إِنَّ أَحَدَكم لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُوْنُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلاَّ ذِرَاعٌ أي حتى يقرب أجله تماماً.
فيسبق عليه الكتابأي الذي سبق في العلم ، أو الذيسبق في اللوح المحفوظ ، أو الذي سبق في بطن الأم .كما ذكرنا في شرح مراتبالقدر.
ما الحكمة في ذلك ؟ وهل أنالله يخذل هذا العمل حيث يعمل بعمل أهل الجنة حتىما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهلالنار؟
إن الحكمة فيذلك هو أن هذا الذي يعمل بعمل أهل الجنة إنما يعملبعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وإلا فهو في الحقيقةذو طوية خبيثة ونية فاسدة،فتغلبهذه النية الفاسدة حتى يختم له بسوء الخاتمة .
وكما جاء في الحديث: إِنَّ أَحَدَكم لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ فيما يبدو للناس وهو من أهل النار ، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع أي بدنو أجله ، أي أنه قريب من الموت. فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فيدع العمل الأول الذي كان يعمله، وذلك لوجود دسيسة في قلبه ( والعياذ بالله) هوت به إلى هاوية.
فلايجوز أن يظن العبد بالله ظن السوء: فوالله ما من أحد يقبل على الله بصدق وإخلاص، ويعمل بعمل أهل الجنة إلا لم يخذله الله أبداً.
قال ابن حجرالهيتمي: إن خاتمة السوء تكون - والعياذ بالله - بسبب دسيسة باطنية للعبد، ولا يطلععليها الناس، وكذلك قد يعمل الرجل عمل أهل النار وفي باطنه خصلة خير خفية تغلب عليهآخر عمره فتوجب له حسن الخاتمة.
فكلمة "فيمايبدو للناس" توضح المعنى الذي يرمي إليه رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- فيهذا الحديث وقرار الله في محكم تبيانه أنه لا يضيع عمل العاملين، وعلى ضوء هذهالرواية التي جاءت مقيدة بقيد "فيما يبدو للناس" ينبغي فهم الرواية الأخرى التيجاءت في حديث ابن مسعود، وذلك لأن القاعدة تقتضي بتفسير العام على ضوء الخاصوالمطلق على ضوء المقيد، لا العكس؟
والله تعالى يقول :فَمَنْ كَانَيَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْبِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا الكهف-110، ويقول عن أناس يعملون بأعمال أهل الجنة: ( َوقدمنا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْعَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا)الفرقان-23، ومعنى الآيتين أن العمل الذي يدخل صاحبه الجنة لا يكفي أنيكون مما قد أحبه الله وأمر به، بل لابد معه من أن يكونالمقصود به وجه الله عز وجل، لا غيره من المنافع والمصالح الدنيوية المتنوعة،سواء أكان هذا الغير شريكاً في القصد مع الله أو هو المقصود وحده، كما هو شأنالمنافقين.
وهذا مصداق قول رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-: (إن الله لا ينظر إلى أجسادكم ولاإلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم) وأشار بأصبعه إلى صدره، وقوله -صلى الله عليه وآله وسلم- ( إن الله طيب لا يقبل إلاطيباً).
وقال الله تعالىإن الذين آمنوا وعملوا الصالحاتإنا لا نُضَيِّع أجر مَن أحسن عملاً ).
كان رجل مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة من غزواته وكان هذا الرجل لا يدع شاذة ولا فاذة للعدو إلا قضى عليها، فتعجب الناس منه وقالوا: هذا الذي كسب المعركة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : هُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فعظم ذلك على الصحابة رضي الله عنهم كيف يكون هذا الرجل من أهل النار؟ فقال رجل: لألزمنه،أي أتابعه، فتابعه، فأصيب هذا الرجل الشجاع المقدام بسهم من العدو فجزع، فلما جزع سل سيفه (والعياذ بالله) ثم وضع ذبابة سيفه على صدره ومقبضه على الأرض، ثم اتّكأ عليه حتى خرج من ظهره، فقتل نفسه، فجاء الرجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره وقال: أشهد أنك رسول الله، قال: بِمَ قال: إن الرجل الذي قلت فيه إنه من أهل النار حصل منه كذا وكذا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك: إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ فِيْمَا يَبْدُو للِنَّاسِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ .
