أطوار الاجتهاد الفقهي (2-3)
د.عبد الله الزايد
أما السبب الثاني: فإنه يرجع إلى اتساع رقعة الخلافة وانتشار الصحابة في الأمصار والمدن, وذلك في عهد عثمان رضي الله عنه (هو عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف, الأموي القرشي, يكنى بأبي عبد الله, ويلقب بذي النورين؛ لتزوجه ببنتي رسول الله رقية ثم أم كلثوم, كان رابع أربعة في الإسلام، وثالث العشرة المبشرين بالجنة, دعاه أبو بكر فأجاب, فأنفق كثيراً من ماله في سبيل الله، ولم يتخلف عن غزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا غزوة بدر؛ لمرض زوجته, وكان يوم الحديبية سفير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى قريش للمفاوضة في دخول رسول الله -صلى الله عليه وسلم - مكة, فحبسته قريش فكانت بيعة الرضوان, ولما كانت غزوة تبوك تبرع بمال كثير وثلاثمائة بعير في سبيل الله, فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - '' ما على عثمان ما عمل بعد هذه ''. وقبل موت عمر رضي الله عنه جعل الأمر من بعده في علي وعثمان والزبير وطلحة وسعد وعبد الرحمن بن عوف, فبايعوا عثمان رضي الله عنه بالخلافة, فقام بأعمال جليلة منها كتابة ست نسخ من مصحف أبي بكر وزعها على الأمصار وأحرق بالتشاور مع الصحابة ما سوى ذلك مما بأيدي الناس من رقاع وقراطيس, وزاد أذاناً آخر يوم الجمعة؛ ليتيح وقتاً للسعي وشهود الخطبة والصلاة, وهو أول من اتخذ داراً للقضاء وكان توليته بعض أقاربه أنه يرى أنهم أخلص الناس له, وفي هذا القضاء على الفتن والتمكين للخلافة, ولكن بعض الناس نقموا عليه هذا التصرف, وجاءته وفود أهل الكوفة والبصرة ومصر يطلبون عزل أقاربه، فامتنع، فحاصروه في داره وعرضوا عليه أن يخلع نفسه, فأبى ودام الحصار طويلاً, وتسور بعضهم عليه الدار فقتلوه وهو يقرأ القرآن سنة 35 هـ, ودفن بالبقيع ليلاً وعمره اثنتان وثمانون سنة، وكانت مدة خلافته اثنتي عشرة سنة إلا اثني عشر يوماً. الفتح المبين مع شيء من التصرف 1 \ 53) وقد صاحب هذا التوسع في الفتوحات إذن الخليفة عثمان رضي الله عنه للصحابة في الانتشار وسكنى البلاد المفتوحة, فتفرقوا في الأقطار واستوطنوها عمالاً ومعلمين ومرابطين، وكانت الأمصار متعطشة لمعرفة دين الإسلام والاستفادة من علومه على أيدي تلامذة المعلم الأول صلى الله عليه وسلم، فتدفق الناس على الصحابة كل في بلده ومدينته يستفتونهم ويروون عنهم مسموعاتهم من النبي - صلى الله عليه وسلم - ويتعلمون منهم العلم.
