عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 20-03-2019, 04:07 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,857
الدولة : Egypt
افتراضي رد: أثر التقنية الحديثة في الطهارة

أثر التقنية الحديثة في الطهارة
[1]
د. هشام بن عبدالملك ال الشيخ





ثبوت العادة للمبتدأة:
إذا تقرر هذا، فكيف تثبت العادة للمبتدأة، بمعنى: هل يلزم التكرار لمعرفة العادة أم لا.؟
اختلف العلماء – رحمهم الله – في هذه المسألة على ثلاثة أقوال:
القول الأول:
ما ذهب إليه جمهور الفقهاء من الحنفية[34] ، والمالكية[35] ، وهو الأصح عند الشافعية[36] ، وهو: أن العادة تثبت بمرة في المبتدأة.
القول الثاني:
ما ذهب إليه الحنابلة[37] ، وهو قولٌ شاذٌ عند الشافعية[38] ، وهو: أن عادة المبتدأة لا تثبت إلا بثلاث مرات، في كل شهر مرة.
القول الثالث:
رواية عند الحنابلة[39] ، وهو مقابل الأصح عند الشافعية[40] ، وهو: أن عدة المبتدأة تثبت بمرتين فقط.
أدلة القول الأول:
استدل أصحاب القول الأول بدليلين اثنين:
الدليل الأول:
قول الله تعالى: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ}[41] ، حيث شبه الله عز وجل العود في الآية الكريمة بالبدء، فيفيد إطلاق العود على ما فعل مرة واحدة[42].
الدليل الثاني:
حديث أم سلمة – رضي الله عنها -:"أَنَّ امْرَأَةً كَانَتْ تُهَرَاقُ الدِّمَاءَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ – صلى الل عليه وسلم - فَاسْتَفْتَتْ لَهَا أُمُّ سَلَمَةَ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: لِتَنْظُرْ عِدَّةَ اللَّيَالِي وَالْأَيَّامِ الَّتِي كَانَتْ تَحِيضُهُنَّ مِنْ الشَّهْرِ قَبْلَ أَنْ يُصِيبَهَا الَّذِي أَصَابَهَا، فَلْتَتْرُك الصَّلَاةَ قَدْرَ ذَلِكَ مِن الشَّهْرِ، فَإِذَا خَلَّفَتْ ذَلِكَ فَلْتَغْتَسِلْ، ثُمَّ لِتَسْتَثْفِرْ بِثَوْبٍ، ثُمَّ لِتُصَلِّ فِيهِ"[43].
وجه الدلالة من الحديث:
دل هذا الحديث على اعتبار الشهر الذي قبل الاستحاضة؛ ولأن الظاهر أنها فيه كالذي يليه؛ لقربه إليها، فهو أولى مما انقضى، وأولى من رد المبتدأة إلى أقل الحيض، أو أغلبه، فإنها لم تعهده، بل عهدت خلافه[44].
الجواب عن هذا الاستدلال:
أجاب الحنابلة أصحابُ القول الثاني عن الاستدلال بالحديث بما يلي:
أن لفظة (كان) في قول النبي – صلى الله عليه وسلم - :"لِتَنْظُرْ عِدَّةَ اللَّيَالِي وَالْأَيَّامِ الَّتِي كَانَتْ تَحِيضُهُنَّ مِن الشَّهْرِ قَبْلَ أَنْ يُصِيبَهَا الَّذِي أَصَابَهَا"، يخبر بها عن دوام الفعل وتكراره، ولا يقال لمن فعل شيئاً مرةً: كان يفعل.
أدلة القول الثاني:
استدل أصحاب القول الثاني بعدة أدلة منها:
الدليل الأول:
حديث عائشة – رضي الله عنها - عن النبي – صلى الله عليه وسلم - أنه قال:"دَعِي الصَّلَاةَ قَدْرَ الْأَيَّامِ الَّتِي كُنْتِ تَحِيضِينَ فِيهَا" متفق عليه[45].
وجه الدلالة من الحديث:
قالوا لفظ (الْأَيَّامِ) الوارد في الحديث جاء على صيغة جمع، وأقله ثلاث, ولأن ما اعتبر له التكرار اعتبر فيه الثلاث، كالأقراء، والشهور في عدة الحرة, وخيار المصراة, ومهلة المرتد[46].
الدليل الثاني:
أن الدم إما أن يأتي في الثلاث متساوياً أو مختلفاً، فإن كان الدم في الثلاث متساوياً ابتداءً وانتهاءً, ولم يختلف تيقن أنه حيض، وصار عادة.
وإن كان الدم على أعداد مختلفة، فما تكون منه ثلاثاً صار عادة لها دون ما لم يتكرر مرتباً كان أو غير مرتب.
ومثاله: لو حاضت خمسة أيام في الشهر الأول, وستة أيام في الشهر الثاني, وسبعة أيام في الشهر الثالث, فإننا نجلسها الخمسة أيام لتكرارها ثلاثاً, كما لو لم يختلف.
أما غير المرتب كأن ترى في الشهر الأول خمسة, وفي الشهر الثاني أربعة, وفي الشهر الثالث ستة, فتجلس الأربعة لتكررها[47].
الدليل الثالث:
أن العادة مأخوذة من المعاودة، ولا تحصل المعاودة بمرة واحدة، ولا نفهم من اسم العادة فعل مرةٍ بحال[48].
دليل القول الثالث:
استدل أصحاب هذا القول لما ذهبوا إليه بأن العادة مأخوذة من المعاودة، ولا تحصل المعاودة بمرة واحدة[49].
الجواب عن هذا الدليل:
يجاب عنه بأن المعاودة لا تحصل من المرة الواحدة، ولا من المرتين، بل من الثلاث، وقد فهم ذلك من لفظ (الْأَيَّامِ) الوارد في حديث عائشة – رضي الله عنها - ؛ إذ جاء على صيغة الجمع، وأقل الجمع ثلاث؛ ولأن ما اعتبر له التكرار اعتبر فيه الثلاث[50].
الترجيح:
الراجح – والله أعلم – هو ما ذهب إليه أصحاب القول الثاني، من أن العادة لا تثبت للمبتدأة إلا بثلاث مرات، في كل شهر مرة؛ وذلك لقوة ما استدلوا به، ووجاهته وسلامته من المعارضة، ولورود المناقشة على أدلة المخالفين.
هذه في الجملة أبرز المسائل الخلافية المتعلقة بحيض المبتدأة، ولا شك أن ما ذهب إليه العلماء - رحمهم الله - فيما اختاروه من تلك المسائل، واستدلوا له، عبارة عن اجتهاد يحتمل الصواب والخطأ، والأخذ بأي من الأقوال التي قررها الفقهاء يترتب عليه أثر في العبادات والأحوال الشخصية وغيرها، وهذا ما سأبينه في المسألة التالية، إن شاء الله.

