رد: سَبُّ الدَّهْرِ كُفْرٌ أَكْبَرُ مُطْلَقًا
قلت: هنا سأقف عن سرد بقية موضوعك وأبدأ بتفيد ما ورد في مقالك.
لن أعتمد على أقوال العلماء والفقهاء، بل كتاب الله تعالى وسنة نبيه المصطفى.
وهذا جاء في القرآن، في نحو قوله جل وعلا:
{في أيام نحسات لنذيقهم عذاب الخزي}.
{في أيام نحسات}: وصف الله -جل وعلا- الأيام بأنها نحسات، المقصود: في أيام نحساتٍ عليهم؛ فوصف الأيام بالنحس؛ لأنه جرى عليهم فيها ما فيه نحس عليهم.
ونحو ذلك، قوله -جل وعلا- في سورة القمر: {في يوم نحس مستمر} يوم نحس.
أقول: تقول أنك لن تعتمد على أقوال العلماء والفقهاء، بل كتاب الله تعالى وسنة نبيه المصطفى. فهلاّ التزمته في كل ما كتبته. وسأنبّئك بمواضع الخلل قريبا إن شاء الله.
فإما أن تحتج بقول الله تعالى {في أيام نحسات لنذيقهم عذاب الخزي} على أن وصف الأيام بأنها نحسات ليس بسبّ للدهر.وإما أن تحتج به على أنه من سب الدهر ولكنه ليس كفرا.فإن احتججتَ به على الأولى فمُسلَّمٌ، وإن احتجتَ به على الثانية فقد نسبتَ إلى الله تعالى أنه سبّ الدهرَ، مع أنه قال عزّ وجلّ (يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ يَسُبُّ الدَّهْرَ وَأَنَا الدَّهْرُ، بِيَدِي الأَمْرُ أُقَلِّبُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ)، كما في الحديث القدسي. فالأولى حق، والثانية كفر صراح بلا مراء لما فيه من اتّهام رب العزة بأنه سبحانه وتعالى سبّ الدهر سبًّا عائدًا على نفسه، وهو إبطال لوحدانيته والعياذ بالله.
قلت: أو يقول: (يوم أسود، أو سنة سوداء) هذا ليس من سب الدهر؛ لأن المقصود بهذا الوصف: ما حصل فيها، كان من صفته كذا وكذا على هذا المتكلم.
أقول: لو أن أحدا أضاف الشر إلى يوم من الأيام فإنه لا يكفر بذلك. قال الله تعالى:يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) (الإنسان)
وعَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ عَدِيٍّ، قَالَ: أَتَيْنَا أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، فَشَكَوْنَا إِلَيْهِ مَا نَلْقَى مِنَ الحَجَّاجِ، فَقَالَ: «اصْبِرُوا، فَإِنَّهُ لاَ يَأْتِي عَلَيْكُمْ زَمَانٌ إِلَّا الَّذِي بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ، حَتَّى تَلْقَوْا رَبَّكُمْ» سَمِعْتُهُ مِنْ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (صحيح البخاري)
فهذا ليس سبًّا للزمان، وإنما المراد به الإخبار عما يحدث في هذا الزمان من الشر. وأما عبارة (يوم أسود) فمن تكلم بها وهو يقصد مجرد الإخبار فلا يكفر بذلك، كما أنه لا يكفر بأن يقول أن الزمان شر. فهذه العبارات ليست سبا للدهر، وإنما تصير سبا للدهر إذا قصد المتكلم بها أن يسبه. وإنما يدل الحديث على أن (هذا الزمان شرٌّ) ليس سبا للدهر، لا على أن المرء قد يسب الدهر ثم لا يكفر.
وسبُّ الدهر مكفر بدلالة الحديث، لأن الله تعالى قال أن من يسب الدهر فقد آذاه. فهل تقول أن من يؤذي الله تعالى فقد لا يكفر؟أم تقول أن من يسب الدهر فقد لا يؤذي الله تعالى؟ فإن قلت بأن من يؤذيه فقد لا يكفر فإنك لم تقرّ إذن بأن تعظيم الله تعالى من أصل الإيمان به. وإن قلت أن من يسب الدهر فقد لا يؤذيه تعالى فقد بانَ أنك لا تؤمن بالحديث القدسي.