ومن المسلم به أن الصحابة لم يكونوا في المحفوظ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا في الفهم سواء, كما أن الأمصار المفتوحة لم تكن متفقة عاداتها ولا أعرافها ولا نظمها الاجتماعية والاقتصادية, ولا طرقها في العيش والتعامل, فإذا انضاف إلى هذه الاعتبارات بعد الشقة بين عاصمة الخلافة والبلدان المفتوحة وصعوبة الاتصالات بين العلماء والصحابة في شتى هذه المدن والأمصار؛ ليستفيد بعضهم من بعض؛ فإنه من السهل أن ندرك أن ذلك سينتج عنه اختلاف الاجتهادات والفتاوى الفقهية في المسألة الواحدة بين المسائل الكثيرة, وأن كل أهل قطر سيتمسكون بفتاوى علمائهم وأحاديثهم ويعولون على ما جرى عليه عملهم, وحكم به قضاتهم لمبلغ ثقتهم بهم وخبرتهم بأحوالهم وسيرتهم, فكان للمصريين فتاوى وللشاميين أخرى ولليمنيين وسائر المدن غيرها، وكان بعد ذلك أن شعر التابعون بأن في الأمصار الأخرى علماً غير علمهم, فأكثروا من الرحلة وعملوا على توثيق الروابط العلمية بين الأمصار, فكان لذلك أثر لا ينكر في تقليل وجود الخلاف (تاريخ التشريع 167 لعبد اللطيف السبكي ومحمد علي السايس ومحمد الديري ط ثانية مطبعة الاستقامة 1365 هـ).
السبب الثالث: ظهور الوضع في الحديث:
وهذا السبب كان له الأثر السيئ في عرقلة تقدم الاجتهاد الفقهي وفي صعوبة مهمة الفقيه.
فلقد كان للإسلام أعداؤه المتربصون بأهله الدوائر، من اليهود وغيرهم ممن تغلب عليهم المسلمون بقوة الإسلام وسلطانه, وربما ساعدهم على هذا الوهم كون المسلمين يعتمدون على حفظهم في الصدور ما يروونه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من سنته القولية أو الفعلية أو التقريرية طيلة بعثته في الثلاث والعشرين سنة, فما عليهم إلا أن يختلقوا من الأقاويل التي تخدم مآربهم ما ينسبونه إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - حديثاً طمعاً في استرداد ما ضاع منهم من مجد وجاه ودولة عن طريق تحذير المسلمين بما يضعونه من أحاديث.
فأما الكتاب العزيز فلحفظ الله إياه حفظاً من مظاهر انتشاره بين المسلمين وتلقيه عن طريق الكواف من الأئمة كانوا على يقين أنهم لن يجدوا سبيلاً لتضليل الناس فيه. فعمدوا إلى تكوين الجمعيات المخربة، وكان أول جمعية سرية بقيادة عبد الله بن سبأ اليهودي الذي أسلم ظاهراً؛ ليتمكن من الدس والتنكيل بالمسلمين، فلما ظهر أمره اختفى وصار إلى تنظيم النشاط المخرب سراً (ابن سبأ اليهودي هو الذي وصل بتنظيمه إلى تدبير مؤامرة ضد الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه حتى قتله البغاة في شهر ذي الحجة سنة 35 من الهجرة ( سنة 656 م ) عن 82 سنة إذ كانت ولادته سنة 47 قبل الهجرة أي سنة 577 م. من الفتح المبين 1 \ 53).
ومما لا ريب فيه أن هذه الحملة الشريرة تمادت حتى استطاعت أن تروج لمفترياتها في كل باب من أبواب العلم في الإسلام.