الفرع الثاني
الآثار الفقهية المترتبة على مدة تربص المبتدأة عند الفقهاء

أولاً: يترتب على الخلاف في حيض المبتدأة في الحالة الأولى - وهي: انقطاع الدم لتمام أكثر الحيض فما دون - ما يلي:
عند الجمهور أن المبتدأة تُعد حائضاً، إن رأت الدم في المدة بين أقل الحيض[51] وبين ما ترى الطهر، فتتعلق بها جميع أحكام الحيض، سواءً في العبادات كالصلاة والصيام، أو غيرها كالعدة والاستبراء.
وأما على رواية الحنابلة التي هي ظاهر المذهب عندهم، فإن المبتدأة تُعد حائضاً، أقل مدة الحيض في الحالة المذكورة، ولا تعتبر حائضاً فيما جاوز ذلك، فهي تمتنع عن الصلاة والصيام في أقل مدة الحيض، وبعدها تغتسل، وتصلي، وتصوم، وتتوضأ لكل صلاة؛ لأنهم اعتبروا الدم الزائد عن أقل الحيض استحاضة.
ثانياً: يترتب على الخلاف في حيض المبتدأة في الحالة الثانية - وهي: استمرار الدم وعبوره أكثر مدة الحيض - ما يلي:
فعلى القول الأول تُعد المبتدأة حائضاً لأكثر مدة الحيض، فإذا جاوزت أكثر مدة الحيض فتغتسل، وتصلي، وتصوم، وتفعل ما يفعله الطاهرات، والدم الذي تراه بعد ذلك دم استحاضة، وليس حيضاً.
أما على القول الثاني، فإن كان دمها متميزاً فهي تُعد حائضاً في الدم الذي يصلح أن يكون دم حيض، فتدع الصلاة والصيام عند رؤيتها الدم الأسود الثخين المنتن، فإن انقطع، أو تغيرت صفته، اغتسلت، وصلت، وصامت، وفعلت ما تفعله الطاهرات.
وإن لم يتميز دمها فإنها تتحيض أقل الحيض من كل شهر حتى يتكرر ثلاثاً، فتدع الصلاة والصيام في أقل مدة الحيض من كل شهر، ثم تغتسل، وتفعل ما تفعله الطاهرات، وبعد تكرره ثلاثاً فإنها تتحيض من كل شهر غالب الحيض ستاً أو سبعاً، فتدع الصلاة والصيام ستة أيامٍ أو سبعة أيامٍ من كل شهر، وتغتسل بعد ذلك، وتفعل ما تفعله الطاهرات.
ثالثاً: يترتب على الخلاف في ثبوت العادة للمبتدأة ما يلي:
فعلى القول أن حيض المبتدأة يثبت بمرة واحدة، فإن رأت دم الحيض أول ما تراه ثمانية أيام فإن ذلك عادتها، فإن رأت في الشهر الثاني الدم لعشرة أيام فإنها تجلس عادتها الثمانية أيام، فتمتنع فيها عن الصلاة والصيام، ثم تغتسل بعد ذلك، وما تراه من الدم يكون استحاضة تتوضأ لكل صلاة.
وأما على القول الثاني أن المبتدأة لا تثبت عادتها إلا بثلاث مرات، في كل شهر مرة، فإنها، إن رأت دم الحيض في الشهر الأول والثاني والثالث متساوياً ابتداءً وانتهاءً، ولم يختلف، تيقن أنه حيض، وصار عادة، فتمتنع عن الصلاة والصيام في المدة المذكورة.
وإن كان الدم على أعداد مختلفة، فما تكرر منه ثلاثاً صار عادة لها، مرتباً كان كخمسة أيام في أول الشهر، وستة أيام في الشهر الثاني، وسبعة أيام في الشهر الثالث، فإن عادتها تكون خمسة أيام لتكررها ثلاثاً، فتجلس من كل شهر خمسة أيام، وتغتسل بعد انقضائها.
وإن كان الدم غير مرتب، كأن ترى في الشهر الأول خمسة أيام، وفي الشهر الثاني أربعة أيام، وفي الشهر الثالث ستة أيام، فإن عادتها تكون أربعة أيام لتكرر الأربعة ثلاثاً، فتجلس أربعة أيام من كل شهر وتغتسل بعد انقضائها.
أما على القول الثالث - وهو: أن عادة المبتدأة تثبت بمرتين - فإنها عندهم تجلس في الشهر الثالث ما تكرر في الشهر الأول والثاني[52].