ولقد قال أحد الشعراء:
يا دهر ويحك ما أبقيت لي أحدا***وأنت والد سوء تأكـل الولـدا
وقال آخر:
قبحا لوجهك يا زمان كأنه *** وجه له من كل قبح برقع
والعياذ بالله تعالى. فهل هذا عندك كفرٌ في نفسه، أم لا يصير كفرا إلا بأن ينوي قائله الكفر؟
قلت: وأما سبّه،، أن ينسب الفعل إليه، فيسبّ الدهر لأجل أنه فعل به ما يسوؤه:فهذا هو الذي يكون أذية لله جل وعلا.
وقول الله تعالى: {وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحياوما يهلكنا إلا الدهر}) هذه الآية ظاهرة في أنّ نسبة الأشياء إلى الدهر، هذه من خصال المشركين، أعداء التوحيد؛ فنفهم منه: أنّ خصلة الموحدين أنْ ينسبوا الأشياء إلى الله جل وعلا، ولا ينسبوا الإهلاك إلى الدهر، بل الله -جل وعلا- هو الذي يحيي ويميت.
أقول: إن قلتَ أن سب الدهر لا يكون كفرا إلا بأن يسبه المرء من أجل أنه فعل به ما يسؤوه فقد زدت على الحديث ما ليس فيه.
قلت: نصل الآن في المسألة المحورية وهي العذر بالجهل...
واقد الليثي قال: خرجنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى حنين ونحن حديثو عهد بكفر، وكانوا أسلموا يوم فتح مكة، قال: فمررنا بشجرة فقلنا:يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط،وكان للكفار سدرة يعكفون حولها ويعلقون بها أسلحتهم يدعونها ذات أنواط، فلما قلنا ذلك للنبي -صلى الله عليه وسلم- قال:"الله أكبر، قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى:{اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهةً قال إنكم قوم تجهلون} لتركبن سنن من كان قبلكم ". والحديث صحيح أخرج الترمذي وغيره .
أقول: أولا: لقد كفر بنو إسرائيل لما قالوا لموسى عليه السلام (اجعل لنا إلها كما لهم آلهة).قال الله تعالى: فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (136) وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ(137)وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(139) قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ(140) (الأعراف)
فهل تقول أن بني إسرائيل أسلموا أولا وآمنوا بأنه لا إله إلا الله وعرفوا بأن من لم يؤمن بهذا فليس بمسلم، ثم قالوا (اجعل لنا إلها كما لهم آلهة) وجهلوا أن هذه المقالة تناقض الإيمان بأنه لا إله إلا الله، وأنهم مع ذلك لم يرتدوا عن الإسلام؟ فإن كنت تقوله فعجبًا. وإن كنت تحتج بقول موسى عليه السلام (إنكم قوم تجهلون) على أنه لم يكفرهم فقد أبعدتَ النجعة. فإن إثبات الجهل لا يدل على انتفاء الكفر. ولقد قال الله تعالى: قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64) (الزمر)
فهل تقول أن المسلم قد يقول (أريد إلها ثانيا غير الله) وأنه مع ذلك يؤمن بأنه لا إله إلا الله؟؟؟
وقال الرازي في كتابه التفسير الكبير (349/14): اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنْوَاعَ نِعَمِهِ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِأَنْ أَهْلَكَ عَدُوَّهُمْ وَأَوْرَثَهُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِالنِّعْمَةِ الْعُظْمَى وَهِيَ أَنْ جَاوَزَ بِهِمُ الْبَحْرَ مَعَ السَّلَامَةِ: وَلَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى فِي سَائِرِ السُّوَرِ كَيْفَ سَيَّرَهُمْ فِي الْبَحْرِ مَعَ السَّلَامَةِ وَذَلِكَ بِأَنْ فَلَقَ الْبَحْرَ عِنْدَ ضَرْبِ مُوسَى الْبَحْرَ بِالْعَصَا وَجَعْلَهُ يَبَسًا بَيَّنَ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمَّا شَاهَدُوا قَوْمًا يَعْكُفُونَ عَلَى عِبَادَةِ أَصْنَامِهِمْ جَهِلُوا وَارْتَدُّوا وَقَالُو لِمُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَة اهـ
ولا أستدل بقوله هو على أنهم كفروا لما قالوا (اجعل لنا إلها كما لهم آلهة). ولكني أستدل عليه بقول النبي صلى الله عليه وسلم (الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به شيئا)، وبغيره من الدلائل على أن من لا يوحد الله فيشرك به غيره فليس بمسلم، وقد ذكرت لك بعضها ولله الحمد.
