أطوار الاجتهاد الفقهي (1-3)
د.عبد الله الزايد
الأمر الثاني من الأمرين المهمين: أن الصحابة تركوا افتراض المسائل وتقدير أحكامها فيما لم يقع بينهم, إدراكاً منهم لما يأتي:
1 - أن الأمة لا يزال فيها من يفتيها في أمور دينها قياماً بأمر الله الذي وعد الرسول صلى الله عليه وسلم بأن هذه الأمة لا يزال فيها من يقوم به حتى تقوم الساعة.
2 - أن الاجتهاد ليس حكراً عليهم دون الأجيال. وخوفاً من الوقوع في المأثم المترتب على الخطأ في الرأي الذي يقررونه لجيل غير جيلهم, وكأنه حكم معصوم بالوحي, والحكم المعصوم بالوحي انتهى بما تقرر بالنص في حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - مما أراد تعالى أن تكون الأمة عليه في أمر معاشها ومعادها. وليس من حق أحد بعده أن يقرر هذا التقرير.
ولقد رأينا سلامة هذا المسلك من الصحابة - رضي الله عنهم - بعد أن اشتغل الفقهاء بتلك الأمور من الفرضيات التي كان كثير منها أقرب إلى اللهو ومضيعة الوقت منه إلى الجد والمحافظة على الأوقات, مع ما أثارت من تبلد في أذهان الذين ورثوا هذه الكتب المشحونة بها إلى أن وصل الفقه بين المسلمين إلى حد ليس بعده إلا الموت, وقل في الأمة من يقال عنه إنه مجتهد مطلق أو قريب منه منذ قرون.
وفي وقتنا الحاضر لا أعلم من يطلق عليه هذا اللقب مع شديد الأسف, وإنما يوجد أفراد جد قلائل يمكن أن يطلق على بعضهم مجتهد مذهب.
فرضي الله عن صحابة محمد - صلى الله عليه وسلم - الذين اختارهم لحمل الأمانة إلى الأجيال, فسلموها إليها صافية المنهل طيبة المجتنى.
طريقة الصحابة رضي الله عنهم في استنباط الأحكام:
كان للصحابة رضي الله عنهم, وبخاصة في عهد الخلفاء الراشدين الأربعة مجالات ثلاثة يسلكونها للوصول إلى حكم الوقائع بشريعة الله - عز وجل - وتلك هي:
1 - أخذ الحكم الشرعي من ظاهر النص, أي: تطبيق النصوص على الحوادث المندرجة تحتها, ويدخل في هذا المسلك إجماع الصحابة على الحكم, كما كان معروفاً في عهد أبي بكر وعمر ( فإنه عندما يعييهما) أن يجدا نصاً لحكم الواقعة في القرآن أو السنة يلجآن إلى جمع رؤوس الناس وخيارهم, فإذا اجتمع رأيهم على شيء قضيا به, إلا أن عمر كان ينظر قبل تلك الخطوة في المأثور عن أبي بكر.
2 - القياس على الأشباه والنظائر, وهو أمر دربهم النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه باجتهاده, كما في قصة «المرأة التي سألته عن الحج عن أمها وقد ماتت» (صحيح البخاري الاعتصام بالكتاب والسنة (6885),سنن النسائي مناسك الحج (2633),مسند أحمد بن حنبل (1/279).
أ- كتاب عمر بن الخطاب إلى قاضيه باليمن أبي موسى: " اعرف الأشباه والنظائر, ثم قس الأمور عند ذلك " إلخ.
ب - ما روي من قضائهم في الجد والإخوة في الميراث, وتشبيههم إياها بالجدولين من النهر أو بالغصنين من الشجرة.
جـ - ما ذكر من قياسهم الشارب على القاذف من أجل إقرار الحد ثمانين جلدة إلى غير ذلك مما أثر عنهم, رضي الله عنهم.
3 - استنباطهم الحكم مراعين فيه مقاصد الشريعة وقواعدها الكلية, التي منها قاعدة سد الذرائع ونحوها.
