ضمانات القرآن الذاتية
لعالمية رسالة محمد صلى الله عليه وسلم
د. راجح عبد الحميد سعيد "كردي بني فضل" ([·])
المطلب الرابع
خصوصية صلاحية مبادئه وأصوله التشريعية
ويمكن تفصيل هذه الخصوصية في النقاط الآتية:
1 - وحدة الأصول العامة للقرآن ووحدة مصالح البشر:
إن الأصول العامة التي يحملها القرآن، بما تحمل من فروع، وفيما يتعلق بالمصالح الإنسانية التي لا خلاف عليها بين البشر، والتي تعد من مطالبها الفطرية وحاجاتها الدائمة هو السر في صلاحية محتوى القرآن في معالجة النفس الإنسانية، وواقع الحياة الإسلامية، وفي أداء الدور العالمي للأمة المسلمة، بما يضمن عالمية الرسالة، وعالمية الوظيفة للأمة التي تحمل هذه الرسالة.
ثم إن ارتباط الأصول العامة والثابتة في هذا القرآن في حقائقها ومضامينها بالحاسة الفطرية للإنسان، هو الضامن لثباتها، وصونها من التحريف والتزييف الذي وقع للرسالات السابقة ولكتبها، مما يؤكد أن حفظ الله للقرآن، وحفظ ما فيه من محتويات ومضامين، ومقاصد وأصول، لهو خير ضمانة ذاتية لعالمية رسالته.
ثم إن خلود أصول المشكلات التي يعالجها القرآن يستدعي خلود النص أو خلود القرآن؛ لأنه "خطاب عالمي إنساني شامل، نزل ليرسم الطريق الصحيح للبشرية، ويعالج مشكلاتها، ويضع الحلول لها في كل زمان ومكان" ([42]).
2 - وحدة قاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
إن وجود قاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الثابتة بمجموع وسائلها؛ باللسان؛ فكرا وبيانا، ودعوة أمرا أو نهيا، وباليد؛ بالقوة بإقامة نظام الحسبة، وتطبيقات الشريعة داخل كيان الأمة المسلمة، وبقوة الجهاد في سبيل الله دفاعا عن الحق وعن رسالته، وبقوة التربية تحصينا للنفس عن استمراء الباطل، وبالثبات على الحق، كل هذا يشكل ضمانة عالمية لرسالة هذا القرآن؛ وذلك لأن هذه القاعدة في النهاية هي التي تحضن المنهج نفسه في ذاته بالدفاع عنه وعن ثباته وربانيته من عدوان الأعراف الدولية الباطلة، الداخلية والخارجية، ومن التقاليد الموروثة المستحكمة في النفوس، إذ لا تقر هذه القاعدة الضامنة عرفا يتعارض القرآن، ولا تقليدا لا تقبله الشريعة، ولا خلقا لا تقره الفطرة السليمة. أما إذا كان العرف الطارئ لا يتعارض مع نص القرآن ومطابقته للفطرة وانسجامه مع المعروف بين المؤمنين، فإنه يقبل، ولهذا يعد العرف "عنصرا هاما من عناصر التطوير في الاجتهاد التشريعي في الفروع، استجابة لمصالح الناس وفق اعتباره مصدرا تشريعيا تبعيا، وما ذلك إلا لأن غاية الشريعة من هذا القرآن هو "تأسيس نظام الحياة الإنسانية على المعروفات، وتطهيره من المنكرات" ([43])، وطالما أن الفطرة الإنسانية لا تتغير، فالتشريعات الإلهية الثابتة الصالحة تعد ضمانة عالمية لهذه الرسالة التي جاء بها القرآن.
كما أنه لا بد من الانتباه لحقيقة واضحة وهي أن هذه الشريعة لا تكتفي بأن تعدد ألوان المعروف، وألوان المنكرات، وتعرضها على الناس لتؤدي دورها الإنساني، وتحقق نزعتها الإنسانية، بل لا بد لها من رسم نظام للحياة في الأمة بأسرها، ليطبق كل معروف في هذه المنظومة من المعروفات في كل شعبة من شعب الحياة الإنسانية، وليحارب المنكر بكل لون من ألوانه، مما يعزز بقاءها ويضمن عالمية رسالتها ([44]).
ولا بد أن نفهم هذا التطور التشريعي في النظرة إلي العرف أيضا هو ضمانة للعالمية، وأنه من فهم للشريعة التي قررها القرآن للبشر وأنه قد جعلها على نوعين من التشريعات ([45]):
أولها: تشريعات مفصلة تفصيلا كاملا في الأمور الثابتة التي لا تتغير، ولا تتأثر بما يستجد في حياة الناس، مثل شعائر التعبد، والحدود، وعلاقات الجنسين، وأحكام الأسرة، وأحكام الولاء والبراء، والعلاقات مع غير المسلمين.