فوجدت أحاديث في الأسماء والصفات للباري تبارك وتعالى تتضمن تشبيه الباري بالحوادث وتعطيله (وتجدر الإشارة هاهنا إلى أن معتقد أهل السنة والجماعة في باب أسماء الله تبارك وتعالى وصفاته تعتمد على قاعدة النفي المجمل والإثبات المفصل, والإجمال في النفي هو ما دل عليه القرآن والسنة، وأساسه أن كل صفة نقص أو عيب يتنزه عنها المخلوق لا تتضمن أصلاً من العيوب أو النقائص شيئاً، فالخالق عز وجل أولى بالتنزه منها. وهكذا يمكن أن يقال في جانب الإثبات أن كل وصف من أوصاف الكمال ثبت للمخلوق على وجه لا يتضمن إثباته أصلاً نقيصة ولا عيباً فالخالق به أولى كما قال تعالى: }وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ{ [من سورة الروم من آية 27]. ويلتزم أهل السنة والجماعة طريقة التفصيل في الإثبات فلا يصفون الله سبحانه إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم - كتاباً وصحيح سنة, وهم في الإثبات يلتزمون أيضاً اعتقاد أن صفات الباري تعالى لا تشبه صفات المخلوقين وأن كل ما خطر على بال أحد من الخلق فالله بخلافه, ولهذا نجد أن عقيدتهم اجتمعت حول هذه الجملة: '' وإثبات بلا تشبيه ولا تكييف ''. وفي النفي يلتزمون كذلك النفي المستلزم لإثبات صفات الكمال للباري تعالى, فنجد أن مسلكهم في هذا الجانب يدور حول هذه الجملة '' نفي بلا تعطيل ''. وهم في ذلك على الصراط المستقيم الذي دل عليه الوحي, ومن ذلك قول الله عز وجل في [سورة الشورى من آية 11]: } لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ{ تلك خلاصة مسلك أهل السنة والجماعة في باب أسماء الباري تعالى وصفاته, وموجز للقاعدة التي يقيسون عليها معتقدهم في هذا الباب. والله تعالى أعلم).
وفي باب العبادات أحاديث تتضمن من البدع ما يحرف السالك عن الصراط السوي, وأحاديث في باب الحلال والحرام, حتى كثر الوضع كثرة مزعجة مروعة بتصدع الوحدة الإسلامية, وظهور الفرق الدينية, فاستباح الشيعة لأنفسهم أن يضعوا الأحاديث التي تؤيد مذاهبهم, وكذلك الخوارج, وكثرت بعد ذلك الأسباب الحاملة على الوضع, ومما يدل على مبلغ الوضع في هذا الدور, أن ابن عباس رضي الله عنهما وهو المعروف بالرغبة في جمع الحديث والجد في طلبه يقول فيما يرويه مسلم: " إنما كنا نحدث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ لم يكن يكذب عليه, فلما ركب الناس الصعب والذلول تركنا الحديث عنه ".
وفي رواية عنه: إنما كنا نحفظ الحديث والحديث يحفظ عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم, فأما إذا ركبتم كل صعب وذلول فهيهات.
وعن مجاهد قال: جاء بشير العدوي إلى ابن عباس فجعل يحدث ويقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجعل ابن عباس لا يأذن (لا يأذن لحديثه أي لا يستمع إليه ولا يعيره سمعه) لحديثه ولا ينظر إليه, فقال: يا ابن عباس: ما لي لا أراك تسمع لحديثي؟ أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تسمع؟ فقال ابن عباس: "إنا كنا مرة إذا سمعنا رجلاً يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ابتدرته أبصارنا وأصغينا إليه بآذاننا, فلما ركب الناس الصعب والذلول لم نأخذ من الناس إلا ما نعرف".
وعن ابن أبي مليكة قال: كتبت إلى ابن عباس أسأله أن يكتب لي كتاباً ويخفى عني (اختلف في ضبط ويخفى هل هي بالخاء المعجمة أو بالحاء المهملة ومن معنى الخاء أحسن ما قيل فيه أنه من باب الأدب, أي: اكتب ما شئت ودع ما شئت, وذلك من باب الرفق بابن عباس من أهل الفتن, إذ ربما كان عليه في كل ما يكتب شناعة منهم. وإما بالحاء فمن الاحتفاء, أي استقص ولا تدع شيئاً ويكون عني بمعنى علي, أو يكون بمعنى لا تستقص من أحفى, أي: أنقص. ومنه: إحفاء الشارب, هذا وقد صوب القاضي أنه بالمعجمة ( انظر النووي على مسلم 1 \ 69 ) ويرجح هذا قول ابن عباس: ولد ناصح) فقال: " ولد ناصح أنا اختار له الأمور اختياراً أو أخفي عنه ". قال: " فدعا بقضاء علي فجعل يكتب منه أشياء ويمر به الشيء فيقول: والله ما قضى بهذا علي إلا أن يكون ضل ".