ويمثل لذلك بما جرى بين أمير المؤمنين عمر وبين حذيفة بن اليمان (هو حذيفة بن حسل - ويقال: حسيل - بن جابر بن عمرو بن ربيعة, وينتهي نسبه إلى غطفان, واليمان لقب أبيه - ويقال: لقب أحد أجداده - وإنما لقب بذلك لأنه خالف أهل المدينة وأصلهم من اليمن. ولما أسلم هاجر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وشهد غزوة أحد وحرب نهاوند فأبلى بلاء حسناً, وكان فتح همدان والري على يده, وقد اختصه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتعريفه بالمنافقين, ولهذا سأله عمر يوماً فقال:
'' أفي عمالي أحد من المنافقين '' قال: نعم واحد. قال عمر: من هو ؟ قال: ''لا أذكره ''. فما زال عمر يتحرى حتى عرفه فعزله, وقد اشتهر حذيفة بالفتوى في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم, وروى عنه كثيراً من الأحاديث وروى عنه عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وغيرهما. توفي رحمه الله بعد مقتل عثمان بأربعين يوماً سنة 36هـ. من الفتح المبين 1 \ 77) رضي الله عنهم, وقد تزوج حذيفة بكتابية بالمدائن فكتب إليه عمر: أن خل سبيلها ؛ فإني أخاف أن يقتدي بك المسلمون فيختاروا نساء أهل الذمة لجمالهن, وكفى بذلك فتنة لنساء المسلمين.
هذا هو أسلوبهم فيما كان يعرض عليهم من قضايا, وبه أوصوا قضاتهم الذين كانوا يبعثونهم إلى المدن والأمصار وذلك بعد أن فصلت مهمة القضاء من الولاية العامة في عهد الفاروق, وحين كثرت الأعمال في عهده, فقد أثر عنه رضي الله عنه أنه لما ولى شريحا الكندي قضاء الكوفة قال له: اقض بما استبان لك من قضاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم أحله إن لم تجد ذلك على قضاء الأئمة المجتهدين بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم على الاجتهاد.
ومع استعمالهم رضي الله عنهم للرأي لم يجرؤ أحد منهم أن يجزم بأن ما وصل إليه هو حكم الله, وأنه الحق والصواب وأن ما عداه هو الخطأ, بل كان هديهم في هذا كما قال أبو بكر رضي الله عنه: " أقول فيها برأيي, فإن كان صوابا فمن الله, وإن كان خطأ فمني " إلخ (تلخيص الحبير 3 \ 89).
ولما سئل ابن مسعود رضي الله عنه عن المفوضة (المفوضة: اصطلاح فقهي يطلق على عدم تسمية المهر, وتفويض الزوجة تسميته إلى زوجها, ووليها يقوم مقامها, سواء أكان التفويض بالنطق أو السكوت وحينئذٍ تستحق مهر المثل عرفاً عند النكاح.) التي ماتت قبل أن يدخل بها زوجها, قال: أقول فيها برأيي: "لها مهر المثل لا وكس ولا شطط, فإن يكن صوابا فمن الله, وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان, والله ورسوله منه بريئان (نشأة الفقه لمحمد السايس 24 وإعلام الموقعين 1 \ 63).
سبب اختلاف فقهاء الصحابة في بعض الأحكام:
في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - لا مجال للاختلاف في الأحكام بإطلاق, وذلك نظراً إلى وحدة التشريع وتركيز الفتوى والقضاء في شخص النبي - صلى الله عليه وسلم - أما في عصر الصحابة فقد تغيرت الحال: فأصبحت الأحكام طائفتين:
طائفة: هي محل وفاق بينهم, وطائفة اختلفوا فيها باختلاف وجهات أنظارهم في القاعدة التي تحكم الحادثة المعروضة أو الواقعة.
ولكن مهما كان الاختلاف موجوداً في عهد الصحابة ؛ فإنه أضيق دائرة من اختلاف من جاء بعدهم وكانت أسباب اختلافهم ترجع إلى أمور أهمها ما يلي:
1 - الاختلاف في فهم القرآن:
فقد يكون اللفظ الوارد فيه مشتركاً بين معنيين, فيحمله أحدهم على أحد المعنيين, ويحمله الآخر على المعنى الثاني لقرينة تظهر له, فقد اختلفوا في تفسير لفظ القرء الوارد في قوله تعالى: { وَالْمُطَلَّقَا تُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ } (سورة البقرة الآية 228). لأن القرء في اللغة يطلق على الحيضة والطهر.