وثانيها: تشريعات مجملة تتناول الأصول العامة للتشريع، دون الدخول في التفصيلات، لأمور يعلمها الله تعالى، وهي تتغير وتتأثر بما يحصل من تغيير في الأزمان، والبيئات، والمدخلات، والمتغيرات في الأعراف المتجددة غير المصادمة للشرع، وأشياء كثيرة أخرى، منها: لم تكن عند نزول القرآن، فهذه التشريعات العامة وضع لها من المبادئ العامة التي تستوعب في داخلها كل المتغيرات، بما يجعلها متوافقة مع هذه المبادئ. فمثلا الشورى مبدأ من الأصول العامة، ولكن تطبيقاتها مختلفة، ومتباينة حسب التطورات البشرية في التنظيمات الإدارية، وبهذا تتسع الشريعة للحياة الإنسانية بما يضمن عالمية هذه الرسالة.
3 - غنى المصادر التشريعية وخلودها وخلود مشكلات الإنسان:
إن غنى هذه المصادر التشريعية أصلية وتبعية، ووفرة مبادئها وأصولها، وشمولها، وجديتها في الحياة، وواقعية تطبيقاتها، يجعل لها الضمانة الكبرى في عالمية رسالتها، وخصوصا بعد أن أوقف الله تعالى نسخ الشرائع بعد ختم النبوة بمحمد صلى الله عليه وسلم، وثبت شريعة واحدة إلى قيام الساعة ([46]).
وثمة ملاحظة أخرى لا بد من تجليتها وهي أن القرآن قد قدم شريعة خالدة لتناسب فطرة الإنسان الثابتة، وبالتالي خلد قضاياه ومشكلاته من خلال تخليد الشريعة التي تعالج قضايا الحياة الإنسانية، وتحل مشكلاتها. وكما ضمن جعل الشريعة للإنسان ضمانة عالمية الرسالة له، من زاوية الامتداد إلى الأمام من أجل خلود الرسالة، فقد أزاح النص القرآني عن نفسه تثبيت الحكم الشرعي في الحالة الزمنية المستدعية لنزول المعالجة لتلك الحالة، بالقاعدة الأصولية في فهم النص تفسيرا، وفي فقه النص تنزيلا علي الواقع، تلك القاعدة العامة القائلة: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ([47]). وهذا طبعا في الآيات التي لها سبب نزول، وهي ليست الأكثر في آيات القرآن. ولكن ما قيمة سبب النزول وما حكمته حينئذ؟ إن قيمته تكمن في أنه مفتاح لكنز من المعلومات، الذي ينساب مع هذا السبب، "وهذا الكنز من المعلومات الذي انفتح لنا بسبب سؤال فلان أو حال فلان، أو تطلب الوضع لحل، هو الذي جاء بهذه الخيرات لها. ولذلك لا ينظر لسبب النزول إلا كأنه نوع من السبب الأدنى لهذه المعاني التي جاءت كلها، ذلك أن البشرية لن تخلو على امتداد الزمن من نفس الحالات البشرية التي رأيناها خلال ربع قرن ([48]) من التنزيل. وهذا يعني أنه لا تعارض بين سبب النزول وبين خلود القرآن وعالمية رسالته؛ فسبب النزول ما هو إلا تطبيق حيوي واقعي، على حالة إنسانية واقعية من خلال تمثيلها في فرد واحد منها زمن نزول القرآن، مما يعني عالمية القضايا التي نزلت الآية لتعالجها؛ لامتداد حاجة الإنسان إلى مثل هذه المعالجة، وامتداد خلود نص القرآن. وفي هذا الموضوع ما فيه من فهم دقيق لضمانة نص القرآن فهما وتطبيقا لعالمية هذه الرسالة.
4 - ثبات النفس الإنسانية وخلود الحل:
إن في حقيقة النفس الإنسانية التي تتعامل معها مبادئ الشريعة وأصولها وفروعها ما يساعد على قبول عالمية خطاب القرآن الكريم ذلك: "أن في النفس الإنسانية وفي الحياة الإنسانية أصولا ثابتة على الرغم من جميع الأوضاع والأشكال المتغيرة (...)، إنما ينال التجدد والنمو والتغيير والتعقد والتركيب أشكال الحياة لا أصول الفطرة الإنسانية، ولا سنن الحياة البشرية. ومن ثم فإن التصور الإسلامي الثابت المقومات يقابل الفطرة الإنسانية الثابتة المقومات، والحياة الإنسانية الثابتة السنن" ([49]).
