أحكام التلبية 3
د.عبود بن علي بن درع
الأدلة :
أدلة القول الأول :
استدلوا بالمعقول والإجماع ، من ذلك :
1ـ لا ترفع صوتها مخافة الفتنة بها وعليها [31] .
2ـ لا ترفع صوتها بالتلبية قياساً على الأذان والإقامة وقياساً على منعها من التسبيح في الصلاة وأمرها بالتصفيق إذا كان بحضرتها أجانب[32] .
3ـ قال ابن عبد البر : أجمع العلماء على أن السنة في المرأة أن لا ترفع صوتها وإنما عليها أن تسمع نفسها[33] .
أدلة القول الثاني :
استدل ابن حزم لقوله بالسنة والأثر ، من ذلك :
1ـ ما تقدم من حديث خلاد بن السائب وجعله شاملاً للرجال والنساء وحمل الأمر الوارد فيه على الوجوب [34] .
وقد تقدم الجواب عن حمله الحديث على الوجوب قبل قليل .
أما شموله للرجال والنساء فقال الشافعي بعد أن ساق الحديث : فيه دلالة على أن أصحابه هم الرجال دون النساء [35] .
2ـ روى ابن حزم بإسناده عن القاسم بن محمد عن أبيه قال: خرج معاوية ليلة النفر فسمع صوت تلبية ، فقال : من هذا ؟ قيل عائشة أم المؤمنين اعتمرت من التنعيم فذكر ذلك لعائشة فقالت عائشة: لو سألني لأخبرته[36] .
قال ابن حزم فهذه أم المؤمنين ترفع صوتها حتى يسمعها معاوية في حاله التي كان فيها
3ـ أنه قد كان الناس يسمعون كلام أمهات المؤمنين .. ويروون عنهن ولم يُختلف ... في جواز ذلك واستحبابه [37] .
الترجيح :الذي يظهر لي أن الصواب قول الجمهور وهو أن السنة عدم رفع الصوت بالتلبية في حق النساء لما يلي :
1ـ أن ما استدل به ابن حزم لا ينهض للاستدلال إلا أثر عائشة فلعلها لم تعلم أن بقربها رجالاً حينذاك ثم إن نصوص الشريعة تدل على أن السنة للمرأة ألا ترفع صوتها بحضرة الأجانب في العبادة كالصلاة وقراءة القرآن .
2ـ أن التلبية لا تقاس على الفتوى ورواية الحديث لأنه يحرم كتم العلم بخلاف التلبية فالمقصود بها التعبد وهذا يحصل بدون رفع الصوت كالقراءة في الصلاة .
3ـ أن في رفع المرأة صوتها بالتلبية مفسدة أعظم من الأجر الحاصل برفع الصوت ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح .. والله أعلم
المبحث الرابع : أحكام الملبي وقت التلبية .
وفيه خمسة مطالب .
المطلب الأول : وقت بداية التلبية .
المطلب الثاني : حكم من بدأ بدعاء الركوب قبل التلبية .
المطلب الثالث : حكم التلبية عن الصبيان .
المطلب الرابع : حكم تلبية غير المحرم .
المطلب الخامس : حكم التلبية حال الجنابة .
المطلب الأول : وقت بداية التلبية :
اختلف الفقهاء ـ رحمهم الله تعالى ـ في وقت بداية التلبية على ثلاثة أقوال :
القول الأول : يبدأ بالتلبية إذا استوى على راحلته ، وبهذا القول قال الإمام مالك [38] ، والشافعي في الجديد [39] ، وجماعة من الحنابلة [40] ، واستدلوا :
1ـ حديث أنس ـ رضي الله عنه ـ قال : صلى النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة أربعاً وبذي الحليفة ركعتين ثم يأت حتى أصبح بذي الحليفة ، فلما ركب راحلته واستوت به أهلَّ "[41] [42] .
2ـ حديث ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال : " أهل النبي صلى الله عليه وسلم حين استوت به راحتله قائمة"[43].
3ـ لأن الدخول في العبادة يجب أن يكون عند الشروع في فعلها لا قبله "[44] .
القول الثاني : يبدأ بالتلبية عقيب صلاة ، وبه قال الحنفية [45] ، وبعض المالكية [46] ، والشافعي في القديم [47] ، والمذهب عند الحنابلة [48] ، واستدلوا :
1ـ عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : " أن النبي صلى الله عليه وسلم أهل في دبر صلاته"[49] .
2ـ لأنه أكثر عملاً ، لأن من يلبي عقب صلاته يلبي إذا استوى على راحلته ، وكذا إذا على شرف البيداء دون العكس [50] .
القول الثالث : يبدأ بالتلبية حين يرتفع على البيداء ، وهذا القول رواية عن الإمام أحمد[51] ، واستدلوا : بحديث جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنهما ـ أنه قال: " ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا استوت به راحلته على البيداء أهل بالتوحيد لبيك اللهم لبيك "[52] .
الراجح : لعل الراجح ـ والله أعلم ـ هو القول الأول بأن وقت بداية التلبية إذا استوى المحرم على راحلته ، وذلك لأنها أصح الروايات وأكثرها وأشهرها ، وليس هناك تعارض بينهما ، لأن حديث جابر يحمل على أنه لم يسمع التلبية إلا حين استوى على الراحلة ، فنقل كل منهما ما سمع ، وحديث ابن عباس يدل على أنه أهلَّ بعد الصلاة واستواؤه على الراحلة كان بعد الصلاة وحتى إذا علت به راحلته على البيداء فهو دبر الصلاة ، ويقال : إن الأولى هو القول الأول بأنه لا يلبي إلا إذا ركب لأنه أحياناً يتذكر الإنسان شيئاً كطيب أو شبهة فيحصل له بذلك فسحة أما إذا أحرم بعد الصلاة لم يتمكن من استعمال الطيب ونحوه[53] .