الفرع الثالث
إمكان معرفة نوع دم المبتدأة من خلال الطب الحديث
تمر المرأة البالغة الصحيحة بدورة شهرية، يحدث خلالها عدة تغيرات في جسمها؛ بسبب زيادة بعض الهرمونات ونقصانها، وهذه الهرمونات هي التي تتحكم في الرحم[53].
والرحم هو مستودع الولد، وله غشاء يبطنه من الداخل، فإذا قاربت المرأة سن البلوغ، فإن هذا الغشاء يكون رقيقاً لا يتجاوز نصف المليمتر، ثم تبدأ بعد ذلك مرحلة النمو للرحم بأن يرسل المبيض من حويصلات جراف هرمون الأنوثة (الأستروجين)، فينمو غشاء الرحم من نصف مليمتر إلى خمسة مليمترات تقريباً، ويؤثر هذا الهرمون أيضاً في الأوعية الدموية، فتكبر هذه الأوعية، ويزداد عدد الغدد الرحمية، وتصبح على شكل أنابيب طويلة[54].
ولا يكتفي هذا الهرمون بهذه التغيرات، بل يقوم - أيضاً - بتنمية عضلات جدار الرحم، ويؤثر في جميع الصفات الأنثوية للفتاة، فتتغير نبرة الصوت، وتنمو الأثداء، ويزداد ترسب الدهن فيها، ويوجد الرغبة الجنسية للفتاة بعد أن كانت تفتقدها في مرحلة الطفولة[55] ، وهذه المرحلة تسمى مرحلة النمو، ويكون سمك الغشاء المبطن للرحم من (4 إلى 8 ملم).
ثم تبدأ مرحلة الإفراز بحيث ينمو الغشاء المبطن للرحم من (7 إلى 14 ملم) تقريباً[56] ، ويصبح أكثر تماسكاً، وتكثر الغدد الرحمية في هذه الفترة كثرةً بالغة، وتنمو الشرايين المغذية للرحم[57].
فيصبح الرحم والجهاز التناسلي بل وجسم المرأة بأكمله نتيجة الهرمون الأنثوي مستعداً للحمل، فإذا قدر الله تعالى أن لا يكون هناك حمل، فإن هذا الهرمون يقل فجأةً عندما يعلم المبيض أن لا حمل هناك، ويقل عن الإفراز، وإذا قلت كمية هذا الهرمون في الدم انقبضت الأوعية الدموية المغذية لغشاء الرحم انقباضاً شديداً، حتى إنها تمنع عنه الغذاء منعاً باتاً، ثم يذوي هذا الغشاء، ويتفتت ما تحته من أوعية دموية، فيخرج منها الدم المحتقن، وهو دمٌ أسود ثخين، له رائحة منتنة، ويحتوي على قطع مفتتة من الغشاء المبطن للرحم[58].
ويستغرق نزول كامل الغشاء المبطن للرحم (الحيض) مابين ستة أيام، وسبعة أيام غالباً، وإلا فإن النساء يختلفن في تلك المدة اختلافاً واضحاً[59].
ثم إن الدم في الرحم قبل نزوله يتجلط، وبعد ذلك تتسلط علية مواد مذيبة تدعى أنزيم (الليفين)، تساعد في ذوبانه وتساقطه، فينزل بذلك دم الحيض لا يتجلط، ولو بقي سنين طويلة؛ ذلك أنه تجلط في الرحم، ثم أذيبت تلك الجلطة بفعل ذلك الأنزيم (الليفين).[60]
بهذه الطريقة السابقة يحصل الحيض لدى المرأة، وبمعرفة ذلك وضبطه يمكن معرفة نوع الدم الذي تراه المبتدأة، هل هو دم حيضٍ، أم دم علةٍ وفساد؟
وتحصل معرفة ذلك عن طريق التقنية الطبية الحديثة، التي ملأت المستشفيات في هذا الزمن، وأهم هذه التقنيات التي لا تخلوا منها عيادة نساء وولادة، جهاز (دوبلر) للموجات فوق الصوتية[61] ، والتي من خلاله تم التعرف على الكثير من أمراض النساء، ولهذا الجهاز طرق عديدة في فحص الأعضاء التناسلية للمرأة، منها:
1. عن طريق البطن.
2. عن طريق المهبل، وغير ذلك من الطرق الكثيرة المستخدمة في الفحص.
