عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 09-10-2011, 12:35 PM
hadyo-sahaba hadyo-sahaba غير متصل
عضو نشيط
 
تاريخ التسجيل: Sep 2011
مكان الإقامة: tetouan
الجنس :
المشاركات: 172
الدولة : Morocco
Smile رد: سلسلة محن علماء السلف(دعوى للمشاركة )

بداية المحنة
برواية تلميذه ابن عبد الهادى

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين ، الرحمن الرحيم ، مالك يوم الدين ، و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . و لا ظهير و لا معين . وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي أرسله إلى الخلق أجمعين . صلى الله عليه و على آله و سلم و على سائر عباد الله الصالحين .
أما بعد . فقد سئلت غير مرة ، أن أكتب ما حضرنى ذكره مما جري في المجالس الثلاثة المعقودة للمناظرة ، في أمر الاعتقاد بمقتضى ما ورد به كتاب السلطان من الديار المصرية إلى نائبة أمير البلاد لما سعى إليه قوم من الجهمية ، و الاتحادية ، و الرافضة ، و غيرهم : من ذوي الأحقاد ، فأمر الأمير بجمع القضاة الأربعة : قضاة المذاهب الأربعة ، و غيرهم من نوابهم و المفتين ، و المشايخ : ممن له حرمة و به اعتداد . و هو لا يدرون ما قصد بجمعهم في هذا الميعاد . وذلك يوم الاثنين ثامن رجب المبارك عام خمس و سبعمائة .
فقال لي : هذا المجلس عقد لك . فقد ورد مرسوم السلطان : أن أسألك عن اعتقادك ، و عما كتبت به إلى الديار المصرية ، من الكتب التي تدعو بها الناس إلى الاعتقاد .
وأظنه قال : وأن أجمع القضاة و الفقهاء و تتباحثون في ذلك .
فقلت : أما الاعتقاد فلا يؤخذ عني ، و لا عمن هو أكبر مني ، بل يؤخذ عن الله ورسوله . و ما أجمع عليه سلف الأمة . فما كان في القرآن وجب اعتقاده . وكذلك ما ثبت في الأحاديث الصحيحة ، مثل صحيح البخاري و مسلم .
وأما الكتب ، فما كتبت إلى أحد كتابا ابتداء أدعوه به إلى شيء من ذلك و لكنني كتبت أجوبة أجبت بها من يسألني من أهل الديار المصرية و غيرهم .
وكان قد بلغني أنه زور علي كتاب إلى الأمير ركن الدين الجاشنكير أستاذ دار السلطان ، يتضمن ذكر عقيدة محرفة . ولم أعلم بحقيقته . ولكن علمت أن هذا مكذوب . و كان يرد على من مصر و غيرها من يسألني مسائل في الاعتقاد أو غيره ، فأجيبه بالكتاب و السنة . و ما كان عليه سلف الأمة .
فقال : نريد أن نكتب لنا عقيدتك .
فقلت : اكتبوا .
فأمر الشيخ كمال الدين أن يكتب .
و كتبت له جمل الاعتقاد في أبواب الصفات ، و القدر ، و مسائل الإيمان ، و الوعيد ، و الإمامة ، و التفضيل .
هو أن اعتقاد أهل السنة و الجماعة : الإيمان بما وصف الله به نفسه ، و بما و صفه به رسوله . من غير تحريف ، و لا تعطيل ، و لا تكييف ، و لا تمثيل . و أن القرآن كلام الله ، غير مخلوق . منه بدأ و إليه يعود . و الإيمان بأن الله خالف كل شيء من أفعال العباد و غيرها . وأنه ما شاء الله كان ، و ما لم يشأ لم يكن . و أنه أمر بالطاعة ورضيها و أحبها . و نهى عن المعصية و كرهها . و العبد فاعل حقيقة . و الله خالق فعله . وأن الإيمان و الدين قول و عمل يزيد وينقص . و أن لا نكفر أحداً من أهل القبلة بالذنوب . ولا نخلد في النار من أهل الإيمان أحداً ، وأن الخلفاء بعد رسول الله r : أبو بكر ، ثم عمر ، ثم عثمان ، ثم علي t وأن مرتبتهم في الفضل كمرتبتهم في الخلافة ومن قدم علياً علي عثمان . فقد أزري بالمهاجرين و الأنصار .
وذكرت هذا و نحوه . فإني الآن قد بعد عهدي . و لم أحفظ لفظ ما أمليته إذ ذاك ثم قلت للأمير و الحاضرين : أنا أعلم أن أقواما يكذبون علي ، كما قد كذبوا علي غير مرة . وإن أمليت الاعتقاد من حفظي ربما يقولون : كتم بعضه ، أو داهن وداري . فأنا أحضر عقيدة مكتوبة من نحو سبع سنين ، قبل مجئ التترى إلى الشام .
قلت : قبل حضورها كلاما قد بعد عهدي به . وغضبت شديداً ، لكني أذكر أني قلت:
أنا أعلم أن أقوماً كذبوا على . و قالوا للسلطان أشياء . و تكلمت بلام احتجت إليه . مثل أن قلت :
من قام بالإسلام في أوقات الحاجة غيري ؟ ومن الذي أوضح دلائله ، و بينه ، وجاهد أعداءه ، وأقامه لما مال ، حين تخلي عنه كل أحد ، فلا أحد ينطق بحجته ، ولا أحد يجاهد عنه ، وقمت مظهراً لحجته ، مجاهداً عنه ، مرغباً فيه ؟
فإذا كان هؤلاء يطمعون في الكلام في فكيف يصنعون بغيري ؟
ولو أن يهودياً طلب من السلطان الإنصاف لوجب عليه أن ينصفه ، وأنا قد أعفو عن حقي ، و قد لا أعفو . بل قد أطلب الإنصاف منه . وأن يحضر هؤلاء الذين يكذبون ليحاققوا على افترائهم .
وقلت كلاماً أطول من هذا ، من هذا الجنس . لكن بعد عهدي به
فأشار الأمير إلى كاتب الدرج : محي الدين ، أن يكتب ذلك .
وقلت أيضاً : كل من خالفني في شيء مما كتبته فأنا أعلم بمذهبه منه .
