إن قوى الشر والضلال تعمل في هذه الأرض ، والمعركة مستمرة بين الخير والشر والهدى والضلال ، والصراع قائم بين قوى الإيمان وقوى الطغيان منذ أن خلق الله الإنسان .
والشر جامح والباطل مسلح . وهو يبطش غير متحرج ، ويضرب غير متورع ، ويمتلك أن يفتن الناس عن الخير إن اهتدوا إليه ، وعن الحق إن تفتحت قلوبهم له . فلابد للإيمان والخير والحق من قوة تحميها من البطش ، وتقيها من الفتنة وتحرسها من الأشواك والسموم .
ولم يشأ الله أن يترك الإيمان والخير والحق عزلاً تكافح قوى الطغيان والشر والباطل ، اعتماداً على قوة الإيمان فى النفوس وتغلغل الحق فى الفطر ، وعمق الخير فى القلوب . فالقوة المادية التى يملكها الباطل قد تزلزل القلوب وتفتن النفوس وتزيغ الفطر . وللصبر حد وللاحتمال أمد ، وللطاقة البشرية مدى تنتهى إليه . والله أعلم بقلوب الناس ونفوسهم . ومن ثم لم يشأ أن يترك المؤمنين للفتنة ، إلا ريثما يستعدون للمقاومة ، ويتهيأون للدفاع ، ويتمكنون من وسائل الجهاد .. وعندئذ أذن لهم فى القتال لرد العدوان .
وقبل أن يأذن لهم بالإنطلاق إلى المعركة آذنهم أنه هو سيتولى الدفاع عنهم فهم فى حمايته :
{ إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا } ..
وأنه يكره أعداءهم لكفرهم وخيانتهم فهم مخدولون حتماّ : { إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} ..
وانه حكم لهم بأحقية دفاعهم وسلامة موقفهم من الناحية الأدبية فهم مظلومون غير معتدين ولا متبطرين : { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا } ..
وأن لهم أن يطمئنوا إلى حماية الله لهم ونصره إياهم : { وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ } . .
وأن لهم ما يبرر خوضهم للمعركة فهم منتدبون لمهمة إنسانية كبيرة ، لا يعود خيرها عليهم وحدهم ، إنما يعود على الجبهة المؤمنة كلها ، وفيها ضمان لحرية العقيدة وحرية العبادة . وذلك فوق أنهم مظلومون أخرجوا من ديارهم بغير حق : { الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ } .. وهى أصدق كلمة أن تقال ، وأحق كلمة بأن تقال . ومن أجل هذه الكلمة وحدها كان إخراجهم . فهو البغى المطلق الذى لا يستند إلى شبهة من ناحية المعتدين . وهو التجرد من كل هدف شخصى من ناحية المعتدي عليهم إنما هى العقيدة وحدها من أجلها يخرجون ، لا الصراع على عرض من أعراض هذه الأرض ، التى تشتجر فيها الأطماع ، وتتعارض فيها المصالح ، وتختلف فيها الاتجاهات وتتضارب فيها المنافع !
ووراء هذا كله تلك القاعدة العامة .. حاجة العقيدة إلى الدفع عنها : { وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا } ..
والصوامع أماكن العبادة المنعزلة للرهبان ، والبيع للنصارى عامة وهى أوسع من الصوامع ، والصلوات أماكن العبادة لليهود . والمساجد أماكن العبادة للمسلمين .
وهى كلها معرضة للهدم – على قداستها وتخصيصها لعبادة الله – لا يشفع لها فى نظر الباطل أن اسم الله يذكر فيها ، ولا يحميها إلا دفع الله الناس بعضهم ببعض . أى دفع حماة العقيدة لأعدائها الذين ينتهكون حرمتها ، ويعتدون على أهلها . فالباطل متبجح لا يكف ولا يقف عن العدوان إلا أن يدفع بمثل القوة التى يصول بها ويجول ولا يكفى الحق أنه الحق ليقف عدوان الباطل عليه ، بل لابد من القوة تحميه وتدفع عنه . وهى قاعدة كلية لا تتبدل ما دام الإنسان هو الإنسان !
ولابد من وقفة أمام هذه النصوص القليلة الكلمات العميقة الدلالة ، وما وراءها من أسرار فى عالم النفس وعالم الحياة .