وما يهمني هو الفحص عن طريق المهبل، حيث يتم إدخال مِجَس خاص على شكل القلم في داخل المهبل، هذا المِجَس يكون ذا تردد عالٍ في حدود (الخمسة إلى سبعة ملايين هيرتز)، ويغطى هذا المجس بغطاء مطاطي واقٍ، ويوضع فيه مادةٌ هلامية خاصة من الجل (gel)، ثم يتم إدخال المجس ببطء دون إحداث ألم للمرأة، ثم تقوم الطبيبة بمراقبة صورة الرحم على التلفاز الطبي.[62]
وفي حالة كون الفتاة لم تتزوج قبل، فإن الفحص يكون عن طريق البطن، وذلك حفاظاً على سلامة غشاء البكارة، كما أن له فوائد في تحديد مدى انتشار بعض أورام الرحم.
وهذه التقنية الحديثة مكَّنت الأطباء من التعرف على طبيعة دم الحيض، واستطاعوا من خلالها النظر إلى داخل الرحم، وقياس الغشاء المبطن للرحم، فعندما تصل سماكته إلى أعلى مستوى - كما سبق بيانه – فإن هذا الغشاء يبدأ في الانحلال و النزول، ويتساقط على شكل قطع ثخينة سوداء مُنْتِنَة، وهو المعروف بدم الحيض.
فتستطيع الطبيبة أن تتعرف على الدم الذي تراه المبتدأة من خلال النظر للرحم، ومعرفة مصدر الدم الخارج، فإن كان صادراً من أثر تفتت بطانة الرحم؛ فهو دم الحيض المعروف، وإن كان المصدر غير ذلك فهو غير دم الحيض المعروف.
الفرع الرابع
الأثر الفقهي للأخذ بقول الطب الحديث في حيض المبتدأة
لا شك أن الفقهاء - رحمهم الله - عندما اجتهدوا في الدم الذي تراه المبتدأة لم يكن اجتهادهم ناشئاً عن تصور خاطئ، بل عن تصور تام، وفقه، ونظر في الأدلة.
ثم إن اجتهادهم هذا كان متناسباً مع ذلك الزمن؛ إذ إنهم – رحمهم الله – لم يوكلوا المرأة الحائض التي رأت الدم أول مرةٍ إلى أمرٍ غيبي، أو أمرٍ غير محسوس، بل جعلوا للحيض علامات، ووقتا، إذا ضبطت المرأة الحائض تلك العلامات وذلك الوقت، تيسر لها فهم الكثير من مسائل الحيض.
وفي المقابل نجد أن الفقهاء – رحمهم الله – احتاطوا للمرأة الحائض، فأوجبوا التكرار للمبتدأة؛ لكي تضبط العادة، وجعلوا للحيض مدة أقل وأكثر، كل ذلك احتياطاً منهم – رحمهم الله -؛ لكون دم الحيض تتعلق به أحكام كثيرة في العبادات والمعاملات وغيرها.
ومع تقدم الزمن ظهرت التقنيات العلمية الحديثة من مخترعاتٍ وأجهزةٍ وأبحاث، فتحت للبشرية آفاقاً جديدة من العلم والتصور الصحيح للأمور الحادثة والقديمة، وبينت لنا تلك التقنيات الحديثة - وخاصةً فيما يتعلق بالتقنية الطبية الحديثة - المعاناة التي كان يتكبدها الأوائل في معرفة ما تراه المرأة الحائض من دم، هل هو دم حيض؟ أم دم فساد؟
ولذلك روي عَنْ أُمِّ عَلْقَمَةَ مَوْلَاةٍ لِعَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ – رضي الله عنها- أَنَّهَا قَالَتْ: "كَانَ النِّسَاءُ يَبْعَثْنَ إلَى عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ بِالدِّرَجَةِ [63] فِيهَا الْكُرْسُفُ [64] فِيهِ الصُّفْرَةُ مِنْ دَمِ الْحَيْضَةِ يَسْأَلْنَهَا عَنْ الصَّلَاةِ؟ فَتَقُولُ لَهُنَّ: لَا تَعْجَلْنَ حَتَّى تَرَيْنَ الْقَصَّةَ الْبَيْضَاءَ [65]. تُرِيدُ بِذَلِكَ الطُّهْرَ مِنْ الْحَيْضَةِ". [66]
