ويدلنا أيضاً هذا الارتباط بين التقوى والصبر على كيفية تأثير الجانب الروحي – التقوى - في الجانب السلوكي – الصبر - وقد تجلى تقوى يوسف في سلوكه مع امرأة العزيز، ونسوة المدينة، وصاحبيه في السجن، وفي تأويله لرؤيا الملك، وفي تسييره لشؤون اقتصاد البلد خلال سنوات الرخاء، وخلال سنوات الكساد الاقتصادي، ويتجلى أيضاً في سلوك يوسف مع إخوته الذين كانوا في موقف ضعف شديد؛ بل وفي موقفٍ مخجلٍ ومخْزٍ، لم يكن أمامهم فيه بُدٌّ إلا الاعتراف بخطئهم، والإقرار بأن الله - تعالى – قد فضَّل يوسف عليهم، وأن هذا الفضل والإيثار ليس من طرف أبيهم؛ بل هو من فضله - تعالى - على يوسف، الذي حباه – تعالى - بأجمل الصفات والسمات الخَلْقِيَّة والخُلُقِيَّة؛ إعداداً له لمواقف صعبة، ومواقع قيادية عالية، ليست المسؤولية فيها هينة.
لم يعمد يوسف إلى تجريح شعور إخوته، كما لم يستغل الضعف الشديد الذي كانوا عليه أمامه؛ بل عمد إلى رفع اللوم عنهم، والدعاء بأن يغفر الله لهم زلاَّتهم، وهو أرحم الراحمين. فانظر كيف قابل القائد العظيم الخطأ بالعفو، و"العفو عند المقدرة"، وكيف بدَّل انفعالاتهم السلبيَّة الشديدة - خوف وخجل - بالدعاء والاستغفار لهم؛ لتطمئن قلوبهم، وتسكن جوارحهم، مذكِّراً إيَّاهم برحمة الله، وهو أرحم الراحمين.
وبعد أن يسكن روعهم، وينالوا قسطاً من الراحة، يطلب يوسف من إخوته أن يذهبوا بقميصه إلى أبيهم، ويرموه على وجهه؛ ليرتدَّ إليه بصره، كما يطلب منهم أن يحضروا أهلهم أجمعين؛ ليكرمهم ويقرِّبهم إليه، لما في ذلك من صلةٍ للرحم، ولنا وقفةٌ هنا مع قميص يوسف - عليه السلام -.
قميص يوسف:
ما هي العلاقة بين قميص يوسف واسترداد البصر؟ قد يقال: إن القضية كلها تتعلق بمعجزة، وعليه؛ فلا داعي للبحث: لماذا شُفي بصر النبي يعقوب - عليه السلام - بعد إلقاء قميص يوسف - عليه السلام - على وجهه.
ولكنَّ التفسير بالمعجزة وتصديق المعجزات لا يمنع المرء من البحث والاستكشاف؛ فقد حاول مثلاً مختصٌّ في طب العيون بمصر أن يجيب عن هذا السؤال، من خلال إجراء بحث تجريبي؛ لاستكشاف تأثير العَرَق في علاج بعض أمراض العيون، فعزا استرجاع البصر إلى عَرَق يوسف، الذي كان جافًّا على القميص، ولقد وجد هذا الطبيب من خلال البحث التجريبي الذي أجراه أن العَرَق يشفي من بعض أمراض العيون [12].
هذا تصورٌ للعلاقة التي قد تكون بين القميص واسترداد البصر، ومنهجٌ في البحث العلمي قائمٌ على التجريب، ولكن من الممكن تفسير هذه العلاقة تفسيراً آخراً، لاشك أن العرق الجاف في قميص يوسف يحمل رائحةً خاصةً به، يعرفها النبي يعقوب - عليه السلام - تمام المعرفة، وكيف لا يعرفها وقد تعوَّد ضمَّ يوسف إلى صدره؟! ثم إن الشخص الكفيف البصر غالباً ما تكون حاسة الشم عند مرهفة، وكذلك الحواس الأخرى، وعندما شمَّ النبي يعقوب - عليه السلام - رائحةَ القميص، أدرك أن القميص قميص يوسف، وأن الرائحة رائحته؛ فهو إذًا ما يزال حيّاً بالتأكيد، وأنه قد أرسل قميصه إليه كرسالة تُرجع إليه أملُه بقرب لقائه مع يوسف وأخيه.