وقصة الأصيرم من بني عبد الأشهل من الأنصار،كان منابذاً للدعوة الإسلامية عدواً لها، ولما خرج الناس إلى غزوة أحد ألقى الله تعالى في قلبه الإيمان فآمن وخرج في الجهاد وقتل شهيداً، فجاء الناس بعد المعركة يتفقدون قتلاهم وإذا الرجل، فقالوا: ما الذي جاء بك يا فلان، أجئت حدباً على قومك، أم رغبة في الإسلام، قال: بل رغبةفي الإسلام، ثم طلب منهم أن يقرؤوا على النبي صلى الله عليه وسلم السلام، فصار هذا ختامه أن قتل شهيداً مع أنه كان منابذاً للدعوة.
إذا يتضح منقوله صلى الله عليه وسلم(إن أحدكمليعمل بعمل أهل الجنة) الخ، أن فيالناس من تكون أعمالهم أعمال أهل الجنة ولكنهم ليسوا من أهلها، إذ تكون أعمالهممشوبة بنفاق أو برياء، وما أكثرهم في كل عصر، وأن في الناس من تكون أعمالهم منأعمال أهل النار، ولكنهم لن يكونوا من أهلها بسبب حالات قلبية خاصة تكون بينهم وبينربهم، كالانكسار والتذلل على أعتاب الله، والشعور المهيمن عليهم بسوء حالهم، وبسببأن ارتكابهم للأوزار ليس لاستكبار منهم على أوامر الله وشرعه، ولكن لضعف يهيمنعليهم.
وعلى هذا فكلمة"الكتاب"في قوله -صلى الله عليه وآله وسلم-: (فيسبق عليهالكتاب)تعني قضاء الله الذي هوعلمه وإرادته، والله يعلم ما سيؤول إليه حال كل من الصنفين اللذين تحدث عنهما وسببذلك، فلنعلم أيضاً أنه لا إشكال في أن يريد الله عز وجل أن يختم حياة الفريق الأولبالضلال والشقاء، وأن يختم حياة الفريق الثاني بالهداية والرشد، لأن إرادته جاءتعلى أعقاب السبب الذي مارسه كل من الفريقين بمحض اختيارهورغبته.
والقدر هو سر الله في خلقه لم يطلع عليهملك مقرب ولا نبي مرسل .
ومراتب القدرأربعة : العلم , الكتابة , المشيئة , الخلق.
وشرحناها مفصلا في شرح الحديث الثاني حديث جبريل عليه السلام
.
ان الله - جل وعلا - اعطى للانسان مشيئة وقدرة على الاختياروما من إنسان إلا وهو يشعر بهذه الحرية في الاختيار ،وبناء على هذه الحرية جاء التكليف الشرعي بوجوب الإيمان وحرمة الكفر ، فحين لا يؤمنالإنسان يكون هو الذي لا يريد الإيمان ، وحين يكفر يكون هو من أرادالكفر .ويقدر الانسان ان يفرق بين ما هو يقع بارادته وما هو خارج ارادته والرسول - صلىالله عليه وسلم - قال " اعملوا فكلميسر لما خلق له "فالله - عزوجل- جعل للمخلوقين المكلفين ارادة ومشيئة ولكنها تابعة لارادة الله ومشيئته(وما تشاءون الا ان يشاء الله ر بالعالمين )
ولا يجوزالاحتجاج بالقدر على فعل المعاصي والسيئات فالله ربط الأسباب بمسبباتها ، فإذا أرادالعبد النبات قام بزراعة الأرض وريها ، و إذا أراد الجنة آمن وعمل صالحاً ، ولو قالالعبد أريد الجنة ولن أعمل صالحاً ، فإن كتب الله لي الجنة فسأدخلها ، عد كذلك منالجاهلين.