حادثة تحويل القبلة في القرآن الكريم
حادثة تحويل القبلة في القرآن الكريم (1-2) كتبه/ علاء بكر تناولت الآيات القرآنية من الآية (142) إلى الآية (150) من سورة البقرة قضية تحويل قبلة الصلاة من بيت المقدس إلى المسجد الحرام بمكة، وما يتعلق بذلك من الحكم والدروس والعبر الجديرة بالتعرف عليها والاستفادة منها؛ لكونها قرآنًا من عند الله -تعالى- يُتلَى إلى قيام الساعة. وقد كان هذا التحويل للقبلة بأمر من الله -تعالى- في منتصف شهر شعبان من السنة الثانية بعد الهجرة إلى المدينة. قال ابن القيم في (زاد المعاد): "وكان في جعل القبلة إلى بيت المقدس ثم تحويلها إلى الكعبة حِكَم عظيمة، ومحنة للمسلمين، والمشركين واليهود والمنافقين؛ فأما المسلمون: فقالوا: سمعنا وأطعنا، وقالوا: آمنا به كل من عند ربنا، وهم الذين هدى الله ولم تكن كبيرة عليهم. وأما المشركون فقالوا: كما رجع إلى قبلتنا يوشك أن يرجع إلى ديننا، وما رجع إليها إلا أنها الحق! وأما اليهود: فقالوا خالف قبلة الأنبياء قبله، ولو كان نبيًّا لكان يصلي إلى قبلة الأنبياء. وأما المنافقون: فقالوا ما ندري محمدًا أين يتوجه! إن كانت الأولى حقًّا فقد تركها، وإن كانت الثانية هي الحق فقد كان على باطل. وكثرت أقاويل السفهاء من الناس، وكانت كما قال الله -تعالى-: (وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ) (البقرة: 143)، وكانت محنة من الله امتحن بها عباده ليرى من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه" (انظر: زاد المعاد). وقد تلا هذا التحويل للقبلة بشهرين تقريبا وقوع غزوة بدر الكبرى في 17 رمضان من نفس العام، والتي كانت إشارة إلى عهد جديد للمسلمين نهايته فتح مكة، وبالتالي انتزاع الكعبة قبلة المسلمين من يد أعدائهم وتخليصها منهم. الآيات السابقة لآيات تحويل القبلة: مما ينبغي الاعتناء به في فهم القرآن وتفسيره ربط الآيات القرآنية بعضها ببعض، بتأمل علاقة الآيات التي يتم دراستها بما قبلها من الآيات، وأيضًا بما بعدها من الآيات، وفي الإحاطة بذلك إدراك لكثير من المعاني والحكم والفوائد المتعلقة بتلك الآيات. قال ابن القيم في (زاد المعاد): "ولما كان أمر القبلة وشأنها عظيمًا، وطَّأ -سبحانه- قبلها أمر النسخ وقدرته عليه، وأنه يأتي بخير من المنسوخ أو مثله، ثم عقَّب ذلك بالتوبيخ لمن تعنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولم ينقد له. ثم ذكر بعده اختلاف اليهود والنصارى، وشهادة بعضهم على بعض بأنهم ليسوا على شيء، وحذَّر عباده من موافقتهم واتباع أهوائهم. ثم ذكر كفرهم وشركهم وقولهم: إن له ولدًا -سبحانه و-تعالى- عما يقولون علوًّا كبيرًا-. ثم أخبر أن له المشرق والمغرب، وأينما يولي عباده وجوههم فثم وجهه وهو الواسع العليم؛ فلعظمته وسعته وإحاطته، أينما يوجه العبد فثم وجه الله. ثم أخبر أنه لا يسأل رسوله عن أصحاب الجحيم الذين لا يتابعونه ولا يصدقونه، ثم أعلمه أن أهل الكتاب من اليهود والنصارى لن يرضوا عنه حتى يتبع ملتهم، وأنه إن فعل -وقد أعاذه الله من ذلك-، فما له من الله من ولي ولا نصير. ثم ذكَّر أهل الكتاب بنعمته عليهم وخوفهم من بأسه يوم القيامة. ثم ذكر خليله باني بيته الحرام وأثنى عليه ومدحه، وأخبر أنه جعله إمامًا للناس يأتم به أهل الأرض. ثم ذكر بيته الحرام وبناء خليله له، وفي ضمن هذا أن باني البيت كما هو إمام للناس؛ فكذا البيت الذي بناه إمام لهم. ثم أخبر ألا يرغب عن ملة هذا الإمام إلا أسفه الناس. ثم أمر عباده أن يأتموا به ويؤمنوا بما أنزل إليه وإلى إبراهيم وإلى سائر النبيين. ثم رد على من قال: إن إبراهيم وأهل بيته كانوا هودًا أو نصارى. وجعل ذلك توطئة ومقدمة بين يدي تحويل القبلة. ومع هذا كله فكبر ذلك على الناس إلا مَن هدى الله منهم" (ينظر: المصدر السابق). تحويل القبلة: قال -تعالى-: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) (البقرة: 144). كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد أمر وهو في مكة باستقبال بيت المقدس، فكان يصلي بمكة بين الركنين يستقبل بيت المقدس ويجمع التوجه بين الكعبة وبيت المقدس. فلما هاجر إلى المدينة تعذر عليه الجمع