ولاشك، أن هذه الرسالة كانت بمثابة صدمة إيجابية؛ أي أنها صدمةٌ في الاتجاه المعاكس للاكتئاب الشديد الذي أصيب به النبي يعقوب - عليه السلام - الذي صُدم بفقدان أعزِّ ولديْن لديه، وصُدم - دون شك - بسلوك أبنائه، وأصيب بخيبة أملٍ شديدةٍ جرَّاء سلوكهم الذي حركته انفعالات سلبيَّة شديدة، تمثلت في الغيرة من يوسف، وحقدهم على أبيهم؛ اعتقاداً منهم بأنه كان يفضِّل يوسف عليهم.
وقد حاول بعض المفسرين تفسير تأثير القميص في بصر النبي يعقوب بعوامل أخرى، حيث أورد الألوسي مثلاً عدة روايات، مفادها أن هذا القميص هو القميص المتوارث عن إبراهيم - عليه السلام - والذي كان في تعويذ يوسف، وأنه من قُمُص الجنة، وكان لا يقع على عاهة من عاهات الدنيا إلا أبرأها بإذن الله – تعالى. أو أنه كان القميص الذي قُدَّ من دُبُر [ 13، ص52].
وأورد الألوسي أيضاً: أن عودة البصر إلى النبي يعقوب "ليس إلا من خرق العادة، وليس الخارق بدعاً في هذه القصة" [ 13، ص55]. ويروي الألوسي تفسير ابن عباس الذي يتمثل في أن الله - تعالى - أشمَّ النبيَّ يعقوب ما عبق بالقميص من ريح يوسف - عليه السلام - من مسيرة ثمانية أيام، وفي روايةٍ عن الحسن: من مسيرة ثلاثين يوماً، وقيل: عشر ليالٍ [ 13، ص53]. وروى بعضهم - كما أورد الألوسي ذلك أيضاً - أن الريح استأذنت في إيصال عرق يوسف – عليه السلام – فأذن الله تعالى لها، وقال مجاهد: "صفقت الريح القميص؛ فراحت رواح الجنة في الدنيا، واتصلت بيعقوب - عليه السلام - فوجد ريح الجنة، فعلم أنه ليس في الدنيا من ريحها إلا ما كان من ذلك القميص؛ فقال ما قال" [13، ص53].
ومما يلاحظ هنا أن الألوسي نفسه قد أورد تفسيراً نفسياً لطيفاً لعودة بصر النبي يعقوب - عليه السلام – حيث قال: " أنه - عليه السلام - انتعش حتى قويَ قلبه وحرارته الغريزية؛ فأوصل نوره إلى الدماغ، وأدَّاه إلى البصر، ومن هذا الباب استشفاء العشاق بما يَهُبُّ عليهم من المعشوق، كما قال الشاعر:
وَإِنِّي لأَسْتَشْفِي بِكُلِّ غَمَامَةٍ يَهُبُّ بِهَا مِنْ نَحْوِ أَرْضِكِ رِيحُ
وقال آخر:
أَلاَ يَا نَسِيمَ الصُّبْحِ مَا لَكَ كُلَّمَا تَقَرَّبْتَ مِنَّا فَاحَ نَشْرُكَ طِيباَ
كَأَن سُلَيْمَى نُبِّئَتْ بِسِقَامِنا فَأَعْطَتْكَ رَيَّاهَا فَجِئْتَ طَبِيباَ
[ 13، ص55 ].
