من القضاء المقدور، فالأول: هو التقوى، والثاني: هو الصبر)[78]، وفي ذلك دلالةٌ على (فضيلة التقوى والصبر، وأن كل خيرٍ في الدنيا والآخرة فمن آثاره التقوى والصبر، وأن عاقبة أهلها أحسن العواقب)[79].
وإنما أخر الإحسان بعد ذكرهما؛ ثم أتى به في السياق على إثرهما: للتنبيه (على أن المنعوتين بالتقوى والصبر موصوفون بالإحسان)[80].
وفي ختام هذا المبحث الثاني؛ وعن محتويات مطالبه أقول: هذه نماذج من تخلق يوسف الصديق عليه السلام مع نفسه الكريمة، حيث تجلت في قصته- التي هي أحسن القصص- أخلاقه العظيمة.

المبحث الثالث


نماذج من تخلق يوسف عليه السلام مع الناس

إن هذه السورة الكريمة قد تجلت في آياتها الحسان أخلاق يوسف عليه السلام، فقد تضمنت محاسن خلقه مع الوالدين وتخلقه مع إخوته وتخلقه مع سائر الأنام، وبيان ذلك في المطالب الثلاثة الآتية:
المطلب الأول


التقرير للأبوين؛ والتوقير للوالدين

إن من النماذج الأخلاقية المستوحاة من قصة نبي الله يوسف عليه السلام: توقير الابن لأبويه عند مخاطبتهما والتلطف في النداء والأدب في الكلام، مصداق ذلك قوله تعالى: {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ}[81]، وقوله تعالى: {وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا}[82].
فإن مخاطبة الابن لأبيه بنظير هذه المخاطبة اللطيفة هي من موروثات التعليم؛ التي ورثها يوسف عن إبراهيم وإسماعيل عليهم أفضل الصلاة وأزكى التسليم، قال تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا}[83]. وقال تعالى: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِين}[84].
وهذه الآداب الرفيعة إنما يتوارثها الأبناء عن الآباء؛ أو يتلقاها الطلاب عن أساتذتهم بالإتباع والاقتداء، وهي من خفض جناح الذل للأبوين المقرون بالدعاء، قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَي ْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}[85].
ومما يدل في القصة على رحمة يوسف بأبيه وشفقته؛ قول يوسف عليه السلام في آخر مشاهدها لإخوته: {اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا}[86].
وهذا من بر الصديق بأبيه؛ ليفرج عنه كربه، لعلمه أنه بهذه (المدة لم يفارق الحزن قلبه، وهو دائم البكاء، حتى ابيضت عيناه من الحزن وفقد بصره، وهو صابرٌ لأمر الله، محتسب الثواب عند الله)[87].
وترشد الآيات الكريمات إلى خفض يوسف عليه السلام جناح الذل لوالديه، وهذا المشهد يتجلى ساعة دخولهما مصر حين آواهما ثم رفع على العرش أبويه، قال تعالى: {فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آَوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ (99) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ}[88].
وفي تقديم يوسف عليه السلام؛ الشمس على القمر في الكلام؛ فائدةٌ جليلةٌ تضاف لهذا المقام، فإن قوله لأبيه: {لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ}[89]: فيه دلالةٌ على تقديم حقِّ الأم على حق الأب، وأنه يصرف لها القدر الزائد من التقدير والحب، فقد (قال المفسرون: {الْقَمَرَ} تأويله: الأب، و{الشَّمْسَ} تأويلها: الأم، فانتزع بعض الناس من تقديمها وجوب بر الأم وزيادته على بر الأب[90].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (جاء رجلٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: ثم أمك. قال: ثم من؟ قال: ثم أمك. قال: ثم من؟ قال: ثم أبوك) أخرجه البخاري ومسلمٌ[91].