وقال طاووس: " أتى ابن عباس بكتاب فيه قضاء علي رضي الله عنه فمحاه إلا قدر - وأشار سفيان بن عينة,
( أحد رواة الخبر ) - بذراعه " (مسلم 1 \ 78 - 70).
وعن أبي إسحاق قال: لما أحدثوا تلك الأشياء بعد علي رضي الله عنه، قال رجل من أصحاب علي: قاتلهم الله. أي علم أفسدوا.
وقال النووي (يحيى بن شرف بن مري بن حسن الفقيه الشافعي الحافظ الزاهد المكنى بأبي زكريا الملقب بمحيي الدين النووي المعروف بشيخ الإسلام ولد سنة 631 هـ بنوى وهي قرية من قرى حوران من بلاد سورية, تعلم القرآن ببلده ثم قدم دمشق مع والده، فسكن بالمدرسة الرواحية فاشتغل بالعلم وجد في طلبه، وأعجب به الشيخ كمال الدين إسحاق المغربي فجعله معيداً لأكثر تلامذته, وكان يقرأ في كل يوم اثني عشر درساً في العلوم الدينية واللغوية والعقلية, وقد ولي مشيخة دار الحديث بعد الشيخ شهاب الدين أبي شامة, وكان لا يأخذ من مرتبها شيئاً بل كان يقنع بالقليل, مما يبعثه إليه والده وكان فقيهاً حصوراً لم يتزوج, وله مصنفات عديدة منها رياض الصالحين في الحديث والمنهاج في شرح مسلم، والإيضاح في المناسك، والتبيان في بيان آداب حملة القرآن، والأربعون النووية، وله كتاب الأصول والضوابط، وهي في أصول الفقه على الأرجح, توفي رحمه الله سنة 676 هـ ودفن ببلده. عن الفتح المبين 2 \ 81) على قوله: "قاتلهم الله, أي علم أفسدوا" أنه إشارة إلى ما أدخلته الروافض والشيعة في علم علي رضي الله عنه وحديثه, وتقولوه عليه من الأباطيل وأضافوه إليه من الروايات والأقاويل المفتعلة والمختلفة وخلطوه بالحق فلم يتميز ما هو صحيح عنه مما اختلفوه (النووي على مسلم ص70).
وإذا كان الزنادقة والمتربصون بالإسلام من أهل سائر ملل الكفر قد طوع لهم كفرهم وأطماعهم وأحقادهم أن يختلقوا ما اختلقوا من أحاديث قذفوا بها في نحور الأمة الإسلامية علهم يصيبون منها مقتلاً؛ لتدور لهم الدائرة بعد أن هزموا بفكر الإسلام وسيفه, فإن هذا المنكر لم يقف عند حد هؤلاء بل قد سلك مسلكهم بعض الجهلة المتسمين بسمة الزهاد, فوضعوا أحاديث في أبواب الترغيب والترهيب, فقالوا: كذب للرسول صلى الله عليه وسلم ولا نكذب عليه. وما دروا أن هذه طامة الطوام ودويهية أصفر الأنامل, إذ يتضمن هذا - إلى جانب استحلال الكذب عليه صلى الله عليه وسلم وهو غاية الحرام - اتهامه بالتقصير في الإبلاغ حتى جاءوا يكملون ما به أخل, ويتممون ما نقص, ويكذبون قوله تعالى: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} (سورة المائدة الآية 3) وفي تدريب الراوي شرح تقريب النواوي أن ميسرة أقر بأنه وضع حديث فضائل القرآن, وقال البخاري في التأريخ الأوسط: حدثني يحيى اليشكري عن علي بن جرير قال: سمعت عمر بن صبيح يقول: أنا وضعت خطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - المقصود من ص98 تدريب الراوي, وقد ذكر نماذج من الأحاديث الموضوعة تضحك وتبكي؛ تضحك من سخف قائلها, وتبكي من شر ما حملت إلى المسلمين, فارجع إليها هنالك إن شئت من ص 98 وما بعدها, وفي ص 102 ذكر أقسام الواضعين, وذكر أن أعظمهم ضرراً قوم ينتسبون إلى الزهد, وضعوه - أي: الحديث - حسبة أي: طلباً للأجر عند الله في زعمهم الفاسد).