وأورد الألوسي أيضاً تفسيراً طبيّاً للظاهرة، وإن كان لا يتفق مع هذا التفسير الطبِّي، حيث قال: "يمكن أن يقال: لعل يوسف - عليه السلام - علم أن أباه ما عرا بصره ما عراه إلا من كثرة البكاء وضيق القلب؛ فإذا أُلقي عليه؛ فلابد أن يشرح صدره، وأن يحصل في قلبه الفرح الشديد، وذلك يقوى الروح، ويزيل الضعف عن القوى؛ فحينئذ يقوى بصره، ويزول عنه ذلك النقصان، فهذا القدر ما يكفي معرفته بالعقل؛ فإن القوانين الطبية تدل على صحته، وأنا لا أرى ذلك" [ 13، ص53].
لم يناقش الألوسي مختلف التفاسير التي أوردها، ولم يتعرَّض إلى مدى موافقتها للمنطق أو للتجربة، بل اعتبر أغلبها - إذا استثنينا التفسير الأخير الذي لم يتفق معه - من باب الخوارق. والسؤال إن كان الأمر كما أوردتْ ذلك بعض التفاسير: لماذا لم تصل رائحة يوسف إلى النبي يعقوب - عليه السلام - من قبل، عندما كان يوسف في الجُبِّ، أو في السجن، أو حتى بعد خروجه من السجن؟ والسؤال الآخر الذي قد يُطرح: لماذا أغفل المفسرون ما ورد في الآية من ضرورة إلقاء القميص على وجه النبي يعقوب ليرتدَّ بصيراً؟
وقد يطرح هنا سؤال مُفاده: كيف عرف يوسف أن إلقاء قميصه على وجه أبيه سيُرجع إليه البصر؟ والجواب: أن ذلك قد يكون بالوحي، كما قد يكون نتيجة الخبرات الطبية والنفسية المعروفة آنذاك. ومهما يكن؛ فإن العلاج لحزن النبي يعقوب - عليه السلام - كان علاجاً (نفسياً - فسيولوجياً)، تمثَّل في استعمال الروائح (ريح يوسف)، وفي صدمةٍ قويةٍ تمثلت في إلقاء قميص يوسف على وجه يعقوب - عليه السلام - ولنتذكر أن إخوة يوسف قد أحضروا قميصه إلى أبيه وهو ملطخ بالدماء.
وقد يسند هذا الافتراض ما جاء في تفسير الألوسي أيضاً: أن أحد إخوة يوسف أصر على أن يكون هو حامل قميص يوسف إلى أبيه، حيث احتج بقوله: "قد علمتم أني ذهبت إلى أبي بقميص التَّرْحَة، فدعوني أذهب إليه بقميص الفَرْحَة. فتركوه" [ 13، ص54].
وبعد هذه المناقشة البسيطة، قد يُكتفى بالقول بأن الموضوع كله لم يكن إلا معجزةً من الله - تعالى - ولا شك.
والظاهر من النص القرآني، أن النبي يعقوب - عليه السلام - كان ذا حاسة شمٍّ مرهفةِ جدّاً؛ إذ شم رائحة يوسف قبل إلقاء القميص على وجهه، حيث جاء في هذا المعنى: {وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ} [يوسف:94]. ولا عجب أن تكون لدى بعض الأشخاص - وخاصة مكفوفي البصر والسمع - حاسة الشم قوية، خاصةً في بيئة جوها غير ملوث؛ حيث يكون انتشار الروائح أسرع وأشمل، وهذا معروف بالملاحظة. وعلى كلٍّ؛ فإن هذه الاجتهادات لا تنفي وجه المعجزة في هذا الشأن، وأن الله على كل شيء قدير.
ولكن جلساء يعقوب شكَّكوا في إحساسه، واتهموه بالضلال، غير أن مجيء البشير وإلقاء القميص على وجه النبي يعقوب - عليه السلام - وارتداد بصره إليه أدهشهم؛ فأخذوا يحملقون فيه، وهم لا يكادون يصدِّقون ما يرونه بأعينهم. أما سرور النبي يعقوب - عليه السلام - بالبُشْرَى فلا يمكن قياسه إلا قياساً كيفيّاً، تجلَّى في استرداد البصر بعد سنين طويلة من البكاء والحزن، حتى ابيضَّت عيناه، وهذا يدلنا على أن الأنباء السارة والبشائر العظيمة قد تفعل في الجسم ونفسية الإنسان ما لا يمكن تصوره، من ردود الأفعال، وأنماط السلوك المختلفة كاسترجاع البصر بعد العمى، واسترداد النطق بعد البكم، والحركة بعد الشلل.
