
15-03-2013, 10:16 PM
|
 |
مشرفة ملتقى السيرة وعلوم الحديث
|
|
تاريخ التسجيل: Apr 2006
مكان الإقامة: العراق / الموصل
الجنس :
المشاركات: 2,056
|
|
الحديث الثامن والعشرون / ألأربعين النووية
ان الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور انفسنا ومن سيئات اعمالنا من يهده الله فهو المهتد ومن يضلل فلا هادي له، واشهد ان لااله الا اللهوان محمدا عبده ورسوله بلغ الامانة وادى الرسالة ونصح الامة وجاهد في الله حق جهاده، اللهم صلى وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه وعلى كل من اهتدىبهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد : فإن أحسن الحديث كتاب اللهوخير الهدي هدي محمد e وإن شر ألامور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكلبدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
الحديث الثامن والعشرون
أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة
عن أبي نجيح العرباض بن سارية t قال: وعظنا رسول الله r موعظة، وجلت منها القلوب، وزرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله، كأنها موعظة مودع، فأوصنا. قال: أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن تأمر عليكم عبد، فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة . رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
وفي رواية أحمد وأبي داود والترمذي "بليغة " ، وفي روايتهم أن ذلك بعد صلاة الصبح.
هذا الحديث أصل في في بيان الاستمساك بتقوى الله -جل وعلا- والوصية بذلك، والاستمساك بالسمع والطاعة، وبالسنة وبطريقة الخلفاء الراشدين المهديين من بعد النبي عليه الصلاة والسلام .
وَعَظَنا" الوعظ:التذكير بما يلين القلب ، التذكير بحقوق الله -جل وعلا- في الأمر والنهي -يعني: فيما أمر به ونهى عنه. الموعظة قد تكون بترغيب، وقد تكون بترهيب، والغالب عليها أن يكون معها التخويف من عدم امتثال الأمر أو بإرتكاب النهي، قد جاء ذكر الموعظة في القرآن في عدد من المواضع، والمفسرون فسروها بالتذكير بإتباع الأمر، والتذكير بإجتناب النهي، قالوا: إن لفظ "وعظ" بمعنى: جعل غيره في عظة.
والعظة: نوع مما يحصل به الاعتبار، وذلك من آثار الاستجابة للتخويف أو التهديد أو الإنذار أو الإعلام وما شابه ذلك.
وكان النبي r يتخول أصحابه بالموعظة أحياناً. وكان كثيرا ما يعظ أصحابه في غير الخطب الراتبة ، كخطب الجمع والأعياد وقد أمره الله تعالى بذلك ، فقال : وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا النساء : 63 ، وقال:ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة النحل : 125 ، ولكنه كان لا يديم وعظهم ، بل يتخولهم به أحيانا.
عن ابن مسعود قال ( كان النبي e يتخولنا بالموعظــة في الأيام مخافة السآمة علينا ) رواه البخاري .
يتخولنا : يتعاهدنا . والمعنى : كان يراعي الأوقات في تذكيرنا ، ولا يفعل ذلك كل يوم لئلا نمل .
و في " الصحيحين " عن أبي وائل ، قال:كان عبد الله بن مسعود يذكرنا كل يوم خميس ، فقال له رجل : يا أبا عبد الرحمن إنا نحب حديثك ونشتهيه ، ولوددنا أنك حدثتنا كل يوم ، فقال : ما يمنعني أن أحدثكم إلا كراهة أن أملكم ، إن رسول الله r كان يتخولنا بالموعظة كراهة السآمة علينا.
وَجلَت مِنهَا القُلُوبُ" أي خافت منها القلوب كما قال الله تعالى: (الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ )(الأنفال: الآية2
وَذَرَفَت مِنهَا العُيون" أي ذرفت الدموع، وهو كناية عن البكاء .
