المزيد من التفاصيل
مقدمة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد:
فموضوع هذه الصفحات هو الحديث عن حِقبة من التاريخ الإسلامي هي من أهم الحِقَب في تاريخ المسلمين. إنها " تاريخ الأندلس ".
وقد يسأل سائل: لماذا الحديث عن التاريخ أصلًا؟!
فكثير من الناس يلوم على المسلمين كثرة الخوض في الحديث عن التاريخ، يقولون: أنتم تبكون على اللبن المسكوب، هذا ماضٍ قد انتهى، فلنعش في حاضرنا، ولننظر إلى مستقبلنا.
والواقع أن هذه الآية مقلوبة تمامًا؛ لأننا إذا نظرنا إلى كتاب الله سبحانه وتعالى نجد أمرًا عجبًا، نجد أن ثلث القرآن الكريم جاء في صورة قصص، وهو أمر لافت للأنظار، فإذا كان ثلث القرآن الكريم قصصًا فإن هذا ولا ريب يشير إلى أسلوب رباني فريد من نوعه في التربية.
وإنني أرى أن مناهج التربية يجب أن يأتي ثلثُها في صورة قصص، حتى تحاكي أسلوب الخالق سبحانه وتعالى في تربية الخلق أجمعين. وإلا فلماذا ينزل ثلث القرآن الكريم قصصًا؟ ولماذا يكون هذا هو أسلوب المولى سبحانه وتعالى في القرآن الكريم - وفي هذا الثلث بالذات - في تعليم الناس وتربيتهم، وإرشادهم إلى الطريق القويم؟
إن الله سبحانه وتعالى في قرآنه الكريم قصّ قصصًا كثيرة، قصّ قصص الصالحين والطالحين، وقصص الأنبياء ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، ثم قصص الذين خرجوا عن منهجه سبحانه وتعالى، وكيف عاقبهم عز وجل، وكيف كانت نهايتهم وخاتمهم...
والقرآن الكريم ككتاب هو في الحقيقة منهج حياة، فيه كثير من الآيات التي تشير إلى منهج المسلم في تَلَقّي القصص، يقول سبحانه وتعالى: [فَاقْصُصِ القَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ]{الأعراف:176}. ويقول في آية أخرى: [لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ] {يوسف:111}. فقد خصّ سبحانه وتعالى العبرة بطائفة معينة فقال: [لِأُولِي الأَلْبَابِ] أي: لأصحاب العقول والأفهام.
إذن حينما نقصّ القصص بصفة عامة، سواءً القصص القرآني أو التاريخ الإسلامي أو التاريخ غير الإسلامي - حينما نقصّ هذا القصص لا بدّ أن نأخذه من خلال هذا الفهم وهذا المنطلق، منطلق الدراسة والتفكر والتدبّر والنظر في الأمور.
فليس غرضنا في هذا الصفحات في هذا الموضوع - تاريخ الأندلس - تحريك العواطف، ولا إلهاب المشاعر، ولا مجرد البكاء على ما سبق من الحضارات، أو البكاء على اللبن المسكوب، أو غيره، وإنما هي دعوة إلى التفكر، دعوة إلى التدبّر والتأمل، دعوة إلى أخذ العبر والدروس.
وهي أيضا طريق نبدأ فيه سويًا بالتنقيب عن صفحة من صفحات التاريخ الإسلامي، صفحة تاريخ الأندلس، وهي وإن كانت غير كافية لتغطية كل تاريخ الأندلس بكل أحداثه وتفصيلاته، إلا إنها تضع أرجلنا على الطريق لدراسة هذا التاريخ العظيم هو وغيره - بمشيئة الله - من تواريخ أخرى لاحقة.
وأسال الله أن ينفعنا بما علمنا، وأن يعلمنا ما ينفعنا، إنه ولى ذلك والقادر عليه، وهو نعم المولى ونعم النصير.
وفي بداية حديثنا عن تاريخ الأندلس وفي محاولةٍ لتحليل التاريخ تحليلًا دقيقًا، نحاول أن نقلّب صفحاتٍ، ونُظهر أحداثًا قد علاها التراب أعوامًا وأعوامًا، نحاول أن نظهر ما حاول الكثيرون أن يطمسوه، أو يخرجوه لنا في صورة باطل وهو حق، أو إظهار الحق وكأنه باطل.