وما أدري ، هل قلت هذا قبل حضورها . أو بعدها ؟
لكنني قلت أيضاً : بعد حضورها و قراءتها ، ماذكرت فيها فصلا إلا وفيه مخالف من المنتسبين إلى القبلة . وكل خلاف لطائفة من الطوائف .
ثم أرسلت من أحضرها ، و معها كراريس بخطي من المنزل . فحضرت العقيدة الواسطية .
وقلت لهم : هذه كان سبب كتابتها : أنه قدم من أرض واسط بعض قضاة نواحيها : شيخ يقال له رضي الدين الواسطى . قدم علينا حاجاً . وكان من أهل الخير والدين . وشكا ما الناس فيه بتلك البلاد وفي دولة التتر من غلبه الجهل و الظلم ، ودروس الدين و العلم . و سألني أن أكتب له عقيدة تكون عمدة له ولأهل بيته .
فاستعفيت من ذلك . وقلت : قد كتب الناس عقائد متعددة فخذ بعض عقائد أئمة السنة.
فألح في السؤال . وقال : ما أحب إلا عقيدة تكتبها أنت .
فكتبت له هذه القيدة . وأنا قاعد بعد العصر .
وقد انتشرت بها نسخ كثيرة في مصر و العراق و غيرها .
فأشار الأمير بأن لا أقرأها أنا - لرفع الريبة - و أعطاها لكاتبه الشيخ كمال الدين .
فقرأها على الحاضرين حرفاً حرفاً ، و الجماعة الحاضرون يسمعونها . و يورد المورد منهم ما شاء . و يعارض فيما شاء . والأمير أيضاً : يسأل عن مواضع فيها .
وقد علم الناس ما كان في نفوس طائفة من الحاضرين من الخلاف و الهوى : ما قد علم الناس بعضه . وبعضه بسبب الاعتقاد ، و بعضه بغير ذلك .
ولا يمكن ذكر ما جرى من الكلام و المناظرات في هذه المجالس . فإنه كثير لا ينضبط .
لكن أكتب ملخص ما حضرني من ذلك مع بعد العهد بذلك .
ومع أنه كان يجري رفع أصوات و لغط لا ينضبط . فكان مما اعترض عليه بعضهم محمد r : من غير تحريف و لا تعطيل ، و لا تكييف ولا تمثيل "
فقال : ما المراد بالتحريف و التعطيل ؟
ومقصوده : أن هذا ينفي التأويل الذي يثبته أهل التأويل ، الذي هو صرف اللفظ عن ظاهره ، إما وجوبا وإما جوازا .
فقلت : تحريف الكلام عن مواضعه ، كما دفعه الله في كتابه ، و هو إزالة اللفظ عما دل عليه من المعنى مثل تأويل بعض الجهمية لقوله تعالى ) وكلم الله موسى تكليما ( أي جرحه بأظافير الحكمة تجريحاً .
ومثل تأويلات القرامطة و الباطنية و غيرهم : من الجهمية و الرافضة و القدرية ، وغيرهم . فسكت ، و في نفسه ما فيها .
وكرت في غير هذا المجلس : أني عدلت عن لفظ " التأويل " إلى لفظ " التحريف " لأن التحريف اسم جاء القرآن بذمه . وأنا تحريت في هذه العقيدة اتباع الكتاب و السنة . فنفيت ما ذمة . وأنا أذكر فيها لفظ التأويل بنفي ولا إثبات . لأنه لفظ له عدة معان . كما بينته في موضعه من القواعد فإن معنى لفظ " التأويل " في كتاب الله غير معنى لفظ " التأويل " في اصطلاح المتأخرين من أهل الأصول و الفقه ، و غير معنى لفظ التأويل في اصطلاح كثير من أهل التفسير و السلف . فلم أنف ما نقوم الحجة على صحته إذ ما قامت الحجة على صحته ، وهو منقول عن السلف ، فليس من التحريف .
وقلت له أيضاً : ذكرت في النفي " التمثيل " و لم أذكر " التشبيه " لأن " التمثيل " نفاه الله بنص كتابه حيث قال : ( ليس كمثله شيء ) و قال : ( هل تعلم له سميا ) فكان أحب إلى من لفظ ليس في كتاب الله ، ولا في سنة رسول الله r . وإن كان قد يعنى بنفيه معنى صحيح ، كما قد معنى فاسد .
ولما ذكرت " أنهم لا ينفقون عنه ما وصف به نفسه ، و لا يحرفون الكلم عن جعل الحاضرين يمتعض من ذلك ، لاستشعاره ما في ذلك من الرد لما هو عليه و لكن لم يتوجه له ما يقوله .
وأراد أن يدور علي بالأسئلة التي أعلمها ، فلم يتمكن لعلمه بالجواب .
ولما ذكرت آية الكرسى ، أظن سأل الأمير عن قولنا " لا يقربه شيطان حتى يصبح "
فذكرت له حديث أبي هريرة t في الذي كان يسرق صدقة الفطر وذكرت أن البخاري رواه في صحيحه .
وأخذوا يذكرون نفي التشبيه و التجسيم و يطنبون في هذا و يعرضون بما ينسبه بعض الناس إلينا من ذلك .
فقلت قولي " من غير تكييف ، ولا تمثيل " ينفي كل باطل و إنما أخذت هذين الاسمين . لأن " التكييف " مأثور نفيه عن السلف . كما قال ربيعة ، ومالك و ابن عيينة و غيرهم المقالة التي تلقاها العلماء بالقبول " الاستواء معلوم ، و الكيف مجهول والإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة "
فاتفق هؤلاء السلف على أن الكيف غير معلوم لنا . فنفيت ذلك ، اتباعاً لسلف الأمة ، وهو أيضاً منفى بالنص . فإن تأويل آيات الصفات يدخل فيها حقيقة الموصوف و حقيقة صفاته . وهذا من التأويل الذي لا يعلمه إلا الله . كما قد قررت ذلك في قاعدة مفردة ذكرتها في التاويل . و المعنى : و الفرق بين علمنا بمعنى الكلام . و بين علمنا بتأويله .
وكذلك " التمثيل " ينفي بالنص والإجماع القديم ، مع دلالة على نفيه . ونفى التكييف . إذ كنه الباري تعالى غير معلوم للبشر .