فتلاقى على هذه المكيدة حقد ومكيدة الكافرين وجهل وغباوة الجاهلين, ومما لا شك ولا افتراء فيه أن ذلك الجهل في الأغبياء ثمرة من ثمرات أولئك الزنادقة.
وقد ظهر بما تقدم بعض الأسباب الحاملة على الوضع ويمكننا أن نجملها لك في سطور:
1 - العداوة الدينية
لقد رأينا كيف أن ابن سبأ اليهودي وأضرابه تستروا بالإسلام, وأخفوا وراء التشيع أغراضهم الدنيئة, وتذرعوا بإظهار حب آل البيت؛ ليدسوا على المسلمين ما أرادوا به أن يطفئوا نور الله, ولكن الله عز وجل وعد بأن يخيب آمالهم, ويتم نوره مهما حاولوا إطفاءه.
2 - التعصب المذهبي
وذلك أن بعض الفرق المنتمية إلى الإسلام كان يدفعها غلوها في تأييد ما تشهد إليه إلى وضع أحاديث تشهد بصحة ما ترى, قال الحاكم أبو عبد الله: " كان محمد بن القاسم الطائكاني من رؤساء المرجئة يضع الحديث على مذهبهم ".
3 - متابعة بعض ما يتسمون بسمة العلم لهؤلاء الأمراء والخلفاء
يضعون لهم ما يعجبهم رغبةً فيما في أيديهم, كالذي حكى عن غياث بن إبراهيم, أنه دخل على المهدي بن المنصور, وكان يعجبه اللعب بالحمام، فروى حديثاً لا سبق إلا في خف أو حافر أو جناح. فزاد كذباً أو: " جناح ". فأمر له المهدي بعشرة آلاف درهم, فلما قام ليخرج قال المهدي: أشهد أن قفاك قفا كذاب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما قال: "جناح " ولكنه أراد أن يتقرب إلينا.
4 - تساهل بعضهم في باب الفضائل والترغيب والترهيب كالذي روى في فضائل القرآن سورة سورة.
5 - تغالي بعض الناس في أنهم لا يقبلون اجتهادات الصحابة وغيرهم
فدعا ذلك بعض الوضعة إلى أن يعمد في كلام الصحابة وغيرهم وحكم العرب والحكماء فينسبها إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
تكفل الله عز وجل بحفظ كتابه يشمل حفظه سنة رسوله صلى الله عليه وسلم
إذا كان أعداء الإسلام قد أدركوا ما يرومون بوضع المفتريات ونسبوها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم, فإنهم لم ينالوا خيراً، وكفى الله المسلمين ضياع سنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، بين المفتريات والأباطيل؛ فإن الله عز وجل قد تكفل بحفظ كتابه. والسنة تفسير الكتاب وبيانه, قال تعالى: { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } (سورة النحل الآية 44) ولا يتم بيان التنزيل بسنة ضائعة بين ركام الكذب, ومن أجل ذلك قيض الله من أذكياء العالم ما أهلهم لهذه المهمة فقاموا لله يذبون عن سنة نبيه صلى الله عليه وسلم فبينوا بالتحميص والتنقيب ونبذ الزائف وتحقيق الحق ما تحقق به وعد ربنا؛ فإنه تعالى لا يخلف الميعاد.
