عرض مشاركة واحدة
  #3  
قديم 12-04-2011, 12:01 AM
الصورة الرمزية أبو جهاد المصري
أبو جهاد المصري أبو جهاد المصري غير متصل
قلم فضي
 
تاريخ التسجيل: Aug 2009
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 4,623
الدولة : Egypt
افتراضي رد: معالم الخطاب الاسلامي الجديد د. عبدالوهاب المسيري

أما بالنسبة لحَمَلَة الخطاب الإسلامي الجديد فالوضع جد مختلف،
فمعظمهم قد تشكل فكرياً في الخمسينيات واحتك بالحضارة الغربية في الستينيات. ونحن نذهب إلى أن الحضارة الغربية دخلت مرحلة الأزمة في تلك الآونة، وأدرك كثير من مفكريها أبعاد الأزمة والطريق المسدود الذي دخلته منظومة الحداثة الغربية (انظر: مقدمة لتفكيك الخطاب العلماني، أربعة أجزاء، القاهرة ديسمبر 1997).


إن حَمَلَة الخطاب الجديد أدركوا من البداية الجوانب المظلمة للحضارة الغربية الحديثة التي أدخلت العالم في حربين غربيتين يقال لهما "عالميتين" لأنهما جرّتا العالم بأسره إلى حلبة الصراع وأتون الحرب وتزايد إنتاج أسلحة الفتك والدمار حتى تبين للجميع أن هذه الحضارة "قادرة على بناء قبر يكفي لدفن العالم"، (على حد قول رجاء جارودي) وتزايد تغول الدولة القومية المركزية وتمكنت من الوصول إلى الجميع والتحكم فيهم من خلال أجهزتها الأمنية والتربوية وتزايد تغلغل الإعلام في الحياة الخاصة للبشر الأمر الذي زاد من تنميطهم، وتزايدت هيمنة قطاع اللذة على الجماهير وهو ما أدى إلى تزايد الإباحية، كما تزايدت معدلات الطلاق بشكل لم يسبق له مثيل، وظهرت أزمة المعنى والأزمة المعرفية، والأزمة البيئية،

ولم يعد الاقتصاد الحر ناجحاً كما كان في الماضي، وفقدت التجربة الاشتراكية مصداقيتها وظهرت الاتجاهات الفكرية المعادية للإنسان مثل الفاشية والنازية والصهيونية والبنيوية، وهي اتجاهات وصلت إلى ذروتها في فكر ما بعد الحداثة.

ومع منتصف الستينيات تبلور الخطاب النقدي الغربي وأصبحت أعمال مدرسة فرانكفورت متداولة بين الكثيرين فظهرت دراسات كثيرة في نقد فكر عصر التنوير في الغرب، وكان ماركوز،

بحديثه عن تنميط الحضارة الغربية والإنسان ذي البعد الواحد يبين أن ثمة خللاً بنيوياً في صميم الحضارة الغربية يتجاوز التقسيم التقليدي المتبع الذي يقسمها إلى حضارتين: واحدة اشتراكية والأخرى رأسمالية، وأعاد كثير من المؤرخين المراجعين كتابة تاريخ الحضارة الغربية ليبينوا حجم جرائمها ضد شعوب آسيا وأفريقيا وحجم النهب الاستعماري، وظهر كذلك كثير من الدراسات التي توجه سهام النقد الجذري إلى نظريات التنمية وكان لحركة اليسار الجديد إسهام مهم في هذا المضمار، ولذا فسواء على مستوى الممارسة أو على مستوى الفكر، لم يكن من الصعب على حَمَلَة الخطاب الإسلامي الجديد من دارسي الحضارة الغربية في منتصف القرن العشرين أن يعرفوا مثالبها،كما لم يعد بوسعهم أن يمارسوا ذلك الإعجاب الساذج بها الذي مارسه كثير من أعضاء الجيل الأول، فالحضارة الغربية التي عرفوها وخبروها مختلفة في كثير من جوانبها عن تلك الحضارة الغربية التي عرفها وخبرها ودرسها جيل الرواد، وشتان ما بين الخبرتين!