وقد ذهب ابن مسعود - رضي الله عنه - إلى أن عدة المطلقة لا تنتهي إلا باغتسالها من الحيضة الثالثة ؛ لأنه يرى أن القرء هو الحيضة, وهو رأي عمر أيضاً, ولكن زيد بن ثابت يرى أن القرء هو الطهر, ولهذا ذهب إلى أن العدة تنتهي متى دخلت المطلقة في الحيضة الثالثة دون أن تنتظر حتى تطهر منها (الشريعة الإسلامية لبدران أبي العينين ص59).
وأحياناً يكون الخلاف راجعاً إلى حمل اللفظ الوارد في القرآن على الاشتراك المعنوي, كما في مسألة الجد والإخوة ؛ فإن من حجب الإخوة به رأى أن معنى الأبوة متحققة فيه كما قال تعالى: { يَا بَنِي آدَمَ } (سورة الأعراف الآية 26) وهو الجد الأول للبشرية جمعاء. وكما في قوله عز وجل عن يوسف: { وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ } (سورة يوسف الآية 38).
ومنهم من رأى عدم الاشتراك بتسميته جداً, ونظر إلى معنى آخر وهو اشتراك الجد والإخوة في قربهم من الميت باستواء.
وأحيانا يكون الاختلاف راجعاً إلى تعارض نصين عامين في القرآن, فقد ذهب عمر وابن مسعود إلى أن الحامل المتوفى عنها زوجها تكون عدتها وضع الحمل, وذهب علي وابن عباس إلى أنها تعتد بأبعد الأجلين (وضع الحمل أو عدة الوفاة). وسبب الخلاف أن قوله تعالى: { وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } (سورة الطلاق الآية 4) يدل على أن عدة الحامل وضع الحمل.
وقوله تعالى: { وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا } (سورة البقرة الآية 234). يفيد أن عدة الوفاة أربعة أشهر وعشرة أيام من غير تفصيل بين الحامل وغيرها, فذهب علي وابن عباس إلى العمل بالآيتين معا, فتكون كل آية منهما مخصصة لعموم الأخرى, وذهب عمر وابن مسعود إلى أن آية: { وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ } (سورة البقرة الآية 234) خاصة بغير الحامل ؛ لتأخير آية: { وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ } (سورة الطلاق الآية 4).
والصواب ما ذهب إليه عمر وابن مسعود بلا شك؛ لحديث سبيعة بنت الحارث الأسلمية, «فقد توفي عنها زوجها سعد بن خولة - رضي الله عنه - في حجة الوداع, وهي حامل فلم تنشب أن وضعت حملها بعد وفاته, فلما تعلت من نفاسها ( أي: طهرت من نفاسها) تجملت للخطاب, فدخل عليها أبو السنابل بن بعكك (رجل من بني عبد الدار) فقال لها: ما لي أراك متجملة؟ لعلك ترجين النكاح ؟ إنك والله ما أنت بناكح حتى تمر عليك أربعة أشهر وعشرة. قالت سبيعة: فلما قال لي ذلك جمعت علي ثيابي حين أمسيت, فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسألته عن ذلك, فأفتاني بأني قد حللت حين وضعت حملي, وأمرني بالتزوج إن بدا لي» (صحيح البخاري المغازي (3770), صحيح مسلم الطلاق (1484),سنن النسائي الطلاق (3518), سنن أبو داود الطلاق (2306), سنن ابن ماجة الطلاق (2028), مسند أحمد بن حنبل (6/432).
