أما أدلة القرآن على قاعد (سدّ الذرائع) : فيكفي منها قوله تعالى ((ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم)) [الأنعام: 108 ] ,
فسبّ الأصنام من آلهة المشركين وانتقاصها وتحقيرها مع كونه ليس باطلا , فقد نهانا الله تعالى عنه ؛ لأنه سيؤدي إلى مفسدة أعظم , وهي أن يسبّ المشركون الله تعالى .
وأمّا أدلة السنة : فيكفي منها ما جاء في الصحيحين عن عَائشَةَ زوْجِ النبي صلى الله عليه وسلم :
«أنَّ رسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قال : ألَمْ ترَيْ أنَّ قوْمَكِ حين بنَوْا الْكعْبَةَ اقْتصَرُوا عن قَوَاعدِ إبراهيم ! قالت : فقلت : يا رسُولَ الله , أفَلَا ترُدُّهَا على قَوَاعدِ إبراهيم ؟ فقال رسول اللّهِ صلى الله عليه وسلم : لوْلَا حِدْثَانُ قَوْمكِ بالْكُفْرِ , لفَعَلْتُ» , وفي رواية قال صلى الله عليه وسلم : «لَولَا أنَّ قَومَكِ حدِيثُو عَهدٍ بِجاهِلِيَّةٍ , لَأَنفَقْتُ كَنزَ الكَعْبَةِ في سبِيلِ الله , وَلَجَعَلتُ بابَهَا بِالأَرْضِ , ولأدخلت فيها من الحِجْرِ» .
فهنا يصرح النبي "صلى الله عليه وسلم" أنه ترك الأمر الفاضل خشيةً من أن يكون ذريعةً لمفسدةٍ محرمة أكبر من مصلحة إعادة البناء على قواعد إبراهيم .
وأمّا الإجماع : فقد نقله عدد من الأئمة , من مثل الإمام القرافي (ت684ه) في كتابه الذخيرة (1/152-153) , والفروق (3/405-412) , والشاطبي (ت790ه) في كتابه الموافقات (5/185) .
وما نِزاعُ مَن نازع مِن العلماء في صحّة هذا الإجماع ؛ إلا من نوع النزاع اللفظي المتعلّق بالمصطلح فقط , وليس نزاعًا حقيقيا مؤثّرا في صحّة الإجماعِ على العمل بأصل قاعدة (سدّ الذرائع) ,
ذلك الإجماعِ الذي عليه الفقهاءُ جميعهم : من أئمة المذاهب الأربعة وغيرِهم من أئمة السلف .
إذ إن قاعدة دفع مفسدة متيقّنة أو غالبة بمفسدة أخرى أخف منها , كمفسدة منع المباح في الأصل لكونه سيؤدي إلى مفسدة أكبر , وهي قاعدة (سدّ الذرائع) = فقاعدةٌ لا يخالف فيها عاقل , فضلا عن فقيه .
وإلى جميع ذلك يدل أيضا تقرير ابن قيم الجوزية في باب سدّ الذرائع , في كتابه إعلام الموقعين (3/135-159) .
وأما اقتضاء العقل السليم لها , وأن العمل عليها في الدساتير والقوانين والأنظمة , فيكفي للدلالة عليه المثال التالي :
فلو وقع شجارٌ شديدٌ بين عدد من الرجال , حتى تناولوا بعضَهم بالأيدي , فقام أحد هؤلاء المتشاجرين إلى بائع بجوارهم كان يشاهد هذا الشجار , فطلب منه الاستعجال في بيعه سكّينا معروضة أمامه ,
وظاهرٌ من شجاره ومن قرائن أحواله أنه يريد السكين ليستخدمها ضدّ خصمه الذي كان يشاجره حينها = فهل هناك عاقل يقول بجواز بيع السكين على هذا ؟!
مع أن بيع السكين حلال في الأصل! وهكذا .. فأنت ترى أن العقلاء كلهم يمنعون من بيع السكين في هذه الحالة ؛ لأنه كان ذريعة للاعتداء بالقتل , مع كون بيعها في الأصل تعاملا معتادا مقبولا في جاري الأحوال .
