حكم اشتراط المحرم في حج المرأة وأثره في الفقه الإسلامي 3
د.عبود بن علي بن درع
الدليل العاشر: أن المرأة إذا وجب عليها الحق بدعوى ولا قاضيَ في بلدها، أو وجب عليها حدّ؛ ولا يمكن إقامته إلاّ بسفرها ولا محرم لها، فإنّها تسافر من دون محرم وجوباً، وكذلك الحجّ واجب وهي مستطيعة له ومعها رفقة مأمونة؛ فوجب عليها الخروج قياساً على ما ذكر[111].
ونوقش: بأنه قياس مع الفارق لأن عدم حضورها الدعوى يترتب عليها ضياع حق المدعي، وأمّا الحدّ فهو حق واجب عليها بغير اختيارها، وليس يشبه أمر الحج المبنيّ على الاستطاعة[112].
الدليل الحادي عشر: أن السفر إلى الحج سفر واجب فوجب أن لا يكون المحرم شرطا في قطع الطريق إليه[113].
ويناقش: إذا ورد النص باشتراطه اشترط.
الدليل الثاني عشر : أنه إذا دعى عند الحاكم على امرأة غائبة دعوى، فإن الحاكم يبعث إليها ليحضرها فإن لم يكن لها محرم إذا كانت ممن تبرز، فإذا وجب عليها الخروج في حق لا يتحقق وجوبه عليها، إذ قد يجوز أن يكون مبطلاً في الدعوى عليها، فلأن يجب في حق يتحقق وجوبه عليها أولى[114].
ويناقش:بأن القياس مع الفارق ، لأن حقوق العباد مبنية على المشاحة بخلاف حقوق اله سبحانه وتعالى المبنية على المسامحة.
الدليل الثالث عشر :القياس على حال الأسيرة إذا تحصلت من أيدي الكفار إذ يلزمها السفر إلى بلاد الإسلام وإن لم يكن معها محرم فكذلك تحج الفريضة قياساً على الهجرة التي خص بها الحديث بالإجماع[115].
ويناقش:
أ أن القياس في مقابل النص فاسد.
ب أن الإجماع انعقد على سفر الضرورة لا على سفر الاختيار[116].
جـ التي أسلمت ثم هاجرت خوفها عند الكفار أشد من خوفها خطر الطريق لما يلحقها من الفتنة والعنت والاضطهاد[117].
د أن المسافرة للحج تسافر من الأمان وتعرض نفسها للفتنة فالقياس غير صحيح لوجود الفارق.
الدليل الرابع عشر : أن هذه المسافة يجب قطعها فلم يكن من شرط وجوب قطعها وجود ذي محرم كما لو كان بينها وبين مكة ليلتان[118].
ويناقش:بأنه لا قياس مع النص، حيث ورد النص بأنها لا تسافر إلا مع ذي محرم.
الدليل الخامس عشر: أن وجود من تأمنه يقوم مقام المحرم[119].
ويناقش:
أ* غير المحرم لا يؤمن، وقد نهى الرسول - صلى الله عليه وسلم - الصحابة رضي الله عنهم وهم أتقى الناس – نساءهم أن يسافرن إلا مع محارمهن.
ب أنها بدون المحرم يخاف عليها الفتنة[120].
أمّا ما ذهب إليه أحمد في رواية وبعض المالكية من استثناء الكبيرة عن المشتهاة، وذلك من باب تخصيص العموم بالنظر إلى المعنى[121]، وهو مراعاة الأمر الأغلب[122].
قال ابن مفلح: « وقال صاحب «المحرَّر»: وعنه رواية رابعة: لا يشترط المحرم في القواعد من النساء اللاتي لا يُخشى منهن ولا عليهن فتنة. وسئل في رواية المروذي عن امرأة عجوز كبيرة ليس لها محرم ووجدت قوماً صالحين فقال: إن تولت هي النزول والركوب ولم يأخذ رجلٌ بيدها فأرجو؛ لأنها تفارق غيرها في جواز النظر إليها للأمن من المحذور، فكذا هنا»[123].
وسئل ابن تيمية: هل يجوز أن تحج المرأة بلا محرم؟ فأجاب : « إن كانت من القواعد اللاتي لم يحضن، وقد يئست من النكاح، ولا محرم لها، فإنه يجوز في أحد قولي العلماء أن تحجَّ مع من تأمنه، وهو أحد الرِّوايتين عن أحمد ومذهب مالك والشافعي»[124].
وتُعُقب ذلك من وجوه:
أحدها: أنّ لفظ: « المرأة » الوارد في أحاديث النهي عن السفر بدون محرم عام يشمل الشابة والعجوز. قال القرطبي: « قوله - صلى الله عليه وسلم - : « لا يحل لامرأة » هو على العموم لجميع المؤمنات؛ لأن «امرأة» نكرة في سياق النفي، فيدخل فيه الشابة والمتجالة، وهو قول الكافة»[125].