2 - الاختلاف في أمور تتصل بالسنة:
إنَّ من الصحابة المقل ومنهم المكثر في محفوظه من السنة المطهرة, فقد كان فيهم الملازم للنبي - صلى الله عليه وسلم - لا يشغله شاغل, ومنهم من شغله الصفق في الأسواق طلباً للرزق الذي أباحه الله - عز وجل - وآخرون يقاتلون في سبيل الله, في السرايا التي كان ينظمها النبي - صلى الله عليه وسلم - لذلك ولتعليم الناس دين الله عز وجل, ولجباية الزكوات, ولا ريب أن ذلك سيكون له أثر في الأحكام التي يفتي بها كل من هؤلاء وهؤلاء, ولهذا كان بعض الصحابة إذا أفتى برأيه واستبانت له السنة رجع عنه. ومن ذلك: ما روي أن أبا موسى الأشعري (هو عبد الله بن قيس بن سليم من بني الأشعر من قحطان, ويكنى بأبي موسى صحابي جليل, ولد - رضي الله عنه - سنة (21) قبل الهجرة في زبيد باليمن, وقدم مكة عند ظهور الإسلام فأسلم. وقد أرسله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع معاذ بن جبل إلى اليمن, واختُصّ أبو موسى بالجزء الجنوبي منها, وهو زبيد وعدن. وقد ولي البصرة في عهد عمر سنة 17هـ. وافتتح أصبهان والأهواز. ولما ولي عثمان أقره على البصرة حيناً ثم عزله. ثم ولاه الكوفة بطلب من أهلها, ولما ولي علي أقره على الكوفة حيناً, ثم عزله علي وقد كان أحد الحكمين في التحكيم بين علي ومعاوية. كان رضي الله عنه من أحسن الصحابة صوتاً في تلاوة القرآن الكريم, ولهذا قال له الرسول '' يا أبا موسى لقد أعطيت مزمارا من مزامير آل داود ''. وقد أقام بالكوفة حتى كانت وفاته سنة 44هـ. من الفتح المبين 1 \ 63). رضي الله عنه أفتى برأيه في ميراث بنت الابن مع البنت والأخت فقسم المال بين البنت والأخت نصفين ولم يفرض لبنت الابن شيئا. وقال للسائل: وائت ابن مسعود فسيتابعني. فسئل ابن مسعود وأخبر بقول أبي موسى فقال: لقد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين, أقض فيها بما قضى به النبي - صلى الله عليه وسلم - للابنة النصف, ولابنة الابن السدس تكملة الثلثين, وما بقي فللأخت, فأتيا أبا موسى فأخبراه بقول ابن مسعود, فقال: لا تسألوني ما دام هذا الحبر فيكم (صحيح البخاري بشرح فتح الباري 12 \ 17 قال ابن حجر في المصدر المذكور: والحبر بفتح المهملة وبكسرها أيضا وسكون الباء حكاه الجوهري, ورجح الكسر, وجزم الفراء بأنه بالكسر, وقال: سمي باسم الحبر الذي يكتب به, وقال أبو عبيدة الهروي: هو العالم بتحبير الكلام وتحسينه, وهو بالفتح في رواية جميع المحدثين, وأنكر أبو الهيثم الكسر, وقال الراغب: سمي العالم حبراً؛ لما يبقى من أثر علومه.
3 - الاختلاف في الرأي:
علمنا من طريقتهم في الاستنباط أنهم رضي الله عنهم إنما يلجأون إلى العمل بالرأي إذا لم يجدوا نصاً من كتاب أو سنة, ومما لا شك فيه أن الرأي يختلف باختلاف الناظرين ؛ وفتاوى الصحابة رضي الله عنهم التي اختلفت وجهات نظرهم فيها إنما مردها إلى اختلاف منازعهم في المأخذ, ولكل وجهة هو موليها.
ومع أنه قد حصل شيء من الاختلاف فيما بينهم من جهة الرأي فقد كان شيئاً قليلاً بالنسبة لمن بعدهم ويرجع ذلك إلى الأمور الآتية:
1 - تيسر الإجماع في هذا الدور؛ لأن المفتين من الصحابة, وكبارهم كانوا مجتمعين في المدينة عاصمة الخلافة آنذاك, وقد ساعد على ذلك أن عمر كان ينهاهم عن الخروج من المدينة إلا بإذنه وعند الحاجة الشديدة.
2 - تمسكهم بمبدأ الشورى, وهو من الأمور التي لا يجد الخلاف معها سبيلاً في الغالب.
3 - قلة روايتهم لأحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خوف الوقوع في الكذب, ولهذا كانوا يتشددون في قبولهم, فأبو بكر وعمر كانا يطلبان شاهداً خلاف الراوي (أحيانا), وروي عن علي قوله: "كنت إذا سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديثاً نفعني الله بما شاء منه, وإذا حدثني عنه محدث استحلفته فإن حلف لي صدقته".
4 - قلة الحوادث في عصرهم, وتورعهم عن الفتيا, فقد كانوا يميلون على بعضهم, يقول ابن القيم: وكان السلف من الصحابة والتابعين يكرهون التسرع في الفتيا, ويود كل واحد منهم أن يكيفه إياها غيره, فإذا رأى أنها قد تعينت عليه بذل جهده في معرفة حكمها من الكتاب أو السنة أو قول الخلفاء الراشدين ثم أفتى (الشريعة الإسلامية لبدران أبي العينين 61- 62 وارجع إلى كلام ابن القيم في إعلام الموقعين 1 \ 33).
