تتجلى في سورة يوسف عدة مواضيع نفسية هامة، تشكل دروساً وعبراً لمن أراد التعلم والاعتبار؛ فالسورة حافلةٌ بمشاهد تتجلى فيها انفعالات الغيرة، والحزن، والغضب، والخوف، والسرور، وبمشاهد الابتلاء للنبي يوسف - عليه السلام - ابتلاء بغيره الإخوة، وابتلاء بالفتنة، وابتلاء بالسجن، وابتلاء بالملك والقوة، وفي السورة أيضاً مشهد لابتلاء النبي يعقوب - عليه السلام - بفقدان ابنه، وفقدان بصره، ومشهد لصبره الطويل، وعدم تسرب اليأس إلى قلبه رغم معاناته الشديدة. وتبين السورة أن طول الابتلاء - مهما طال - لا يعني اليأس من روح الله، والسورة حافلة أيضاً بمشاهد تتحقق فيها الرؤى؛ رؤيا صاحبَيْ يوسف في السجن، ورؤيا الملك، ورؤيا يوسف - عليه السلام.
وتوضح السورة انطباق سنن الطبيعة البشرية وقوانين تدافع قوى الشر والخير على الأنبياء والرسل، وإن كان الوحي يوجههم ويعصمهم من الزلل، كما توضح السورة مدى تحمل الأنبياء للأحزان والابتلاء والفتن، وتقدم السورة أيضاً نموذجاً للسموِّ الأخلاقي، والعفو عند المقدرة، من طرف قائد تولى أمانة الحكم في سنوات الرخاء وسنوات الشدة، وساس البلاد والعباد بالعدل والإحسان، فأخرج البلاد من الأزمة، وأغاث الناس الذين مسهم الضر في مختلف المناطق.
وتبيِّن السورة في الجانب النفسي دور الانفعالات في تحريك السلوك، كما تبين تفاعل وتكامل مختلف الجوانب التي تكوِّن الإنسان: الأبعاد الجسمية، والروحية، والعقلية، والوجدانية، والسلوكية، وكيفية تأثير كل جانب في الجوانب الأخرى، وتأثره بها.
مدخل:
سورة يوسف من السور التي تعتمد على القصة (القصص) لتعليم الناس دروساً في السلوك واستخلاص العبر من تجارب الآخرين، وسورة يوسف نموذج للآيات التي تتناول بالعرض المفصَّل حياة الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - ومحيطهم (النفسي - الاجتماعي)، وما لاقوه في سبيل الدعوة إلى الحق من متاعب وأهوال وأحزان. وهذه السورة نموذج للصراع بين الحق والباطل، وبين العقل والهوى، وبين المصالح الشخصية المبنيَّة على الأنانيَّة، وخدمة المصلحة العامة للأسرة والمجتمع والإنسانية، وهذه السورة أيضاً مثال واقعي يبيِّن كيف أن المظلوم قد يعامل كظالم، والبريء قد يصبح متَّهماً، وأن شخصاً - مهما علا مقامه ومكانته - قد يُحكم عليه زوراً وبهتاناً، ويُودع السجنَ مع المجرمين!.
وتتجلى في هذه السورة الانفعالات البشرية، والحياة الوجدانية للبشر كما هم في الواقع، دون أقنعة، وعندما يحاول بعضهم - مثل إخوة يوسف وامرأة العزيز - اصطناع أقنعة الخير والعفاف؛ فإنها لا تلبث أن تتساقط كما تتساقط أوراق الشجر في فصل الخريف.
وليست هذه القراءة النفسية لسورة (يوسف) إلا محاولة متواضعة لفهم هذه السورة من خلال تناولٍ نفسيٍّ للأحداث وأنماط السلوك الواردة في هذه السورة، وخاصةً الجانب الوجداني للإنسان، الذي صُوِّر في هذه السورة أحسن تصوير. ولعل هذا التناول يساعدنا على فهم القرآن الكريم من منظورٍ مختلفٍ عن بقية التناولات الأخرى المعتمَدة في كتب التفسير المعروفة.