ومن هنا نجد قصص القرآن ترسخ هذا المعنى لمفهوم عالمية الرسالة، ذلك أن ما في هذه القصص من العبرة والعظة إنما هي دروس للإنسان إلى قيام الساعة. فالقرآن بما فيه من القصص للأمم السابقة فيه ضمانة من ضمانات العالمية، لأن في القصص تواصلا حضاريا للشعوب والأمم، قال تعالى: (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ) (فاطر: 24). فقصصه في التاريخ الحضاري ملك للشعوب القائمة، وانعاش لذاكرتها التاريخية لصراع بين الحق والباطل لأسلافها من الأقوام والبشر مع الأنبياء والرسل وأتباعهم، وهو شهود حضاري في التواصل مع أحفاد هذه الشعوب والأقوام والأمم والبشر إلى قيام الساعة في دعوتها إلى الحق.
وعلى هذا فالقرآن "عالمي ورسالته خاتمة، وله علاقة في الزمان الماضي والحاضر والمستقبل، وله بعد في المكان بحيث يشمل الأرض كلها، ولا بد من معرفة حال المخاطبين، ومعرفة التاريخ الذي يشكل مرآة حياتهم. فنظرة المسلم لا بد أن تكون إلى العالم كله، يستقرئ تاريخه، ويقرأ حاضره ليتمكن من أداء مهمته في الشهود الحضاري الذي يمكن أن نسميه الشهادة على الناس، والقيادة لهم" ([50]).
وكما يقول الغزالي: "القصص في القرآن أوسع أبواب الكتاب الكريم؛ لأن هذا القصص هو ماضي الإنسانية، ولو فقدت أنا ذاكرتي كون نصف مجنون، وسينتهي الأمر بي إلى الجنون. والإسلام اعتبر أن التاريخ الماضي هو عقل الإنسانية، فاستصحبه بكل ما فيه، والقرآن الكريم ذكر الحضارات الماضية، وذكر الأمم الأولى، وذكر أسباب الازدهار، وأسباب الانهيار" ([51]) وفي الإشارة إلى ذلك قال سبحانه وتعالى: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (يوسف: 111). وقال تعالى: (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ) (الحشر: 2). وقال تعالى: (إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى) (الأعلى: 18-19).
المطلب الخامس
خصوصية نزعته الإنسانية ([52])
1 - إن من خصوصيات القرآن الكريم: أنه إنساني النزعة في مضمومنه لما تتطلبه البشرية في معتقداتها وبمبادئها وتشريعاتها وأخلاقها. لذلك زخر القرآن الكريم بندائه الإنساني، كما في قوله تعالى: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (الأعراف: 158) وقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (سبأ: 28)، وهذا ضمانة للعالمية فهو لم يتعامل مع شعب معين، أو قوم معينين، في زمان معين، أو مكان مخصوص، حتى الجيل الأول من النسان الذين خاطبهم من العرب، وخاطبهم بلغتهم وبلسان عربي مبين، فلم يجعل هذا الخطاب خاصا بهم، وان خاطبهم بلغتهم، وإنما حملهم المسؤولية العالمية؛ لنزول القرآن الكريم بلغتهم، ليقوموا بوظيفة الشهادة مع رسولهم في إقامة الحجة على الناس، بل لم يجعل لهم ذكرا عالميا إلا بالقرآن، قال تعالى: (لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) (الأنبياء: 10). فعروبة القرآن بلغته وبرسالته، وعروبة القوم برساليتهم، وليس مجرد تكريم خاص بهم، ولا قصرا للرسالة عليهم، وان كان قد شرفهم أن الله أنزل القرآن بلغتهم، وجعل خاتم رسله منهم، قال تعالى: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِين َ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) (التوبة: 128).
2 - ومقوم الإنسانية في الكتاب الكريم ضمانة عالمية تمثل قطبا ثانيا في حقيقة الرسالة وحيويتها بعد قطبها الأول وهو الربانية؛ لأن توحيد الألوهية والعبودية لازم توحيد الربوبية، المشعر بوظيفة الإنسانية، فالرسالة منطلق الإيمان برب واحد، واله معبود واحد، من إنسان عابد، وبالتالي فإن عالمية الرسالة لا تقوم على تناقض أو صراع بين الربانية والإنسانية، فليس الإنسان المخلوق ندا لله الخالق، بل هو مكلف بالعبادة والاستخلاف في الأرض، وهذا التكريم ممنوح له من خالقه الذي خلقه وأهله ([53]). قال سبحانه وتعالى: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا) (الأحزاب: 72)، وقال تعالى: (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) (ص: 26)، وقال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات: 56)، فالإنسان هنا رباني، ذلك أنه "لا يستطيع أن يكون ربانيا حقا دون أن يكون إنسانا، كما لا يستطيع أن يكون إنسانيا حقا دون أن يكون ربانيا ([54]).
