رابعاً : الحقوق البدنية ، كنصرة المظلوم ، وفك الأسير ، وإغاثة المستغيث ، ونجدة الملهوف ، والمساعدة بما يستطيعه الإنسان ، كما ورد تفصيل ذلك كثيراً في السنة ، بل هناك ما هو أبعد وأوسع من هذا التقسيم ، وهو ما يعبر عنه بعض العلماء المعاصرين بأنه : توفير الحاجات الإنسانية لكل منتمٍ لهذه الأمة ، ويصنف العلماء المتأخرون الحاجات الإنسانية إلى خمسة أصناف تقريباً :
الأول : الحاجات الحيوية ، كالطعام ، والشراب ، واللباس والمسكن ، والزواج فهذه الأشياء إذا نقصت الإنسان فإنه يفكر بها ، ولا يعود قادراً أن يقدم خيراً لأمته ، أو لبلده أو لأسرته ، أو لوالديه فلهذا كانت أول الحقوق ، وهكذا تجد الترتيب في القرآن الكريم .
الثاني: الحاجة إلى الأمن ، وهو أن يأمن الإنسان على حاجاته الأساسية ، ويتحرر من الخوف سواء كان خوفاً من الإيذاء الجسدي أو الإيذاء النفسي والمعنوي ، أو خوفاًً من الحرمان من حاجاته الضرورية كحرمانه من الطعام أو الشراب أو اللباس ، أو السكن أو ما أشبه ذلك ، ولهذا هنا تجد في القرآن الكريم في غير موضع كما في قوله تعالى : " الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف " فبدأ بالحاجات الحيوية العضوية ، وثنّى بالحاجات النفسية " وقال الله – تعالى - في الآية الأخرى : " فأذاقها الله لباس الجوع والخوف" فإن الخائف لا يستطيع أن ينتج، ولا أن ينجز، ولا أن يقوم بعمل.
الثالث: الحاجة إلى الانتماء ، وذلك أن الإنسان بطبعه كائن اجتماعي جبله الله - سبحانه وتعالى - على حب الأُنس بالآخرين ، والركون إليهم ، والحديث معهم ، ولهذا يقال : إن الإنسان لو جلس فترة طويلة لا يتكلم ربما يموت ، وقد جرى أن ملكاً من ملوك قبرص جمع مجموعة من الأطفال وأبقاهم فترة طويلة معزولين عن الناس ووفر لهم حاجاتهم، فهم يأكلون ويشربون ، لكن لا يكلمهم أحد، ولا يكلمون أحداً ، فلم تمر بهم فترة طويلة حتى ماتوا .
فالإنسان محتاج لمن يكلمه ، ويأخذ عنه ، ويحاوره ، وقديماً قيل:
ولابد من شكوى إلى ذي مروءة يواسيك أو يسليك أو يتوجــــع
وأنت ترى الإنسان يكلم شخصاً وهو لا يقصد أن يشتكي إليه بقدر ما يقصد أن يبوح له بهمه، ويسمعه مايقاسيه من العناء ، وهنا جانب مهم جداً وهو الشعور بالانتماء ، فلا يستطيع الإنسان أن يعيش في عزلة عن الناس ، ولذا تجد الخطاب في القرآن الكريم خطاباً جماعياً " يا أيها الذين آمنوا "، " والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات " وقال الله - تعالى -: " قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم " ، " وقل للمؤمنات " وقوله تعالى : " وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان " وفي هذا إيماء وإشارة إلى حاجة الإنسان لمعنى الانتماء ، وأنه لا يتحقق معنى الإسلام بدونه ، فالصلاة جماعة ، والحج جماعة ، والصوم جماعة ، فكيف نستطيع أن نطبق أخلاقيات الإسلام إلا بالمعايشة ؟ كيف تعرف إن كنت حليماً أم لا؟ إن كنت صبوراً أم لا؟ إن كنت كريماً ؟ إن كنت شجاعاً ؟ إلا من خلال مجموعةٍ تُعايِشُهم ، وتعاملهم وتتفاعل معهم، يصبرون عليك وتصبر عليهم ، يحلمون عنك وتحلم عنهم ، إلى غير ذلك .
الرابع: الحاجة إلى التقدير ، وذلك أن الإنسان بعد ما ينتمي إلى هذه الأمة يكون عنده حاجة فطرية إلى أن يجد منهم التقدير ، و ينال احترام الآخرين الذين ينتمي إليهم ، ويشعر أنه مفيد لهم ولو في بعض الأمور ، وأن له بعض التأثير فيمن حوله، حتى إن الإنسان لولم يحصل على مثل هذه الأشياء لربما لجأ إلى ما يسميه العلماء (السلوك التدميري ) ، أو (النشاط المشوش غير الناضج) من أجل إثبات ذاته ، ولهذا ترى كيف أثنى الرسول - صلى الله عليه وسلم - على قبائل ، وعلى أشخاص ، وعلى أمم وعلى بلاد ، وعلى جهاد أناس بأعيانهم ، وهذا كثير جداً في السنة ، حتى صنف فيه أهل العلم ، كمصنف الإمام أحمد في (فضائل الصحابة) ، وفيه ما قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - في شأن أبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، وأشج عبد القيس ، وما أثنى به عليهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - فهم يستحقونه ، ويكفيهم فخراً أن يثني عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم وقبل ذلك ثناء الله عليهم - سبحانه وتعالى - في القرآن الكريم "لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار" إلى غير ذلك من المواطن ، وتجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - أيضاً يثني على حديث العهد بالإسلام ، ولا يلزم أن يكون الأمر ثناءً مجرداً ، فأحياناً تكون لفتة لها معنى كما قال الرسول - صلى الله عليه وسلم: ( من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ) رواه مسلم (1780) وقال لهم : (من أغلق عليه بابه فهو آمن ، ومن دخل المسجد فهو آمن) رواه أبو داود (3022) . فمن الذي سيترك بيته، أو بيت الله الحرام ويدخل دار أبي سفيان ، ولكن هذه كانت لفتة فيها نوع من الاعتبار والتقدير لأبي سفيان ، وفيها تأليف له على الإيمان وعلى الإسلام ، وكان آنذاك حديث عهد بالإسلام، كما تألَّف قلوب أقوام بالأموال وغيرها ، فإن الجاه له مكانة في النفس لا تقل عن مكانة المال ، فحاجة الإنسان إلى ذلك أمر فطري جبلي ركبه الله فيه ، وجعل في الشريعة ما يكمله وما يلبيه .
الخامس: الحاجة إلى تحقيق الذات ، يحتاج الإنسان أن يحقق ذاته تلبيةً لشعور داخلي فنجد أن قول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم (3084) : ( إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له) ورواه الترمذي (1376)، والنسائي (3651) يتردد في أذهان كثير من الناس فيفكرون في هذه المعاني فيسعون لتمثلها من خلال مضاعفة العمل والإنتاج ، ومحاولة أن يخلِّد الإنسان نفسه بعمل معين ، طمعاً فيما عند الله - سبحانه وتعالى - من الثواب ، تجد من يحرص على أن تكون وراءه صدقة جارية تبقى بعد موته ، أو علم ينتفع به ، ويتداول ويترحم عليه بسببه بعد موته ، أو ولد صالح يكون امتداداً لأبيه وبقاءً لاسمه ، وبقاءً لأجره وثوابه ، فهذا مما يدخل في تحقيق الذات .