ومن جهة أخرى؛ فإن هدف هذه الدراسة هو محاولة لفهم الإنسان، وخاصة الجانب الوجداني منه، ودوافعه وكيفية تأثير هذا الجانب في بقية الجوانب، والأبعاد التي تكوِّن الإنسان، سواء كانت روحية وجسمية، أم عقلية ووجدانية وسلوكية - كما جاء ذلك في القرآن الكريم - وكيفية التأثر بها أيضاً. وسيكون ما جاء في القرآن الكريم هو المنطلق لفهم الإنسان، وليس ما هو وارد في السيكولوجية الحديثة فحسب، كما لجأ إلى ذلك بعض علماء النفس المسلمين المعاصرين.
لقد كانت سورة يوسف - ولا تزال - موضوعاً للتأملات والدراسات؛ بل وللأعمال الفنية، بغضِّ النظر عن عمق هذه الدراسات وأهدافها.
فبالإضافة إلى تفاسير القرآن الكريم التي فسرت هذه السورة من زوايا مختلفة، فقد اتخذ (مالك بن نبي) - مثلاً - في كتابه "الظاهرة القرآنية"هذه السورة نموذجاً لدراسة القرآن الكريم، كظاهرة من الممكن دراستها علمياً وموضوعياً، وقد وصل إلى نتيجة مُفادها: أن القرآن الكريم لا يمكن إلا أن يكون من تنزيل العزيز الحكيم. وقد قامت منهجية (مالك بن نبي) على مقارنة سورة يوسف في القرآن الكريم مع قصة يوسف كما جاءت في "العهد القديم"، حيث وجد اختلافات جوهرية بين القصتين!
وكانت هذه السورة موضوع مؤتمر انعقد بدمشق سنة 1926م، تحت عنوان (مؤتمر تفسير سورة يوسف)، تم فيه التعرض لطبائع الصهاينة وأخلاقهم وسلوكهم
أحاول في هذه الدراسة عدم الخوض في التفاصيل والإسرائيليات والأحاديث الموضوعة المتصلة بقصة يوسف - عليه السلام - وأسجل هنا - مع الأسف -: أن بعض تفاسير القرآن الكريم حافلة بالإسرائيليات والروايات، التي لا يقبلها العقل السليم والذوق الرفيع حول قصة يوسف - عليه السلام.
ومهما يكن من أمر، فإن هذه السورة الكريمة قد نزلت - كما يؤكد ذلك كثير من المفسرين - في عام اشتدت فيه الآلام والأحزان على رسول الله - صلي الله عليه وسلم - لوفاة زوجته خديجة - رضي الله عنها - وعمه أبي طالب؛ حتى عرف ذلك العام بـ (عام الحزن)، عامٌ اشتدت فيه الأحزان على رسول الله - صلي الله عليه وسلم - وعلى أتباعه، فنزلت هذه السورة لتعلم المسلمين كيفية التعامل مع الأحزان التي ترافق الشدائد ومصاعب الحياة؛ وذلك بعرض نموذج من حياة الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - الذين تعرضوا للأهوال والشدائد والأحزان؛ لكي يكون هذا النموذج مثالاً يُقتدى به في التعامل مع الأحزان، وقد قال عطاء في هذا المعنى: "لا يسمع سورةَ يوسف محزونٌ إلا استراح لها" .
ويلاحظ المتأمل في قصة يوسف مدى عمق الانفعالات التي تحرِّك الإنسان، وشدتها في دفعه للقيام ببعض أنماط السلوك، كما يلاحظ دور الإيمان - والجانب الروحي عموماً - في ضبط الانفعالات ومراقبتها، ودور تحكيم العقل في إعادة التوازن للجانب الانفعالي المضطرب، وفي ظهور الانفعالات الإيجابيَّة، بدلاً من الانفعالات السلبيَّة التي تطغى على سلوك الإنسان.