وذكرت في ضمن ذلك كلام الخطابي الذي نقل أنه مذهب السلف . و هو : " إجراء آيات الصفات وأحاديثها على ظاهرها ، مع نفي الكيفية ، و التشبيه عنها ، إذ الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات يحتذي فيه حذوه ، و يتبع فيه مثاله . فإذا كان إثبات الذات إثبات وجود لا إثبات تكييف . فكذلك إثبات الصفات إثبات وجود لا إثبات تكييف "
فقال أحد كبراء المخالفين : فحينئذ يجوز أن يقال : هو جسم ، لا كالأجسام .
فقلت له ، أنا و بعض الفضلاء الحاضرين و المعروفين بالديانة يريد إظهار أن ينفى عنا ما يقوله ، فجعل يزيد في المبالغة في نفي التشبيه و التجسيم .
فقلت : قد ذكر فيها في غير موضع " من غير تحريف ، ولا تعطيل ، ومن غير تكييف ولا تمثيل "
وقلت في صدرها : " ومن الإيمان بالله . الإيمان بما وصف الله به نفسه في كتابه ، و بما وصفه به رسوله محمد r ، من تحريف و لا تعطيل ، ومن غير تكييف ولا تمثيل " .
ثم قلت : " وما وصف الرسول به ربه من الأحاديث الصحاح التي تلقاها أهل المعرفة بالقبول وجب الإيمان بها كذلك " .
إلى أن قلت : " إلى أمثال هذه الأحاديث الصحاح التي يخبر فيها رسول الله r بما يخبر به . فإن الفرقة الناجية أهل السنة و الجماعة يؤمنون بذلك ، كما يؤمنون بما أخبر الله به في كتابه ، من تحريف ولا تعطيل ، ومن غير تكييف ولا تمثيل ، بل هم الوسط في فرق الأمة ، كما أن الأمة هي الوسط في الأمم ، فهم وسط في باب صفات الله بين أهل التعطيل الجهمية ، وأهل التمثيل المشبهة "
ولما رأى هذا الحاكم العدل تمالؤهم وتعصبهم . ورأى قلة المعاون منهم و الغاصر ، وخافهم قال : أنت قد صنفت اعتقاد الإمام أحمد . فنقول : هذا اعتقاد أحمد ؟
يعنى والرجل يصنف على مذهبه فلا يعترض عليه . فإن هذا مذهب متبوع .
وغرضه بذلك : قطع مخاصمة الخصوم
فقلت : ما جمعت إلا عقدة السلف الصالح جميعهم ، ليس للإمام أحمد اختصاص بهذا ، و الإمام أحمد إنما هو مبلغ العلم الذي جاء به النبي r . ولو قال أحمد من تلقاء نفسه ما لم يجئ به الرسول r لم نقبله . و هذه عقيدة محمد r .
وقلت مرات : قد أمهلت كل من خالفني في شيء منها ثلاث سنين . فإن جاء بحرف واحد عن القرون الثلاثة التي أثنى عليها النبي r ، حيث قال : " خير القرون القرن الذي بعثت فيهم ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم " يخالف ما ذكرته فأنا أرجع عن ذلك . وعلى أن آتى بنقول جميع الطوائف من القرون الثلاثة توافق ما ذكرته : من الخفية ، و المالكية ، و الشافعية ، و الحنبلية ، والأشعرية والصوفية ، وأهل الحديث ، وغيرهم .
وقلت أيضاً ، في غير هذا المجلس : الإمام أحمد ، t ، لما انتهى إليه من السنة و نصوص رسول الله r أكثر مما انتهى إلى غيره ، وابتلى بالمحنة و الرد على أهل البدع أكثر من غيره كان كلامه وعمله في هذا الباب أكثر من غيره . فصار إماماً في السنة أظهر من غيره . وإلا فالأمر كما قاله بعض شيوخ المغاربة العلماء الصلحاء ، قال : المذهب لمالك و الشافعي ، و الظهور لأحمد بن حنبل .
يعنى أن الذي كان عليه أحمد عليه جميع أئمة الإسلام ، وإن كان لبعضهم من زيادة العلم و البيان ، وإظهار الحق ، و دفع الباطل ما ليس لبعض .
ولما جاء حديث أبي سعيد المتفق عليه في الصحيحين عن النبي r : " يقول لله يوم القيامة : يا آدم فيقول : لبيك ، و سعديك . فينادي بصوت : إن الله يأمرك أن تبعث بعثاً إلى النار …" الحديث .
سألهم الأمير : هل هذا الحديث صحيح ؟
فقلت : نعم ، هو في الصحيحين . ولم يخالفوا في ذلك . واحتاج المنازع إلى الإقرار به .
وطلب الأمير الكلام في مسألة الحرف و الصوت . لأن ذلك طلب منه ز
فقلت : هذا الذي يحكيه كثير من الناس عن الإمام أحمد وأصحابه : أن صوت القارئين ومداد المصاحف : قديم أزلي - كذب مفترى . لم يقل ذلك أحمد ، ولا أحد من علماء المسلمين .
وأخرجت كراساً كان قد أحضر مع العقيدة ، وفيه ما ذكره الشيخ أبو بكر الخلال في كتاب السنة عن الإمام أحمد . و ما جمعه صاحبه أبو بكر المروزي من كلام أحمد ، وكلام أئمة زمانه في : " أن من قال : لفظي بالقرآن مخلوق . فهو جهمي . ومن قال : غير مخلوق . فهو مبتدع "
قلت : فكيف بمن يقول لفظي قديم ؟ فكيف بمن يقول : صوتي غير مخلوق ؟ فكيف بمن يقول : صوتي قديم ؟
وأحضرت جواب مسألة كنت سئلت قديماً عنها . فيمن حلف بالطلاق في مسألة الحرف و الصوت ، ومسألة الظاهر في العرش ، وقلت : هذا جوابى .
وكانت هذه المسألة قد أرسل بها طائفة من المعاندين المتجهمة ، ممن كان بعضهم حاضراً في المجلس فلما وصل إليهم الجواب أسكتهم .
وكانوا قد ظنوا أبى إن أجبت بما في ظنهم أن أهل السنة تقوله ، حصل مقصودهم من الشناعة ، وإن أجبت بما يقولونه هم . حصل مقصودهم من الموافقة .
فلما أجيبوا بالفرقان الذي عليه أهل السنة ، وليس هو ما يقولونه هم ، ولا ما ينقلونه عن أهل السنة ، إذ يقوله بعض الجهال ؛ بهتوا لذلك .