3 - ولذلك فان الله تعالى الذي اكرم هذا الإنسان بجوهرة وجوده وبما يميزه عن غيره من المخلوقات وهو العقل، قد جعل منهجه - وهو القرآن - دليلا عقليا علي صحة الرسالة وعالميتها، إذ جعل من القرآن منهجا يخاطب العقل الإنساني عامة، وجعله معجزة عقلية خاتمة خالدة دليلا على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، أي جعله دليلا عالميا-عاما خاتما خالدا-. وهو باعتباره خطابا للعقل يعد ضمانة عالمية للرسالة، كما هو في الوقت ذاته باعتباره معجزة ودليلا عقليا، يعد ضمانة عالمية للرسالة أيضا. كما جعل لهذا العقل اعتباره فهو الذي يثبت إمكان الوحي، وثبوت النبوة والرسالة، أي وقوعها بالفعل لنبي الرسالة العالمية، وهو رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم. والعقل الإنساني بعد ذلك لا بد أن يسلم للرسول بما يخبر به؛ لأنه صدقه بنبوته، والا كان العقل متناقضا مع نفسه.
والعقل - أيضا - هو الذي يميز بين البرهان الحقيقي على النبوة، وهي المعجزة، وبين غيرها من الغرائب، كما أنه هو الذي يعرف دلالة المعجزة على صدق النبي. وهو من الناحية التطبيقية الذي يأخذ الأصول من القرآن، ويجتهد بالتفريع عليها وهو يقف إلى جانب الشرع في الخروج من دائرة الخلاف بالقياس والتأصيل والفهم والتطبيق.
المطلب السادس
خصوصية وحدة الخطاب القرآني وتجرده ([55])
إن القرآن كلمة الله النهائية للبشر، ولم يكن لمجتمع الجزيرة العربية وحدها، ولا لزمن الرسول صلى الله عليه وسلم وحده، ولا لأي بيئة بشرية أو محدودة فهو "للعالمين". وهو لفظ يشمل الزمان والمكان على أقصى اتساع، وبلا حدود، وقد وضع التشريعات الثابتة في الأمور الثابتة في أعماق الفطرة التي لا تتغير، وترك للعقل أن يجتهد في الشريعات التفصيلية التي تتغير بتغير الظروف والبيئات وفق أصول المبادئ الثابتة؛ مما يحقق ثبات التأصيل، ومرونة التفريع ([56]). قال تعالى: (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا) (الفرقان: 1).
إن منطق القرآن ذاتي وواحد في مخاطبته للإنسان، وجاء "ليفرض تصوره في شؤون حياتهم كلها، وهذا الوضع مستمر ودائم، ليس موقوفا بزمان، ولا مرهونا بمكان، ولا مقيدا ببيئة، ولا محددا بفترة من فترات التاريخ" ([57]). وهذا في حد ذاته ضمان للعالمية؛ أنه لا تغيير ولا تبديل، ولا تراجع ولا تقلب في هذا التصور، فلو كانت هذه العقيدة من صياغة بشر، فرد أو جماعة أو طبقة، أو أصحاب مصلحة فهي في النهاية لا تصلح للعالمية؛ لأنها مستمدة من "جهل الناس وتصور الناس، وشهوات الناس" ([58])، مهما زعم الناس العلم والقوة والتجرد، لكنهم لا يمكنهم الخروج عن طبيعتهم، فعلمهم ناشئ بعد جهل، ولا يزعمون العلم المطلق، ولا الكمال المطلق، ولا التجرد المطلق، ولا النزاهة المطلقة، وبالتالي فلا تدوم معرفتهم، ولا علومهم، ولا تصلح في كل زمان ومكان، ونهايتها كما يقول سبحانه وتعالى: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ) (الجاثية: 23)، ويقول: (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ) (المؤمنون: 71)، "وهكذا يمكن القول باطمئنان: "إن التصور الإسلامي هو التصور الوحيد الذي بقي قائما على أساس التوحيد الكامل الخالص، وإن التوحيد خاصية من خصائص هذا التصور وتفرده وتميزه من بين سائر المعتقدات السائدة في الأرض كلها على العموم" ([59])، ماضيا وحاضرا ومستقبلا، مما يؤكد كونه ضمانة لعالمية رسالة الإسلام بمفهومها الأصيل، ولمفهوم حقيقة الألوهية والعبودية، والممتد عبر هذه الرسالة إلى قيام الساعة.