ولكن سرور النبي يعقب - عليه السلام - لم يمنعه من تذكير أبنائه بما قال لهم سابقاً، بأنه قد يعلم من الله ما لا يعلمون، ولم يكن ذلك - بالتأكيد - إلا وحياً، وأمام الدليل الذي قام أمام أعينهم؛ لم يتمالك أبناء يعقوب إلا الاعتراف بذنوبهم وأخطائهم؛ فترجُّوا أباهم بحرارة أن يستغفر الله لهم. ولك عزيزي القارئ أن تتصور مدى الشعور بالذنب الذي أحس به أبناء يعقوب جرَّاء أخطائهم، فتجلَّى شعورهم هذا في الكلمات التي استعملوها؛ حيث قالوا: {يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ} [يوسف:97]. فاعترفوا بالأخطاء وبالذنوب والشعور بالذنب، ولولا هذا الشعور ما طلبوا من أبيهم أن يستغفر الله لهم، لكنَّ طلبهم هذا وطلبهم من يوسف ذلك من قبل - ولا شك - كان سبيلاً للتخلص من الشعور الشديد بالذنب والخجل.
وإذا كان الاعتراف في القانون هو سيد الأدلة؛ فإنه من الناحية النفسية يخلِّص النفس البشرية من الصراع الذي قد تقع فيه، ومن الشعور الشديد بالذنب الذي يعذبها أشد العذاب، قد يتجاوز أي نوع من أنواع التعذيب الذي قد يتعرض له المذنب لو أقرَّ واعترف بذنبه، وإذا كان بعض المذنبين يعترفون بذنوبهم؛ للاستفادة من الظروف المخفَّفة نتيجة الاعتراف، فإن بعضهم يعترفون بذنوبهم لإراحة ضمائرهم - أولاً وقبل كل شيء - من العذاب النفسي الذي يعانونه.
وحزم النبي يعقوب - عليه السلام - أمتعته القليلة فوق جماله الهزيلة، ويمَّم وجهه شطر مصر مع أبنائه؛ للالتقاء بيوسف وأخيه، ويصلون إلى مصر منهوكي القوى بعد سفرٍ مُضْنٍ عبر صحارٍ وأراضٍ جرداءَ مقفرةَ.
وصل خبر وصولهم إلى العزيز، فيخرج مع أخيه وحاشيته لاستقبال أهله أحسن استقبال، ويُجلس أبوَيْه على أريكتين فخمتين، ولا يتمالك النبي يعقوب - عليه السلام - وحرمه وأبناؤه أنفسهم دون السجود للنبي يوسف - عليه السلام - لما رأوه من عظمة المُلْك، وجلال الموقف، وروعة المكان، وبديع الفنون، وحرارة الاستقبال. كما لم يتمالك يوسف - عليه السلام - نفسه من التعبير عن سروره، وشكره لله – تعالى - على ما حباه به من التفضيل، والمنزلة الرفيعة، والدرجة العالية؛ فذكَّر أباه برؤياه، ملمِّحاً إلى تأويلها بالموقف الذي وجدوا أنفسهم جميعا فيه، وهل هناك أحسن من وقوع الرؤيا كحقيقة تُرى بعد أن كانت نبوءة في عالم الغيب؟! وراح يوسف يعدِّد نعم الله - تعالى - عليه وعلى أهله، والتي تمثلت في:
- تحقُّق رؤياه التي رآها في طفولته.
- إخراجه من السجن بعد أن كادت له امرأة العزيز.
- مجيء أهله من البدو إلى الحضر، واجتماعه بهم.
- فشل الشيطان في الإيقاع والتفريق بينه وبين إخوته.