إن الله يبدأ الإذن بالقتال للذين قاتلهم المشركون ، واعتدى عليهم المبطلون ، بأن الله يدافع عن الذين آمنوا ، وأنه يكره المعتدين من الكفار الخائنين:
{ إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ } ..
فقد ضمن للمؤمنين إذن أنه هو تعالى يدافع عنهم . ومن يدافع الله عنه فهو ممنوع حتماً من عدوه ، ظاهر حتما على عدوه .. ففيم إذن يأذن لهم بالقتال ؟ وفيم إذن يكتب عليهم الجهاد ؟ وفيم إذن يقاتلون فيصيبهم القتل والجرح ، والجهد والمشقة ، والتضحية والآلام ... والعاقبة معروفة ، والله قادر على تحقيق العاقية لهم لا جهد ولا مشقة ، ولا تضحية ولا ألم ، ولا قتل ولا قتال ؟
والجواب أن حكمة الله فى هذا هى العليا ، وأن لله الحجة البالغة .. والذى ندركه نحن البشر من تلك الحكمة ويظهر لعقولنا ومداركنا من تجاربنا ومعارفنا أن الله سبحانه لم يرد أن يكون حملة دعوته وحماتها من ( التنابلة ) الكسالى ، الذين يجلسون فى استرخاء ، ثم يتنزل عليهم نصره سهلاً هيناً بلا عناء ، لمجرد أنهم يقيمون الصلاة ويرتلون القرآن ويتوجهون إلى الله بالدعاء ، كلما مسهم الأذى ووقع عليهم الاعتداء !
نعم إنهم يجب يجب أن يقيموا الصلاة ، وأن يرتلوا القرآن ، وأن يتوجهوا إلى الله بالدعاء فى السراء والضراء . ولكن هذه العبادة وحدها لا تؤهلهم لحمل دعوة الله وحمايتها ، إنما هى الزاد الذى يتزودونه للمعركة . والذخيرة التى يدخرونها للموقعة ، والسلاح الذى يطمئنون إليهم وهم يواجهون الباطل بمثل سلاحه ويزيدون عنه سلاح التقوى والإيمان والاتصال بالله .
لقد شاء الله تعالى أن يجعل دفاعه عن الذين آمنوا يتم عن طريقهم هم أنفسهم كى يتم نضجهم هم فى أثناء المعركة . فالبنية الإنسانية لا تستيقظ كل الطاقات المذخورة فيها كما تستيقظ وهى تواجه الخطر ، وهى تدفع وتدافع ، وهى تستجمع كل قوتها لتواجه القوة المهاجمة .. عندئذ تتحفز كل خلية بكل ما أودع فيها من استعداد لتؤدى دورها ، ولتتساند مع الخلايا الأخرى فى العلميات المشتركة ، ولتؤتى أقصى ما تملكه وتبذل آخر ما تنطوى عليه ، وتصل إلى أكمل ما هو مقدور لها وما هى مهيأة له من الكمال .
والأمة التى تقوم على دعوة الله فى حاجة إلى استيقاظ كل خلاياها ، واحتشاد كل قواها ، وتوفر كل استعدادها ، وتجمع كل طاقاتها ، كى يتم نموها ويكمل نضجها ، وتتهيأ بذلك لحمل الأمانة الضخمة والقيام عليها .
والنصر السريع الذى لا يكلف عناء ، والذى يتنزل هيناً ليناً على القاعدين المستريحين ، يعطل تلك الطاقات عن الظهور ، لأنه لا يحفزها ولا يدعوها .
وذلك فوق أن النصر السريع الهين اللين سهل فقدانه وضياعه . أولاً لأنه رخيص الثمن لم تبذل فيه تضحيات عزيزة . وثانياً لأن الذين نالوه لم تدرب قواهم على الاحتفاظ به ولم تشحذ طاقاتهم وتحشد لكسبه . فهى لا تتحفز ولا تحشد للدفاع عنه .