وفيه : " إن القرآن كلام الله حروفه و معانيه ، ليس القرآن اسماً لمجرد الحروف ، ولا لمجرد المعاني " .
و لما جاءت مسألة القرآن ، فقلت : " ومن الإيمان به : الإيمان بأن القرآن كلام الله غير مخلوق ، منه بدأ و إليه يعود " - نازع بعضهم في كونه منه بدأ و إليه يعود . و طلبوا تفسير ذلك .
فقلت : أما هذا القول فهو المأثور الثابت عن السلف ، مثل ما نقله عمرو بن دينار قال : " أدركت الناس منذ سبعين سنة يقولون : الله الخالق وما سواه مخلوق ، إلا القرآن ؛ فإنه كلام الله غير مخلوق ، منه بدأ وإليه يعود " ، وقد جمع غير واحد ما في ذلك من الآثار عن النبي صلى r والصحابة و التابعين .
و أما معناه : فإن قوله " منه بدأ " أي هو المتكلم به ، وهو الذي أنزله من لدنه ، ليس هو كما تقوله الجهمية : إنه خلق في الهواء أو غيره ؛ أو بدأ من عند غيره .
وأما " إليه يعود " فإنه يسري به في آخر الزمان من المصاحف و الدور ، فلا يبقى في الصدور ، منه كلمة ، ولا في المصاحف منه حرف .
ووافق على ذلك غالب الحاضرين ، و سكت المنازعون .
وخاطبت بعضهم في غير هذا المجلس ، بأن أريته العقيدة التي جمعها الإمام القادر بالله التي فيها : " إن القرآن كلام الله ، خرج منه " نتوقف في هذا اللفظ .
فقلت : هكذا قال النبي r : " و ما تقرب العباد إلى الله بمثل ما خرج عنه " يعنى القرآن .
وقال خباب بن الأرت " يا هنتاه تقرب إلى بما استطعت فلن نتقرب إليه بشيء أحب إليه مما خرج منه " ؟!
وقال أبو بكر الصديق t - لما قرئ عليه قرآن مسيلمة الكذاب فقال : " إن هذا كلام لم يخرج من إل " يعنى رب .
ومما فيها : " ومن الإيمان به : الإيمان بأن القرآن كلام الله منزل ، غير مخلوق ، منه بدأ و إليه يعود . وأن الله تكلم به حقيقة وأن هذا القرآن الذي أنزله الله على محمد r هو كلام الله حقيقة ، لا كلام غيره . ولا يجوز إطلاق القول بأنه حكاية ، أو عبارة عن كلام الله ، بل إذا قرأ القرآن ، أو كتبوه في المصاحف ، لم يخرج بذلك عن أن يكون كلام الله ، فإن الكلام إنما يضاف حقيقة إلى من قاله مبتدئا . لا إلى من قاله مبلغا مؤدباً " .
فامتعض بعضهم من كونه إثبات كلام الله حقيقة ، بعد تسليمه أن الله تكلم به حقيقة . ثم إنه سلم ذلك لما بين له أن المجاز يصح نفيه ، وهذا لا يصلح نفيه ولما بين له أن أقوال المتقدمين المأثورة عنهم ، و شعر الشعراء المضاف إليهم ، هو كلامهم حقيقة . فلا يكون نسبة القرآن إلى الله بأقل من ذلك .
ولما ذكر فيها : " أن الكلام إنما يضاف حقيقة إلى من قاله مبتدئا ، لا إلى من قاله مبلغاً مؤدباً " . استحسنوا هذا الكلام و عظموه . وأخذ أحد كبراء الخصوم يظهر تعظيم هذا الكلام ، وأنه أزال عنه الشبهات ، و يذكر أشياء من هذا النمط .
ولما جاء ذكر من الإيمان باليوم الآخر ، و تفصيله و نظمه استحسنوا ذلك و عظموه .
وكذلك لما جاء الإيمان بالقدر ، و أنه على درجتين ، إلى غير ذلك مما فيه من القواعد الجليلة .
وكذلك لما جاء الكلام في الفاسق الملى ، و في الإيمان .
لكن اعترضوا على ذلك بما سأذكره
وكان مجموع ما اعترض به المنازعون المعاندون - بعد انقضاء قراءة جميعا ، و البحث فيها - أربعة أسئلة :
السؤال الأول : قولنا : " ومن أصول الفرقة الناجية : أن الإيمان و الدين : قول ، وعمل ، يزيد و ينقص . قول القلب و اللسان ، و عمل القلب و اللسان و الجوارح " .
قالوا : إذا قيل : إن هذا من أصول الفرقة الناجية ، خارج عن الفرقة الناجية من لم يقل بذلك ، مثل أصحاب المتكلمين الذين يقولون : إن الإيمان هو التصديق ، ومن يقول : إن الإيمان هو التصديق والإقرار . و إذا لم يكونوا ناجين . لزم أن يكونوا هالكين .
وأما الأسئلة الثلاثة ، وهي التي كانت عمدتهم ، فأوردوها على قولنا : " وقد دخل فيما ذكرناه من الإيمان بالله : الإيمان بما أخبر الله به في كتابه ، و تواتر عن رسوله r ، وأجمع عليه سلف الأمة ؛ ومن أنه سبحانه فوق سموانه ، وأنه على عرشه ، علي على خلقه . هو معهم أينما كانوا ، يعلم ما هم عاملون ، كما جمع بين ذلك في قوله :
) هو الذي خلق السماوات و الأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض و ما يخرج منها و ما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أينما كنتم و الله بما تعملون بصير ( ()
" و ليس معنى قوله ( وهو معكم ) أنه مختلط بالخلق . فإن هذا لا توجبه اللغة ، وهو خلاف ما أجمع عليه سلف الأمة و خلاف ما فطر الله عليه الخلق ، بل القمر آية من آيات الله من أصغر مخلوقاته . و هو موضوع في السماء . وهو مع المسافر و غير المسافر أينما كان.
وهو سبحانه فوق العرش رقيب على خلقه ، مهيمن عليهم ، مطلع عليهم إلى غير ذلك من معاني ربوبيته " .
" وكل هذا الكلام الذي ذكره الله : من أنه فوق العرش . وأنه معنا : حق على حقيقته . لا يحتاج إلى تحريف ، و لكن يصان عن الظنون الكاذبة " .