سبب الوجل، وجل القلوب، وسبب أن العيون زرفت أنها اشتملت على أشياء منها: التخويف والوعيد، ومنها أنه نبههم أنه سيفارقهم. فجمع -عليه الصلاة والسلام- لهم ما بين الإشعار بمفارقته لهم-عليه الصلاة والسلام- وما بين تذكيرهم بأمر الله -جل وعلا-، وبحدوده وأوامره، والتخويف من مخالفة ذلك، فقال tوجلت منها القلوب، وزرفت منها العيون .
والوجل -وجل القلوب- أعظم من خوفها، لأن الوجل خوف وزيادة ، وهو الخوف الذي معه اغترار وتردد في هذا الأمر-يعني: أنه خاف منه مع كون القلب راغبا راهبا في هذا الأمر- فهناك درجات فيه: الرهبة، والخوف، والوجل، فكلها داخلة في معنى الخوف، لكن كل واحدة لها مرتبتها.
فَقُلنَا يَا رَسُول الله:كَأنَّها" أي هذه الموعظة "مَوعِظَةَ مُوَدِِّعٍ" يعني لما اشتملت عليه من الإشارات، ولما كانت عليه من أنها جامعة ، فكأنه -عليه الصلاة والسلام- جمع لهم ما يحتاجون، وأرشدهم بذلك بأنه ربما فارقهم لأنه جمع أشياء كثيرة في مكان واحد. وكذلك لتأثيرها في إلقائها،وفي موضوعها،وفي هيئة الواعظ فتأثير المواعظ له أسباب منها: الموضوع ،وحال الواعظ،وانفعاله.وهذا مثل ما وعظ r أصحابه فقال: (إن عبداً خيره الله بين ما عنده وبين الحياة الدنيا والبقاء فيها فاختار ما عند الله) فكثير من الصحابة لم يتنبهوا للمقصود من ذلك، و أبو بكر رضي الله عنه فهم ذلك وجعل يبكي، وفهم من ذلك أنه قرب أجله r وأنه هو العبد المخير، وأنه قد اختار لقاء الله عز وجل .
"فأوصنا" فكأنهم فهموا أن أجله قريب r، فطلبوا منه الوصية الجامعة المفيدة التي يعتمدون عليها ويعولون عليها، ومن المعلوم أن الوصية التي يكون معها ذكر التوديع أو فيها ما يشير إلى التوديع لا شك أنه يُهتم بها ويُحرص عليها ويُحرص على استيعابها وعلى تعقلها وفهمها.
وكونهم يطلبون الوصية يدل على كمال فضلهم وعلى كمال نبلهم وحرصهم على معرفة الحق والهدى، وحرصهم على تحصيل الوصايا العظيمة الجامعة من الرسول r.
قَالَ أوصيكُم بِتَقوَى الله عزّ وجل" هذه الوصية مأخوذة من قول الله تعالى: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ)(النساء: الآية131) فتقوى الله رأس كل شيء. والتقوى : هي وصية الله للأولين والآخرين.
ومعنى التقوى أن تجعل بينك وبين عذاب الله وسخطه وعقابه في الدنيا الآخرة وقاية، وهذه الوقاية بامتثال أوامره واجتناب مناهيه على علم وبصيرة. والعمل بسنة المصطفى r والتقوى في كل مقام بحسبه.
وقد فسرت التقوى بعدة تفسيرات ومن أحسنها قول طلق بن حبيب -رحمه الله تعالى- أن التقوى: هي أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخشى عقاب الله. فجمع في هذا التعريف بين الترك والعلم والنية، وهذا هو حقيقة التقوى في الأوامر والنواهي.
وقال بعضهم : خل الذنوب صغيرها وكبيرها ذاك التقى واعمل كماش فوق أ ر ض الشوك يحذر ما يرى
لاتحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى
وتقوى الله عز وجل هي سبب كل خير وفلاح وسعادة في الدنيا والآخرة قال تعالى وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ[الطلاق:2-3]، وقال تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا[الطلاق:4]، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا [الطلاق:5] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًاِ[الأنفال:29] وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ[البقرة:282]، فتقوى الله عز وجل هي سبب كل خير وصلاح وفلاح في الدنيا والآخرة.
