ملتقى الشفاء الإسلامي

ملتقى الشفاء الإسلامي (http://forum.ashefaa.com/index.php)
-   الملتقى الاسلامي العام (http://forum.ashefaa.com/forumdisplay.php?f=3)
-   -   قصة عجوز بني إسرائيل والمسائل المستنبطة منها (http://forum.ashefaa.com/showthread.php?t=319403)

ابوالوليد المسلم 06-10-2025 12:50 PM

قصة عجوز بني إسرائيل والمسائل المستنبطة منها
 
قصة عجوز بني إسرائيل والمسائل المستنبطة منها

عبدالستار المرسومي

هذه قصة امرأة عجوز من بني إسرائيل، عاشت في زمن نبي الله موسى عليه السلام، وكانت تعلم سرًّا لا يعلمه أحد من الناس غيرها في ذلك الوقت وفي ذلك المكان، وكان الناس بحاجة لمعرفة ذلك السر لأمر يُهمهم، بل ويحدد مصيرهم، فلما طلبوا منها أن تخبرهم، استثمرت ما عندها من العلم لتطلب شيئًا عظيمًا، والقصة بتمامها في الحديث:
((أتى النبيُّ صلى الله عليه وسلم أعرابيًّا فأكرمه، فقال له صلى الله عليه وسلم:
ائتنا، فأتاه.
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: سَل حاجتك.
قال الأعرابي: ناقة نركبها، وأعْنُز يحلبها أهلي.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أعجزتم أن تكونوا مثل عجوز بني إسرائيل؟
قالوا الصحابة رضي الله عنهم: يا رسول الله، وما عجوز بني إسرائيل؟ قال صلى الله عليه وسلم: إن موسى عليه السلام لما سار ببني إسرائيل من مصر ضلوا الطريق.
فقال موسى عليه السلام: ما هذا؟
فقال علماؤهم: إن يوسف عليه السلام لما حضره الموت، أخذ علينا موثقًا من الله جل جلاله ألَّا نخرج من مصر حتى ننقل عظامه[1] معنا، قال موسى عليه السلام: فمن يعلم موضع قبره؟
قال: عجوز من بني إسرائيل.
فبعث إليها فأتته، فقال عليه السلام: دُليني على قبر يوسف، قالت: حتى تعطيني حكمي، قال عليه السلام:
وما حكمك؟ قالت: أكون معك في الجنة.
فكره موسى عليه السلام أن يعطيها ذلك.
فأوحى الله جل جلاله إليه: أن أعطِها حكمها.
فانطلقت بهم إلى بحيرة - موضع مستنقع ماء - فقالت: أنضبوا هذا الماء، فأنضبوه، فقالت:
احتفروا.
فاحتفروا، فاستخرجوا عظام يوسف عليه السلام.
فلما أقلوها إلى الأرض، وإذا الطريق مثل ضوء النهار))[2].

المسائل المستنبطة من القصة:

المسألة الأولى: القصة من قصص الغيب الماضي التي أنبأنا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، مثلما أنبأ صلى الله عليه وسلم عن غيرها من القصص والأخبار والأحداث، وشاء الله جل جلاله تعالى أن يُطلع نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم على بعض الغيب؛ إكرامًا له صلى الله عليه وسلم وتشريفًا، وتأييدًا وإعجازًا، فمنها أنباء عن المستقبل، ومنها قصص من الماضي وغيرها؛ قال تعالى للنبي محمد صلى الله عليه وسلم عندما علمه قصة مريم عليها السلام، وكفالتها من قِبل زكريا عليه السلام: ﴿ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ [آل عمران: 44]، وإن هذه القصة هنا من هذا القبيل.