ومن ذلك الوقت تكون فرع من فروع الحديث هو علم الجرح والتعديل, وقد أجهد أئمة هذا العلم أنفسهم وترقبوا الوضاعين, وفضحوا عملهم, وحذروا من كل واحد باسمه, ولم يقبلوا مما حدثوا به شيئاً, وبينوا أعيان الأحاديث التي وضعوها, والأغراض التي حملتهم على الوضع حتى سلم الله الشريعة بفضله ومنه من كيدهم.
وقد بدأ الكلام في الجرح والتعديل من عهد صغار الصحابة, فقد رويت أقوال من ذلك عن عبد الله بن عباس كما أسلفنا, وعن عبادة بن الصامت وأنس, وكثر القول في ذلك من التابعين، ومن أقوالهم ما نذكر لبعضهم فيما يلي:
1 - قال عبد الله بن المبارك الإسناد من الدين, ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء. وقال أيضاً: دعوا حديث عمرو بن ثابت؛ فإنه كان يسب السلف.
2- وحدث أبو عقيل صاحب بهية قال: كنت جالساً عند القاسم بن عبد الله ويحيى بن سعيد, فقال يحيى للقاسم: يا أبا محمد إنه قبيح على مثلك عظيم أن تسأل عن شيء من أمر هذا الدين فلا يوجد عندك منه علم ولا فرج أو علم ولا مخرج. فقال له القاسم: وعم ذاك؟ قال: لأنك ابن إمامي هدى ابن أبي بكر وعمر. قال يقول له القاسم: أقبح من ذلك عند من عقل عن الله أن أقول بغير علم أو آخذ عن غير ثقة. قال: فسكت فما أجابه.
3 - قال يحيى بن سعيد: سألت سفيان الثوري وشعبة ومالكاً وابن عيينة عن الرجل لا يكون ثبتاً في الحديث فيأتيني الرجل فيسألني عنه قال: أخبر عنه أنه ليس ثبتاً.
4 - وقال شعبة: لقيت شهراً فلم أعتد به يعني شهر بن حوشب أبا سعيد, ويقال أبو عبد الله وأبو عبد الرحمن وأبو الجعد الأشعري الشامي الحمصي وقيل الدمشقي (صحيح مسلم بشرح النووي 1 \ 73- 78).
وقد ذكر جلال الدين عبد الرحمن السيوطي في شرح تقريب النواوي المسمى بتدريب الراوي، ضوابط في الوضع وأقسام الواضعين فذكر من الأول:
1 - الإقرار بالوضع من الواضع وذكر خلاف الأصوليين في ذلك.
2 - معنى إقراره كأن يحدث بحديث عن شيخ ويسأل مولده فيذكر تاريخاً لعام وفاة ذلك قبله, ولا يعرف ذلك الحديث إلا عنده.
3 - قرينة في الراوي أو المروي، وذكر من ذلك طول الأحاديث مع ركة لفظها ومعانيها.
قال الربيع بن خثيم: إن للحديث ضوءاً كضوء النهار تعرفه وظلمة كظلمة الليل تنكره ... إلى أن قال: أو يكون خبراً عن أمر جسيم تتوافر الدواعي على نقله بمحضر الجمع, ثم لا ينقله منهم إلا واحد. ومنها الإفراط بالوعيد الشديد على الأمر الصغير أو الوعد العظيم على الفعل الحقير, وهذا كثير في فعل القصاص, والأخير راجع إلى الركة. وقال: قلت: ومن القرائن كون الراوي رافضياً والحديث في فضائل أهل البيت ... إلخ (تدريب الراوي 98 - 99) وذكر للوضع أقساماً فقال:
والواضعون أقسام بحسب الأمر الحامل لهم على الوضع أعظمهم ضرراً قوم ينسبون إلى الزهد وضعوه احتساباً للأجر عند الله في زعمهم الفاسد فقبلت موضوعاتهم ثقة بهم وركوناً إليهم؛ لما نسبوا إليه من الصلاح. وذكر كلاماً ليحيى القطان هنا منه: ولكن الواضعون منهم وإن خفي حالهم على كثير من الناس فإنه لم يخف على جهابذة الحديث ونقاده, وقد قيل لابن المبارك: هذه الأحاديث الموضوعة؟ فقال: تعيش لها الجهابذة: { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } (سورة الحجر الآية 9).