وباختصار؛ فإن سورة يوسف - عليه السلام - عبارةٌ عن آيات متناغمة، تتماوج فيها الانفعالات ظهوراً واختفاءً، قوةًَ وضعفاً، حسداً وإيثاراً، حباً وكراهيةً، حزناً وفرحاً، غضباً وسروراً. وهذه القصة نموذج أيضاً لتعليم الناس عموماً، والنشء خصوصاً؛ لتهذيب سلوكهم، وضبط انفعالاتهم، وكيفية الرجوع إلى الحق والفضيلة بعد الخطأ والرذيلة، باستعمال القصة الهادفة.
وينبغي أن أنبِّه في آخر هذا التقديم: أن محاولة القراءة هذه ليست تفسيراً للقرآن الكريم؛ بل هي محاولة لفهم القرآن الكريم من منظور علم النفس العام، ولا ينبغي أن يُفهم أن هذه المحاولة عبارة عن عمل نهائي في هذا المجال؛ بل عبارة عن تجربة أراد كاتبها أن يخوضها، وأن يقدمها للباحثين والمهتمين للمناقشة والإثراء.
الرؤيا:
تبدأ سورة يوسف بإثارة الانتباه - بحروف ثلاثة لا نعرف لها معنًى محدداً - إلى آيات الكتاب المبين، التي نزلت بلغة عربية على قوم لا يفهمون ولا يعرفون غيرها من اللغات، مما يوضح العلاقة الوثيقة بين اللغة والعقل. والقصة تعتمد أساساً على اللغة؛ وهل يمكن تأليف قصة أو إخراجها سينمائيا أو تلفزيونيا، أو رسماً وتصويراً، أو بأيِّ شكل من أشكال التعبير والاتصال دون لغة، مهما كانت هذه اللغة بسيطة أم معقدة، مجرَّدة أم مجسَّمة؟ وكما تعتمد القصة على اللغة؛ فإن القصة من أساليب تعليم اللغة، وتعليم السلوك وتغييره.
وهذه القصة لم يقتبسها النبي - صلي الله عليه وسلم - من اليهود والنصارى، كما لم يسمعها من القصَّاصين والرواة؛ بل الوحي مصدرُها، فالوحي هو مصدر المعرفة إلى جانب مصادر أخرى؛ مثل اللغة، والعقل، والطبيعة، ولولا هذا الوحي لكان محمد صلي الله عليه وسلم - ولبقي غافلاً عمَّا حدث في القرون الغابرة لغيره من الأنبياء والرسل، والأقوام والمجتمعات.
وبعد هذا المدخل عن مصدر المعرفة، وعلاقة اللغة بالعقل، تبدأ القصة بجلوس يوسف - وهو غلام لم يبلغ الحُلُم - ذات صباح قرب أبيه؛ ليقصَّ عليه الرؤيا التي ظهرت لعقله الصغير - ولا شك - غريبة، لم يستطع فهم دلالتها الرمزية المعقدة، مما أثار دهشته وتعجُّبه إلى درجة لم يستطع كتمان ما رأى، كيف يستطيع الكتمان في هذه السن؟! فلجأ إلى أبيه الذي كان يشعر بأنه أقرب وأحبُّ الناس إليه، فأسرَّ له برؤياه. أليس عجيباً أن يرى طفلٌ دون البلوغ أحد عشر كوكباً والشمس والقمر يسجدون له؟!! ما معنى أحد عشر كوكباً؟ ولماذا؟ وكيف تسجد له هذه الكواكب والشمس والقمر؟!
يجيب النبي يعقوب - عليه السلام - ابنه طالباً منه بكل حنان أن يكتم رؤياه، ولا يقصَّها على إخوته الذين - ولا شك - سيكيدون له كيداً إذا سمعوها؛ لما تحمله من دلالة، وهنا إشارة واضحة من طرف النبي يعقوب - عليه السلام - إلى أهمية الرؤيا من جهة، وعلاقتها بإخوة يوسف الذين كانوا كما يعلم - وهو أبوهم - يغارون منه بشدة، قد تصل إلى حدِّ الفتك بيوسف كما قد يزيِّن لهم الشيطان ذلك، وهنا إشارة إلى الغيرة التي تكون بين الناس؛ بل وحتى بين الإخوة، والي هذا الانفعال الذي يؤدي إلى القتل أو الإضرار بالآخر والآخرين، والتاريخ والواقع حافلٌ بقصص أدَّت فيها الغيرة إلى التخلص من الإخوة والأخوات، وغيرهم من الأقرباء، في سبيل الاستئثار بالمال أو الملْك أو القيادة، أو بمنصب أو بامرأة أو برجل.