ولم يُغفل النبي يوسف - عليه السلام - بعد الحمد والشكر عن الدعاء بحسن الخاتمة؛ حتى يتوفاه الله مسلماً، ويلحقه بالصالحين من الأنبياء والشهداء، وحسن أولئك رفيقاً.
كل هذه الأحداث التي شكَّلت قصة يوسف - عليه السلام - والابتلاء الذي مرَّ به خلال مختلف مراحل حياته؛ في طفولته عندما ألقى في الجُبِّ، وفي شبابه عندما افتتنتْ به امرأة العزيز، وكادت أن توقعه في حبائلها، ووضعه في السجن لرفضه الرضوخ لشهواتها، وفي رجولته عندما تولى تسيير اقتصاد مصر خلال سبع سنوات من الرخاء، ثم خلال سبع سنوات أخرى من الكساد الاقتصادي، عبارةٌ عن دروسٍ وعبرٍ لمن أراد أن يعتبر.
ولا شك أن السنوات التي قضاها يوسف - عليه السلام - في الحكم والتسيير قد مكَّنت يوسف من إقامة العدل والقسط بين الناس، ومحاربة الفساد والمحاباة، والظلم والعدوان، واللامبالاة، لقد كانت سنواتٌ لإرساء القيم الإيجابيَّة، وقلع جذور الممارسات السلبيَّة، وإعلاء كلمة الله، والإحسان إلى عباده.
هذه الأحداث كانت من أنباء الغيب التي لم يطَّلع عليها النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - قبل الوحي، الذي شكل المصدر المعرفي الوحيد لنبينا – صلى الله عليه وسلم - وإلا لكانت الإسرائيليات قد طغت على معارفه، ولشوَّهت قصصه ورواياته.
وتأتينا قضيةٌ هامةٌ بعد هذه القصة، تكررت كثيراً في القرآن الكريم، وهي إقرار حقيقة، وهي أن أكثر الناس ليسوا بمؤمنين، وأن أكثرهم لا يشكرون، وأن أكثرهم لا يعلمون، وقد تكرر هذا التأكيد عدة مرات في القرآن الكريم، ويعضِّد هذا التكرار ما يُلاحظ بخصوص أغلبية سلوك الناس في هذه القضايا.
وقد جاء هذا التأكيد على موقف أغلبية الناس، ولو حرص النبي على إيمانهم، وقام بدعوتهم على أحسن ما يرام؛ فالقصة كلها عبرةٌ لمن أراد أن يعتبر من أولي الألباب، ولم تكن هذه القصة مفتراةٌ من النبي – صلى الله عليه وسلم - الذي كان أميناً، ولو كان من الذين اطَّلعوا على قصص التوراة والإنجيل؛ لجاءت روايته: إما مفتراةً كما افترى بنو إسرائيل وغيرهم على أنبيائهم، وإما مشوَّهةً يغلب عليها الخيال الجامح البعيد عن حقيقة الأحداث التي وقعت فعلاً ليوسف - عليه السلام - في مختلف مراحل عمره، ولحقيقة الأحداث من رخاء وكساد، التي حدثت في تلك الحِقْبة التاريخية.
ولعل هذه الرواية الصادقة التي صدرت عن مصدر معرفي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تصديقٌ للوحي الذي صدر من ربِّ العالمين للأنبياء والرسل - عليهم السلام - قبل نبينا – صلى الله عليه وسلم - عبر مراحل التاريخ.
وليس الهدف الخالد لهذا الوحي إلا إرساء دعائم الهدى والرحمة للمؤمنين، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
خلاصة:
ماذا يُستخلص من قصة يوسف - عليه السلام - في القرآن الكريم؟
القصة والسورة - بصفة عامة - غنية بالعظات والعبر، كما أنها غنية بالسنن والمواضيع النفسية وغيرها، الجديرة بالبحث العلمي، مثل موضوع الرُّؤَى، وعوامل الاكتئاب، ودور العامل الروحي في علاج الاكتئاب، وعلاج الاضطرابات (النفسية - الجسمية) علاجاً نفسياً وروحياً. ومهما يكن؛ ففيما يأتي بعض ما يمكن أن يُستخلص من هذه القصة:
1 - ابتلاء الأنبياء والأخيار، واختبارهم في مواقف متباينة، كأن يكون الابتلاء مرةً في مواقف الشدة - الضعف والحزن مثلاً - ومرةً أخرى في مواقف الرخاء - القوة والسرور.