وَالسَّمعُ والطَّاعَة" أي لولاة الأمر بدليل قوله وَإِن تَأمَّر عَليكُم والسمع والطاعة بأن تسمع إذا تكلم، وأن تطيع إذا أمر.
والسمع والطاعة حقان للإمام أو للأمير، وهما من ثمرات البيعة، لأن البيعة عقد وعهد على السمع والطاعة، فتحصل بالمباشرة وتحصل بالإنابة. فالإمام المسلم إذا بايعه طائفة من أهل العلم، ومن يُشار إليهم في الحل والعقد - فإن في بيعتهم له على السمع والطاعة، وعهدهم له أن يسمعوا ويطيعوا -في ذلك مبايعة بقية المسلمين، وعلى هذا جرت سنة المصطفى r وسنة الخلفاء الراشدين .
فالسمع والطاعة لا فرق بينه وبين البيعة، ومن فرق بين البيعة وبين السمع والطاعة في الحقوق التي للإمام المسلم أو للأمير المسلم، فلا دليل له من سنة المصطفى r ولا من عمل الصحابة والتابعين، ولا من قول أهل السنة والجماعة، وأتباع السلف الصالح من عقائدهم. لكن السمع والطاعة له لا تجب له حقا له استقلالا، وإنما هي على وجه التبع -يعني أنها تبع لطاعة الله وطاعة رسوله ، الطاعة إنما هي في المعروف . والمعروف هو ما ليس بمعصية لقوله r: (إنما الطاعة في المعروف) وقوله r (لا طاعة لمخلوق في معصية الله) فهذه الوصية بالسمع والطاعة مقيدة بأنها في غير معصية.
وفصل أهل العلم هذه الطاعة بثلاث مسائل :
الحالة الأولى: ما وجب بأصل الشرع فإنه يطاع فيه الأمير لأمر الله -جل وعلا- لذلك، وليست الطاعة هنا في الواجب من حقوقه، بل هو يطاع لحق الله -جل وعلا- في طاعته فيما أوجب جل وعلا.
والحالة الثانية: أن يأمر أو ينهى عن مباح، أو فيما فيه اجتهاد، أو عن مكروه أو ما أشبه ذلك، فإنه يطاع هنا لحقه هو لأن الله -جل وعلا- جعل له السمع والطاعة.
الحالة الثالثة: أن يكون أمره بمعصية أو نهيه عن واجب، فهنا لا طاعة له لأن طاعة الله -جل وعلا- حق مقدم على طاعة غيره ممن جعل الله -جل وعلا- له الحق، فمثلا : الوالدان، والمرأة لزوجها، والإمام، وأشباه ذلك ممن جعل الله -جل وعلا- لهم حقا في السمع والطاعة، فإنهم يطاعون في غير المعصية، يعني: فيما جاء في الشريعة أنه غير محرم.
وَإن تَأمَّر عَلَيكُم" أي صار أميراً . "عبد" أي مملوكاً.