ومن أمثلة ما وضع حسبة: ما رواه الحاكم بسنده إلى أبي عمار المروزي, أنه قيل لأبي عصمة نوح بن أبي مريم: من أين لك عن عكرمة عن ابن عباس في فضائل القرآن وليس عند أصحاب عكرمة هذا؟
فقال: إني رأيت الناس قد أعرضوا عن القرآن واشتغلوا بفقه أبي حنيفة ومغازي ابن إسحاق, فوضعت هذا الحديث حسبة. وكان يقال لأبي عصمة هذا: نوح الجامع. قال ابن حيان: جمع كل شيء إلا الصدق... إلخ.
الثاني: قوم كانوا يتكسبون بذلك ويرتزقون به في قصصهم كأبي سعيد المدائني.
الضرب الثالث: أرباب النحل والمذاهب البدعية؛ كالكرامية: نسبة إلى محمد بن كرام - بتشديد الراء - السجستاني المتكلم.
الرابع: وضع الزنادقة، فقد وضعت جملاً من الأحاديث؛ ليفسدوا بها الدين.
روى العقيلي بسنده إلى حماد بن زياد, قال: وضعت الزنادقة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربعة عشر ألف حديث؛ منهم عبد الكريم بن أبي العوجاء الذي قتل وصلب في زمن المهدي (هذا باختصار عرض لبعض ما ذكر في تدريب الراوي عن أقسام الوضع وذويه 102 - 103).
ومما تقدم يتضح أن الوضاعين وإن لم يبلغوا مأربهم من الدين؛ لمناهضة العلماء لهم ومقاومتهم إياهم إلا أنهم قبحهم الله - إلا من ثاب إلى رشده منهم - وضعوا في طريق المجتهدين ما عرقل سيرهم وجعله بطيئاً وعسيراً, فبعد أن كان الفقيه لا يشغله شاغل بعد سماع الحديث عن النظر فيه والاستنتاج منه وهو واثق مطمئن, أصبح واجباً عليه أن يعنى قبل كل شيء ببحث الحديث متناً وإسناداً, والتثبت من صحتهما حتى إذا تبددت غياهب الشك حل له أن ينظر ويستنبط, فلا يبلغ ما يروم إلا بعد جهد ومشقة وطول عناء.
أما السبب الرابع: من الأسباب التي لها الأثر في الاجتهاد في هذه الفترة فهو انقسام العلماء:
شاء الله عز وجل أن ينقسم جمهور الأمة الذين سلمهم الله من بدعتي الخروج والتشيع إلى أهل حديث وأهل رأي.
وذلك نتيجة لما سلكوا في الفقه فجماعة: امتازت بشدة الاشتغال بالنصوص والآثار والتمسك بها. وآخرون: امتازوا بالتوسع في استعمال الرأي, ومن هنا نشأت تسمية الفريق الأول بأهل الحديث وتسمية الفريق الثاني بأهل الرأي.
وكان الفريق الأول بالحجاز, وزعيمه سعيد بن المسيب القرشي (هو سعيد بن المسيب المخزومي ويكنى بأبي محمد, ولد سنة 15 هـ 636 م وتوفي سنة 94 هـ -712 م وكان نابغة فذاً في العلم ولقي كثيراً من الصحابة رضي الله عنهم، فسمع منهم ومنهم أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -. انظر المفتاح المبين 1 \ 87) إذ رأى هو وأصحابه أن أهل الحرمين الشريفين أثبت الناس في الحديث والفقه وأعلمهم بفتاوى الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه, فأكب على حفظ ما بأيديهم من الآثار, ورأى أنه بعد ذلك في غنية عن استعمال الرأي.