والغيرة عادة ما تكون بين الإخوة ( نساء - نساء )، و(رجال - رجال )، و( رجال - نساء )، كما تكون بين ( ذكور - ذكور )، و( إناث - إناث ) و( ذكور - إناث )، زملاء العمل، وزملاء الحكم والسلطة، وغير ذلك من الأشكال التي يكون هدفها الاستئثار بشيء له قيمة دون الآخر أو الآخرين، وكما تكون الغيرة بين الأفراد؛ فقد تكون بين الجماعات والمجتمعات. والغيرة غالباً ما تكون بين الأقارب، ويكون الحسد بين غير الأقارب، والغيرة عادةً ما تكون بين طرفين أو أكثر.
والغيرة انفعال شديد تحركه انفعالات أخرى كالخوف والغضب، خوفٌ من ضياع شيء، أو خوفٌ من عدم الحصول عليه، مما يؤدي إلى غضب الشخص، وتحرُّك قوي العدوان في نفسه؛ دفاعاً عن ذاته وحمايةً لها، ولكن هذا الدفاع قد يشتطُّ؛ فيتحول إلى هجوم للقضاء على الطرف الآخر أو الأطراف الأخرى، وغالباً ما يلجأ إلى الحيلة والمكيدة للتخلص من الخصم؛ فلنر كيف لجأ إخوة يوسف - عليه السلام - بدافع من غيرتهم إلى الحيلة والمكيدة؛ للتخلص منه.
لم يشأ النبي يعقوب - عليه السلام - أن يفسر الرؤيا لابنه يوسف بطريقة مباشرة، ولكنه أفهمه بأن لهذه الرؤيا علاقة بإخوته، كما أن لها علاقة بمستقبله - وكذلك كل الرؤى؛ فإنها رمزية وذات دلالة تنبُّئية ( مستقبلية) - وأفهمه أيضاً: أن الله العليم الحكيم قد أكرمه بالقدرة على تأويل الأحاديث؛ أي: تعبير الرُّؤَى، كما أكرمه بمكانة عالية كما أكرم آل يعقوب من قبل؛ إبراهيم وإسحاق.
لقد كان إخوة يوسف - عليه السلام - ولا شك يشعرون أن أباهم يحبُّ يوسف أكثر مما يحبُّهم، أو هكذا خُيِّل إليهم، وكيف لا يحبُّ يعقوبُ يوسفَ وهو ابنه الأصغر، وهو المحروم من حنان الأم؟! ومن الطبيعي أن يحبَّ الأب ابنه الأصغر أكثر من الآخرين؛ لأنه أحوج من الآخرين إلى الرعاية والحماية، ولكنَّ الأبناء الأكبر سناً يعتقدون أن ذلك يُخِلُّ بالعدل بين الأبناء؛ مما قد يؤدي إلى حصول الإبن الأصغر على الاستئثار ليس بحبِّ الوالدين أو بحبَّ أحدهما فقط؛ بل الاستئثار أيضاً بما قد يجود عليه الأبوان من أموال وممتلكات، وغير ذلك من أساليب التفضيل. وهذا له ما يبرره في الواقع؛ إذ إلى جانب حاجة الطفل الأصغر إلى رعاية وحماية أكثر كما ينبغي الحال، فإن هذا الطفل غالباً ما يجد الصعاب قد مُهِّدت له بفضل كدح الأبوين لمدة طويلة، وبفضل كدِّ الإخوة والأخوات الأكبر سنّاً، الذين غالباً ما يقع عليهم عبء مساعدة الآباء والأمهات. وتبيِّن بعض الدراسات النفسية أن لترتيب الأبناء تأثيراً في سلوكهم وشخصيتهم بصفة عامة.