وَعَنْ ابْنَةِ زَيْدِ بنِ ثَابِتٍ – رضي الله عنهما - : "أَنَّهُ بَلَغَهَا أَنَّ نِسَاءً كُنَّ يَدْعُونَ بِالْمَصَابِيحِ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ يَنْظُرْنَ إلَى الطُّهْرِ، فَكَانَتْ تَعِيبُ ذَلِكَ عَلَيْهِنَّ، وَتَقُولُ: مَا كَانَ النِّسَاءُ يَصْنَعْنَ هَذَا". [67]
وفي هذا الزمن أصبح من الممكن التعرف على دم المبتدأة أول ما تراه، من خلال زيارة لعيادة النساء والولادة، فتقوم الطبيبة بفحص دم الفتاة، وتحليل لبولها، فإن كان يحتوى على كمية كبيرة من هرمون الأنوثة (الأستروجين) وكمية قليلة من هرمون (البروجستيرون)، فإن هذه الفتاة معرضة للحيض.
وبالكشف على الرحم، ومعرفة سماكة بطانته ، واحتوائه على الدم، فإنه عند نزوله يُعَدُّ دم حيض، لا دم فساد، لليقين بأنه نزل من أعلى الرحم، وأنه الدم المعتاد للنساء.
وإن أظهرت الفحوصات المخبرية أن هذا الدم ليس بسبب تكسر الغشاء المبطن للرحم، وإنما هو نازل بسببٍ آخر، فإننا نحكم بكون هذا الدم دم فسادٍ وعلةٍ، لا دم حيض.
وبذلك يرتفع خلاف الفقهاء - رحمهم الله -، ويكون الأثر الفقهي المترتب على الأخذ بقول الطب الحديث ما يلي:
أولاً: الحكم بأن المبتدأة حائض فتدع الصلاة والصيام، وذلك إذا أثبتت الفحوصات المخبرية التي أجراها طبيب ثقة، أن هذا الدم دم حيضٍ، مع انتفاء احتمالية الخطأ في إجراء تلك الفحوصات، سواءً قل الدم عن أقل الحيض، أو زاد على أكثره.
والحكم بطهارة المبتدأة، إذا أثبتت الفحوصات المخبرية أن الدم الذي رأته المبتدأة ليس دم حيض، بل بسببٍ آخر، وفي هذه الحالة تصلي، وتصوم، وتفعل ما يفعله الطاهرات، إلا أنها تتوضأ لكل صلاة.
ثانياً: أن المبتدأة المميزة، إن رأت دماً أسود ثخيناً له رائحةٌ منتنةٌ، فظنت أنه دم الحيض المعتاد، وأثبتت الفحوصات المخبرية خلاف ما ظنت، فإن القول قول الطبيب الثقة؛ لكون احتمالية الخطأ في تمييز صفة الدم أكثر من احتمالية خطأ الفحوصات المخبرية.
ثالثاً: أن الصحابيات – رضي الله عنهن - كُنَّ يرسِلّْن إلى عائشة – رضي الله عنها - بِالدِّرَجَةِ، فِيهَا الْكُرْسُفُ، لكي تنظر إليها، وتخبرهُنَّ: هل هو دم حيض أم لا؟ فدل ذلك على اعتبار رأي الخبير.
رابعاً: التكرار لثبوت عادة المبتدأة إنما ذكره الفقهاء – رحمهم الله – احتياطاً لها، للشك في الدم الأول، هل هو دم حيض أم لا؟ والفحوصات الطبية المخبرية فيها يقين ببقاء الدم أو بانتفائه، واليقين لا يزول بالشك، فقول الطبيب الثقة في ذلك معتبر.
والذي يظهر لي – والله أعلم – أن طريقة الفقهاء أيسر، لتمكن عامة النساء من تطبيقها، أما قول الطبيب الثقة فيبقى قوياً، إلا أنه ليس ميسراً لكل النساء زيارة الطبيب لمعرفة ذلك، وخاصةً أن دم الحيض يتكرر كل شهر على المرأة ففيه مشقةٌ وعنتٌ لو فرضنا قول الطبيب، والمرأة لم تكلف بما يشق عليها، والدين جاء باليسر لا بالعسر، قال الله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} ، وقال تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} ، فتبقى هذه التقنية لها اعتبارها لمن تمكن منها، ويبقى خلاف العلماء – رحمهم الله – على حاله لم يرفع، وإنما تزيد التقنية الحديثة آراء الفقهاء قوةً، ولربما رجحنا قولاً على قول، والله أعلم.