وأما حديث ذات أنواط فإنه لا يدل على أن المرء قد يكون مسلما موحدا مع أنه يعبد غير الله.
فَعَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا خَرَجَ إِلَى حُنَيْنٍ مَرَّ بِشَجَرَةٍ لِلْمُشْرِكِينَ يُقَالُ لَهَا: ذَاتُ أَنْوَاطٍ يُعَلِّقُونَ عَلَيْهَا أَسْلِحَتَهُمْ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ كَمَا لَهُمْ ذَاتُ أَنْوَاطٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سُبْحَانَ اللهِ هَذَا كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَرْكَبُنَّ سُنَّةَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ. (رواه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن صحيح).
وهذا الحديث ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنه لا يحل لأحد أن يحمله على معنى يوجب إبطالَ أحكام التوحيد العامّة، كما أنه لا يحل لأحد أن يحمل آية من الآيات على معنى يوجب إبطال التوحيد العامة. قال الله تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7) (آل عمران)
وقال ابن كثير في تفسيره (6/2): يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّ فِي الْقُرْآنِ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ، أَيْ: بَيِّنَاتٌ وَاضِحَاتُ الدَّلَالَةِ، لَا الْتِبَاسَ فِيهَا عَلَى أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ،وَمِنْهُ آيَاتٌ أُخَرُ فِيهَا اشْتِبَاهٌ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ أَوْ بَعْضِهِمْ، فَمَنْ رَدَّ مَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِ إِلَى الْوَاضِحِ مِنْهُ، وَحَكَّمَ مُحْكَمَهُ عَلَى مُتَشَابِهِهِ عِنْدَهُ، فَقَدِ اهْتَدَى. وَمَنْ عَكَسَ انْعَكَسَ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي أَنزلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ}أَيْ: أصْلُه الَّذِي يَرْجِعُ إِلَيْهِ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ اهـ
وقال الشاطبي في الموافقات (8/4): إذا ثبتت قاعدة عامة أو مطلقة فلا تؤثّر فيها معارضة قضايا الأعيان
وقال في نفس الكتاب (176/3): فإذا ثبت بالاستقراء قاعدة كلية، ثم أتى النص على جزئيّ يخالف القاعدة بوجه من وجوه المخالفة؛ فلا بد من الجمع في النظر بينهما لأن الشارع لم ينص على ذلك الجزئي إلا مع الحفظ على تلك القواعد
وقال الشوكاني في فتح القدير (543/1): وَمَعَ الِاحْتِمَالِ فَلَا تَقُومُ الْحُجَّةُ بِالْمُحْتَمَلِ.
وقال في نيل الأوطار (85/1): وَالْمُحْتَمَل لَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَى الْخَصْمِ. اهـ
ولقد ثبت أن من يعبد غير الله فإنه لا يدين بالإسلام، وإن نطق بالشهادتين ألف مرة، ولقد أوردت الدلائل على ذلك ولله الحمد والمنّة. فإذا ثبت هذا فإن حديث ذات أنواط يُحمل على معنى يوافق أحكام التوحيد العامة ولا يخالفها. ومن حمله على أن الذين قالوا (اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط) طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم الشرك الأكبر وأنهم – مع ذلك – لم يرتدوا فقد قال أن المرء قد مسلما عابدًا لغير الله في وقت واحد، وهذا كفرٌ بأول ما دعا كل نبي إليه.
|