وهناك التربية الوجدانية والتربية العملية تلك التى تنشأ من النصر والهزيمة ، والكر والفر ، والقوة والضعف ، والتقدم والتقهقر . ومن المشاعر المصاحبة لها .. من الأمل والألم . ومن الفرح والغم ، ومن الاطمئنان والقلق .. ومن الشعور بالضعف والشعور بالقوة .. ومعها التجمع والفناء فى العقيدة والجماعة والتنسيق بين الاتجاهات فى ثنايا المعركة وقبلها وبعدها وكشف نقط الضعف ونقط القوة ، وتدبير الأمور فى جميع الحالات .. وكلها ضرورية للأمة التى تحمل الدعوة وتقوم عليها وعلى الناس .
من أجل هذا كله ، ومن أجل غيره مما يعلمه الله .. جعل الله دفاعه عن الذين آمنوا يتم عن طريقهم هم أنفسهم ؛ ولم يجعله لقية تهبط عليهم من السماء بلا عناء ( هناك هامش فى أصل الظلال فليراجعه من أراد ).
والنصر قد يبطىء علي الذين ظُلموا وأُخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا : ربنا الله . فيكون هذا الإبطاء لحكمة يريدها الله .
قد يبطئ النصر لأن بنية الأمة المؤمنة لم تنضج بعد نضجها ، ولم يتم بعد تمامها ، ولم تحشد بعد طاقاتها ، ولم تتحفز كل خلية وتتجمع لتعرف أقصى المذخور فيها من قوى واستعدادات . فلو نالت النصر حينئذ لفقدته وشيكاً لعدم قدرتها على حمايته طويلاً !
وقد يبطئ النصر حتى تبذل الأمة المؤمنة آخر ما فى طوقها من قوة وآخر ما تملكه من رصيد فلا تستبقى عزيزا ولا غالباً ، لا تبذله هنيئأ رخيصاً فى سبيل الله .
وقد يبطئ النصر حتى تبذل الأمة المؤمنة آخر ما فى طوقها من قوة ، وآخر ما تماكه من رصيد ، فلا تستبقى عزيزاً ولا غالياً ، لا تبذله هيناً رخيصاً فى سبيل الله .
وقد يبطئ النصر حتى تجرب الأمة المؤمنة آخر قواها ، فتدرك أن هذه القوى وحدها بدون سند من الله لا تكفل النصر . إنما يتنزل النصر من عند الله عندما تبذل آخر ما فى طوقها ثم تكل الأمر بعدها إلى الله .
وقد يبطئ النصر لتزيد الأمة المؤمنة صلتها بالله ، وهى تعانى وتتألم وتبذل ، ولا تجد لها سندا إلا الله ، ولا متوجهاً إلا إليه وحده فى الضراء . وهذه الصلة هى الضمانة الأولى لاستقامتها على النهج بعد النصر عندما يتأذن به الله . فلا تطغى ولا تنحرف عن الحق والعدل والخير الذى نصرها به الله .
وقد يبطئ النصر لأن الأمة المؤمنة لم تتجرد بعد فى كفاحها وبذلها وتضحياتها لله ولدعوتها فهى تقاتل لمغنم تحققه ، أو تقاتل حمية لذاتها ، أو تقاتل شجاعة أمام أعدائها . والله يريد أن يكون الجهاد له وحده وفى سبيله ، بريئاً من المشاعر الأخرى التى تلابسه . وقد سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم – الرجل يقاتل حمية والرجل يقاتل شجاعة والرجل يقاتل ليرى .
فأيها فى سبيل الله فقال : (( من قاتل لتكون كلمة الله هى العليا فهو فى سبيل الله )) [رواه الشيخان] .
كما قد يبطئ النصر لأن فى الشر الذى تكافحه الأمة المؤمنة بقية من خير ، يريد الله أن يجرد الشر منها ليتمحض خالصاً ، ويذهب وحده هالكاً ، لا تتلبس به ذرة من خير تذهب فى الغمار!
وقد يبطئ النصر لأن الباطل الذى تحاربه الأمة المؤمنة لم ينكشف زيفه للناس تماماً . فلو غلبه المؤمنون حينئذ فقد يجد له أنصاراً من المخدوعين فيه ، لم يقنعوا بعد بفساده وضرورة زواله ، فتظل له جذور فى نفوس الأبرياء الذين لم تنكشف لهم الحقيقة . فيشاء الله أن يبقى الباطل حتى يتكشف عارياً للناس ، ويذهب غير مأسوف عليه من ذى بقية !