وهذا يستدعي - في الوقت ذاته - أن يكون واضحا لمن يحمل هذه الرسالة، ولمن يخاطب بها تأثير هذه الرسالة العالمي الإنساني الكبير في إقامة الحجة على البشرية، وفي سد حاجاتها، وسعادتها في دنياها وأخراها، إذ من ثمار معرفة هذه الحقيقة: ما يضمن للإنسانية سعادتها ([60])، من معرفة غاية الوجود الإنساني المتمثل في قوله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات: 56)، واهتداء الفطرة إلى الله تثبيتا للأيمان الفطري، وإخراجا له من إيمان الفطرة المستكين في أعماقها إلى إيمان الوعي، والعمل بمقتضى هذا الإيمان من عبادة لله سبحانه.
إن هذه الفطرة المخلوقة لله فيها فراغ لا يملؤه إلا الإيمان بالله، كما يقول ابن القيم رحمه الله:
"في القلب شعث لا يلمه إلا الإقبال على الله، وفيه وحشة لا يزيلها إلا الأنس به في خلوته، وفيه خزن لا يذهبه إلا السرور بمعرفته، وصدق معاملته، وفيه قلق لا يسكنه إلا الاجتماع عليه، والفرار إليه، وفيه نيران حسرة لا يطفئها إلا الرضى بأمره ونهيه، وقضائه، ومعانقة الصبر على ذلك إلى وقت لقائه، وفيه طلب شديد لا يقف دون أن يكون هو وحده مطلوبة، وفيه فاقة لا يسدها إلا محبته والإنابة إليه، ودوام فكره وصدق الإخلاص له. ولو أعطي الدنيا وما فيها لم تسد تلك الفاقة منه أبدا" ([61]).
كما أن من ثمار معرفة هذه الحقيقة سلامة النفس من التمزق والصراع بين شتى المذاهب والفرق والأديان وأهواء الإنسان؛ لأن عقيدة التوحيد تمنح النسان يقينا بأن لا رب يخشى من سخطه، ويرجى رضاه، ويتوكل عليه، ويناب إليه، ويؤاب إليه، ويتودد إليه، ويحتكم إليه، ويعتصم به، إلا الله وحده لا شريك له.
كما أن من ثمارها التحرر من العبودية للهوى والشهوات والأنانية والمصالح؛ لترتاح في ظل عبادة الله وحده لا شريك له في مختلف شؤون حياتها، مما يعكس وحدة المرجع في الأخذ والتلقي، ووحدة في العطاء في التوجه والقصد، ووحدة الأداء في السلوك والقيم، ووحدة الطريق والتشريع، والشعيرة، ووحدة الذكر بالتسبيح بحمده وحده، بما ينسجم مع وحدة تسبيح الكون كله بحمده سبحانه، قال تعالى: (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا) (الإسراء: 44).
المبحث الثاني
مقاصد القرآن وضمانة العالمية
القرآن بما هو كتاب الله أنزله للناس كافة، له مقاصده الكبرى لحياة هذا الإنسان، كما أن له موضوعاته الكبرى التي جاء يعالجها كذلك. ونظرا لخاتمية هذا الكتاب، وخاتمية رسالة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم فقد جعل الله تعالى في مقاصده وموضوعاته ما يكفل عالمية هذه الرسالة.
المطلب الأولى
أهم مقاصد القرآن وضمانة العالمية
المقصد الأول - القرآن الكريم هو الكتاب الحق للناس:
القرآن الكريم كتاب الله الحق الخاتم لكتبه، نزل بالحق، وهو يقين لا ريب فيه، حق لا باطل معه، قال تعالى: (وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآَمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ) (محمد: 2)، وقال تعالى: (اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ) (الشورى: 17)، وقال تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) (الزمر: 41). ولا يملك عاقل أن ينكر وجوده وتواتره، كما لا ينكر عاقل أن أهدافه كما يحويه مضمونه إخراج الناس من ظلمات الجاهلية والكفر إلى نور الإسلام وهداية اليمان. وهو بهذا الصدق والأحقية واليقين والأهداف والمحتوى يحمل في ذاته ضمانة عالميته، عموما في الخطاب للناس كافة، وخاتمية في الخطاب للناس فلا خطاب بعده، وخلودا في الخطاب في كل زمان ومكان إلى قيام الساعة، وشمولا في قضاياه ومحتوياته؛ إيمانا، وعبادة، وتشريعا، وأخلاقا، بما يلبي حاجة الإنسان من خلجة الوجدان إلى أعقد صور العلاقات الدولية مع العالم. وفيه من القواعد الحقة، والأسس الثابتة ما تسمح باستيعاب حركة العصر وما يستجد من القضايا في حياة الإنسان، بما لا يملك إنسان على وجه الأرض أن يزعم أنه لا يجد فيه حلا لمشكلته، ولا حكما لمسألته.
