رد: المحدِّثون والأصوليون وردُّ الحديث من جهة المتن تقديم وتقريظ / الشيخ يوسف القرضاو
خاتمة البحث:
وفي نهاية هذا البحث العميق المتميز، يكتب الباحث خاتمة له يقول فيها:
(في نهاية هذا التطواف العلمي بين مناهج المحدِّثين والأصوليين في ردِّ متون الحديث النبوي، وبعد بحث علل المتون، تتَّضح أهمية الدراسات المقارنة التي تجمع بين علمين، بحسب اختلاف وظيفة كلِّ علمٍ، وما يقع بين العلوم من افتراق وتداخل.
وقد اتَّضح أيضًا بعد هذه الدراسة المستفيضة، أن ردَّ المتون لعللٍ: أمر مقرَّرٌ في الجملة عند المحدِّثين والأصوليين، وإن اختلفوا في مقاييس ذلك الإعلال وفروعه. وإذا كان البحث قد أثبت أن منهج المحدِّث يشمل نقد الأسانيد ونقد المتون معًا، وأن التوسّع في نقد الأسانيد - عنده - جاء بحكم اختصاصه ووظيفته، فإن البحث أثبت - كذلك - شمولَ منهج الأصوليّ لنقد المتون ومسائل الرواية، وأن توسع الأصولي في نقد المتون جاء بحكمِ طبيعة عمله ووظيفته.
فمنهج المحدث منبثق عن موضوع علم الحديث نفسه الذي يحدّد مجال نظره، وطبيعة وظيفته. فموضوعه هو توثيق الأحاديث والآثار، وتمييز المقبول منها والمردود، وعلى هذا الاعتبار انبنى منهجه النقدي؛ فمدار تقسيمه للحديث على درجات القوة والضعف بحسب تَوَفُّر شروط القبول حتى تحصل الثقة بالخبر، ولذلك كانت قرائنه واقعةً في حدود ما تتقوى به الثقة مما لا تتقوى، ويكون ذلك بِسَبْر مرويات الراوي، وتَتَبع الطرق والشواهد، وتَوَفّر صفة العدالة الدينية الحاملةِ على العناية الكاملة، الحاجزةِ عن وقوع الكذب أو التساهل أو التصرف في النقل بما يُخِلّ بصيغة الضبط التي تحقق الأداءَ كما سَمع.
أما الأصوليّ فإن له منهجًا كاملاً في انتقاد الحديث، يُشكل جزءًا من علم أصول الفقه؛ لأنه يتصل بصحة الدليل ومتى ينهض للاحتجاج وبناء الأحكام. ونظرُ الأصولي يدور على مسألة القطع والظن وما يتصل بهما، وبناءً على هذا قسم الأخبارَ إلى متواتر وآحاد، وما يُقطع بصدقه وما يُقطَع بكذبه وما لايقطع بكونه على واحدٍ من الأمرين، كما ميّز بين المحالّ التي يَرِد عليها الخبر، ووازن بين الأدلة والأخبار، وحصولُ القطع والظن مبنيُ على توفر الشروط وتكامل العملية النقدية في المخبِر عنه والإخبار).
أهم النتائج:
ثم يضع الباحث نصب أعيننا هذه النتائج، ويجلِّيها لنا بوضوح، فيقول:
1. (المقبول أعمّ من الصحيح، فهو عند المحدِّث شامل للصحيح والحسن بنوعيهما، أما عند الأصوليِّ فهو ما يَجب العمل به، ولذلك هو ينشغل بالمعاني التشريعية، ويُقَايِس الأخبار بأصول الشريعة.
2. النقد الحديثي ليس أجنبيًا عن الأصولي، فهو من أهله ولَصيقٌ بفنّه، ولكن اختصاص الأصولي يتضح من خلال قسمته للحديث إلى متواتر وآحاد، ثم من خلال بَحْثه مسائلَ الاحتجاج بخبر الواحد وشروطه. والمنهج النقدي عند الأصوليّ يقوم على ثلاثة أركان، الراوي والمروي والرواية، أو المخبِر والمُخْبَر عنه والإخبار، ولكل ركنٍ شروطه.
3. صفات القبول عند الأصوليين والفقهاء اختلفت قليلاً عما لدى المحدثين، وإنْ حصل الوفاق بينهما في أصل اشتراط العدالة والضبط، واختلاف المحدثين والأصوليين يَكمن في تفاصيل ذلك لا في أصله، وإن كان يقع التداخل أحيانًا بين مذاهب الطرفين، فلا ينهض الخلاف لدرجة القول: إن لكل فريق رأيًا بموازاة الآخر، خلافًا لمَن أوهمَ ذلك ولم يُدَقِّق من المعاصرين.
4. جوهرُ الخلاف بين المحدثين والأصوليين يقع في شرطَيْ انتفاء الشذوذ والعلة، والأولىَ أن يقال: إن كثيرًا من الأصوليين والفقهاء لا يشترطون انتفاء الشذوذ والعلة كما هما في اصطلاح المحدثين؛ فإن لكثير من الأصوليين عللاً خاصة بهم وَفق منهجهم.