والسؤال الأول قال بعضهم : نفر باللفظ الوارد ، مثل حديث العباس t حديث الأوعال " والله فوق العرش " ولا نقول : فوق السماوات . ولا نقول : على العرش .
وقالوا أيضاً ، نقول : ) الرحمن على العرش استوى ( ولا نقول : الله على العرش استوى . ولا نقول : مستو .
وأعاد هذا المعنى مراراً - أي أن اللفظ الذي ورد ، يقال اللفظ بعينه ، ولا يبدل بلفظ يرادفه ، ولا يفهم له معنى أصلا ، ولا يقال : إنه يدل على صفة الله أصلا .
وانبسط الكلام في هذا المجلس الثاني ، كما سنذكره إن شاء الله تعالى .
والسؤال الثاني : قالوا التشبيه بالقمر : فيه تشبيه كون الله في السماء يكون القمر في السماء .
والسؤال الثالث : قالوا : قولك : " حق على حقيقته " الحقيقة هي المعنى اللغوي . ولا يفهم من الحقيقة إلا استواء الأجسام وفوقيتها . ولم تضع العرب ذلك إلا لها ، فإثبات الحقيقة : هو محض التجسيم ، ونفي التجسيم مع هذا تناقض ، أو مصانعة .
فأجبتهم عن الأسئلة : بأن قولي : " اعتقاد الفرقة الناجية " هي الفرقة التي وصفها النبي r بالنجاة ، حيث قال : " تفترق أمتي على ثلاث و سبعين فرقة ثنتان وسبعون في النار ، وواحدة في الجنة ، وهي من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي " .
فهذا الاعتقاد هو المأثور عن النبي r وأصحابه وهم ومن اتبعهم : الفرقة الناجية .
فإنه قد ثبت عن غير واحد من الصحابة أنه قال : " الإيمان يزيد و ينقص " .
وكل ما ذكرته في ذلك فإنه مأثور عن الصحابة t بالأسانيد الثابتة . لفظه أو معناه ، وإذا خالفهم من بعدهم ، لم يضرني ذلك .
ثم قلت لهم : وليس كل مخالف في شيء من هذا الاعتقاد يجب أن يكون هالكا . فإن المنازع قد يكون مجتهداً مخطئا ، يغفر الله له خطأه . وقد لا يكون بلغه في ذلك من العلم ما تقوم به عليه الحجة . وقد يكون من الحسنات ما يمحو الله به سيئاته . وإذا كانت ألفاظ الوعيد المتناولة له لا يجب أن يدخل فيها المتأول ، و التائب ، وذو الحسنات الماحية و المغفور له وغير ذلك . فهذا أولى . بل موجب هذا الكلام : أن من اعتقد ذلك بجا في هذا الاعتقاد ، ومن اعتقد ضده فقد يكون ناجيا ، وقد لا يكون ناجيا . كما قال : " من صمت نجا " .
وأما السؤال الثاني : فأجبتهم ، أولا : بأن كل لفظ قلته ، فهو مأثور عن النبي r ، مثل لفظ " فوق السماوات " و لفظ " على العرش " و " فوق العرش " .
وقلت : اكتبوا الجواب ، فأخذ الكاتب في كتابته .
ثم قال بعض الجماعة : قد طال المجلس اليوم . فيؤخر هذا إلى مجلس آخر .
فتكتبون أنتم الجواب . وتحضرونه في ذلك المجلس .
وأشار بعض الموافقين : بأن يتمم الكلام بكتابة الجواب ، لئلا تنتشر أسئلتهم واعتراضهم .
وكأن الخصوم كان لهم غرض في تأخير كتابة الجواب ، ليستعدوا لأنفسهم و يطالعوا ، و يحضروا من غاب من أصحابهم ، و يتأملوا العقيدة فيما بينهم ليتمكنوا من الطعن و الاعتراض .
فحصل الاتفاق على أن يكون تمام الكلام يوم الجمعة .
وقمنا على ذلك .
وقد أظهر الله من قيام و بيان المحجة ما أعز الله به السنة و الجماعة ، و أرغم به أهل البدعة و الضلالة ؛ و في نفوس كثير من الناس أمور لما يحدث في المجلس الثاني .
وأخذوا في تلك الأيام يتأملونها ، و يتأملون ما أجيب به في مسائل تتعلق بالاعتقاد ، مثل المسألة الحموية في الاستواء و الصفات الخبرية و غيرها .
فصل
فلما كان في المجلس الثاني ، يوم الجمعة ، بعد الصلاة ، ثاني عشر رجب - وقد أحضروا أكبر شيوخهم ممن لم يكن حاضراً ذلك اليوم - و بحثوا فيما بينهم ، و اتفقوا و تواطأوا ، وحضروا بقوة و استعداد ، غير ما كانوا عليه لأن المجلس الأول أتاهم بغتة وإن كان أيضاً بغتة للمخاطب الذي هو المسئول و المجيب و المناظر .
فلما اجتمعنا - وقد أحضرت ما كتبته من الجواب على أسئلتهم المتقدمة التي طلب تأخيره إلى هذا اليوم - حمدت الله بخطبة الحاجة ، حطبة ابن مسعود t .
ثم قلت : إن الله أمرنا بالجماعة و الائتلاف ، و نهانا عن الفرقة و الاختلاف ، و قال لنا في القرآن
) واعتصموا بحبل الله جميعاً و لا تفرقوا ( ()
وقال : ) إن الذين فرقوا دينهم و كانوا شيعاً لست منهم في شيء ( ()
وقال : ) ولا تكونوا كالذين تفرقوا و اختلفوا من ما جاءهم البينات ( ()
وربنا واحد ، وكتابنا واحد ، و نبينا واحد ، وأصول الدين لا تحتمل التفرق والاختلاف . وأنا أقول ما يوجب الجماعة بين المسلمين ، و هو متفق عليه بين السلف .
فإن وافق الجماعة فالحمد لله ، و إلا فمن خالفني بعد ذلك ، كشفت له الأسرار ، و هتكت الأستار ، و بينت المذاهب الفاسدة ، التي أفسدت الملل و الدول . وأنا أذهب إلى سلطان الوقت على البريد ، وأعرفه من الأمور ما لا أقوله في هذا المجلس . فإن المسلم كلاما و للحرب كلاما .