أجمع العلماء على أن العبد لا تصح ولايته ولا تثبت له، وليس هو من أهل الولاية , وأجمعوا على أن الخلافة لا تنعقد للعبد، وأن من شرط الخليفة أن يكون حراًَ لا أن يكون عبداً لأن العبد منافعه مملوكة لسيده , فلا يصلح للولاية والخلافة، وجاء في الحديث هنا: (وإن تأمر عليكم عبد) فكيف نوفق بين الحديث وإجماع العلماء؟
أجاب العلماء عن هذا الحديث وما في معناه بأجوبة منها:
أن هذا مما يؤتى به على سبيل الفرض والتقدير، وإن كان لا يقع ولا يحصل، وإنما هو للمبالغة في السمع والطاعة، يعني حتى ولو تأمر عليكم عبد فعليكم بالسمع والطاعة، فيكون المقصود من ذكره هنا المبالغة, وأنه لو حصل فإنه يجب أن يسمع له ويطاع , وإن كان ذلك لا يحصل ولا يقع من ناحية الاختيار، وأنه لا يُختار الخليفة من العبيد، وإنما يكون من الأحرار. الجواب الثاني: أنه يكون مؤمراً من الخليفة على قرية أو على جماعة، فالخليفة إذا عين عبداً ليكون أميراً على قرية أو أميراً على جماعة مسافرين أو ذهبوا في مهمة في سرية أو في غيرها فعليهم أن يسمعوا له ويطيعوا، وعلى هذا فيكون المراد ليس في الولاية العامة، وإنما هو في ولاية خاصة من قبل الأمير أو الخليفة.
الجواب الثالث: أنه عندما صار خليفة كان حراً، ولكن سبق له رق, ولكنه عتق فصارت منافعه ملكاً له، فهو عند توليته حر ولكنه كان عبداً فيما مضى، فيكون قوله: (وإن تأمر عليكم عبد) باعتبار ما مضى لا باعتبار الحال, ويكون هذا نظير قوله تعالى: وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ[النساء:2] فإن إعطاءهم الأموال يكون بعد البلوغ ، ولكنهم قيل لهم: يتامى باعتبار ما كان لا باعتبار الحال لأنه في حال يتمهم وقبل بلوغهم لا يدفع لهم المال, ولكنه يدفع لهم بعد البلوغ والرشد، ولهذا قال عز وجل: وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ[النساء:6] يعني: ذهب الصغر وحصل البلوغ وجاء التكليف فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ[النساء:6] فدل على أن أموالهم لا تعطى إليهم في حال يتمهم، وإنما تعطى لهم بعد البلوغ.
الجواب الرابع: أنه إذا صار له شوكة وقوة وتغلب على الناس وقهر الناس بقوته وشوكته حتى استقرت له الأمور واستتب له الأمن فعند ذلك يسمع له ويطاع ولو كان عبداً، فلم يحصل اختياره، ولكنه بالتغلب والقهر والغلبة استقرت له الأمور، فإنه حينئذٍ يسمع له ويطاع.
فيكون ما جاء في هذا الحديث وما في معناه من السمع والطاعة للأمير ولو كان عبداًَ محمولاً على هذه الأمور التي ذكرها العلماء، فيسمع له ويطاع وإن كان عبداً بهذه الاعتبارات التي ذكرها العلماء، وإلا فإنه ليس أهلاً للخلافة وليس أهلاًَ للولاية ، لأن من شرط الخليفة أن تكون منافعه بيده وليست بيد غيره وليست ملكاً لغيره. وظاهر الحديث وجوب السمع والطاعة لولي الأمر وإن كان يعصي الله عزّ وجل إذا لم يأمرك بمعصية الله عزّ وجل، لأن النبي r قال:"اسمَع وَأَطِع وَإِن ضَرَبَ ظَهرَكَ وَأَخَذَ مَالَكَ"(1) وضرب الظهر وأخذ المال بلا سبب شرعي معصية لا شك، فلا يقول الإنسان لولي الأمر: أنا لا أطيعك حتى تطيع ربك، بل يجب أن يطيعه وإن لم يطع ربه.أما لو أمر بالمعصية فلا سمع ولا طاعة، لأن رب ولي الأمر ورب الرعية واحد عزّ وجل، فكلهم يجب أن يخضعوا له عزّ وجل، فإذا أمرنا بمعصية الله قلنا: لا سمع ولا طاعة.
(فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاًَ كثيراً) هذا من دلائل نبوته عليه الصلاة والسلام، فإنه أخبر عن أمر مستقبل لم يقع، وكل أمر أخبر به النبي عليه الصلاة والسلام من الأمور المستقبلة لابد أن يقع لأنه لا ينطق عن الهوى عليه الصلاة والسلام إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى[النجم:4], فأخباره صادقة، سواء كانت ماضية أم مستقبلة أم موجودة غير مشاهدة ولا معاينة.
فَإِنَّهُ مَن يَعِش مِنكُم" أي تطول به الحياة "فَسَيَرى" والسين هنا للتحقيق اختِلاَفاً كَثيراً في العقيدة، وفي العمل ، وفي المنهج، وهذا الذي حصل، فالصحابة رضي الله عنهم الذين عاشوا طويلاً وجدوا من الاختلاف والفتن والشرور ما لم يكن لهم في الحسبان.
الاختلاف والمخالفة شيئان متغايران.أما المخالفة فهي عن قصد وعمد، وأما الاختلاف فهو عن وجهة نظر بين اثنين فأكثر، واختلاف وجهات النظر لم تخل منها الأمة، بل ولا الأمم السابقة، وقد أورد علينا القرآن الكريم ما وقع من اختلاف في قضية واحدة، القضية المشهورة بين نبي الله داود وابنه سليمان عليهما السلام في قضية الغنم التي نفشت في الحرث، وجاءوا إلى نبي الله داود فحكم بأن يعطى أصحاب الحرث من الغنم ما يعادل تلف حرثهم، وهذا إذا جئنا إلى قانون القضاء وجدناه حكماً عادلاً لأن من أتلف شيئاً عليه تعويضه، وهؤلاء غنمهم أتلفت حرث القوم، فقال داود عليه السلام: يؤخذ من أغنامهم بقدر ما أتلفوا، ولما مروا على سليمان عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، سأل: ماذا قضي لكم؟ قالوا: قضي بكذا. قال: لو كنت أنا الذي أقضي ما قضيت بذلك، وأقضي بأن تسلم الغنم بكاملها إلى أصحاب الحرث، لينتفعوا بألبانها وأصوافها، ويسلم الحرث لأصحاب الغنم ليصلحوه حتى يعود كما كان، فتعود الغنم إلى أصحابها، ويتسلم أهل الحرث حرثهم، فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا[الأنبياء:79]، يعني: أقر داود أنه قضى بحكم وعلم، وليس عن جهل، وكذلك سليمان شرك داود في الحكم والعلم، ولكن فهمناها سليمان، والقضاء يحتاج إلى الفهم أكثر منه إلى الحفظ؛ لأن فهم ظروف القضية هو صلب القضاء، وكما قالوا: معرفة المدعي من المدعى عليه صلب القضاء.
وعلي رضي الله تعالى عنه لما ولاه رسول الله قضاء اليمن، قال: أتبعثني قاضياً وأنا لا أعرف القضاء؟ فقال: (إذا أتاك الخصم فلا تقضي له حتى تسمع من خصمه) إلى آخره.
وعمر رضي الله تعالى عنه لما كتب إلى أبي موسى الأشعري كتابه في القضاء الذي يعتبر إلى الآن منهج القضاء في العالم كله، حتى إن أوروبا تأخذ بمنهج عمر في هذا القضاء، ويهمنا أنه كتب إليه: (إذا أدلي إليك فالفهم الفهم) أي: إن فهم القضية قبل كل شيء، وهكذا ما عاب الله على داود، أعطى كلاً حقه، ولم يعتب ولم يؤاخذ أحد الطرفين ولكن أثنى عليهما معاً، ورجح جانب سليمان، وهو حكم في قضية واحدة.
ثم أرشدهم r إلى ما يلزمونه عند هذا الاختلاف،أمرr بشيئين، فحث وحذر, ورغب ورهب: حث على اتباع السنن وحذر من البدع, حث على السنن بقوله: (فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين) وحذر من البدع بقوله: (وإياكم ومحدثات الأمور), ففي ذلك ترغيب وترهيب, وفيه حث وتحذير, حث على اتباع السنن في قوله: (فعليكم) و (عليكم) اسم فعل أمر و (إياكم) بمعنى: احذروا .