5. مرد الخلاف بين الأصوليين والمحدثين في المردود إلي اختلافهم في أسباب الطعن بالحديث، فجهات الضعف متباينة متعددة، فالفقهاء والأصوليون اختصوا بأسبابٍ ترجع في الجملة إلى المخالفة في المتون وتندرج ضمن الإخلال بشروط العمل بالخبر، وذلك لمراعاة نظام الشريعة ونصوصها وقواعدها، والمحدثون اختصوا بأسباب أخرى وقرائن ترجع في جملتها إلى الأسانيد والرواة أكثر من غيرها.
6. ليس من وظيفة الأصولي الطعن والتكذيب وتعيين المخطئين، بل ملاحقة العمل واستنباط الأحكام، فالردّ يعني عدم العمل، أو عدم توفر شروط العمل والاحتجاج.
7. مقاييس رَدّ الحديث من جهة المتن عند المحدِّث تَرجع إلى أصل عامّ هو التعليل بمسالكه المختلفة، وهي خمسةٌ تَكْثُرُ، ويضاف إليها ما يقع التعليل به لكنْ على ضِيقٍ.
8. مقاييس رَدّ الحديث عند الأصوليين تنقسم إلى ثلاثة أقسام: الأول: قسم تَوافقوا عليه، وهذا افترضوه بناء على التصور العقلي وليس بواقع. والثاني: قسمٌ اشترطه الحنفية وبَنَوْا عليه مسائل فقهية. والثالث: قسم اشترطه المالكية. فالكلام في هذه النتائج وفي غيرها على (الأصوليين) بالعموم يَتَنَزَّل على هذا التحديد.
9. الاختلاف الواقع في الشروط الزائدة للحديث المقبول، إنما هو اختلافٌ في طريق ثُبُوت الأخبار، وليس بين مَن قَبِل الحديثَ الصحيحَ ومَنْ ردَّه، كما تَوَهَّم بعضُهم).
والنتائج التي انتهى إليها الباحث وفيرة، ونكتفي بهذا الكمِّ منها.
أهم التوصيات:
ثم ضمَّ الباحث الكريم بحثه بهذه التوصيات أو أهم التوصيات، وهي:
1. (ضرورة القيام بأبحات تاريخية دقيقة في علوم الحديث، تدرس نشأة المصطلحات وجذورها وتطورها والاختلاف في مدلولها، عبر مختلف العصور.
2. أهمية الدراسات التطبيقية التي من شأنها أن تخفف من غلواء التنظير الذي قد يخالف الواقع التطبيقي في بعض الأحيان.
3. القيام بالدراسات البينية بين العلوم، أي دراسة الموضوعات التي يشترك فيها علمان أو أكثر من علوم الشريعة، لتوسيع مدارك نظر الباحثين، والوقوف على مساحات التقاطع بين العلوم؛ لأن هذا سينعكس على مزيدٍ من الفهم لحركة العلوم وتطورها، وسيكشف عن طبيعة وظيفة كل علم منها.
4. ضرورة العودة إلى المصادر التأسيسية لأيّ علم من العلوم للوقوف على حقيقة مذاهب وأنظار مؤسِّسيه، مع عدم إهمال كتب المتأخرين التي لا تخلو من تحريرٍ وفوائد.
5. تلافي عيوب التأليف النقليّ، ومن أبرزها عدم نَقْل الأقوال بنصّها، أو اقتطاعها من سياقها، أو الوقوف دون انتهاء مقصود المتكلم منها.
6. ضرورة الدراسات التحليلية النقدية التي تعالج أسباب الاختلاف بين العلماء، على أسسٍ معرفيةٍ، تتجاوز الكتابات التي سميت بآدب الاختلاف، وذلك لأهمية التلازم بين الأخلاق والمعرفة في التعامل مع الخلاف.
7. تَحِّري الدقة في فَهْمِ مناهج العلماء ومذاهبهم، وفي نَقْلها، وفي مناقشتها، وعدمُ الاسترواح إلى الترجيح بينها باستخفاف ودون تحصيل مؤهلات الترجيح، مع ضرورة الإنصاف في كلِّ ذلك).
شكر الله لأخينا معتز الخطيب ما قام به من جهد علميٍّ أصيل يقدره أهل العلم، ويعدُّونه من (صُلب) العلم، كما قال الإمام الشاطبي، لا من مُلَحه. وهو يقوم على الاستيعاب والمناقشة والموازنة والنقد والاختيار، بعيدا عن التعصُّب والانحياز، إلا للحقيقة العلمية الموضوعية التي تظهر بالبحث المحايد الحرِّ، بحيث نتحيَّر في نهاية البحث: من أيِّ المدرستين هو؟ أهو من المحدِّثين أم من الأصوليين؟
سدَّد الله خطاه، ونفع به. كما جاء في الأثر: اللهم علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علَّمتنا، وزدنا علمًا.
الفقير إليه تعالى
يوسف القرضاوي
__________________
مدونتي ميدان الحرية والعدالة
|