وقلت : لا شك أن الناس يتنازعون ، فيقول هذا : أنا حنبلي ، و يقول هذا : أنا أشعري ، و يجري بينهم تفرق واختلاف ، على أمور لا يعرف حقيقتها .
وأنا قد أحضرت ما بين اتفاق المذاهب فيما ذكرته ، وأحضرت كتاب تبيين كذب المفتري فيما ينسب إلى الشيخ أبي الحسن الأشعري . تأليف الحافظ أبي القاسم ابن عساكر .
وقلت : لم يصنف في أخبار الأشعري المحمودة كتاب مثل ها . وقد ذكر فيه لفظه الذي ذكره في كتاب الإبانة .
فلما انتهيت إلى ذكر المعتزلة ، سأل الأمير عن معنى المعتزلة ؟
فقلت : كان الناس في قديم الزمان قد اختلفوا في الفاسق الملي . وهو أول اختلاف حدث في الملة ، هل هو كافر ، أو مؤمن ؟ فقالت الخوارج : إنه كافر و قالت الجماعة : إنه مؤمن .
فقالت طائفة : نقول : هو فاسق ، لا كافر ، ولا مؤمن . ننزله منزلة بين منزلتين ، وخلدوه في النار ، واعتزوا حلقه الحسن البصري وأصحابه ، فسموا معتزلة .
فقال الشيخ الكبير بحبه ورد : ليس كما قلت ، و لكن أول مسألة اختلف فيها المسلمون : مسألة الكلام ، و سمي المتكلمون متكلمين لأجل تكلمهم في ذلك ، و كان أول من قالها : عمرو بن عبيد ، ثم خلفه بعد موته عطاء بن واصل .
هكذا قال : وذكر نحواً من هذا .
فغضت عليه . وقلت : أخطأت . وهذا كذب مخالف للإجماع .
وقلت له : لا أدب ولا فضيلة ، لا تأدبت معي في الخطاب ، ولا أصبت في الجواب .
ثم قلت : الناس اختلفوا في مسألة الكلام في خلانة المأمون ، و بعدها في أواخر المائة الثانية . وأما المعتزلة فقد كانوا قبل ذلك بكثير ، في زمن عمرو بن عبيد بعد موت الحسن البصري ، في أوائل المائة الثانية . ولم يكن أولئك قد تكلموا في مسألة الكلام ، ولا تنازعوا فيها . وإنما أول بدعتهم : تكلمهم في مسائل الأحكام و الأسماء و الوعيد .
فقال : هذا ذكره الشهر ستاني في كتاب الملل و النحل .
فقلت : الشهر ستاني ذكر ذلك في اسم المتكلمين : لم سموا متكلمين ، لم يذكره في اسم المعتزلة ، والأمير إنما سأل عن اسم المعتزلة .
وأنكر الحاضرون عليه .
وقال : غلطت .
وقلت في ضمن كلامي : أنا أعلم كل بدءة حدثت في الإسلام ، وأول من ابتدعها . وما كان سبب ابتداعها .
وأيضاً : فما ذكره الشهر ستاني لي بصحيح في اسم المتكلمين فإن المتكلمين كانوا يسمون بهذا اسم قبل تنازعهم في مسألة الكلام وكانوا يقولون عن واصل بن عطاء : إنه متكلم ، ويصفونه بالكلام و لم يكن الناس اختفوا في مسألة الكلام .
وقلت أنا وغيري : إنما هو واصل بن عطاء .
قلت : وواصل لم يكن بعد موت عمرو بن عبيد ، وإنما كان قريبه .
وقد روي أن واصلاً تكلم مرة بكلام . فقال عمرو بن عبيد : لو بعث نبي ما كان يتكلم بأحسن من هذا ، وفصاحته مشهورة ، حتى قيل : إنه كان ألئغ ، فكان يحترز عن الراء حتى قيل له : أمر الأمير أن يحفر بئر في قارعة الطريق . فقال : أو عز القائد ، أن يقلب قليب في الجادة .
قال الشيخ المتقدم فيهم : لا ريب أن الإمام أحمد إمام عظيم القدر ، ومن أكبر أئمة الإسلام ، لكن قد انتسب إليه أناس ابتدعوا أشياء .
فقلت : أما هذا فحق ، وليس هذا من خصائص أحمد ، بل ما من إمام إلا وقد انتسب إليه أقوام ، وهو منهم برئ . قد انتسب إلى مالك أناس ، هو برئ منهم ، وقد انتسب إلى موسى عليه السلام أناس هو برئ منهم ، وانتسب إلى عيسى عليه السلام أناس هو برئ منهم . وقد انتسب إلى على بن أبي طالب t أناس هو برئ منهم . و نبينا r قد انتسب إليه من القرامطة والباطنية ، و غيرهم من أصناف الملحدة و المنافقين من هو برئ منهم .
وذكر في كلامه : أنه انتسب إلى أحمد أناس من الحشوية و المشبهة . ونحو هذا الكلام .
فقلت : المشبهة و المجسمة في غير أصحاب أحمد أكثر منهم فيهم ، هؤلاء أصناف الأكراد ، و كلهم شافعية ، و فيهم من التشبيه و التجسيم ما لا يوجد في صنف آخر . وأهل جيلان ، فيهم شافعية وحنبلية .
قلت : وأما الحنبلية المحضة . فليس من ذلك ما في غيرهم .
وكان من تمام الجواب : أن الكرامية المجسمة كلهم حنفية .
وتكلمت على لفظ الحشوية ، ما أدرى جواباً عن سؤال الأمير ، أو غيره ، أو عن غير جواب .
فقلت : هذا اللفظ أول من ابتدعه المعتزلة ، فإنهم يسمون الجماعة و السواد الأعظم : كما تسميهم الرافضة : الجمهور .
وحشو الناس : هم عموم الناس وجمهورهم ، وهم غير الأعيان المتميزين يقولون : هذا من حشو الناس . كما يقال : هذا من جمهورهم .
وأول من تكلم بهذا : عمرو بن عبيد ، وقال : كان عبد الله بن عمر حشويا . فالمعتزلة سموا الجماعة حشوا ، كما تسميهم الرافضة : الجمهور .
وقلت : - لا أدرى في المجلس الأول ، أو الثاني - أول من قال إن جسم ، هشام بن الحكم الرافضي .