ومن نظر في عموم الأنظمة والقوانين , يجد أنها لا بد أن تراعي هذه القاعدة . وإلا فأنظمة المرور : لماذا تمنعني من السير في طريق إلا في اتجاه معيّن ؟ ولماذا أقف عند إشارة الضوء الأحمر ؟ ولماذا وُضعت غيرها من أنظمة المرور التي تقيّد حريتي ؟ والتي نجدها أنظمةً تمنع عباد الله من أن يسيروا في أرض الله !!
الجواب هو : وُضعت هذه الأنظمة سدًّا لذرائع إلى مفاسد عظيمة , تفوق مفسدة تقييدِ الحريّة ؛ تهذيبًا للحرية , لا إلغاءً لها .
إذن لا يمكن أن يساومنا عاقلٌ على صحّة قاعدة (سدّ الذرائع) ؛ لأنها قاعدة شرعية قطعية , تتفق عليها العقول , وتقررها جميع القوانين والأنظمة , على اختلافها واختلاف أديانها وأوطانها .وإنما يقع الاختلاف بين العقلاء في تطبيق قاعدة سدّ الذرائع , لا في أصل القاعدة :
فمن رأى من حُراس الفضيلة أن الزنا مفسدةٌ كبرى , سعى لسدّ الذرائع المفضية إليه (بظنٍّ غالبٍ أو يقينٍ) , سواء جاءت نصوص الشرع بسدها أصلا (كالحجاب , والخلوة) ,
أو لم يأت النصّ عليها , ما دامت ستفضي غالبًا أو يقينا إلى المحرّم المنصوص عليه . ومن رأى من دُعاة الرذيلة أن الزنا ليس مفسدة , خالف الفريق الأول في سدّهم لذرائعها , وربما سلّموا بالذرائع المنصوص عليها خوفًا من المحاربة الصريحة لأحكام الله تعالى ,
ونازعوا في الذرائع غير المنصوص عليها , وربما صرّحوا بعدم قبول سدّ الذرائع كلها (المنصوص منها وغير المنصوص) . فخلاف هؤلاء حينها ليس في قاعدة سدّ الذرائع ؛ لأنهم يعملون بها في مجريات حياتهم ,
بل يعملون بـ(سدّ الذرائع) حتى في تخطيطهم لمحاربة الفضيلة , وإنما اختلفوا مع حراس الفضيلة في التطبيق ؛ لأن دعاة الرذيلة يخالفون في كون الزنا رذيلة ,
ولا يسلّمون بكونه مفسدة أصلا !!
وأرجو بهذا التوضيح أن ننتهي من الجدل العقيم حول صحة هذه القاعدة الشرعية العقلية الفطرية , وهي قاعدة (سدّ الذرائع) , وأن ننصفها ,
بأن نخرجها من دائرة الأمر الذي يجوز الاختلاف فيه بين العقلاء (ولن أقول : بين المسلمين) , إلى دائرةٍ أخرى , هي دائرةُ ما لا يجوز الاختلاف فيه بينهم ؛
فقد ظلمناها كثيرًا عندما سمحنا لبعضنا في أن يناقش أصل صحتها . كما أرجو أن ننصف دُعاة الرذيلة أيضًا , فلا يمكن أن يكونوا مُعارِضِين في صحّة هذه القاعدة ؛ لأنهم يسلّمون بها في الأنظمة والقوانين , وفي مجريات حياتهم , , بل يعملون بـ(سدّ الذرائع) حتى في تخطيطهم لمحاربة الفضيلة (كما سبق) .
فلا يصحّ أن نظلم هؤلاء أيضًا : بأن ننسب إليهم عدم التسليم المطلق لقاعدة (سدّ الذرائع) , وإنما يعارضون في تطبيقاتها الشرعية فقط , أو في بعض التطبيقات الشرعية ؛ لأنهم لا يعترفون بالمفاسد الشرعية , أو ببعضها !!
لننتهي من هذا التقرير : إلى أن (سد الذرائع) أصل يتفق عليه عقلاء بني آدم .