وكل هذا ضمان لعالمية الرسالة التي جاء بها هذا القرآن على خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم، تحمل دعوة الحق، وتبطل زهق الباطل، قال تعالى: (وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا) (الإسراء: 81).
المقصد الثاني - القرآن كتاب الهداية لشاملة الدائمة للناس، وكتاب الفصل والبيان:
وصف الله تعالى هذا القرآن، بأنه الهداية الشاملة والدائمة للبشر، وفضل آياته وبينها، ووضحها بما لا غموض فيها قال تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) (البقرة: 185)، وقال تعالى: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا) (الإسراء: 9)، وقال تعالى: (ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) (البقرة: 2)، وقال تعالى: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ) (النحل: 89)، وقال تعالى: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (النحل: 44)، وقال تعالى: (وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (النحل: 64)، وجعل القرآن بيان آياته للناس لعلهم يتفكرون، ويتذكرون، ويهتددن، ويعقلون ويشكرون ([62]). وقال تعالى: (لَقَدْ أَنْزَلْنَا آَيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (النور: 46)، وقال تعالى: (قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (الأنعام: 97)، وقال تعالى: (كِتَابٌ فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (فصلت: 3).
المقصد الثالث - القرآن كتاب العبادة:
القرآن: قراءته عبادة، والاستماع لتلاوته عبادة، وتطبيق أحكامه عبادة، واذا قرأنا آيات القرآن وجدنا فيها هذه المقاصد من وجوه العبادة: قال تعالى: (وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا) (المزمل: 4)، وقال تعالى: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (الأعراف: 204)، وقال تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا) (النساء: 105)، وقال تعالى: (ِإنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (يوسف: 40).
والقرآن أحكامه شاملة أمرا ونهيا في كل شؤون حياة الإنسان، فرديا وجماعيا، وتشريعا، مالا واقتصادا، وأسرة، وأمة، وسياسة وحكما، وخلقا وسلوكا، وعادات ولباسا ومطعما ومشربا إلى غير ذلك من وجوه العمل وكلها عبادة، قال تعالى: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) (النساء: 65)، وقال تعالى: (وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا) (الرعد: 37)، وقال تعالى: (إنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (يوسف: 40).
المقصد الرابع - القرآن كتاب الشفاء والرحمة والبشرى:
البشرية بعيدة عن منهج ربها مريضة بفكرها وعقائدها وسلوكها وأخلاقها، فلا شفاء لها إلا بالقرآن. وهي في حالة شدة وقسوة، والقرآن رحمة الله بها في دنياها وآخرتها، لأن الأقبال عليه والعمل به رحمة وسعادة، كما أن الإعراض عنه شقاء في الدنيا والآخرة، قال تعالى: (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) (طه: 123-124). كما أن آياته منذرة للناس من سوء عاقبة الضلال، مبشرة لهم بالخير في دنياهم وآخرتهم قال تعالى: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا) (الإسراء: 82)، وقال تعالى: (وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (الأنعام: 155)، وقال تعالى: (فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ) (الأنعام: 157)، وقال تعالى: (وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (يوسف: 111)، وقال تعالى: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ) (النحل: 89).
المقصد الخامس - القرآن كتاب العلم والتزكية والحكمة:
جعل الله تعالى القرآن فيما أنزله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم تعليما للناس علم الحكمة وهو ما ينفعهم، وتزكية لأنفسهم، وتطهيرا لواقعهم، قال تعالى: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) (الجمعة: 2)، وقال سبحانه: (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (البقرة: 129)، ووصف الله تعالى القرآن بأنه الحكيم ففال تعالى: (يس (1) وَالْقُرْآَنِ الْحَكِيمِ) (يس: 1-2)، وقال سبحانه: (تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ) (لقمان: 2).