وقلت لهذا الشيخ : من في أصحاب الإمام أحمد من الأعيان حشوي بالمعنى الذي تريده ؟ الأثرم ، أبو داود ، المروزي ، الخلال ، أبو بكر بن عبد العزيز ، أبو الحسن التميمي ، ابن حامد القاضي ، أبو يعلي ، أبو الخطاب ، ابن عقيل ؟
ورفعت صوتي وقلت : سمهم . قل لي : من هم ، من هم ؟
أبكذب ابن الخطيب وافترائه على الناس في مذاهبهم تبطل الشريعة ، وتندرس معالم الدين ؟ كما نقل هو وغيره عنهم . أنهم يقولون : إن القرآن القديم هو أصوات القارئين ، ومداد الكاتبين ، وأن الصوت والمداد قديم أزلى ؟ من قال هذا ؟ وفي أي كتاب وجد هذا عنهم ؟ قل لي .
وكما نقل عنهم : أن الله لا يرى في الآخرة ، باللزوم الذي ادعاه ، والمقدمة التي نقلها عنهم ؟
وأخذت أذكر ما يستحقه هذا الشيخ : من أنه كبير الجماعة و شيخهم ، وأن فيه من العقل والدين ، ما يستحق أن يعامل بموجبه .
وأمرت بقراءة العقيدة عليه ، فإنه لم يكن حاضراً في المجلس الأول ، وإنما أحضروه في الثاني ، انتصاراً به .
وحدثني الثقة عنه بعد خروجه من المجلس ، أنه اجتمع به ، وقال له : أخبرني عن هذا المجلس ؟
فقال : ما لفلان ذنب ، ولا لي ، فإن الأمير سأل عن شيء . فأجابه عنه . فظننته سأل عن شيء آخر .
وقال : قلت لهم : مالكم على الرجل اعتراض ، فإنه نصر ترك التأويل ، وأنتم تنصرون قول التأويل ، وهما قولان للأشعري .
وقال : أنا أختار قول ترك التأويل . وأخرج وصيته التي أوصى بها . وفيها : قول ترك التأويل .
قال الحاكي لي : فقلت له : بلغني عنك أنك قلت ، في آخر المجلس ، لما أشهد الجماعة على أنفسهم بالموافقة : لا تكتبوا عني نفياً ولا إثباتاً . فلم ذاك ؟
فقال : لوجهين ، أحدهما : أني لم أحضر قراءة جميع العقيدة في المجلس الأول : والثاني : لأن أصحابي طلبوني لينتصروا بي ، فما كان يليق أن أظهر مخالفتهم ، فسكت عن الطائفتين .
وأمرت غير مرة أن تعاد قراءة العقيدة جميعها على هذا الشيخ ، فرأى بعض الجماعة أن ذلك يطول ، وأنه لا يقرأ عليه إلا الموضع الذي لهم عليه سؤال ، وأعظمه : لفظ " الحقيقة " فقرأوه عليه .
وذكر هو بحثاً حسناً ، يتعلق بدلالة اللفظ ، فحسنته ومدحته عليه .
وقلت : لا ريب أن الله حي حقيقة ، سميع حقيقة ، بصير حقيقة ، وهذا متفق عليه بين أهل السنة و الصفاتية ، من جميع الطوائف ، ولو نازع بعض أهل البدع في بعض ذلك ، فلا ريب أن الله موجود ، والمخلوق موجود ، ولفظ " الوجود " سواء كان مقولا عليهما بطريق الاشتراك اللفظي فقط ، أو بطريق التواطؤ ، المتضمن للاشتراك لفظاً ومعنى ، أو بالتشكيك ، الذي هو نوع من التواطؤ ، فعل كل قول : فالله موجود حقيقة . والمخلوق موجود حقيقة . ولا يلزم من إطلاق الاسم على الخالق و المخلوق بطريق الحقيقة محذور .
ولم أرجح في ذلك المقام قولا من هذه الثلاثة على الآخر ، لأن غرضي يحصل على كل مقصود .
وكان مقصودى تقرير ما ذكرته على قول جميع الطوائف ، وأن أبين اتفاق السلف ومن تبعهم على ما ذكرته وأن أعيان المذاهب الأربعة ، والأشعرى ، وأكابر أصحابه على ما ذكرته .
فإنه قبل المجلس الثاني ، اجتمع بي من أكابر الشافعية ، والمنتسبين إلى الأشعرية ، و الحنفية ، وغيرهم ، ممن عظم خوفهم من هذا المجلس ، وخافوا انتصار الخصوم فيه ، و خافوا على نفوسهم أيضاً من تفرق الكلمة ، فلو أظهرت الحجة التي ينتصر بها ما ذكرته ، أو لم يكن من أئمة أصحابهم من يوافقها - : لصارت فرقة ، ولصعب عليهم أن يظهروا في المجالس العامة الخروج عن أقوال طوائفهم ، كما في ذلك من تمكن أعدائهم من أغراضهم . فإذا كان من أئمة مذاهبهم من يقول ذلك ، وقامت الحجة عليه ، وبان أنه مذهب السلف ، أمكنهم إظهار القول به ، مع ما يعتقدونه في الباطن من أنه الحق .
حتى قال لي بعض الأكابر من الحنفية ، وقد اجتمع بي :
لو قلت : هذا مذهب أحمد حنبل ، و ثبت على ذلك ، لانقطع النزاع .
ومقصوده : أنه يحصل دفع الخصوم عنك بأنه مذهب متبرع ، و يستريح المنتصر والمنازع من إظهار الموافقة .
فقلت : لا والله ، ليس لأحمد بن حنبل بهذا اختصاص ، وإنما هذا اعتقاد سلف الأمة ، وأئمة أهل الحديث .
وقلت أيضاً : هذا اعتقاد رسول الله r ، وكل لفظ ذكرته ، فأنا أذكر به آية أو حديثاً ، أو إجماعاً سلفياً ، وأذكر من ينقل الإجماع عن السلف ، من جميع طوائف المسلمين : اتباع الفقهاء الأربعة ، و المتكلمين ، وأهل الحديث ، و الصوفية .