كان إخوة يوسف - عليه السلام - يشعرون أنهم أجدر بحبِّ أبيهم من يوسف، كيف لا يشعرون بذلك وهم جماعة (عصبة)، وقوة الجماعة أكبر من قوة الفرد! الجماعة أهم من الفرد، ودورها أعظم، كيف لا وهم جماعة (عشرة إخوة)، من أب وأم واحدة، بينما يوسف من أم أخرى!.
لقد أدت بهم الغيرة الشديدة إلى أن يحكموا على أبيهم بالضلال المبين، وإلى أن يحكموا على يوسف بالقتل؛ فالحكم هنا بالقتل واقع مع سبق الإصرار، ولكن سبق الإصرار هذا صاحبته نيَّة بالتوبة بعد اقتراف الجريمة، مما يدل على تصارع الخير والشر في نفوسهم بشدة، إلى درجة دفعت أحدهم إلى أن ينصح بعدم قتل يوسف، والاكتفاء بإلقائه في جُبٍّ (بئر)، لا يستطيع الخروج منه إلا بمساعدة المسافرين الذين سيمرون على الجبِّ للاستسقاء، وبالتالي لإنقاذ يوسف!.
وكأن نوازع الشر قد خفَّت قليلاً في نفوسهم؛ فاتفقوا على عدم قتل يوسف، والإجماع على إلقائه في الجُبِّ، مما يعطي له فرصة النجاة من الموت. ونلاحظ هنا كيف أن فرداً في جماعة قد يغيِّر اتجاه الجماعة كلها، ويؤثر في أحكامها وقراراتها وسلوكها بقوة الحجة، وبتجنيد الجانب الوجداني الإيجابي.
المكيدة والمصيدة:
لاشك أن أول خطوة يقوم بها الشخص الذي يغار من الآخر هي العمل على الفصل بين المحبوبين، والإيقاع بينهما بأي شكل من الأشكال، فكيف يصل أخوة يوسف إلى هدفهم؟ وكيف ينفردون بيوسف الذي يحظى بحماية ورعاية أبيه؟ وكيف يُفصل بينهما؟ لابد من حبك مكيدة ومؤامرة، واستدراجٌ إلى المصيدة؛ فما هي المكيدة؟ وما هي المصيدة؟ لابد من ارتداء الأقنعة! لابد من اصطناع قناع الحب بدلاً من الكراهية، وقناع الحماية والرعاية بدلاً من الغيرة والحسد، وقناع الأمان بدلاً من الغدر، وقناع البراءة بدلاً من الجريمة!.
{قَالُواْ يَا أَبَانَا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ * أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [يوسف:11-12].
فما كان جواب الأب؟
لقد عبر يعقوب - عليه السلام - عن حالته الوجدانية بأسلوب لبق؛ لكيلا يجرح مشاعرهم، حيث قال: {قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُواْ بِهِ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ} [يوسف:13]. لكنه لم يُخْفِ حزنه كما لم يُخْفِ خوفه؛ حزنه من افتراق يوسف عنه، وخوفه، ليس من أبناءه - ظاهرياً - بل من الذئب!.
لقد حاول يعقوب - عليه السلام - أن يجند الجانب الوجداني (السلبي) لديه (الحزن والخوف)؛ ليصرف أبناءه عن الحصول على هدفهم (يوسف)، ولكنه لم يفلح أمام إلحاحهم، وهم الذين لبسوا كل الأقنعة لمواجهة عواطف أبيهم، مهما كانت قوية ومؤثرة، فدعوا على أنفسهم بالويل والثبور إن أكل الذئب يوسف! لقد كانوا يعرفون حقاً بأن الذئب لن يجرؤ على أكل يوسف وهم عصبة من الشبان الأشدَّاء.