بينهما، وأمره الله -تعالى- بالتوجه في الصلاة إلى بيت المقدس، واستمر على ذلك بضعة عشر شهرًا. وكان -صلى الله عليه وسلم- يكثر التطلع إلى السماء أن يوجهه الله في الصلاة إلى الكعبة، التي هي قبلة إبراهيم -عليه السلام-، وكان يهود المدينة فرحين بأمر استقباله -صلى الله عليه وسلم- لبيت المقدس. ثم أنزل الله الآية: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ). عن علي بن أبي طالب قال: شطره قبله؛ وهذا قول أبي العالية ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير والربيع بن أنس وغيرهم. وعن ابن عباس: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا سلم من صلاته إلى بيت المقدس رفع رأسه إلى السماء، فأنزل الله -تعالى-: (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ). وعن البراء بن عازب -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صلى قبل بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرًا، وكان يعجبه قبلته قبل البيت، يحب أن يحول نحو الكعبة فصرف إلى الكعبة. قال ابن كثير في تفسيره: "والمشهور أن أول صلاة صلاها إلى الكعبة صلاة العصر، ولهذا تأخر الخبر عن أهل قباء إلى صلاة الفجر". - قوله -تعالى-: (وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ): أمر -تعالى- باستقبال الكعبة من جميع جهات الأرض شرقًا وغربًا، وشمالًا وجنوبًا؛ فالبيت قبلة لأهل المسجد، والمسجد قبلة لأهل الحرم، والحرم قبلة أهل الأرض في مشارقها ومغاربها. - قوله -تعالى-: (وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ): قال ابن كثير: "أي: واليهود الذين أنكروا استقبالكم الكعبة وانصرافكم عن بيت المقدس يعلمون أن الله -تعالى- سيوجهك إليها بما في كتبهم عن أنبيائهم من النعت والصفة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأمته وما خصه الله -تعالى- به وشرفه من الشريعة الكاملة العظيمة، ولكن أهل الكتاب يتكاتمون ذلك بينهم حسدًا وكفرًا وعنادًا، ولهذا تهددهم -تعالى-: (وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ)". - قوله -تعالى-: (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ للْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ. وَمن حَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (البقرة: 150-151). قال ابن القيم في (زاد المعاد): "وأكَّد سبحانه هذا الأمر مرة بعد مرة بعد ثالثة، وأمر به حيثما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومن حيث خرج، وأخبر أن الذي يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم هداهم إلى القبلة، وأنها هي القبلة التي تليق بهم؛ لأنها أوسط القبل وأفضلها، وهم أوسط الأمم وخيارهم، فاختار أفضل القبل لأفضل الأمم" (المصدر السابق). قال ابن كثير: "هذا أمر من الله -تعالى- باستقبال المسجد الحرام من جميع أقطار الأرض. وقد اختلفوا في حكمة هذا التكرار ثلاث مرات: فقيل: تأكيد؛ لأنه أول ناسخ وقع في الإسلام على ما نص عليه ابن عباس وغيره. وقيل: بل هو منزل على أحوال؛ فالأمر الأول: لمن هو مشاهد الكعبة. والثاني: لمن هو في مكة غائبًا عنها. والثالث: لمن هو في بقية البلدان. هكذا وجهه فخر الدين الرازي. وقال القرطبي: الأول لمن هو بمكة، والثاني لمن في بقية الأمصار، والثالث لمن خرج في الأسفار. ورجح هذا الجواب القرطبي. وقيل: إنما ذكر ذلك لتعلقه بما قبله وبعده من السياق. فقال أولًا: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا) إلى قوله: (وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ)، فذكر في هذا المقام إجابته إلى طلبته، وأمره بالقبلة التي كان يود التوجه إليها ويرضاها. وقال في الأمر الثاني: (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)؛ فذكر أنه الحق من الله وارتقاءه المقام الأول حيث كان موافقا لرضا الرسول -صلى الله عليه وسلم-، فبيَّن أنه الحق أيضًا من الله يحبه ويرتضيه. وذكر في الأمر الثالث: حكمة قطع حجة المخالف من اليهود الذين كانوا يحتجون باستقبال الرسول إلى قبلتهم، وقد كانوا يعلمون بما في كتبهم أنه سيصرف إلى قبلة إبراهيم عليه