فالقرآن هو الذي دفع العرب ليخرجوا من أميتهم ليتعلموا الكتاب ويقرؤوه ويكتبوه ويحفظوه. ويعلق على هذه الآيات السيد محمد رشيد رضا ([63]) فيقول: "فآياته المتلوة هي سور القرآن، المرشدة إلى سنته في الأكوان، والتزكية هي التربية بالعمل وحسن الأسوة، والكتاب هو الكتابة التي تخرج العرب من أميتهم، والحكمة هي العلوم النافعة الباعثة على الأعمال الصالحة" ([64]).
المقصد السادس - القرآن كتاب الذكرى والتذكير والعبرة والعظة:
فهو يدعو إلى ذكر الله، ويذكر الناس بما ينفعهم؛ وإن مادة الذكر في القرآن جاءت في آياته بمختلف صيغها ودلالتها في مائتين وستة وستين موضعا ([65]).
وأما ما يدل على أن هذا القرآن ذكر ففي قوله تعالى: (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ) (يوسف: 104)، وقوله تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر: 9).
وهو ذكرى، كما قال سبحانه: (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ) (الأنعام: 90).
وفي قصصه العظة والعبرة بما يضمن للأجيال التي نزل عليها، وللأجيال القادمة من البشر أن يتعظوا بما فيه من سنن الله في إدارة شؤون صراع أهل الحق مع أهل الباطل، فإن السنن جارية ومحكمة، وان اختلفت شخوصها وأوقاتها، قال تعالى: (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ) (الحشر: 2)، وقال تعالى: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ) (يوسف: 111)، وقال تعالى: (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (البقرة: 331)، وقال سبحانه: (هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) (آل عمران: 138)، وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ) (يونس: 57).
والأمة التي تؤمن بهذا الكتاب أو الذكر يضمن الله تعالى لها ذكرا ووجودا دائما قال تعالى: (لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) (الأنبياء: 10).
ولهذا أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالاستمساك بهذا القرآن لأنه الصراط المستقيم، وجعله ذكرا يحفظ الأمة المسلمة إن هي استمسكت به ودعت إليه، قال تعالى: (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إلَيْكَ إنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) (الزخرف: 42).
المقصد السابع - القرآن يقصد إحقاق الحق وإبطال الباطل في سنة التدافع:
نعلم أن الله سبحانه وتعالى خلق الانسان ليكون في الأرض مستخلفا، وبعبادة الله عز وجل قائما، يقود مركبة الحق والخير، وجعل الشيطان عدوا للحق، ولهذا الانسان، وزعيما للبشر، وجعل الصراع بين الحق والباطل سنة من سننه، بصدد تمحيص هذا الانسان، قال تعالى في وصف ما أقسم الشيطان على فعله: (قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ ومِنْ خَلْفِهِمْ وعَنْ أَيْمَانِهِمْ وعَن شَمَائِلِهِمْ ولا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ) (الأعراف: 16-17)، وحذر الانسان من كيده بقوله: (يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) (الأعراف: 27). وجعل الله عز وجل في البشر أنبياء ورسلا على مر تاريخ البشرية ليجددوا مبادئ الخير في صراعه مع الشر، وفي سنة التدافع المستمرة والدائمة حتى يرث الله الأرض ومن عليها كما قال سبحانه: (قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ولَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ ومَتَاعٌ إلَى حِينٍ (24) قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وفِيهَا تَمُوتُونَ ومِنْهَا تُخْرَجُونَ) (الأعراف: 24 - 25).