الخلاصة
ويتلخص لنا مما سلف:
1 - واقعية التشريع وارتباطه بالحوادث التي تقع وعدم افتراض وقوع حوادث, ثم تقدير أحكام لها, وذلك للأسباب التي ذكرناها.
2 - قلة المسائل الخلافية؛ لما منحهم الله من الذوق السليم لفهم الشريعة التي شاهدوا مبلغها صلى الله عليه وسلم, وتلقوا تربيتهم على يديه, وواكبوا أسباب التنزيل إلى جانب ما أسلفنا بيانه.
3 - تفاوتهم في استعمال الرأي, فقد كان من بينهم من يتحرج من الخوض فيه إلا في حالات نادرة, ومنهم من يتوسع فيه إذا لم يجد نصاً وينسب الخطأ إلى نفسه, فالأولون كعبد الله بن عمر وزيد بن ثابت والآخرون كعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود (هو عبد الله بن مسعود بن غافل بن حبيب وهو هذلي من أجلاء الصحابة ومن السابقين إلى الإسلام, قال يحدث عن نفسه: '' لقد رأيتني سادس ستة ما على ظهر الأرض مسلم غيرنا. وهو أول من جهر بالقرآن في مكة, قرأ سورة الرحمن رافعاً صوته, فجعل كفار قريش يضربونه حتى أدموا وجهه. وكان خادماً أميناً لرسول الله صلى الله عليه وسلم, ورفيقاً مخلصاً له, يدخل عليه في أي وقت شاء بإذن من الرسول صلى الله عليه وسلم, هاجر الهجرتين وشهد جميع المشاهد مع رسول الله, وهو الذي احتز رأس أبي جهل في غزوة بدر, وأتى به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له في الصحيحين ثمانية وأربعون وثمانمائة حديث. وكان رضي الله عنه حجة في القرآن حفظاً وفهماً, حَسَن التلاوة والأداء. قال له النبي صلى الله عليه وسلم: اقرأ علَيّ سورة النساء. فقرأ حتى بلغ قوله تعالى: ( فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا ) ( سورة النساء, الآية [ 41 ] ) ففاضت عينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالدموع فكف, وكان من المفتين في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويقول ابن حزم إن فتاوى ابن مسعود لو جمعت كانت سفراً ضخماً, وقد أوفده عمر إلى الكوفة معلماً ووزيراً, فأقام بها يأخذ عنه أهلها الحديث, وفي خلافة عثمان عاد إلى المدينة وبها مكث حتى حضرته الوفاة وعنده عثمان رضي الله عنهما، ثم صلى عليه ودفن بالبقيع. وكانت وفاته سنة 33هـ. وعمره بضع وستون سنة. من الفتح المبين 1 \ 69) رضي الله عنهم جميعاً. وقد كان هذا الأمر مقدمة لبروز مدرستي الحديث والرأي فيما بعد.
4 - عدم تدوين الفقه بالمعنى الذي صار إليه في عهد من بعدهم حين بدأ تدوين العلوم الإسلامية, كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. وإنما هي فتاوى وأحكام محفوظة في الصدور تتناقل عنهم (الشريعة الإسلامية ص62- 63) اللهم إلا ما كان من كتابات الرسول - صلى الله عليه وسلم - لبعض عماله, ككتابه إلى عمرو بن حزم ببيان أنصبة الزكوات, «وأن لا يمس المصحف إلا طاهر» (موطأ مالك النداء للصلاة (468) وما أشبه ذلك مما هو مدون في هذا الكتاب، وقد طعن فيه المحققون من أهل الحديث بعدة علل, ومهما يكن من أمر فإن العلماء يسيرون على مضمون هذا الكتاب, مما يشهد لصحته معنى وإن لم يثبت سنداً.