ورغم ذلك، فقد عمد إخوة يوسف إلى تجنيد الجانب الوجداني لتضليل أبيهم؛ فجاؤوا في المساء وهم يبكون، وكأنهم في حزن على يوسف الذي أكله الذئب عندما ذهبوا يستَبِقُون، وتركوا يوسف وحده حارساً لمتاعهم!. والبكاء وإن كان مظهراً من مظاهر الحزن إلا أنه لا يدل دائما على الحزن؛ فالبكاء قد يستعمل - وخاصةً من الإناث - للاستعطاف أو التضليل، وللحصول على هدف ما بصفة عامة.
انظر إلى حجة إخوة يوسف للتعبير عن حزنهم وتضليل أبيهم؛ فقد جاؤوا - وهم جماعة - يبكون، فالجماعة التي تبكي أمام فرد واحد، لا يمكن ألاَّ تصدَّق، وإن كان أفرادها كاذبين في بكائهم؛ فضغط الجماعة وتأثيرها في الفرد معروف؛ ولذا فقد جاؤوا جميعاً يبكون (يتباكون)، كما جاؤوا على قميص يوسف بدم كذب؛ إتماماً لحبك خيوط الجريمة، وتضليل أية عملية تحقيق؛ ذلك لأنهم كانوا يعرفون أن أباهم يدرك تماماً ما يجول في نفوسهم؛ فأرادوا أن يضللوه بالقول والفعل. فقالوا: {وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} [يوسف:17]، أما بالفعل: {وَجَآؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ} [يوسف:18]. فانظر كيف أدتَّ الغيرة بإخوة يوسف إلى ارتكاب جريمة إلقاء أخيهم في الجُبِّ، والتخلص منه بأبخس الأثمان، والكذب على أبيهم. وهذا مثال واضح لكيفية تأثير الجانب الانفعالي في السلوك.
تجنيد الجانب الروحي:
شعر النبي يعقوب - عليه السلام - بحزن شديد يمزق قلبه لما أصاب ابنه الأصغر، ورغم ذلك فقد حاول أن يتذرَّع بالصبر: {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ } [يوسف:18]. ولكنَّ التذرُّع بالصبر والاستعانة بالله جاءا بعد أن اتهم أبناءه بأن أنفسهم قد سوَّلت لهم أمراً؛ وذلك حتى يوضِّح لهم بأن حيلتهم ومكيدتهم لم تَغِبْ عنه، ولم تستطع تضليله في واقع الأمر، وإن سكت على مضض. ويروى في هذا المعنى: أن النبي يعقوب قال لأبنائه: "كذبتم، لو أكله الذئب لخرق القميص"، وروي أيضاً أنه قال: "ما أحلم هذا الذئب، أكل ابني ولم يشق قميصه!" . انظر كيف نسب النبي يعقوب صفة (الحلم) للذئب، وهي صفة بشرية؛ وذلك على سبيل التعريض بسلوك أبنائه.
وصبر النبي يعقوب - عليه السلام - على فراق ابنه وهو يعلم تفسير الرؤيا، كما يعلم بأن الله - سبحانه وتعالى - سيجمعه مع يوسف مرة أخرى؛ ولكنَّ صبر يعقوب قد طال. ولولا أنه كان يعلم من الله ما لم يكن أبناؤه يعلمون؛ لكان من الهالكين حزناً على ما أصاب يوسف، وكما جاء في "تفسير الفخر الرازي": فإن النبي يعقوب - عليه السلام - قد وقع في صراع بين الدواعي النفسانية التي تقتضي الجزع، وهي قوية، والدواعي الروحانية التي تدعو إلى الصبر والرضا. ودون معونة الله وتوفيقه؛ فإنه لن تحصل الغَلَبَة للصبر الجميل على الانفعالات الشديدة التي تستطيع تدمير الإنسان