ولقد دعم الحق فطرة الخير لدى الإنسان بالنبوات كلما استجاب لإضلال الشياطين، كما قال عليه الصلاة والسلام فيما يروى عن ربه في الحديث القدسي: يقول الله تعالى: "خلقت خلقي حنفاء، فاجتالتهم الشياطين" ([66]). وأحيا سبحانه سنة التدافع، وعدها ثابتا من ثوابت الحياة البشرية قال سبحانه: (ولَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ ولَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى العَالَمِينَ) (البقرة: 251). وقد أخذ الشيطان على نفسه عهدا أن يضل الانسان، الا من رحم ربي ممن وصفهم الله تعالى بعباده المخلصين في قوله تعالى: (إلاَّ عِبَادَ اللَّهِ المُخْلَصِينَ) (الصافات: 160) فأمر الشيطان أتباعه باتباع الهوى، وأرضاهم بحكم الطاغوت، ومناهم ووعدهم وغرز بهم، وأضلهم عن ذكر الله وما أنزل من الحق على أنبيائه ورسله، فأفسدوا أديانهم، وحرفوا كتبهم، وعبدوا هواهم و: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ ورُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ) (التوبة: 31)، فعمتهم الجاهلية؛ جاهلية الفكر والاعتقاد، وجاهلية التنظيم والتشريع والأوضاع، وجاهلية الأخلاق والقيم والسلوك حتى لم يبق على وجه الأرض بين يدي بعثة محمد صلى الله عليه وسلم على الحق إلا بقايا قليلة من أهل الكتاب، كما قرر عليه الصلاة و السلام ذلك في قوله: "إن الله نظر إلى أهل الأرض عربهم وعجمهم فمقتهم إلا بقايا من أهل الكتاب" ([67])، فبعث الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم خاتما للأنبياء وأنزل عليه القرآن، وجعل الصراع مع الباطل والجاهلية عالميا عالمية خلود الجاهلية، وبالتالي كان هذا القرآن خالدا خلود سنة التدافع بين الحق والباطل، وبين الخير والشر، وبين الهدى والضلال، ليحسم الله المعركة لصالح الإسلام والخير والحق والهدى كما وعد بناء على هدي هذا القرآن، قال تعالى: (يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ واللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ ولَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ) (الصف: 8). وقال تعالى: (ويُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ ويَقْطَعَ دَابِرَ الكَافِرِينَ) (الأنفال: 7).
المطلب الثاني
موضوعات القرآن وضمانة العالمية
يحتوي القرآن الكريم في آياته الدين الالهي الكامل التام الذي رضي الله به للبشرية كافة، وهو دين الاسلام، ورسالة محمد صلى الله عليه وسلم العالمية. وهو بمحتوياته وموضوعاته يمثل هذا الوضع الالهي الذي يسوق البشر إلى الإيمان بالله وتوحيده وعبادته، فيما يلبي حاجة البشرية من سعادتها في دنياها وآخرتها. ومقومات هذه المحتويات تحمل في ذاتها عالمية هذه الرسالة، وتجملها كبرى الموضوعات التي جاء بها القرآن فيما يأتي:
الموضوع الأول - الإيمان بتوحيد الله وتنزيهه:
جاء القرآن بما يحسم الخلاف في توحيد الله وتنزيهه؛ فقد غلب التشبيه على اليهود في كتبهم كما قال الشهرستاني: "إن التشبيه فيهم طباع" ([68])، فأساءوا إلى تنزيه الله تعالى، حتى زعموا أن يعقوب صارع الرب فصرع يعقوب الرب. والنصارى جددوا من عهد قسطنطين الوثنية، وغير بولس - وهو شاؤل - وكان من أحقد طبقات الفريسيين اليهود الحاقدة على النصرانية، وكان هو شخصيا عدوا لدودا للنصارى؛ يعذبهم، ويعمل لرجمهم، وجلدهم، وقتلهم، تحول في يوم وليلة، وزعم أن نورا أضاء له في طريق دمشق، وفقد بصره، وأنه كلمه المسيح أن يذهب إلى يوحنا حتى يعيد له بصره، ومن لحظتها أصبح مسيحيا، صاغ عقائد وثنية في بنوة المسيح لله! - حاشا لله- وألف له لوقا أعمال الرسل في منتصف القرن الأول الميلادي، وفيها عقائد جديدة وثنية لا علاقة لها بالمسيح عليه السلام؛ فبولس لم ير المسيح، ولم يعاصره، ولم يشاهد المسيح واحد ممن كتبوا تلك الرسائل، ولا تلك الأناجيل، التي من أقدمها ما كتب بعد مائتي سنة من حياة المسيح عليه السلام.
وقد انتهى محمد ملكاوي في نتائج بحثه عن بولس إلى أن هذا الرجل كان يهوديا فريسيا دخل على النصرانية منذ فترة التأسيس، بعد غياب المسيح عليه السلام؛ ليضع دينا جديدا وثنيا لا علاقة له بالنصرانية الحقيقية، فأودع فيها العقائد الوثنية، مثل الثالوث: الآب والابن والروح القدس، ثلاثة أقانيم كل أقنوم فيها إله، وأن عيسى ابن الرب، وأنه رب. وقال بالتعميد، ونظرية وراثة الخطيئة البشرية الموروثة، من آدم عليه السلام، وأنه لا يغفر الله للإنسان خطيئته الموروثة وخطاياه المكتسبة إلا أن يؤمن بالمسيح الرب المخلص، وبأنه ابن الله؛ ليتحمل عنه خطاياه، ويناله من دمه ما يمسح ذنوبه ([69]).
يتبع