[1] مبحث من رسالة دكتوراه بعنوان أثر التقنية الحديثة في الخلاف الفقهي للدكتور هشام بن عبد الملك بن عبد الله بن محمد آل الشيخ.

[2] سورة البقرة، الآية (222).

[3] انظر مغني المحتاج (1/108)، نهاية المحتاج (1/323)، كشاف القناع (1/196).

[4] انظر البناية (1/614)، بدائع الصنائع (1/157)، شرح فتح القدير (1/111)، حاشية ابن عابدين (1/296)، الفتاوى الهندية (1/36)، شرح الخرشي على مختصر خليل (1/204)، حاشية الدسوقي (1/168)، المجموع شرح المهذب للنووي (2/400)، نهاية المحتاج (1/324)، مغني المحتاج (1/108)، كشاف القناع (1/202)، المغني (1/447).

[5] انظر حاشية ابن عابدين (1/296)، شرح الخرشي على مختصر خليل (1/204)، كشاف القناع (1/202)، الموسوعة الفقهية الكويتية (18/300).

[6] المرجع السابق.

[7] انظر الموسوعة الفقهية الكويتية (18/300).

[8] اختلف الفقهاء – رحمهم الله – في أقل الحيض وأكثره على أقوال كثيرة، سيأتي ذكرها مع أدلتها في المطلب التالي، إن شاء الله

[9] انظر فتح القدير (1/111)، البناية (1/614)، بدائع الصنائع (1/158)، الاختيار، للموصلي (1/26)، تحفة الفقهاء للسمرقندي (1/33)، حاشية ابن عابدين (1/297).

[10] انظر حاشية الخرشي (1/381)، القوانين الفقهية (ص:31)، بداية المجتهد (1/69)، الكافي، لابن عبد البر(1/187).

[11] انظر المجموع للنووي (2/415)، روضة الطالبين للنووي (1/144-145).

[12] انظر المقنع و الشرح الكبير مع الإنصاف (2/397)، المغني (1/409)، الفروع (1/381).

[13] انظر المقنع والشرح الكبير مع الإنصاف (2/397)، المغني (1/409)، الفروع (1/381).

[14] انظر المغني (1/409).

[15] انظر المقنع والشرح الكبير مع الإنصاف (2/398)، المغني (1/410).

[16] انظر المقنع والشرح الكبير مع الإنصاف (2/402)، المغني (1/408).

[17] انظر المقنع والشرح الكبير مع الإنصاف (2/402)، المغني (1/408).