فكثير من الناس يحاولون أن يزورواْ التاريخ الإسلامي، وهي جريمة خطيرة جدّ خطيرة يجب أن يتصدّى لها المسلمون.
سنن الله في خلقه
في بداية الحديث أيضًا يهمنا أن نتعرف على سنن الله في خلقه، وسننه سبحانه وتعالى في أرضه، فلله سنن ثابتة لا تتغير ولا تتبدل، كما يقول سبحانه وتعالى: [فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَحْوِيلًا] {فاطر:43}.
فهذا أمر الله سبحانه وتعالى قرره في كتابه وجعله من سننه الثوابت، وكمثال عملي على ذلك نجد أن الماء يغلي عند درجة مائة مئوية، وسيظل يغلي عند هذه الدرجة إلى يوم القيامة، فمن رحمته سبحانه وتعالى أن ثبّت لنا هذا الأمر؛ إذ لو كان الماء يغلي اليوم عند درجة ثلاثين - مثلا - وغدًا عند درجة خمسين، وبعد غد عند سبعين فلن تستقيم حياة الناس مع هذا الأمر، ولن تستقر أمورهم؛ لأن كل يوم مغاير للآخر، وكل شكل فيه تبدّل وتحوّل لم يُعهد.
والله سبحانه وتعالى وضع قواعدَ محكمةً وسُننًا ثابتةً.
فالنار تحرق وستظل تحرق إلى يوم القيامة، إلا أن هناك استثناءات لا ينبني عليها، فتلك النار التي من أهم خصائصها الإحراق لم تحرق إبراهيم عليه السلام، وهذا استثناء، والمؤمن الكيّس الحصيف لا يبني على الاستثناءات، ولا يتخذها قواعد، إنما يبني على قواعد أصولية ثابتة راسخة.
فهل يستطيع المؤمن في حياته أن يبني على الاستثناء ويضع يده - مثلا - في النار؟ ثم يقول: قد يحدث لي مثلما حدث مع إبراهيم عليه الصلاة والسلام، هذا غير جائز على الإطلاق، ولا يصح أن يتفوّه به أحد.
إذن، هي ثوابت الله التي لا تتبدل ولا تتغير، وقِسْ على ذلك ما شئت، فالإنسان والحيوان بصفة عامةٍ لا يستطيع أن يعيش بدون طعام أو بدون شراب، ولو عاش أي إنسان دون طعام وشراب أيامًا كثيرة فمآله لا محالة إلى الموت.
كذلك وبالمثل فإن سنن الله تعالى في تغيير الأمم هي سننٌ ثابتة، فقد جعل اللهُ عز وجلّ لتغيير الأمم وتبديلها من الفساد إلى الصلاح، ومن الصلاح إلى الفساد سننًا ثابتةً لا تتغير، فإن أنت سرت في طريق معيّن كانت الخاتمة معلومة وواضحة جدًا ؛ إذ هي ثابتة عند الله سبحانه وتعالى.
وحينما تقرأ التاريخ، وحينما تُقلِّب في صفحاته تشاهد سنن الله سبحانه وتعالى في التغيير والتبديل، فالتاريخ يكرّر نفسه بصورة عجيبة، حتى والله لكأنك تقرأ أحداثًا حدثت منذ ألف عام أو أكثر، فتشعر وكأنها هي هي، نفس الأحداث التي تتم في هذا الزمن، مع اختلاف فقط في بعض الأسماء أو المسمّيات.
فأنت حين تقرأ التاريخ كأنك تقرأ المستقبل بأحداثه وتفصيلاته؛ ذلك أن الله سبحانه وتعالى قد قرأه لك بسننه الثوابت، وحدد لك كيف ستكون العواقب، وما نهاية هذا الطريق الذي ستبدؤه وتتبعه.
والمؤمن الحصيف لا يقع في أخطاء السابقين، والمؤمن العاقل الواعي هو الذي يكرر ما فعله السابقون من المحامد والإيجابيات، فيفلح بفلاحهم واقتدائه بهم، وهو نفسه الذي لا يقع في أخطاء من عارض منهج الله سبحانه وتعالى، أو وقع في خطأ مقصود كان أو غير مقصود.
يتبــــــــــــــــــــــــــــــع