وإذا صح حديث ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ في الجمع بين الروايات المختلفة فإنه يبدأ بالتلبية عقب الصلاة وهو قوله : " إن الناس نقل كل واحد منهم ما سمع وإن النبي صلى الله عليه وسلم لبى بعد الصلاة فسمعه أناس ، فقالوا : أهل دبر الصلاة ، ولبى حين ركب فسمعه أناس فقالوا: لبى حين ركب وسمعه ناس حين استوت به راحلته على البيداء فقالوا لبى حين استوت به راحلته على البيداء"[54] .
والصواب أن أول وقت التلبية ، هو أول الوقت الذي يركب فيه مركوبه عند إرادة ابتداء السير ؛ لصحة الأحاديث الواردة بأنه صلى الله عليه وسلم أهل حين استوت به راحلته قائمة ، واستوى عليها ؛ للأحاديث الآتية :
1ـ حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما :قال : " ما أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين استوت به راحلته قائمة " . وفي لفظ للبخاري أيضاً : كان ابن عمر رضي الله عنهما إذا صلى الغداة بذي الحليفة أمر براحلته ثم ركب ، فإذا استوت به استقبل القبلة قائماً ثم يلبي وفي للفظ للبخاري أيضا: أن ابن عمر : إذا استوت به راحلته قائمة أحرم ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل [55] .
2ـ حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما : أن إهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذي الحليفة حين استوت به راحلته [56] .
3ـ حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال : صلى النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة أربعاً ، وبذي الحليفة ركعتين ، ثم بات حتى أصبح بذي الحليفة ، فلما ركب راحلته واستوت به أهلَّ [57] . وفي لفظ : صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن معه بالمدينة أربعاً ، وبذي الحليفة ركعتين ، ثم بات بها حتى أصبح ، ثم ركب حتى استوت به على البيداء [58] ، حمد الله ، وسبح ، وكبر، ثم أهلَّ بحج وعمرة .. [59] .
4ـ حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال : صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر بذي الحليفة ، ثم دعا بناقته فأشعرها في صفحة سنامها الأيمن ، وسلت الدم ، وقلدها نعلين ، ثم ركب راحلته ، فلما استوت به على البيداء أهل بالحج [60] .
5ـ حديث جابر رضي الله عنه في حديث عن صفة حجة الوداع ، وفيه : ... فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ركب القصواء حتى إذا استوت به ناقته على البيداء ، نظرت إلى مدِّ بصري بين يديه : من راكب ، وماش، وعن يمينه مثل ذلك ، وعن يساره مثل ذلك ، ومن خلفه مثل ذلك ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا، وعليه ينزل القرآن ، وهو يعرف تأويله، وما عمل من شيء عملنا به، فأهلَّ بالتوحيد..[61].
6ـ حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: بيداؤكم هذه التي تكذبون على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها ، ما أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من عند الشجرة حين قام به بعيره [62] .
قال العلامة الشنقيطي رحمه الله : ومراد ابن عمر : أن النبي صلى الله عليه وسلم أهلَّ محرماً حين استوت به راحلته قائمة ، من منزله بذي الحليفة ، قبل أن يصل إلى البيداء ، ووجه الجمع أنه صلى الله عليه وسلم ابتداء إهلاله حين استوت به راحلته قائمة ، فسمعه قوم ، ثم لما استوت به على البيداء أعاد تلبيته فسمعه آخرون لم يسمعوا تلبيته الأولى ، فحدَّث كل واحد منهم بما سمع ، وقال بعضهم : أحرم في مصلاه [63] ، فسمعه بعضهم ، ولم يسمعه ابن عمر حتى استوت به راحلته ، وجزم ابن عمر أنه ما أهل حتى استوت به راحلته يدل على أنه لم يهل حتى استوت به ، فالأحاديث متفقة ، ومراد ابن عمر بالإنكار والتكذيب خاص بمن زعم أنه لم يلبِّ قبل وصوله البيداء ، وهذا الجمع ذكره ابن حجر عن أبي داود، والحاكم [64] ، وقال ابن حجر في الفتح[65] . فائدة :البيداء فوق علمي ذي الحليفة لمن صعد من الوادي ، قاله أبو عبيد البكري وغيره [66] .
وقال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله : وأكثر نصوص أحمد تدل على أن زمن الإحرام هو زمن التلبية [67] .
وقال رحمه الله بعد أن ساق أحاديث الإحرام بعد الاستواء على الراحلة قائمة : فهذه نصوص صحيحة : أنه إنما أهل حين استوت به راحلته ، واستوى عليها ، ورواتها مثل: ابن عمر، وأنس ، وابن عباس في رواية صحيحة [68] .
وقال رحمه الله : فمن زعم أنه أحرم ولم يلبِّ ثم لبَّى حين استوت به ناقته فهو مخالف لجميع الأحاديث ، ولعامة نصوص أحمد [69] .
فظهر مما تقدم: أن أول وقت التلبية هو وقت انعقاد الإحرام عند الاستواء على المركوب[70].
وهذا هو السنة ، وإلا فالصواب أن الإحرام ينعقد بمجرد النية [71] .
يتبع