المطلب الثاني


الصفح عن الإخوة؛ وإن عظمت الهفوة

إن من النماذج الأخلاقية المستوحاة من قصة نبي الله يوسف عليه السلام: حسن تخلقه مع إخوته فلم يزل مستمسكًا بعروة الرحم التي ليس لها انفصام، فقد حظي إخوة يوسف عليه السلام ساعة قدومهم عليه بالحفاوة والإكرام، حيث اختص إخوته بنوعين من الإكرام وهما الإكرام الخاص والإكرام العام.
أولاً: الإكرام العام لهم جميعًا، قال تعالى: {وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ}[92].
فمعنى قول يوسف عليه السلام لإخوته: {وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ}: أي: المضيفين، وقول ذلك تحريضٌ لهم على الإتيان به، لا امتنان)[93]، وفيه دلالةٌ على (مشروعية الضيافة؛ وأنها من سنن المرسلين)[94].
ثانيًا: الإكرام الخاص بأخيه، قال تعالى: {وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آَوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[95].
وفي كلا الإكرامين: فقد أدخل يوسف عليه السلام إخوته (دار كرامته ومنزل ضيافته، وأفاض عليهم الصلة والإلطاف والإحسان)[96].
ولئن كان يوسف عليه السلام قد أحسن إلى إخوته بالإكرام؛ فقد فاق ذلك الإحسان وتجاوزه إحسانه إليهم في الكلام، إذ شنف آذانهم بالتلطف في العتاب، ولم يصم أسماعهم بالعنف في الخطاب، فقال لهم: {قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ}[97].
ولم يكتف بذلك حتى طهر بماء العفو، ما أصاب ثوب الأخوة من دنس الهفو، حين {قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آَثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91) قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}[98].
فتجاوز يوسف عليه السلام (عن ذنب إخوته؛ وبقاؤه عليهم؛ ومصافاته لهم: تعلمنا أن نغفر لمن يسئ إلينا، ونحسن إليه، ونصفي له الود، وأن نغضي عن كل إهانة تلحق بنا، فيسبغ الله تعالى إذ ذاك علينا نعمة وخيراته في هذا الدنيا؛ كما أوسع على يوسف، ويورثنا السعادة الأخروية.
وأما إذا أضمرنا السوء للمسيئين إلينا؛ ونقمنا منهم: فينتقم الله منا، ويوردنا مورد الثبور، فنعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا)[99].
ويتصف يوسف الصديق عليه السلام بخلق الصفح الجميل تحققًا؛ فلا يظهر العتب الشديد في هذا المشهد الأخير من قصته لا تصريحًا ولا تلميحًا ولا تلويحًا تأدبًا معهم وتخلقًا[100]، فيقول {يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي}[101].
فلم يقل يوسف عليه السلام: (أخرجي من الجب، حفظًا للأدب مع إخوته؛ وتفتيتًا عليهم أن لا يخجلهم بما جرى في الجب.
وقال: {وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ}، ولم يقل: رفع عنكم جهد الجوع والحاجة، أدبًا معهم.
وأضاف ما جرى إلى السبب؛ ولم يضفه إلى المباشر الذي هو أقرب إليه منه. فقال: {مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي}.
فأعطى الفتوة والكرم والأدب حقه، ولهذا لم يكن كمال هذا الخلق إلا للرسل والأنبياء صلوات الله وسلامة عليهم)[102].

