شريط الذكريات:
ليتخيل كل منا نفسه بعد أن فوجئ بالظلمة والوحشة والضيق، وهو يستعرض شريط ذكرياته في الدنيا وحجم الأعمال الصالحة التي قام بها ولماذا لم يجد لها أثرًا واضحًا في حياته البرزخية؟
يبدأ بالصلاة فيقول: أين أثر صلاتي؟!
لقد صليت كثيرًا فلماذا لا أكاد أجد أثرًا لذلك؟! فيتذكر أنه كان لا يحافظ عليها في أول وقتها، بل كان يصلي أغلبها وسط ضجيج الأطفال وصوت المذياع والتلفاز، وفي حالة أدائها بالمسجد يكون الذهن مشغولًا بموضوعات شتى، وكم من المرات كان يُفاجأ بالإمام وهو يسلم تسليمة الختام؟
فإذا به يخاطب نفسه:
إذن فما سمعته عن الصلاة كان صحيحًا من أنه: ليس للمرء من صلاته إلا ما عقل منها[6]..
فالله عز وجل لا يريد حركات الجوارح من قيام وقعود دون حضور القلب وخشوعه فيها، وكذلك في كل العبادات {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج: 37].
فالقلب هو محل نظره سبحانه وتعالى كما قال صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم"[7].
أين أثر الصيام؟
فإذا كان هذا هو حال الصلاة، فماذا عن الصيام؟ أين أثره في قبري؟
فيتذكر الواحد منا كيف كان يمر عليه شهر رمضان وكيف كان مفهومه للصيام فيقول: لقد كان همي وفكري في كيفية انقضاء ساعات اليوم، فالامتناع عن الطعام والشراب كان أمرًا شاقًّا عليّ، لذلك كنت أعمل جاهدًا على شغل وقتي بما يلهيني عن التفكير فيهما، فأنام أغلب النهار، وأقضي الوقت المتبقي في مشاهدة التلفاز وما فيه من أعمال تُغضب الله عز وجل.
لقد سمعت كثيرًا وأنا في الدنيا أحاديث للرسول صلى الله عليه وسلم من أنه "رُبَّ صائم حظُّه من صيامه الجوع والعطش"[8].
و"من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه"[9].
وكأني تناسيت هذا كله، فلم أترك الغيبة والنميمة في رمضان، ولم أغض بصري عما حرم الله.
القرآن هو الأمل:
إذا كان هذا هو حال الصلاة والصيام فليكن أملي في القرآن..
أين هو؟!! لقد قرأته وختمته مرات ومرات.. فلماذا لا أجد أثره؟!
نعم تذكرت، لقد كنت أقرأه وأنا مشغول البال، شارد الذهن، فلم أتدبر معانيه، ولم أقف عند أحكامه وحدوده، ولم أتخذه مصدرًا للهداية والشفاء.
ومما يزيدني ألمًا وحسرة؛ أنني كنت أسمع وأنا في الدنيا الكثير من الآيات والأحاديث التي تحثني على تدبر القرآن والتأثر به لتحصيل الهدى والشفاء، وتذُم من يقرؤه وهو غافل، كقوله تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} [ص: 29]، وقوله: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24]، وقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا قام أحدكم من الليل فاستعجم القرآن على لسانه فلم يدر ما يقول فلينصرف فليضطجع"[10]، وقوله لعبد الله بن عمرو بن العاص وهو يوضح له سبب نهيه عن قراءة القرآن في أقل من ثلاثة أيام: "لا يفقهه من يقرؤه في أقل من ثلاث"[11].
لقد كنت أسمع وأقرأ هذه الآيات والأحاديث وغيرها ولا أتفاعل معها، وكنت دوما اجتهد في إقناع نفسي بأن قراءة القرآن ما هي إلا وسيلة لتحصيل الأجر والثواب فقط، ومِن ثَم فلا بأس من تلاوته دون فهم ولا تعقل. ولكني اليوم أُسأل: لماذا لم يُر لقراءتك أثرا في قولك ولا سلوكك..