2 - تعرُّض الأنبياء والأخيار إلى الظلم من ذوي القربى، وذوي الجاه والسلطة، وأن هذا التعرُّض قد يقع جرَّاء سنن التدافع بين الأفراد والمجتمعات.
3 - لا يعني طول الابتلاء اليأس من روح الله - تعالى.
4 - الانفعالات والجانب الوجداني بصفة عامة جزءٌ أساسٌ في الطبيعة البشرية.
5 - تأثير الجانب الوجداني في السلوك، سواء كان هذا السلوك نشاطاً ذهنياً أم جسمياً، وقد يصل هذا التأثير إلى حدِّ تعطيل بعض وظائف الأعضاء.
6 - لا يدلُّ وقوع الظلم على الأخيار والأنبياء وطول مدته على انتصار الظلم على العدل، والباطل على الحق؛ فإن الله تعالى يُمْهل ولا يُهْمل.
7 - انتصار الحق على الباطل، والعدل على الجور، والخير على الشر، مهما طال الزمان، وساد الظلم والطغيان.
8 - العفو عند المقدرة من عوامل استتباب الأمن والعدل.
9 - القيادة الصالحة والفعالة شرطٌ أساسٌ لتسيير البلاد والعباد في الشدة والرخاء، وتحقيق العدل والنماء.
10 - انطباق سنن الطبيعة البشرية، وقوانين التدافع بين الناس على الأنبياء والأخيار، وإن كان الوحي يوجِّه الأنبياء والرسل ويعصمهم.
11 - أكثر الناس لا يشكرون نعم الله – تعالى - وفضائله عليهم؛ فكيف يشكرون غيرهم من الناس إن كانوا لله لا يشكرون؟!
المراجع
1 - ابن نبي، مالك. الظاهرة القرآنية. ترجمة عبد الصبور شاهين. دمشق: دار الفكر، 1984م.
2 - الغزي، عبد الله العلمي. مؤتمر تفسير سورة يوسف. ط1. دمشق: مطابع دار الفكر بدمشق، (1381 هـ / 1961م).
3 - ابن كثير، إسماعيل القرشي. تفسير القرآن العظيم، الرياض: دار طيبة، (1999م).
4 - الطبري، محمد بن جرير. جامع البيان عن تأويل آي القرآن. جـ2. القاهرة: مصطفى البابي الحلبي، (1954م).
5 - الرازي، محمد فخر الدين. التفسير الكبير. القاهرة: دار الفكر، د. ت.
6 - الزمخشري، جاد الله محمود بن عمر. الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل. جـ2. بيروت: دار الكتاب العربي، د. ت.
7 - قطب، سيد. في ظلال القرآن. جـ4. ط5. بيروت: دار إحياء التراث العربي، (1386هـ/ 1967م).
8 - عشوي، مصطفى. " الجنوح في ضوء علم النفس ". حوليَّات جامعة الجزائر، ديوان المطبوعات الجامعية، 2 (1992م)، 20 – 45.
9 - الصابوني، محمد على. صفوة التفاسير. جـ2. طـ4. بيروت: دار القرآن الكريم، 1402هـ/ 1981م.
10 - ابن نبي، مالك. شروط النهضة. ترجمة عبد الصبور شاهين. دمشق: دار الفكر، 1996م.
11 - الإسكندري، ناصر الدين أحمد بن المنير. الإنصاف فيما تضمنه الكشاف من الاعتزال. بيروت: دار الكتاب العربي، د. ت.
12 - "براءة اختراع دولية لأول قطرة عيون قرآنية". مجلة الإعجاز العلمي، (1979م)، 3 – 5.
13 – الألوسي، أبو الثناء شهاب الدين. روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني. بيروت: دار إحياء التراث العربي، د. ت.
مصطفى مولود عشوي