المطلب الثالث


التخلق مع جميع الناس؛ أبهى الحلل وأزهى اللباس


إن من النماذج الأخلاقية المستوحاة من قصة نبي الله يوسف صلوات الله وسلامه عليه: هو تخلق المرء مع عموم خلق الله ممن يعرفه أو لا يعرفه وممن أحسن إليه أو أساء إليه، وقد تجلى هذا الهدي القويم في مواضع من هذه السورة الكريمة، فبان حسن خلق يوسف في مواطن من هذه القصة العظيمة.
فمن ناحية ما خص به يوسف عليه السلام صاحبيه في السجن من بذل النصيحة، فلئن كانت الهدية من حسن الخلق فإن أحسن ما يهدي تعليم العقيدة الصحيحة، فقال لهما: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}[103].
فمن النصح للسائل إذا كان (في حاجة أشد لغير ما سأل عنه: أنه ينبغي له أن يعلمه ما يحتاج إليه قبل أن يجيب سؤاله، فإن هذا علامة على نصح المعلم وفطنته، وحسن إرشاده وتعليمه، فإن يوسف لما سأل الفتيان عن الرؤيا: قدم لهما قبل تعبيرها دعوتهما إلى الله وحده لا شريك له)[104].
وهذا من حسن خلق يوسف عليه السلام في دعوته؛ أنه جعل (ذلك تخلصا إلى أن يذكر لهما التوحيد ويعرض عليهما الإيمان ويزينه لهما، ويقبح إليهما الشرك بالله.
وهذه طريقةٌ على كل ذي علمٍ أن يسلكها مع الجهال والفسقة؛ إذ استفتاه واحدٌ منهم أن يقدم الهداية والإرشاد والموعظة والنصيحة أولاً، ويدعوه إلى ما هو أولى به وأوجب عليه مما استفتى فيه، ثم يفتيه بعد ذلك)[105].
مع التأسي بيوسف عليه السلام في تقريب خطابه (مع أفهام العامة، إذ فرض لهما إلهًا واحدًا متفردًا بالإلهية- كما هو حال ملته التي أخبرهم بها-؛ وفرض لهما آلهة متفرقين كل إلهٍ منهم إنما يتصرف في أشياء معينةٍ من أنواع الموجودات تحت سلطانه لا يعدوها إلى ما هو من نطاق سلطان غيره منهم- وذلك حال ملة القبط- ثم فرض لهما مفاضلة بين مجموع الحالين: حال الإله المنفرد بالإلهية؛ والأحوال المتفرقة للآلهة المتعددين؛ ليصل بذلك إقناعهما بأن حال المنفرد بالإلهية أعظم وأغنى، فيرجعان عن اعتقاد تعدد الآلهة)[106].
وهذا يدل علي (أنه كما على العبد عبودية لله في الرخاء: فعليه عبوديةٌ له في الشدة، فيوسف عليه السلام لم يزل يدعو إلى الله، فلما دخل السجن استمر على ذلك، ودعا الفتيين إلى التوحيد، ونهاهما عن الشرك، ومن فطنته عليه السلام أنه لما رأى فيهما قابلية لدعوته؛ حيث ظنا فيه الظن الحسن قالا {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}[107]؛ وأتياه لأن يعبر لهما رؤياهما، فرآهما متشوفين لتعبيرها عنده: رأى ذلك فرصة فانتهزها، فدعاهما إلى الله تعالى قبل أن يعبر رؤياهما؛ ليكون أنجح لمقصوده، وأقرب لحصول مطلوبه، وبين لهما أولاً أن الذي أوصله إلى الحال التي رأياه فيها من الكمال والعلم: إيمانه وتوحيده؛ وتركه ملة من لا يؤمن بالله واليوم الآخر، وهذا دعاءٌ لهما بلسان الحال، ثم دعاهما بالمقال؟، وبين فساد الشرك وبرهن عليه، وحقيقة التوحيد وبرهن عليه)[108].
وإن من أخلاق يوسف الصديق عليه السلام: أنه لم يواجه صاحب السجن بالعتاب والملام، حين قال له: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ}[109].
ثم لما رأى الملك الرؤيا و(بدت حاجتهم إلى سؤال يوسف أرسلوا ذلك الفتى، وجاء سائلاً مستفتيا عن تلك الرؤيا، فلم يعنفه يوسف ولا وبخه لتركه ذكره، بل أجابه عن سؤاله جوابًا تامًّا من كل وجهٍ)[110]، {قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ}[111].
وهكذا (ينبغي للمسئول أن يدل السائل على أمرٍ ينفعه مما يتعلق بسؤاله، ويرشده إلى الطريق التي ينتفع بها في دينه ودنياه، فإن هذا من كمال نصحه وفطنته وحسن إرشاده، فإن يوسف عليه السلام لم يقتصر على تعبير رؤيا الملك، بل دلهم مع ذلك على ما يصنعون في تلك السنين المخصبات من كثرة الزرع وكثرة جبايته)[112].
وفي القصة ما يدل على حسن خلق يوسف الصديق عليه السلام؛ إذ لم يذكر لرسول الملك تفاصيل مراودة النسوة له عن نفسه بالحرام، وإنما آثر الستر عليهم في الجواب مع الاكتفاء بذكر مجمل الكلام، فقال له: مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ[113].
فيوسف عليه السلام قد (ذكر النساء جملة؛ ليدخل فيهن امرأة العزيز مدخل العموم بالتلويح، حتى لا يقع عليها تصريحٌ، وذلك حسن عشرةٍ وأدبٍ)[114].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يستر عبدٌ عبدًا في الدنيا إلا ستره الله يوه القيامة) أخرجه مسلمٌ[115].
وتدثر يوسف الصديق عليه السلام بحسن الخلق مع الآخرين كان في جميع أحواله على السواء، فلئن كان ما سلف منه قد وقع في حال الشدة فإن ما سيأتي لاحقًا جرى منه في حال الرخاء، حيث كان يباشر حوائج الناس بنفسه ويقضيها لهم ولم يكن ممن يحتجب عنه حاجة الضعفاء، قال تعالى: {وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58) وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ}[116].
فدخول إخوة يوسف عليه السلام عليه (يدل على أنه كان يراقب أمر بيع الطعام بحضوره، ويأذن به في مجلسه؛ خشية إضاعة الأقوات؛ لأن بها حياة الأمة)[117].
وعن معاذ بن جبلٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من ولي من أمر الناس شيئًا فاحتجب عن أولي الضعفة والحاجة: احتجب الله عنه يوم القيامة) أخرجه أحمد[118].
وبعد؛ فهذه نماذج مما (من الله به على يوسف عليه الصلاة والسلام من العلم والحلم ومكارم الأخلاق، والدعوة إلى الله وإلى دينه، وعفوه عن إخوته الخاطئين عفوًا بادرهم به وتمم ذلك بأن لا يثرب عليهم ولا يعيرهم به، ثم بره العظيم بأبويه وإحسانه لإخوته بل لعموم الخلق)[119].
يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 44.61 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 43.98 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.41%)]