[18] انظر فتح القدير (1/111)، البناية (1/614)، بدائع الصنائع (1/158)، الاختيار، للموصلي (1/26)، تحفة الفقهاء (1/33)، حاشية ابن عابدين (1/297).

[19] انظر المدونة (1/49)، حاشية الخرشي (1/381)، القوانين الفقهية (ص:31)، بداية المجتهد (1/69).

[20] أخرجه أبوداود - واللفظ له - في كتاب الطهارة، باب من قال: تغتسل من طهر إلى طهر، حديث رقم (297)، وأخرجه النسائي في كتاب الحيض والاستحاضة، باب جمع المستحاضة بين الصلاتين وغسلها إذا جمعت، حديث رقم (360)، قال الشيخ الألباني v: صحيح، انظر الارواء، الحديق رقم (207).

[21] انظر بدائع الصنائع (1/158).

[22] انظر فتح القدير (1/111)، البناية (1/614)، بدائع الصنائع (1/158)، الاختيار للموصلي (1/26)، تحفة الفقهاء للسمرقندي (1/33)، حاشية ابن عابدين (1/297)، والمدونة (1/49)، حاشية الخرشي (1/381)، القوانين الفقهية (ص:31)، بداية المجتهد (1/69).

[23] انظر المهذب للشيرازي (1/147-148)، روضة الطالبين (1/140)، المجموع للنووي (2/428).

[24] انظر المغني (1/411)، غاية المرام شرح مغني ذوي الأفهام (2/653-654).

[25] أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الوضوء، باب الاستحاضة، برقم: (306)، ومسلم في صحيحه (1/262) برقم (333).

[26] أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الوضوء، باب الاستحاضة، برقم: (306)، ومسلم في صحيحه (1/262) برقم (333).

[27] أخرجه الإمام أحمد في المسند (42/399)، وأبوداود في سننه (1/82) برقم304) واللفظ له، والنسائي في سننه (1/151)، والحاكم في المستدرك (1/174) وقال: صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي

[28] انظر المهذب (1/148)، المجموع (2/428)، المغني (1/411)، غاية المرام (2/653-654).

[29] انظر المغني (1/411)، غاية المرام شرح مغني ذوي الأفهام (2/653-654).

[30] انظر المغني (1/411)، غاية المرام شرح مغني ذوي الأفهام (2/653-654).

[31] أخرجه الإمام أحمد في المسند (1/439)، وأبوداود في سننه (1/76) برقم (287)، والترمذي في سننه (1/149) برقم (128)، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1/56) برقم (267).

[32] انظر المغني، لابن قدامة (1/411).

[33] انظر المجموع، للنووي (2/458)، المغني، لابن قدامة (1/411)، غاية المرام شرح مغني ذوي الأفهام (2/655-656).

[34] انظر البناية في شرح الهداية (1/669-670)، المبسوط (1/209)، البحر الرائق (1/225).

[35] انظر حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (1/169)، مواهب الجليل في شرح مختصر خليل (1/368).

[36] انظر المهذب، للشيرازي (1/150)، المجموع، للنووي (2/442-443) وقد نقل إجماع علماء المذهب على ذلك، روضة الطالبين، للنووي (1/143).

[37] انظر المقنع والشرح الكبير مع الإنصاف (2/397)، المغني، لابن قدامة (1/410)، الفروع، لابن مفلح (1/368)، غاية المرام شرح مغني ذوي الأفهام (2/650).

[38] انظر المجموع، للنووي (2/443).

[39] انظر المقنع والشرح الكبير مع الإنصاف (2/397)، المغني، لابن قدامة (1/410)، الفروع، لابن مفلح (1/368)، غاية المرام شرح مغني ذوي الافهام (2/650).

[40] انظر المهذب، للشيرازي (1/150)، المجموع، للنووي (2/442-443)،

[41] سورة الأعراف، الآية (29).

[42] انظر مواهب الجليل في شرح مختصر خليل (1/368).

[43] أخرجه مالك في الموطأ، كتاب الطهارة، باب المستحاضة، ص62)، والإمام أحمد في المسند (6/293)، وأبوداود في سننه، في كتاب الطهارة، باب المرأة تستحاض (1/62)، والنسائي في سننه، في كتاب الحيض، باب المرأة يكون لها أيام معلومة تحيضها (1/149)، وابن ماجه في سننه، في كتاب الطهارة، باب المستحاضة عدة أيام أقرائها (1/204)، وهو صحيح، رجاله ثقات رجال الشيخين.

[44] انظر المهذب (1/151)، المجموع، للنووي (2/442)، المقنع والشرح الكبير مع الإنصاف (2/400).