ومن ذلك كتابة عمر إلى بعض قضاته, ككتابته إلى شريح القاضي (هو شريح بن الحارث بن معاوية الكندي ويكنى بأبي أمية. ولد سنة 42 قبل الهجرة. ولم يلق النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو من كبار التابعين, كان محسناً كريماً يضرب به المثل في الحلم. وكان يميل إلى المزاح والدعابة, وكان معروفاً بسعة الاطلاع والعلم والاجتهاد, فاختاره - عمر بن الخطاب قاضياً على الكوفة, فسار مسيرة مرضية. ظل قاضياً حتى تولى الحجاج على العراق. فاستعفاه من القضاء فأعفاه مريداً ألا تؤثر فيه عواصف السياسة. وقد شهد بفضله أمير المؤمنين علي بن أبي طالب إذ قال له في جمع القراء: '' اذهب فأنت من أفضل الناس''. توفي رحمه الله سنة 78هـ وعمره مائة وعشرون سنة على الأرجح. الفتح المبين 1 \ 85).
كما أن بعض الصحابة كعبد الله بن عمرو كان يكتب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحاديثه التي يسمعها منه. ولهذا كان من أكثر الصحابة حظاً في تجارة الحديث.
5 - حدوث اجتهادات قائمة على المصلحة, ولم تكن هذه الأحكام على ما عهد عليه الحال في عهد النبوة ومن ذلك:
1 - أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى ألا تعطى المؤلفة قلوبهم من سهمهم من الزكاة.
ومبنى هذا الرأي ؛ أن الله عز وجل أعز الإسلام وأهله ومكن له في البلاد, وأذل لهم رقاب العباد (تفسير ابن كثير 2 \ 365) فقد نظر عمر رضي الله عنه إلى الباعث على الحكم فقرر أنه مؤقت بوصف متى زال ما بني عليه وهذا الوصف ضعف المسلمين وقوة عدوهم وقد أعزهم الله ومكن لهم في الأرض فليس هناك حاجة إلى الإبقاء على هذا السهم.
وقال آخرون: بل هو باق ونظروا إلى أمرين:
· الأول: أن النص القرآني الكريم واضح في هذا, وهو لم ينسخه شيء مع أنه لم يقترن بعلة تدل على وضوح العلة التي أشير لها تبريراً للرأي الأول و( أل ) في المؤلفة قلوبهم تؤكد بقاء هذا السهم ما وجد سبب للتألف على الإسلام, وهو رجاء إسلام الكافر بدفعه إليه, أو كف شره, أو نحو ذلك, مما ذكر من دواعي التأليف في كتب الفقه.
· الثاني: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - تألف على الإسلام بعد فتح مكة وكسر هوازن في وقت قد أعز الله الإسلام وأهله ومكن لهم في البلاد وبين العباد (تفسير ابن كثير 2 \ 365) , وهذا ما عليه الجمهور.
2 - ما صح عن عمر رضي الله عنه: أنه جعل الطلاق ثلاثاً بلفظ واحد ثلاث طلقات, تبين به الزوجة بينونة كبرى, ولا تحل لمطلقها كذلك حتى تنكح زوجاً غيره في نكاح صحيح.
وقال مبيناً مبنى رأيه: أن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة, فلو أمضيناه عليهم. فأمضاه عليهم عقوبة لهم على تسرعهم في الطلاق إلى أبغض حلال إلى الله.
فقد روى مسلم في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما: «كان الطلاق على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر رضي الله عنه طلاق الثلاث واحدة. فقال عمر بن الخطاب: إن الناس قد استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه أناة, فلو أمضيناه عليهم. فأمضاه عليهم» (صحيح مسلم الطلاق (1472),سنن النسائي الطلاق (3406),سنن أبو داود الطلاق (2199) صحيح مسلم بشرح النووي 2 \ 668 ).
وعمر رضي الله عنه لم يخف عليه أن السنة ما كان إلى السنتين الأوليين من خلافته, وأنها توسعة من الله تعالى لعباده إذ جعل الطلاق مرة بعد مرة, وما كان مرة لم يملك المكلف إيقاع مرات كلها جملة واحدة كاللعان ؛ فإنه لو قال: أشهد بالله أربع مرات أني لمن الصادقين كان مرة واحدة ولو حلف في القسامة وقال: " أقسم بالله خمسين يميناً أن هذا قاتل " كان ذلك يميناً واحداً.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من قال في يومه: سبحان الله وبحمده مائة مرة حطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر (صحيح البخاري بدء الخلق (3119), صحيح مسلم الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2692), سنن الترمذي الدعوات (3469), سنن النسائي السهو (1354), سنن أبو داود الأدب (5091), سنن ابن ماجة الأدب (3798), مسند أحمد بن حنبل (2/375), موطأ مالك النداء للصلاة (486) رواه البخاري في كتاب الدعوات باب فضل التسبيح ص206 البخاري بشرح فتح الباري ج 11 ورواه مسلم في كتاب الذكر).
