رد: الإسلام لا يكون إلا سياسيا.. للدكتور يوسف القرضاوي
ومن الخطأ الظن بأن المنكر ينحصر في الزنى، وشرب الخمر، وما في معناهما.
إن الاستهانة بكرامة الشعب منكر أي منكر، وتزوير الانتخابات منكر أي منكر، والقعود عن الإدلاء بالشهادة في الانتخابات منكر أي منكر؛ لأنه كتمان للشهادة، وتوسيد الأمر إلى غير أهله منكر أي منكر، وسرقة المال العام منكر أي منكر، واحتكار السلع التي يحتاج إليها الناس لصالح فرد أو فئة منكر أي منكر، واعتقال الناس بغير جريمة حكم بها القضاء العادل منكر أي منكر، وتعذيب الناس داخل السجون والمعتقلات منكر أي منكر، ودفع الرشوة وقبولها والتوسط فيها منكر أي منكر، وتملق الحكام بالباطل وإحراق البخور بين أيديهم منكر أي منكر، وموالاة أعداء الله وأعداء الأمة من دون المؤمنين منكر أي منكر.
وهكذا نجد دائرة المنكرات تتسع وتتسع لتشمل كثيرا مما يعده الناس في صلب السياسة.
فهل يسع المسلم الشحيح بدينه، الحريص على مرضاة ربه - أن يقف صامتا ؟ أو ينسحب من الميدان هاربا أمام هذه المنكرات وغيرها خوفا أو طمعا أو إيثارا للسلامة ؟
إن مثل هذه الروح إن شاعت في الأمة فقد انتهت رسالتها، وحكم عليها بالفناء؛ لأنها غدت أمة أخرى، غير الأمة التي وصفها الله بقوله: "كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ" [آل عمران: 110].
ولا عجب أن نسمع هذا النذير النبوي للأمة في هذا الموقف؛ إذ يقول: "إذا رأيت أمتي تهاب أن تقول للظالم: يا ظالم - فقد تودع منهم" رواهأحمد بن حنبل في مسنده عن عبد الله بن عمر. أي فقدوا أهلية الحياة. وفي بعض الروايات "وبطن الأرض خير لهم من ظهرها".
إن المسلم مطالب بمقتضى إيمانه ألا يقف موقف المتفرج من المنكر، أيا كان نوعه: سياسيا كان أو اقتصاديا أو اجتماعيا أو ثقافيا، بل عليه أن يقاومه، ويعمل على تغييره باليد إن استطاع وإلا فباللسان والبيان، فإن عجز عن التغيير باللسان انتقل إلى آخر المراحل وأدناها، وهي التغيير بالقلب، وهي التي جعلها الحديث "أضعف الإيمان".
وإنما سماه الرسول - صلى الله عليه وسلم - تغييرا بالقلب؛ لأنه تعبئة نفسية وشعورية ضد المنكر وأهله وحماته، وهذه التعبئة ليست أمرا سلبيا محضا كما يتوهم، ولو كانت كذلك ما سماها الحديث " تغييرا ".
وهذه التعبئة المستمرة للأنفس والمشاعر والضمائر لا بد لها أن تتنفس يوما ما في عمل إيجابي، قد يكون ثورة عامة أو انفجارا لا يبقي ولا يذر؛ فإن توالي الضغط لا بد أن يولد الانفجار، سنة الله في خلقه.
وإذا كان هذا الحديث سمى هذا الموقف " تغييرا بالقلب "؛ فإن حديثا نبويا آخر سماه " جهاد القلب " وهي آخر درجات الجهاد، كما أنها آخر درجات الإيمان وأضعفها؛ فقد روى مسلم عن ابن مسعود مرفوعا "ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون؛ فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل".
وقد يعجز الفرد وحده عن مقاومة المنكر، وخصوصا إذا انتشر شراره واشتد أواره، وقوي فاعلوه، أو كان المنكر من قبل الأمراء الذين يفترض فيهم أن يكونوا هم أول المحاربين له، لا أصحابه وحراسه ... وهنا يكون التعاون على تغيير المنكر واجبا لا ريب فيه؛ لأنه تعاون على البر والتقوى، ويكون العمل الجماعي عن طريق الجمعيات أو الأحزاب وغيرها من القنوات المتاحة، فريضة أوجبها الدين، كما أنه ضرورة يحتمها الواقع.
إن ما يعتبر في الفلسفات والأنظمة المعاصرة " حقا " للإنسان في التعبير والنقد والمعارضة، يرقى به الإسلام ليجعله فريضة مقدسة يبوء بالإثم، ويستحق عقاب الله إذا فرط فيها.