[45] أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الوضوء، باب غسل الدم، وأخرجه مسلم في صحيحه، في كتاب الحيض، باب المستحاضة وغسلها وصلاتها.

[46] انظر المقنع والشرح الكبير مع الإنصاف (2/401)، المغني (1/398).

[47] انظر الموسوعة الكويتية (18/303).

[48] انظر المجموع (2/443)، المقنع والشرح الكبير مع الإنصاف (2/400)، المغني (1/397).

[49] انظر المجموع للنووي (2/443)، المغني (1/397).

[50] انظر المقنع والشرح الكبير مع الإنصاف (2/401)، المغني (1/398).

[51] على خلاف بين أصحاب هذا القول في تحديد أقل الحيض وأكثره كما سيأتي في المطلب التالي.

[52] انظر الموسوعة الفقهية الكويتية (18/303)، المغني لابن قدامة (1/410-412).

[53] انظر خلق الإنسان بين الطب والقرآن، للدكتور/محمد علي البار (ص:110).

[54] انظر خلق الإنسان بين الطب والقرآن، للدكتور/محمد علي البار (ص:110)، والموجات فوق الصوتية في أمراض النساء والحمل والإخصاب، للدكتور/ موسى محمد المعطي (ص:33-34)، والجامع في أمراض النساء "نوفاك" إعداد وترجمة مجموعة من المختصين في أمراض النساء والولادة (2/163).

[55] انظر خلق الإنسان بين الطب والقرآن، للدكتور/محمد علي البار (ص:111).

[56] انظر المرجع الأجنبي غير المترجم: Current Obstelric And Gynecologic Diagnosis – Alan H. De Chemey Lauren Nathan (ص:59-60)، وقد أفادتني بذلك وزارة الصحة.

[57] انظر خلق الإنسان بين الطب والقرآن، للدكتور/محمد علي البار (ص:111)، الموجات فوق الصوتية في أمراض النساء والحمل والاخصاب، للدكتور/موسى المعطي (ص:33-34).

[58] انظر خلق الإنسان بين الطب والقرآن، للدكتور/محمد علي البار (ص:126-127)، أمراض النساء الأعراض والوقاية والعلاج (ص:16).

[59] جاء في ملاحظات وزارة الصحة أن الدورة الشهرية الطبيعية على ثلاثة أقسام:
أولاً: فترة نزول الدم، وهي تتراوح ما بين يومين إلى ستة أيام، وبمعدل (4,7 يوم)، وأقصاها سبعة أيام.
ثانياً: كمية الدم النازل، وتتراوح بين (20 إلى 60 ملم) وبمعدل (35 ملم)، وأقصى الكمية قد تصل إلى (80ملم).
ثالثاً: فترة الطهر، تتراوح بين (21 إلى 35 يوم) وبمعدل (كل 28 يوم). وما تعدى ذلك زيادة أو نقصانا يعد حالة مرضية. انظر المرجع الأجنبي:Novak's Gynecology – Bedition (ص:160 و 358).

[60] انظر خلق الإنسان بين الطب والقرآن، للدكتور/محمد علي البار (ص:127).

[61] انظر الموجات فوق الصوتية في أمراض النساء والحمل والاخصاب، للدكتور/موسى المعطي (ص:19).

[62] انظر الموجات فوق الصوتية في أمراض النساء والحمل والاخصاب، للدكتور/موسى المعطي (ص:25).

[63] الدرجة: بكسر الدال، وفتح الراء، والجمع درج بالضم، وهو كالسفط الصغير تضع فيه المرأة خف متاعها وطيبها. قاله ابن الأثير في النهاية (2/111).

[64] أي القطن.

[65] القصة البيضاء: هي أن تخرج القطنة أو الخرقة التي تحتشي بها الحائض كأنها قصة بيضاء لا يخالطها صفرة، وقيل: القصة البيضاء شيء كالخيط الأبيض يخرج بعد انقضاء الدم كله. قاله ابن الأثير في النهاية (4/71).

[66] أخرجه البخاري في صحيحه تعليقاً، كتاب الحيض، باب إقبال المحيض وإدباره، وأخرجه مالك في الموطأ، كتاب الطهارة، باب طهر الحائض (1/59-60)

[67] أخرجه البخاري في صحيحه تعليقاً، كتاب الحيض، باب إقبال المحيض وإدباره، وأخرجه مالك في الموطأ، كتاب الطهارة، باب طهر الحائض (1/59-60).

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 46.78 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 46.15 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.34%)]