سنعود مرة أخري إلى صبر النبي يعقوب - عليه السلام - وحزنه الشديد، وكيف أثَّر فيه حزنه إلى درجة فقدان البصر، مما يدل على تأثير الجانب الوجداني في الجانب الجسمي (وابيضَّت عيناه)، وما قد يترتَّب على ذلك من ضعفٍ في الإحساس والإدراك! وقد حدث هذا بالنسبة للنبي يعقوب بسبب تغلب الجانب الوجداني فيه على الجانبين: الروحي والعقلي، وذلك لتغلُّب طبيعته البشرية عليه، وقد ناقش الزَّمَخْشَرِيُّ هذه النقطة، حيث قال: "فإن قلتَ: كيف جاز لنبي الله أن يبلغ به الجزع ذلك المبلَغ؟ قلتُ: الإنسان مجبول على أن لا يملك نفسه عند الشدائد من الحزن، ولذلك حُمِدَ صبره، وأن يضبط نفسه حتى لا يخرج إلى ما لا يَحْسُن"
التخلص من يوسف:
وجاءت قافلة، وقصدت الجُبَّ للاستسقاء، وتعلَّق غلامٌ بالحبل، وأُخْرِجَ من الجُبِّ، مما أدَّى إلى تعجب الرجل - (واردهم) - ودهشته. وقد عبر عن تعجبه بالفرح؛ فقد راح يستسقي بالدلو ليغترف الماء، فإذا هو يغترف غلاماً غايةً في الحسن؛ فأيُّ بُشْرَى! ولكنَّ إخوة يوسف كانوا للساقي بالمرصاد: "لا يمكن أن تأخذ غلامنا هذا مجاناً، ولكننا نعرض عليك شراؤه بدراهم معدودة، بثمن بخس"! فانظر كيف فرَّطوا في أخيهم، وباعوه بدراهم معدودة، وكانوا فيه من الزاهدين بفعل غيرتهم منه، ورغبتهم في التخلص منه بأي وسيلة! فهدفهم الأساسي لم يكن تجاريّاً؛ إذ لم يرغبوا في الحصول على الأموال من بَيْع يوسف؛ بل الهدف هو التخلص منه؛ حتى لا تنكشف أقنعتهم من جهة، ويزيلونه من طريقهم إلى قلب أبيهم من جهة أخرى، فقد كان يوسف - حسب اعتقادهم - يقف حاجزاً منيعاً دون تحقيق هدفهم، وهو الاستئثار بحبِّ أبيهم.
وهكذا نجا يوسف من غيابات الجُبِّ؛ وهو أول سجن يدخله في حياته، وهو غلام، ولم يؤنسه في وحشته إلا وحي الله - تعالى - إليه، يا لرحمة الله بهذا الغلام الذي استبد به الجزع والهلع، وهو يُلقى في ظلمات الجُبِّ من طرف إخوته! ما أشد ظلم ذوي القربى! وكيف لا يكون شديداً ويوسف لا يعلم لماذا ألقي في ظلمات الجُبِّ، الذي -ولاشك - لو كانت فيه مياه كثيرة لغرق، ولكنَّ الجُبَّ كان زنزانة مظلمة، تحيطها المياه من كل الجهات، إلى ما فوق سرَّة الغلام، في أرض قاحلة، غاب عن ليلتها البدر!.
ولكن ضياء الوحي ونوره قد غمرا يوسف وهو في الجُبِّ، وآنسا وحشته، وأزالا غمَّه، {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} [يوسف:15]، وجاءه المدد من السماء، وانتُشل من الجب، ولكنه بِيَع مثل الرقيق، واشتراه رجلٌ ذو مكانة كبيرة في مصر، وأوصى زوجته بإكرامه؛ فقد توسَّم فيه الرجل خيراً ونفعاً، إلى حدِّ رغبته في تبنِّيه، وهذا كله من تدبير الله العليم الحكيم، الذي علم يوسف - عليه السلام - تأويل الأحاديث، وفَهْم الأحاديث، بينما أكثر الناس لا يحكمون إلا بالظاهر، ولا يدركون الحكمة من وراء الأحداث الكثيرة التي تقع لهم، أو تقع حواليهم!! وكيف يدركون الحكمة من وراء وقوع الأحداث؛ وهذا الإدراك يتطلَّب كثيراً من الخبرة والتجربة والتأمل!!.