المسألة الثانية: في هذه القصة إشارة لتواضع رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الناس، فهذا أعرابي يعيش في البادية يقوم رسول الله صلى الله عليه وسلم بزيارته، ويقبل منه ضيافته وما يقدِّم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يدعوه صلى الله عليه وسلم لأن يقوم هو بزيارة رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة؛ من أجل أن يكرمه صلى الله عليه وسلم ويكافئه؛ قال الله تعالى: ﴿ هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ [الرحمن: 60]، والتواضع مع خَلق الله من أجمل الأخلاق الإنسانية وأرفعها وأشرفها، والتواضع للخلق هو دليلٌ على طِيب نفس المتواضع ونُبل أصله، وحسن تربيته؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من تواضع لله، رفعه الله))[3]، وقد أمر الله جل جلاله الناس بالتواضع؛ فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وإن الله أوحى إليَّ أنْ تواضعوا؛ حتى لا يفخر أحدٌ على أحدٍ، ولا يبغي أحد على أحد))[4].

المسألة الثالثة: قبول الهدية هديٌ نبويٌّ؛ ففي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يقبل الهدية ويثيب عليها، وكان يحث الناس على تبادل الهدايا، لأنها مصدر للمحبة بينهم؛ فقد قال صلى الله عليه وسلم: ((تهادوا تحابُّوا))[5]، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ومن صنع إليكم معروفًا فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئونه، فادعوا له حتى ترَوا أنكم قد كافأتموه))[6]، بل كان من علامات نبوته صلى الله عليه وسلم في كتب أهل الكتاب، أنه صلى الله عليه وسلم كان يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة، وقد ذُكر ذلك في قصة سلمان الفارسي رضي الله عنه، ومن هذا المبدأ كان موقف النبي صلى الله عليه وسلم من هذا الأعرابي.

المسألة الرابعة: الالتزام بالمواثيق والعهود من قيم الدين الحنيف، فلما كان يوسف عليه السلام قد أخذ من بني إسرائيل الذين كانوا في مصر، أن إذا خرجوا منها نحو الأرض المباركة التي بها بيت المقدس، أن يأخذوه معهم، حتى وإن كان عليه السلام ميتًا، ولكنهم ربما نسُوا أو استثقلوا الأمر، أو اعتقدوا أنه أمر ليس ذا شأن، ولكن الله جل جلاله أضلهم عن طريقهم بسبب ذلك، فلم يهتدوا ليتذكروا العهد الذي بينهم وبين نبي الله يوسف عليه السلام، ولما كان موسى عليه السلام نبيًّا، علِم أن لذلك سببًا في غير طاعة الله جل جلاله، حدث ذلك لتتعلم البشرية درسًا هامًّا بالالتزام بالمواثيق والعهود، وأن نقض العهود يكون سببًا في الضلال، وقد اشتهر بنو إسرائيل عبر مراحل التاريخ بنقضهم للعهود ليس مع البشر فحسب، بل حتى مع الله جل جلاله، ولهذا كانت عقوبتهم قاسية بسبب ذلك؛ قال تعالى: ﴿ فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً [المائدة: 13]، وقال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [الرعد: 25].

المسألة الخامسة: إن الأنبياء عليهم السلام لا يعلمون الغيب، إلا ما يأذَن الله تعالى به، ودليل هذا شاهد في القصة، وهو أن موسى عليه السلام لم يكن يعلم موضع قبر يوسف عليه السلام، ولو كان عليه السلام علِمه، لَما احتاج لتلك العجوز لتدلـهم عليه؛ قال تعالى: ﴿ عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا * لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا [الجن: 26 - 28].

المسألة السادسة: الأنبياء عليهم السلام هم صفوة الله جل جلاله من خلقه، شرَّفهم الله جل جلاله ورفعهم، وكلَّفهم بأشرف ما يكلف به البشر، وهم مباركون وكل ما فيهم مبارك، أجسادهم وأشعارهم وآثارهم؛ لذلك فإن الله جل جلاله حرَّم على الأرض أن تأكل أجسادهم؛ فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله قد حرَّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء))[7]، ولعل سبب ذلك؛ لأنها تتشرف بوقع أقدامهم عليها، وتفتخر بضمهم إليها، فكيف تأكل منهم؟[8]، وأما ما جاء في القصة: (فاستخرجوا عظام يوسف عليه السلام)، فإن المقصود هنا الجسد، لأن العرب تعبِّر عن الجسد بالعظام؛ ففي الحديث أنه ((لما بدَّن صلى الله عليه وسلم قال له تميم الداري:
- ألَا أتخذ لك منبرًا يا رسول الله، يجمع - أو يحمل - عظامك؟ قال صلى الله عليه وسلم:
- بلى، فاتخذ له منبرًا مرقاتَين[9]))[10].