ويجب أن نؤكد أن كلا الجيلين القديم والجديد، لم يؤسس منظومته الفكرية انطلاقاً من المنظومة الإسلامية وحسب، وإنما نتيجة تفاعله مع الحضارة الغربية في الوقت ذاته، وهذا أمر طبيعي للغاية، فهي الحضارة التي فرضت سيطرتها على العالم واكتسبت مركزية بحكم الانتصارات العسكرية التي حققتها، وطرحت رؤيتها للكون باعتبارها رؤية كل البشر في كل زمان ومكان، وطرحت معرفتها باعتبارها علوماً دقيقة تصلح للتطبيق في كل المجتمعات، وفرضت نفسها باعتبارها مستقبل البشرية جمعاء، وألقت بالتحدي الذي كان على الجميع الاستجابة له، شاؤوا أم أبوا.

وباختلاف نوع التحدي وحدته اختلفت الاستجابة، وقد وجد المصلحون الأوائل جوانب إيجابية كثيرة في هذه الحضارة الغربية، بل أكاد أقول إنهم انبهروا بها، وهذا ما عبر عنه الشيخ محمد عبده في عبارته الشهيرة: لقد وجدت هناك مسلمين بلا إسلام، ووجدت هنا إسلاماً بلا مسلمين، ولذا كانت استجابة الجيل الأول للتحدي الغربي: "كيف يمكن أن نلحق بالغرب؟ وكيف يمكن أن ننقل تلك المنظومة الرائعة إلى حضارتنا مع الاحتفاظ بقيمنا وبشيء من هويتنا؟".

ولكن لو كانت خبرة الشيخ محمد عبده مع الحضارة الغربية مثل خبرتنا، لتردد كثيراً قبل أن يقول قولته هذه، وقبل أن يطرح معالم مشروعه، وثمة واقعة تاريخية توضح النقطة التي أود أن أصل إليها، كان الشيخ رفاعة الطهطاوي يعيش في باريس عام 1830،

ومسألة إعجابه بالحضارة الغربية مسألة معروفة لدى الجميع، ولكن في هذا العام نفسه كانت مدافع القوات الفرنسية تدك القرى الجزائرية الآمنة دكاً، كان الشيخ رفاعة الطهطاوي لا يرى حوله إلا النور الساطع (الذي يغشى الأبصار) ولا يسمع سوى الإيقاع المتحضر المدوي (الذي يغطي على كل الإيقاعات الأخرى)، أما الشيوخ الجزائريون الذين كانوا يجلسون في قراهم البسيطة فكانوا لا يرون إلا ألسنة النيران المندلعة ولا يسمعون سوى قعقعة القنابل، ويورد أحد كتب التاريخ أنه قيل لأحد هؤلاء الشيوخ إن القوات الفرنسية إنما جاءت لنشر الحضارة الغربية في ربوع الجزائر.

وجاء رده جافاً ومقتضباً ودالاً إذ قال: "ولِمَ أحضروا كل هذا البارود إذن؟" نحن مثل هذا الشيخ الجزائري شممنا رائحة البارود وشاهدنا ألسنة اللهب وسمعنا قعقعة المدافع ورأينا سنابك خيولهم وهي تدوس على كل شيء، ثم رأينا البارود وهو يزداد انتشاراً وشاهدنا مقدرته وهي تتحسن في الأداء بشكل مذهل إلى أن أصبح قنابل وصواريخ وأسلحة جرثومية نووية تخصص لإنتاجها نسب مئوية عالية في ميزانيات الحكومات الغربية (ثم الشرقية والجنوبية والشمالية)، حتى أصبحت صناعة أسلحة الفتك من أهم الصناعات في عالمنا الحديث.

لو كان الشيخ رفاعة أو الشيخ عبده قد شم رائحة البارود كما فعل الشيخ الجزائري وكما نفعل نحن، لما تحدث أي منهما عن مسلمين بلا إسلام، ولكن لأن رائحة البارود كانت مختفية وكان النور ساطعاً يغشى الأبصار، أصبحت القضية بالنسبة لكثير من حَمَلَة الخطاب القديم (كما أسلفنا) هي كيفية التصالح مع الحداثة الغربية واللحاق بها والتكيف معها وكيفية المزاوجة بين الإسلام والحداثة، هذا هو جوهر مشروع محمد عبده الذي ساد حتى منتصف الستينيات من هذا القرن، وهو ما نشير إليه بوصفه الخطاب الإسلامي القديم.
__________________
مدونتي ميدان الحرية والعدالة
رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 16.85 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 16.22 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (3.76%)]