وقد يبطئ النصر لأن البيئة لا تصلح بعد لاستقبال الحق والخير والعدل الذى تمثله الأمة المؤمنة . فلو انتصرت حينئذ للقيت معارضة من البيئة لا يستقر لها معها قرار . فيظل الصراع قائماً حتى تتهيأ النفوس من حوله لاستقبال الحق الظافر ، ولاستبقائه ! ( قلت : وهذا هو سبب الإختيارلمنهج التربية ودعوة الناس ، دون مناهج التغيير الأخرى كالإنتخابات أو قلب أنظمة الحكم أو غيرها .. راجع مقال : " التربية " ) .
( قلت : وقد يبطئ النصر أيضاُ حين تجرب الأمة السلام العالمى وقرارات الامم المتحدة ومجلس الأمن! وحين تتسول على أبواب البيت الأبيض والأحمر والأسود ! وحين تجرب الإنقياد تحت رايات علمانية تنحى الإسلام عن المعركة ! وحين وحين وحين ! )
من أجل هذا كله ، ومن أجل غيره مما يعلمه الله ، قد يبطئ النصر، فتتتضاعف التضحيات ،
وتتضاعف الآلام . مع دفاع الله عن الذين آمنوا وتحقيق النصرؤ لهم فى النهاية .
وللنصر تكاليفه وأعباؤه حين يتأذن الله به بعد استيفاء أسبابه وأداء ثمنه ، وتهيؤ الجو حوله لاستقباله واستقبائه :
{ وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ } ..
فوعد الله المؤكد الوثيق المتحقق الذى لا يتخلف هو أن ينصر من ينصره .. فمن هم هؤلاء الذين ينصرون الله ، فيستحقون نصر الله ، القوى العزيز الذى لا يهزم من يتولاه ؟ إنهم هؤلاء :
{ الذين إن مكناهم فى الأرض } .. فحققنا لهم النصر ، وثبتنا لهم الأمر .. { أَقَامُوا الصَّلَاةَ أَقَامُوا الصَّلَاةَ } .. فعبدوا الله ووثقوا صلتهم به ، واتجهوا إليه طائعين خاضعين مستسلمين .. { وَآتَوُا الزَّكَاةَ } .. فأدوا حق المال ، وانتصروا على شح النفس ، وتطهروا من الحرص ، وغلبوا وسوسة الشيطان ، وسدوا خلة الجماعة ، وكفلوا الضعاف فيها والمحاويج ، وحققوا لها صفة الجسم الحى – كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : (( مثل المؤمنين فى توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى )) .. { وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ }.. فدعوا إلى الخير والصلاح ، ودفعوا إليه الناس .. { وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ }.. فقاوموا الشر والفساد ، وحققوا بهذا وذاك صفة الأمة المسلمة التى لا تبقى على منكر وهى قادرة على تغييره ، ولا تقعد عن معروف وهى قادرة على تحقيقة ..
هؤلاء هم الذين ينصرون الله ، إذ ينصرون نهجه الذى أراده للناس فى الحياة ، معتزين بالله وحده دون سواه ، وهؤلاء هم الذين يعدهم الله بالنصر على وجه التحقيق واليقين .
( قلت : راجع كلام الشيخ –رحمة الله عليه- فى سورة محمد ، إن شئت) .
فهو النصر القائم على أسبابه ومقتضياته والشروط بتكاليفه وأعبائه .. والأمر بعد ذلك لله ، يصرفه كيف يشاء : فيبدل الهزيمة نصراً ، والنصر هزيمة ، عندما تختل القوائم ، أو تهمل التكاليف : { وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ }..
إنه النصر الذى يؤدى إلى تحقيق المنهج الإلهى فى الحياة . ومن انتصار الحق والعدل والحرية المتجهة إلى الخير والصلاح . المنظور فيه إلى هذه الغاية التى يتوارى فى ظلها الأشخاص والذوات ، والمطامع والشهوات ..
وهو نصر له سببه . وله ثمنه . وله تكاليفه . وله شروطه . فلن يعطي لأحد جزافاً أو محاباة ولا يبقى لأحد لا يحقق غايته ومقتضاه ،،