وقال الكاساني: « وسواء كانت المرأة شابة أو عجوزاً أنها لا تخرج إلا بزوج أو محرم؛ لأنّ ما روينا من الحديث لا يفصِّل بين الشابة والعجوز »[126].
الثاني: بأن المرأة مظنة الطمع فيها ومظنة الشهوة ولو كانت كبيرة، وقد قالوا: « لكل ساقطة لاقطة »[127]. قال القرطبي: « لأنّ الخلوة بها تحرم، وما لا يطلع عليه من جسدها غالباً عورة، فالمظنة موجودة فيها، والعموم صالح لها، فينبغي ألا تخرج منه»[128].
وقال الكاساني: « وكذا يُخاف عليها من الرجال، وكذا لا يؤمَن عليها من أن يطلع عليها الرجال حال ركوبها ونزولها، فتحتاج إلى الزوج أو إلى المحرم ليصونها عن ذلك»[129].
وأجيب: بأنه ما لنا لاقطة لهذه الساقطة، ولو وجد خرجت عن فرض المسألة؛ لأنها تكون حينئذ مشتهاة في الجملة، وليس الكلام فيها، إنما الكلام فيمن لا تُشتَهى أصلاً ورأساً، ولا نسلم أنّ من هي بهذه المثابة مظنة الطمع والميل لها بوجه[130].
وتُعُقب: بأنّ غلبة الشهوة قد تُفقِد الإنسان في بعض الأحيان رشده وصوابه، أفلا يُرى أن بعض السُّفهاء يُفرغ شهوته في الدواب! وهل هي مظنة الشهوة؟! وعليه، لا فرق؛ لأنّ لكل ساقط لاقطاً، وهو مراعاة الأمر النادر[131]، فالمتعفف يراعي الأمر النادر، وهو الاحتياط[132].
الثالث: أن قول الإمام أحمد: « لأنها تفارق غيرها في جواز النظر إليها؛ للأمن من المحذور ، فكذا هنا » متعقَّب بما قاله ابن مفلح: « كذا قال؛ فأخذ – أي الإمام أحمد – من جواز النظر الجواز هنا، فتلزمه في شابة قبيحة، وفي كلِّ سفر، والخلوة ...مع أنّ الرواية فيمن ليس لها محرم»[133].
الرابع: القول بأنّ « ذلك من تخصيص العموم بالنظر إلى المعنى» متعقَّب بما قاله الكاساني: « المعنى لا يوجب الفصل بينهما؛ لما ذكرنا من حاجة المرأة إلى من يُرْكِبُها ويُنْزِلُها، بل حاجة العجوز إلى ذلك أشدّ؛ لأنها أعجز»[134].
القول الثالث: أنه لا يشترط المحرم ولا الرّفقة الآمنة، ويجوز لها أن تخرج للحج لوحدها إذا أمنت الطريق.
وهو قول الحسن البصريّ[135]، وقول عند الشافعية صحّحه بعضهم وضعّفه آخرون[136]، وابن حزم [137]، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية[138].
ويستدلّ لهذا القول بأدلة أصحاب القول الثاني نفسها؛ إلاّ أنّ أولئك قيّدوها بوجود الرّفقة الآمنة، وهؤلاء استدلوا بها على إطلاقها بدون تقييد؛ إلا ّ بأمن الطّريق؛ ولا شكّ أن استدلال هؤلاء بها أقرب من أولئك؛ لأنها جاءت مطلقة عن اشتراط الرّفقة الآمنة، فهذا يعتبر شرط زائد عن ظواهر النّصوص كلها، وأما اشتراط أمن الطريق فهو عام في الرجل والمرأة، فمن لم يأمن لا يجب عليه الحج، ولا داعي لتكرار ما ذكر من أدلة هنا، وتناقش بما نوقشت به هناك.
وقد زاد أصحاب هذا القول استدلالهم بما رواه عمر رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: « لا تمنعوا إماء الله مساجد الله»[139]، وعنه قوله - صلى الله عليه وسلم - : « إذا استأذنكم نساؤكم إلى المساجد فأذنوا لهنّ»[140].
وجه الاستدلال: أن المسجد الحرام أجلُّ المساجد قدراً، فلا يمنعن من الخروج إليه[141].
ونوقش هذا الاستدلال من وجهين:
الأول: أن المراد هو حضور الجماعة لا الحج، بدليل سياق الخبر: « وبيوتهنّ خير لهن».
والثاني: أنه بعيد لكونه عامّاً في المساجد، فيخرج المسجد الذي يحتاج إلى السفر بأحاديث النهي عن السفر إلا بمحرم السابقة[142].
يتبع