فلو قال: سبحان الله وبحمده مائة مرة لم يحصل له هذا الثواب حتى يقولها مرة بعد مرة. فهذه النصوص وغيرها مما في معناها مما دل على اعتبار إيقاع المعدود بعدد مرة بعد مرة, هو الذي يدل عليه المعقول من اللغة والعرف.
وقوله تعالى: { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ } (سورة البقرة الآية 229) بابها وتلك النصوص واحد ومشكاتها واحدة.
ومما دل عليه حديث ابن عباس رضي الله عنهما مما كان أمر الطلاق في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو الذي دل عليه الكتاب والسنة والقياس والإجماع القديم, ولم يأت بعده إجماع يبطله.
ولكن رأى أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه: أن الناس قد استهانوا بأمر الطلاق وكثر منهم إيقاعه جملة واحدة فرأى من المصلحة عقوبتهم بإمضائه عليهم ؛ ليعلموا أن أحدهم إذا أوقعه جملة بانت منه المرأة, وحرمت عليه حتى تنكح زوجاً غيره, نكاح رغبة يراد للدوام لا نكاح تحليل ؛ فإنه كان أشد الناس فيه, فإذا علموا ذلك كفوا عن الطلاق المحرم, فرأى عمر رضي الله عنه أن هذا مصلحة لهم في زمانه, ورأى أن ما كانوا عليه في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وعهد الصديق وصدرا من خلافته كان الأليق بهم؛ لأنهم لم يتتابعوا فيه, وكانوا يتقون الله في الطلاق, وقد جعل الله لكل من اتقاه مخرجاً, فلما تركوا تقوى الله وتلاعبوا بكتاب الله, وطلقوا على غير ما شرعه الله ألزمهم بما التزموه عقوبة لهم (من إعلام الموقعين من 3 \ 30 ومن 32 -34 ومن 35 -36 وقد بحث الإمام ابن القيم هذا الحكم بحثاً نفيساً وأسهب فيه فارجع له هنالك إن شئت. قلت: الجمهور من الصحابة كما يفهم من حديث ابن عباس, وكما قرر ابن القيم أعلاه على خلاف رأي الفاروق رضي الله عنهم أجمعين, وقد ذهب إلى رأي عمر الجمهور من الفقهاء من أصحاب أهل المذاهب الأربعة, وهو مذهب ابن حزم الظاهري أيضا, وحجة ابن حزم أن ما رواه ابن عباس لم يكن مسنداً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وإنما هو قول من قوله, وعنده لا يقبل الحديث إلا أن يصرح فيه بـ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم, أو رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل, أو يترك كذا, أو رأى فلاناً يعمل كذا فأمره, وقد ذكر الشيخ بدران أبو العينين في كتابه الشريعة الإسلامية حاشية ص 63 قوله: ومما يذكر هنا أن المحاكم الشرعية في مصر حسب قانونها الجديد المعمول به الآن على خلاف عمر رضي الله عنه تيسيرا على الناس. قلت: وعدم إيقاع الطلاق الثلاث بفم واحدة هو مختار شيخ الإسلام ابن تيمية من الحنابلة وتلميذه ابن القيم, وتجدر الإشارة هنا أن المحاكم الشرعية بالمملكة العربية السعودية تسير على رأي عمر, وكذلك الفتوى الرسمية هناك إلا أن القاضي إذا تحرج من إمضاء الثلاث بلفظ واحد استفتى شيخنا العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز فإنه يرى حفظه الله عدم وقوع الثلاث إذا كانت بلفظ واحد, ويعتبرها طلقة واحدة, كما رأى ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية, وقد كان على هذا منذ أمد حتى على حياة شيخه شيخنا علامة المملكة محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف آل الشيخ رحمه الله وغفر له, فما كان يرى بأساً أن يخالفه تلميذه ما دام الحق رائد الجميع).
6 - أن مصادر التشريع في هذه الفترة هي:
1- الكتاب. 2- السنة. 3- الإجماع. 4- الرأي بمعناه الأعم.
هذا هو ما أردت أن أتطرق إليه من أهم عوامل تطور أصول الفقه في هذا الدور. والله المستعان.