أما الفريق الثاني فكان مركزه العراق وعلى رأسهم: إبراهيم النخعي (هو إبراهيم بن يزيد النخعي, أحد الأعلام يرسل عن جماعة وقد رأى زيد بن أرقم وغيره, ولم يصح له سماع من صحابي, وقد قال فيه الشعبي: ذاك الذي يروي عن مسروق ولم يسمع منه شيئاً. قلت استقر الأمر على أن إبراهيم حجة وأنه إذا أرسل عن ابن مسعود وغيره فليس ذلك بحجة. ا هـ ميزان الاعتدال 1 \ 74 - 75 وعن مذهب إبراهيم تفرع مذهب الحنيفة توفي وهو مختف من الحجاج سنة 96 هـ وله 49 عاماً تاريخ التشريع 189) وطريقتهم مبنية على أن أحكام الشرع معقولة المعنى مشتملة على مصالح راجعة إلى العباد، ذات أصول محكمة وعلل ضابطة لتلك المعاني والحكم, فكانوا يبحثون عن هذه المعاني والعلل, ويستجلون الحكم التي شرعت الأحكام لأجلها حتى يستقر عندهم دوران الحكم معها.
وربما ردَّ بعض هذا الفريق شيئاً من الأحاديث إذا لم تتمش مع تلك الضوابط والأصول؛ لأن تلك الأصول والضوابط عنده تبلورت من جملة نصوص, والنص الواحد لا يقاوم العدد.
أما الفريق الأول فكان بحثه عن النصوص أكثر من بحثه عن العلل إلا فيما لم يجد فيه أثراً.
ويرجع شيوع الرأي في العراق إلى:
أولاً: أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، هو أستاذ في هذه المدرسة, وقد كان من المتأثرين بعمر بن الخطاب في الاجتهاد الفقهي, الذي يعتمد على استعمال الرأي, فكان تأثير ابن مسعود على مدرسته أمراً طبيعياً.
ثانياً: أن العراق منبع الشيعة ومقر الخوارج, فقد شاع فيها الوضع في الحديث, فاشترط علماؤها شروطاً لقبول الحديث لا يسلم معها إلا القليل, ضم إلى هذا اكتفاؤهم بمروي نزلاء العراق من الصحابة من الحديث، كان المعول عليه من الأثر قليلاً, فلا مندوحة لهم حينئذٍ من التوسع في الرأي.
ثالثاً: أن المسائل التي تحتاج إلى تعرف أحكامها في العراق أكثر وأعقد منها في الحجاز, إذ كان الحجاز بمنأى عن تلك النشاطات الفكرية والاجتماعية التي ماج بها العراق؛ لما جد من حركة التشيع والخروج مع ذات طبيعة أهله, وهذا بلا شك مع قلة المعول عليه من الأحاديث عامل قوي في التوسع في استعمال الرأي.
ولقد كان الفقه في مدرسة الحديث واقعياً, فلم يفرضوا المسائل ويقدموا لها أحكامها, أما في مدرسة الرأي ففي أول الأمر كان واقعياً, ثم ما لبث أن اتجه إلى الفروض والتقديرات، خصوصاً حين وضعوا الضوابط والقواعد؛ ليفرعوا عليها.
تلك أهم أحداث هذه المرحلة, ومنها اتسعت دائرة الخلاف, مما يتعذر معه الإجماع إلا ما كان اتفاقاً.
هذا وقد انقضت هذه المرحلة دون أن يدون فيها شيء من العلوم بصفة ذاتية, ولم تتكون فيها مذاهب معينة: فهي تشبه المرحلة السابقة من تلك الناحية, وتخالفها من جهة كثرة الاختلاف وتشعب الآراء للأسباب التي ذكرت.