المسألة السابعة: أكد رسول الله صلى الله عليه وسلم معنًى هامًّا جدًّا في القصة؛ وهو الارتقاء والسمو بالأماني أو ما يُطلب، أو ما يُرجى، أو ما يُسعى له، وهو ما كانت عليه عجوز بني إسرائيل عندما طلبت الجنة، وليس غير ذلك من سفاسف أمور الدنيا؛ يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله يحب معاليَ الأمور وأشرافها، ويكره سفاسفها))[11]، وينبغي أن يكون ذلك في شؤون الدنيا والآخرة سواء، وكان عنترة بن شداد قد قال شعرًا رائعًا في هذا المعنى، على الرغم من أنه كان في زمن جاهلية العرب؛ فقد قال:
واختَر لنفسك منزلًا تعلو به https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
أو مُت كريمًا تحت ظل القسطلِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
موتُ الفتى في عزة خير له https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
من أن يبيت أسيرَ طرفٍ أكحلِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif


وهناك صورة مختلفة تمامًا لهذا المعنى، فهذا شاعر يصف نفسه كالعصفور حين شغلته الفتاة التي أحبها، فصارت شغله الشاغل، وعُرف بأنه مجنون ليلى؛ فهو يقول:
ويهتز من تحت الثياب قوامها https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
كما اهتز غصن البان والفنن النضرُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
فيا حبذا الأحياء ما دمتِ فيهمُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
ويا حبذا الأموات إن ضمَّكِ القبرُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وإني لَتعروني لذكراك نفضةٌ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
كما انتفض العصفور بلله القَطْرُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif


ولتكن آمالنا كبارًا، وأمنياتنا لا يحدها أفقٌ، وطموحاتنا طموحات العظماء، فثمة فرق كبير وشاسع بين مقالة عنترة بن شداد، وبين مقالة مجنون ليلى.

المسألة الثامنة: يمتاز إيمان العجائز بأنه إيمان راسخ؛ فقد ترسَّخ هذا الإيمان وتعمَّق عبر سني العمر التي يقضيها الإنسان، فيمر بتجارب ويمتحن ليصل إلى حق اليقين من خلال تجارب الحياة المتنوعة، فيوقن العجوز أن كل ما في هذه الحياة الدنيا إنما هو وهمٌ ولعب ولهو، ولا يستحق أن يُطلب أو يُنال أو يُتعب من أجله، وإنما أسمى الأمنيات وأعلاها هو ما في الآخرة؛ قال تعالى: ﴿ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ [الأنعام: 32]، من أجل ذلك طلبت هذه العجوز الجنة وليس غير ذلك، لذلك كان بعض الصالحين يدعون الله جل جلاله: (اللهم إيمانًا كإيمان العجائز)؛ يعني: إيمانًا مطلقًا، نقيًّا راسخًا، ومن غير تكلف ولا فلسفة، ولا يشوبه شك، ولا تؤثر فيه المصائب والفتن.

[1] عظامه بمعنى جثته؛ لأن الأرض لا تأكل جثث الأنبياء.

[2] صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان 723.

[3] حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، أبو نعيم الأصبهاني، ج8، ص46.

[4] صحيح مسلم 7389.

[5] الأدب المفرد للبخاري 594.

[6] سنن أبي داود 1674.

[7] سنن ابن ماجه 1058.

[8] التيسير بشرح الجامع الصغير، المناوي، ج1، ص707.

[9] المرقاة: الدرجة؛ أي: اتخذ له منبرًا بدرجتين.

[10] سنن أبي داود 108.

[11] المعجم الكبير للطبراني 2894.








الساعة الآن : 07:08 AM

Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour


[حجم الصفحة الأصلي: 17.43 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 17.34 كيلو بايت... تم توفير 0.09 كيلو بايت...بمعدل (0.54%)]