وفرق كبير بين " الحق " الذي يدخل في دائرة " الإباحة "، أو " التخيير " الذي يكون الإنسان في حل من تركه إن شاء، وبين " الواجب " أو " الفرض " الذي لا خيار للمكلف في تركه أو إغفاله بغير عذر يقبله الشرع.
ومما يجعل المسلم سياسيا دائما أنه مطالب بمقتضى إيمانه ألا يعيش لنفسه وحدها، دون اهتمام بمشكلات الآخرين وهمومهم، وخصوصا المؤمنين منهم بحكم أخوة الإيمان "إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ" [الحجرات: 10].
وفي الحديث "من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم، ومن لم يصبح ناصحا لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم فليس منهم، وأيما أهل عرصة بات فيهم امرؤ جائع فقد برئت منهم ذمة الله وذمة رسوله".
والقرآن كما يفرض على المسلم أن يطعم المسكين، يفرض عليه أن يحض الآخرين على إطعامه، ولا يكون كأهل الجاهلية الذين ذمهم القرآن بقوله: "كَلَّا بَل لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ * وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ" [الفجر]، ويجعل القرآن التفريط في هذا الأمر من دلائل التكذيب بالدين "أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ" [الماعون].
/ويقرنه القرآن الكريم مع الكفر بالله تعالى في استحقاق العذاب الأليم في الآخرة "إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ" [الحاقة].
وهذا في المجتمعات الرأسمالية والإقطاعية والمضيعة لحقوق المساكين والضعفاء تحريض على الثورة، وحض الوقوف مع الفقراء في مواجهة الأغنياء.
وكما أن المسلم مطالب بمقاومة الظلم الاجتماعي فهو مطالب أيضا بمحاربة الظلم السياسي، وكل ظلم أيا كان اسمه ونوعه. والسكوت عن الظلم والتهاون فيه يوجب العذاب على الأمة كلها الظالم والساكت عنه كما قال تعالى: "وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً" [الأنفال: 25].
وقد ذم القرآن الأقوام الذين أطاعوا الجبابرة الطغاة وساروا في ركابهم كقوله عن قوم نوح: "وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا" [نوح]، وعن قوم هود: "وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ" [هود]، وعن قوم فرعون "فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ" [الزخرف].
بل جعل القرآن مجرد الركون والميل النفسي إلى الظالمين موجبا لعذاب الله "وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ" [هود].
ويحمل الإسلام كل مسلم مسؤولية سياسية، أن يعيش في دولة يقودها إمام مسلم يحكم بكتاب الله، ويبايعه الناس على ذلك، وإلا التحق بأهل الجاهلية، ففي الحديث الصحيح "من مات وليس في عنقه بيعة لإمام مات ميتة جاهلية " رواه مسلم في صحيحه. .
ثم إن المسلم قد يكون في قلب الصلاة، ومع هذا يخوض في بحر السياسة حين يتلو من كتاب الله الكريم آيات تتعلق بأمور تدخل في صلب ما يسميه الناس "سياسة".
فمن يقرأ في سورة المائدة الآيات التي تأمر بالحكم بما أنزل الله، وتدمغ من لم يحكم بما أنزل الله سبحانه بالكفر والظلم والفسوق "وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ" [المائدة]، "وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ" [المائدة: 47] يكون قد دخل في السياسة، وربما اعتبر من المعارضة المتطرفة؛ لأنه بتلاوة هذه الآيات يوجه الاتهام إلى النظام الحاكم ويحرض عليه؛ لأنه موصوف بالكفر أو الظلم أو الفسق أو بها كلها.
ومثل ذلك من يقرأ الآيات التي تحذر من موالاة غير المؤمنين "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا" [النساء]. "لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ" [آل عمران]. "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ" [الممتحنة: 1]. "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ" [آل عمران: 118].
ومن قنت " قنوت النوازل " المقرر في الفقه، وهو الدعاء الذي يدعى
به في الصلوات بعد الرفع من الركعة الأخيرة، وخصوصا في الصلاة الجهرية، وهو مشروع عندما تنزل بالمسلمين نازلة، كغزو عدو، أو وقوع زلزال، أو فيضان أو مجاعة عامة، أو نحو ذلك ... والذين زعموا أن الدين لا علاقة له بالسياسة من قبل، والذين اخترعوا أكذوبة "لا دين في السياسة، ولا سياسة في الدين" من بعد - أول من كذبوها بأقوالهم وأفعالهم.
فطالما لجأ هؤلاء إلى الدين ليتخذوا منه أداة في خدمة سياستهم والتنكيل بخصومهم، وطالما استخدموا بعض الضعفاء والمهازيل من المنسوبين إلى علم الدين؛ ليستصدروا منهم فتاوى ضد من يعارض سياستهم الباطلة دينا، والعاطلة دنيا.
|