وقلت لمن خاطبني من أكابر الشافعية : لأبين أن ما ذكرته هو قول السلف ، و قول أئمة أصحاب الشافعي ، وأذكر قول الأشعري ، وأئمة أصحابه التي ترد على هؤلاء الخصوم . و لينتصرن كل شافعي ، وكل من قال بقول الأشعري الموافق لمذهب السلف . وأبين قول طائفة من أصحابه . فللأشعرية قولان ، ليس للأشعري قولان .
فلما ذكرت في المجلس أن جميع أسماء الله التي يسمى بها المخلوق كلفظ " الوجود " الذي هو مقول بالحقيقة على الواجب و الممكن ، على الأقوال الثلاثة ، تنازع كبيران : هل هو مقول بالاشتراك ، أو بالتواطؤ ؟ .
فقال أحدهما : هو متواطئ . وقال الآخر : هو مشترك . لئلا يلزم التركيب .
وقال هذا : قد ذكر فخر الدين : أن هذا النزاع مبني على أن وجوده . هل هو عين ماهيته ، أم لا ؟
فمن قال : إن وجود كل شيء عين ماهيته ، قال : إنه مقول بالاشتراك ، ومن قال : إن وجوده قدر زائد على ماهيته ، قال :إنه مقول بالتواطؤ .
فأخذ الأول يرجح قول من يقول : إن الوجود زائد على أن الماهية ، لينصر أنه مقول بالتواطؤ .
فقال الثاني : ليس مذهب الأشعري وأهل السنة : أن وجوده عين ماهيته فأنكر الأول ذلك .
فقلت : أما متكلمو أهل السنة ، فعندهم : أن وجود كل شيء عين ماهيته . وأما القول الآخر ، فهو قول المعتزلة : إن وجود كل شيء قدر زائد على ماهيته ، وكل منهما أصاب من وجه ، فإن الصواب أن هذه الأسماء مقولة بالتواطؤ ، كما قد قررته في غير الموضع .
وأجبت عن شبهة التركيب بالجوابين المعروفين .
وأما بناء ذلك على كون وجود الشيء عين ماهيته أو ليس عينها . فهو من الغلط المضاف إلى ابن الخطيب . فإنا وإن قلنا : إن وجود الشيء عين ماهيته ، لا يجب أن يكون الاسم مقولا عليه وعلى نظيره الاشتراك اللفظي فقط ، كما في جميع أسماء الأجناس . فإن اسم "السواد " مقول على هذا السواد وهذا السواد بالتواطؤ . وليس عين هذا السواد هو عين هذا السواد ، إذ الاسم دال على القدر المشترك بينهما ، وهو المطلق الكلي ، لكنه لا يوجد مطلقاً كلياً بشرط الإطلاق إلا في الذهن ، ولا يلزم من ذلك نفي القدر المشترك بين الأعيان الموجودة في المخارج ، فإنه على ذلك تنتفي الأسماء المتواطئة ، وهي جمهور الأسماء الموجودة في اللغات . وهي أسماء الأجناس اللغوية ، وهو الاسم المطلق على الشيء و على كل ما أشبهه . سواء كان اسم عين ، وأو اسم الجنس في اللغة يدخل فيه الأصناف والأجناس والأنواع ، ونحو ذلك . وكلها أسماء متواطئة ، وأعيان مسمياتها في الخارج متميزة .
وطلب بعضهم إعادة قراءة الأحاديث المذكورة في العقيدة ، ليطعن في بعضها فعرفت مقصوده .
فقلت : كأنك استعددت للطعن في حديث الأوعال . حديث العباس بن عبد المطلب ، وكانوا قد تعنتوا حتى ظفروا بما تكلم به زكي الدين عبد العظيم ، من قول البخاري في تاريخه : عبد الله بن عميرة ، لا يعرف له سماع من الأحنف .
فقلت : هذا الحديث - مع أنه رواه أهل السنن . كأبي داود ، و الترمذي ، وابن ماجه ، وغيرهم - فهو مروي من طريقين مشهورين . فالقدح في أحدهما لا يقدح في الآخر .
فقال : أليس مداره على ابن عميرة ، وقد قال البخاري : لا يعرف له سماع عن الأحناف ؟ .
فقلت : قد رواه إمام الأئمة ابن خزيمة في كتاب التوحيد الذي اشترط فيه أنه لا يحتج فيه بما نقله العدل عن العدل موصولا إلى النبي r .
قلت : والإثبات مقدم على النفي ، والبخاري إنما نفي معرفته لسماعه من الأحنف ، لم ينف معرفة الناس بهذا ، فإذا عرف غيره - كإمام الأئمة ابن خزيمة - الإسناد ، كانت معرفته وإثباته مقدماً على نفي غيره ، وعدم معرفته ، ووافق الجماعة على ذلك .
وأخذ بعض الجماعة يذكر من المدح ما لا يليق أن أحكيه .
وأخذوا يناظرون في أشياء لم تكن في العقيدة ، ولكن لها تعلق بما أجبت به في مسائل ، ولها تعلق بما قد يقهمونه من العقيدة .
فأحضر بعض أكابرهم كتاب الأسماء و الصفات ، وللبيهقي فقال : هذا فيه تأويل الوجه عن السلف .
فقلت : لعلك تعنى قول تعالى : ) فأينما تولوا فثم وجه الله ( () ؟
فقال : نعم . قد قال مجاهد و الشافعي : يعنى قبلة الله .
فقلت : نعم . هذا صحيح عن مجاهد ، والشافعي وغيرها . وهذا حق ، و ليست هذه الآية من آيات الصفات ، ومن عدها في الصفات فقد غلط ، كما فعل طائفة ، فإن سياق الكلام يدل على المراد ، حيث قال : ) ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله ( والمشرق والمغرب : الجهات . والوجه : هو الجهة - يقال : أي وجه تريد ؟ - أي جهة . وأنا أريد هذا الوجه . أي هذه الجهة - كما قال تعالى : ) ولكل وجهة هو موليها ( ، و لهذا قال : ) فأينما تولوا فثم وجه الله ( - أي تستقبلوا وتتوجهوا . والله أ‘لم .
****
قال ابن عبد الهادي :
هذا آخر ما علقه الشيخ فيما يتعلق بالمناظرة ، بحضرة نائب السلطان و القضاة ، و الفقهاء ، وغيرهم ، بالقصر .


رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 42.95 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 42.34 كيلو بايت... تم توفير 0.61 كيلو بايت...بمعدل (1.42%)]