" فعليكم بسنتي " أي الزموا سنتي، والمراد بالسنة هنا: الهدي والطريقة التي كان عليها -عليه الصلاة والسلام-، والسنة بيان للقرآن، فما كان من كلامه -عليه الصلاة والسلام-، وما كان من أفعاله -فإن في ذلك السنة، -فلا تبتدعوا في دين الله عزّ وجل ما ليس منه ،ولا تخرجوا عن شريعته.
وَسُنَّةِ الخُلَفَاءِ الرَاشِدين" الخلفاء هم الذين خلفوا المصطفى rفي أمته في ولاية الأمر على طريقته عليه الصلاة والسلام وعلى رأسهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه.
والخلفاء الراشدون من بعده -عليه الصلاة والسلام- أربعة: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي -رضي الله عنهم أجمعين-، ووصفوا بأنهم راشدون لأنهم قاموا بالرشد، والرشد: هو العلم بالحق والعمل به. فسموا راشدين لأنهم كانوا علماء في الحق عملوا به، وليست هذه الصفة إلا لهؤلاء الأربعة.
"المهديين" يعني: الذين من الله عليهم فهداهم للحق فعملوا به، صفة مؤكدة لما سبق، لأنه يلزم من كونهم راشدين أن يكونوا مهديين، إذ لا يمكن رشد إلا بهداية،وعليه فالصفة هنا ليست صفة احتراز ولكنها صفة توكيد وبيان علة،يعني أنهم رشدوا لأنهم مهديون .
أبو بكر الصديق رضي الله عنه هو الخليفة الأول لهذه الأمة، نص النبي rعلى خلافته نصاً يقرب من اليقين، وعامله بأمور تشير إلى أنه الخليفة بعده. مثال ذلك: أتته امرأة في حاجة لها فوعدها وعداً، فقالت: يا رسول الله إن لم أجدك؟ قال: "ائتِي أَبَا بَكر"(2). وقال : "يَأَبَى اللهُ وَرَسُولُهُ وَالمُؤمِنونَ إِلا أَبَا بَكرٍ"(3) . وأمر أن تسد جميع الأبواب المشرفة على المسجد إلا باب أبي بكر(4) وجعله خليفته في الصلاة بالمسلمين حين مرض(5) ،وهذه إمامة صغرى،يشير بذلك إلى أنه يتولى الإمامة الكبرى،وجعله أميراً على الحجيج في السنة التاسعة خلفاً عنه. فهو الخليفة بالنص الذي يقرب من اليقين. وخلافة عمر رضي الله عنه ثابتة شرعاً لأنها وقعت من خليفة،ثم صارت الخلافة لعثمان رضي الله عنه بمشورة معروفة رتبها عمر رضي الله عنه، ثم صارت بعد ذلك لعلي رضي الله عنه هؤلاء هم الخلفاء الراشدون لا إشكال فيهم.
"عَضُّوا عَلَيهَا" أي على سنتي وسنة الخلفاء "بالنَّوَاجِذِ" وهي أقصى الأضراس ومن المعلوم أن السنة ليست جسماً يؤكل،لكن هذا كناية عن شدة التمسك بها،أي أن الإنسان يتمسك بهذه السنة حتى يعض عليها بأقصى أضراسه. وأشد ما يكون الاستمساك إذا أراد المرء أن يستمسك بشيء بأسنانه أن يعض عليه بأضراسه لأنها أشد الأسنان. عضوا عليها بالنواجذ يعني: كونوا مستمسكين بها على أشد ما يكون الاستمساك بسنته وسنة الخلفاء الراشدين عند الاختلاف، والتقوى والسمع والطاعة، فإن في هذا النجاة.
|