الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبدالله ، وعلى وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين ، أما بعد :
فهذا ظل من ظلال حلقات هذا السلسلة المباركة ؛ لنتوقف قليلاً عند قاعدة من القواعد القرآنية التي حفل بها كتاب ربنا عز وجل ، تلكم هي القاعدة القرآنية التي دل عليها قول الله تعالى : (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) ، العنكبوت : 69
وهذه الآية الكريمة جاءت في ختام سورة العنكبوت ، تلك السورة العظيمة التي اُفتتحت بقوله تعالى : (الم(1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) ،، العنكبوت : 1 - 3.، وكأن ختام سورة العنكبوت بهذه القاعدة القرآنية ( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) كأنه – و الله أعلم- جاء جواباعلى تساؤل قد يطرحه المؤمن ـ وهو يقرأ صدر سورة العنكبوت التي ذكرنا مطلعها آنفاً ـ ، ذلكم السؤال هو :
ما المخرج من تلك الفتن التي حدثتنا عنها أول سورة العنكبوت ؟!
فيأتي الجواب في آخر السورة ، في هذه القاعدة القرآنية المُحكمة : (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) فلا بد من الجهاد ـ بمعناه العام ـ ولا بد من الإخلاص ، عندها تأتي الهداية ، ويتحقق التوفيق بإذن الله .
ولا بد لكل من أراد أن يسلك طريقاً أن يتصور صعوباته ؛ ليكون على بينة من أمره ، وهكذا هو طريق الدعوة إلى الله ، فلم ولن يكون مفروشاً بالورود والرياحين ، بل هو طريق طويل "تعب فيه آدم , وناح لأجله نوح , ورمى في النار الخليل , وأُضجع للذبح إسماعيل , وبِيِع يوسف بثمن بخس , ولبث في السجن بضع سنين .
أتدري لماذا أيها القارئ الكريم ؟
لأن "الإيمان ليس كلمة تُقال إنما هو حقيقة ذات تكاليف ، وأمانة ذات أعباء ، وجهاد يحتاج إلى صبر ، وجهد يحتاج إلى احتمال . فلا يكفي أن يقول الناس : آمنا . وهم لا يتركون لهذه الدعوى ، حتى يتعرضوا للفتنة فيثبتوا عليها ويخرجوا منها صافية عناصرهم خالصة قلوبهم ، كما تفتن النار الذهب لتفصل بينه وبين العناصر الرخيصة العالقة به ، وهذا هو أصل الكلمة اللغوي ( أي : الفتنة )، وله دلالته وظله وإيحاؤه وكذلك تصنع الفتنة بالقلوب "، في ظلال القرآن.
"فيا من نصبت نفسك للدعوة ، وأقمت نفسك مقام الرسل الدعاة الهُداة تحمَّل كلَّ ما يلاقيك من المحن بقلب ثابت ، وجأش رابط ، ولا تُزعزعنَّك الكروب ؛ فإنها مُربِّية الرجال ، ومهذِّبة الأخلاق ، ومكوِّنة النفوس . وإن رجلاً لم تعركه الحوادث ، ولم تجرِّبه البلايا لا يكون رجل إصلاح ولا داعي خَلْقٍ إلى حقٍّ ؛ فوطِّن النفس على تحمُّل المكروه ، وابذل كل ما تستطيع من قوة ومال يهدك الله طريقاً رشداً ، ويصلح بك جماعات بل أمماً ؛ )وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) .
وإذا تبينت صلة هذه القاعدة القرآنية المذكورة في آخر سورة العنكبوت : (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) بأول السورة ، فإن دلالات هذه القاعدة في ميدان الدعوة كبيرة ومتسعة جداً ، وهي تدل بوضوح على أن من رام الهداية والتوفيق ـ وهو يسير في طريق الدعوة ـ فليحقق ذينك الأصلين الكبيرين اللذين دلّت عليهما هذه القاعدة :
1) أما الأصل الأول : فهو الصبر و الجهاد والمُجاهدة في الوصول إلى الغرض الذي ينشده الإنسان في طريقه إلى الله تعالى .
2) والأصل الثاني هو: الإخلاص لله ، لقوله ـ: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا) فليس جهادهم من أجل نُصرة ذات ، ولا نُصرة جماعة على حساب أخرى ، وليس من أجل لعاعة من الدنيا ، أو ركض وراء كرسي أو منصب ، أو بحث عن وجاهة إجتماعية ؛ بل هو جهادٌ في ذات الله تعالى و لله و في الله .
وإنما نُبّه على هذا الأصل ـ وهو الإخلاص ـ مع كونه شرطاً في كل عمل ، فإن السر ـ والله أعلم ـ لأن من الدُعاة من قد يدفعه القيام بالدعوة ، أو بأي عمل نافع ، الرغبة في الشهرة التي نالها الداعية الفلاني ، أو يدفعه نيل ثراء ناله المتحدث الفلاني .. فجاء التنبيه على هذا الأصل الأصيل ؛ ألا و هو الإخلاص في هذا المقام خشية أن يلتفت الداعي أو الساعي في طريق الخير إلى شيء من حظوظ النفس ، أو مطامع الدنيا الفانية .
وثمة سرٌّ آخر ـ والله أعلم ـ في التنبيه على هذا الأصل، وهو : أن الإنسان قد يبدأ مُخلصاً في أي عمل من الأعمال ، ثم لا يلبث أن تنطفئ حرارة الإخلاص في نفسه كلما لاح أمام ناظريه شيء من حظوظ النفس ، والأثرة ، أو التطلع إلى جاه ، والرغبة في العلو والافتخار ، أو الانتصار .
"والعلل الناشئة عن فقدان الإخلاص كثيرة ، وهي إذا استفحلت استأصلت الإيمان ، وإذا قلّت تركت به ثُلماً شتى ، ينفذ منها الشيطان" ،، خلق المسلم للغزالي: (66) ، لذا ليس غريباً أن يأتي التوكيد على هذا الأصل الأصيل في هذا المقام العظيم : مقام الجهاد والمُجاهدة في خدمة الدين .
وإذا تقرر أن السورة مكية ـ على القول الصحيح من أقوال المُفسرين ـ وهو الذي لم تجب فيه ( أي في العهد المكي ) بعدُ شعيرة الجهاد بمعناه الخاص ـ وهو قتال المشركين لإعلاء كلمة الله ـ فإن ثمة معنى كبيراً تشير إليه هذه القاعدة : (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) ، وهو أن من أبلغ صور الجهاد : الصبر على الفتن بنوعيها : فتن السراء وفتن الضراء ، والتي أشارت أوائل سورة العنكبوت إلى شيءٍ منها .
وهذه القاعدة القرآنية المُحكمة : ( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ) دلت على شيء آخر كما يقول ابن القيم عن هذه القاعدة : أن أكمل الناس هداية أعظمهم جهادا , وأفرض الجهاد جهاد النفس , وجهاد الهوى , وجهاد الشيطان , وجهاد الدنيا فمن جاهد هذه الأربعة في الله هداه الله سبل رضاه المُوصلة الى جنته , ومن ترك الجهاد فاته من الهدى بحسب ما عطل من الجهاد . .. إلى أن قال رحمه الله : ولا يتمكن من جهاد عدوه في الظاهر الا من جاهد هذه الأعداء باطنا , فمن نُصر عليها نُصر على عدوه , ومن نُصرت عليه نُصر عليه عدوه .، الفوائد ( 59 )
وفي كلمات الأعلام من سلف هذه الأمة ، والتابعين لهم بإحسان ما يُوسع دلالة هذه القاعدة:
- فهذا الجنيد ( رحمه الله ) يقول ( مُعلقا على هذه القاعدة القرآنية ) : و الذين جاهدوا اهوائهم فينا بالتوبة لنهدينّهم سُبل الإخلاص ,,
- و يقول أحمد بن أبي الحواري : حدثني عباس بن أحمد ـ في قوله تعالى : (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) قال : الذين يعملون بما يعلمون ، نهديهم إلى ما لا يعلمون . وهذا الذي ذكره هذا العالم الجليل هو معنى ما رُوي في الأثر : من علم بما عمل ، ورّثه الله علم ما لم يعمل ، وشاهد هذا في كتاب الله : ( وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ ) ،، محمد: 17
- و كان عمر بن عبدالعزيز يقول : جهلنا بما علمنا ، تركنا العمل بما علمنا ، ولو عملنا بما علمنا لفتح الله على قلوبنا غلق ما لا تهتدي إليه آمالنا " ، درء التعارض 4/358.
وفي واقع المسلمين أحوال تحتاج إلى استشعار معنى هذه القاعدة القرآنية : (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ) :
- فمن له والدان كبيران مريضان ، بحاجة أن يستشعر هذه القاعدة ..
-ومن سلك طريق طلب العلم ، فطال عليه بعض الشيء بحاجة إلى أن يتأمل معاني هذه القاعدة .
- ومن فرّغ جزءًا من وقته لتربية النشء والشباب ، أو لتعليم أبناء وبنات المسلمين كتابَ الله عز وجل ـ وقد دبّ عليه الفتور ـ هو بحاجة ماسّة ليتدبر هذه القاعدة و ليُدرك بركتها و أثرها و عاقبتها الحميدة (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا )
وبالجملة ::
فكلُّ من نصب نفسه لعمل صالح ، سواء كان قاصراً أم مُتعدياً ، فعليه أن يتدبر هذه القاعدة كثيراً ، فإنها بلسمٍ شافٍ في طريق السائرين إلى ربهم ، ويُوشك المؤمن أن ينسى كلَّ ما واجهه من تعب ونصب ، إذا وضع قدمه على أول عتبة من عتابات الجنة ، جعلني الله وإياكم ـ ووالدينا وذرياتنا ـ من أهلها ، ومن الدعاة إلى دخولها .