السلام إلى الكعبة، وكذلك مشركو العرب حجتهم لما صرف الرسول -صلى الله عليه وسلم- من قبلة اليهود إلى قبلة إبراهيم التي هي أشرف، وقد كانوا يعظمون الكعبة وأعجبهم استقبال الرسول إليها". وقيل غير ذلك من الأجوبة عن حكمة التكرار، وقد بسطها الرازي وغيره، والله أعلم. - وقوله -تعالى-: (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ): يعني به أهل الكتاب حين قالوا: صرف محمد إلى الكعبة، وقالوا: اشتاق إلى بيت أبيه ودين قومه، وكان حجتهم على النبي انصرافه إلى البيت الحرام، وقالوا: سيرجع إلى دين مشركي مكة كما رجع إلى قبلتهم. روي عن مجاهد وعطاء والضحاك والربيع بن أنس وقتادة والسدي نحو هذا. - قوله -تعالى-: (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ): يعني مشركي العرب. وجواب ما قالوا: أن الله -تعالى- اختار له التوجه إلى بيت المقدس أولًا؛ لما له -تعالى- في ذلك من الحكمة فأطاع ربه -تعالى- في ذلك، ثم صرفه إلى قبلة إبراهيم، وهي الكعبة، فامتثل أمر الله في ذلك أيضًا، فهو صلوات الله وسلامه عليه مطيع لله في جميع أحواله، لا يخرج عن أمر الله طرفة عين وأمته تبع له. - وقوله -تعالى-: (فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي) أي: لا تخشوا شبه الظلمة المتعنتين وأفردوا الخشية لي؛ فإنه -تعالى- هو أهل أن يخشى منه. - وقوله -تعالى-: (وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ) عطف على (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ) أي: لأتم نعمتي عليكم فيما شرعت لكم من استقبال الكعبة، لتكمل لكم الشريعة من جميع وجوهها. (وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) أي: إلى ما ضلت عنه الأمم هديناكم إليه وخصصناكم به، ولهذا كانت هذه الأمة أشرف الأمم وأفضلها. - قوله -تعالى-: (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (البقرة: 142): المراد بالسفهاء هاهنا: مشركو العرب؛ قاله الزجاج. وقيل: أحبار اليهود قاله مجاهد، وقيل: المنافقين؛ قاله السدي. قال ابن كثير: والآية عامة في هؤلاء كلهم. والله أعلم. ولما وقع تحويل القبلة إلى المسجد الحرام حصل لبعض الناس من أهل النفاق والكفار من اليهود شك وزيغ، فقالوا: (مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا) (البقرة: 142)، أي: قالوا ما لهؤلاء تارة يستقبلون كذا وتارة يستقبلون كذا، فأنزل الله جوابهم في قوله: (قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) (البقرة: 142)، أي: الحكم والتصرف والأمر كله لله، (فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ) (البقرة: 115)، و(لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ) (البقرة: 177)، أي: الشأن كله في امتثال أوامر الله، فحيثما توجهنا فالطاعة في امتثال أمره، ولو وجهنا في كل يوم مرات إلى جهات متعددة، نحن عبيده وفي تصرفه وخدمه حيثما وجهنا توجهنا. - قوله -تعالى-: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) (البقرة: 143): قال ابن كثير: "يقول -تعالى-: إنما حولناكم إلى قبلة إبراهيم عليه السلام واخترناها لكم لنجعلكم خيار الأمم، لتكونوا يوم القيامة شهداء على الأمم، لأن الجميع معترفون لكم بالفضل، والوسط هنا: الخيار والأجود، كما يقال: قريش وسط العرب نسبا ودارا، أي: خيرها". والوسط: العدل. - قوله -تعالى-: (وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ) (البقرة: 143): قال ابن كثير: "يقول -تعالى-: إنما شرعنا لك يا محمد التوجه أولا إلى بيت المقدس ثم صرفناك عنه إلى الكعبة ليظهر حال من يتبعك ويطيعك ويستقبل معك حيثما توجهت ممن ينقلب على عقبيه، أي: مرتدًا عن دينه. - (وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً) أي: هذه الفعلة، وهو صرف التوجه عن بيت المقدس إلى الكعبة، أي: وإن كان هذا لأمرًا عظيمًا في النفوس إلا على الذين هدى الله قلوبهم وأيقنوا بصدق الرسول وأن كل ما جاء به فهو الحق الذي لا مرية فيه، وأن الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد فله أن يكلف عباده بما شاء وينسخ ما يشاء، وله الحكمة التامة والحجة البالغة في جميع ذلك بخلاف الذين في قلوبهم مرض فإنه كلما حدث أمر حدث لهم شك). - قوله -تعالى-: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ) (البقرة: 143): قال ابن كثير: "وقوله: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ)، أي: صلاتكم إلى بيت المقدس قبل ذلك، ما كان يضيع ثوابها عند الله. وفي الصحيح من حديث أبي إسحاق السبيعي عن البراء قال: مات قوم كانوا يصلون نحو بيت المقدس، فقال الناس: ما حالهم في ذلك؟ فأنزل الله -تعالى-: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ)، ورواه الترمذي عن ابن عباس وصححه. وعن ابن عباس قال: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ)، أي: بالقبلة الأولى وتصديقكم نبيكم واتباعه إلى القبلة الأخرى، أي: ليعطيكم أجرها جميعًا (إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ). وقال الحسن البصري: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ)، أي: ما كان الله ليضيع محمدًا -صلى الله عليه وسلم- وانصرافكم معه حيث انصرف (إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ). - قوله -تعالى-: (وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ) (البقرة: 145): قال ابن كثير: "يخبر -تعالى- عن كفر اليهود وعنادهم ومخالفتهم ما يعرفونه من شأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنه لو أقام عليهم كل دليل على صحة ما جاءهم به لما اتبعوه وتركوا أهواءهم، كما قال -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ) (يونس: 96). ولهذا قال هاهنا: (وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ). - وقوله: (وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ) إخبار عن شدة متابعة الرسول -صلى الله عليه وسلم- لما أمره الله -تعالى- به، وأنه كما هم مستمسكون بآرائهم وأهوائهم فهو أيضا مستمسك بأمر الله وطاعته واتباع مرضاته، وأنه لا يتبع أهواءهم في جميع أحواله ولا كونه متوجها إلى بيت المقدس لكونها قبلة اليهود، وإنما ذلك عن أمر الله -تعالى-. ثم حذر -تعالى- عن مخالفة الحق الذي يعلمه العالم إلى الهوى؛ فإن الحجة عليه أقوم من غيره، ولهذا قال مخاطبًا للرسول والمراد به الأمة: (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ). - قوله -تعالى-: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) (البقرة: 146، 147). قال ابن كثير: "يخبر -تعالى- أن العلماء من أهل الكتاب يعرفون صحة ما جاءهم به الرسول -صلى الله عليه وسلم- كما يعرف أحدهم ولده، والعرب كانت تضرب المثل في صحة الشيء بهذا". وقال: "ثم أخبر -تعالى- أنهم مع هذا التحقق والإتقان العلمي (لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ) أي: ليكتمون الناس ما في كتبهم من صفة النبي -صلى الله عليه وسلم- وهم يعلمون. ثم ثبت -تعالى- نبيه -صلى الله عليه وسلم- والمؤمنين وأخبرهم بأن ما جاء به الرسول هو الحق الذي لا مرية فيه ولا شك، فقال: (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ). - قوله -تعالى-: (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (البقرة: 148): وعن ابن عباس: (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا)، يعني بذلك أهل الأديان، يقال لكل قبيلة قبلة يرضونها، ووجهة الله حيث توجه المؤمنون. وقال أبو العالية: لليهودي وجهة هو موليها، وللنصراني وجهة هو موليها، وهداكم أنتم أيها الأمة إلى القبلة التي هي القبلة. وروي عن مجاهد وعطاء والضحاك والربيع بن أنس والسدي نحو ذلك. وقال مجاهد في الرواية الأخرى عنه وعن الحسن: لكن أمر كل قوم أن يصلوا إلى الكعبة. قوله -تعالى-: (أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)، أي: هو قادر على جمعكم من الأرض وإن تفرقت أجسادكم وأبدانكم. الآيات التالية لآيات تحويل القبلة: بعد آيات تحويل القبلة قال الله -تعالى-: (كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ . فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ . يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (البقرة: 151-153). قال ابن القيم في (زاد المعاد) عن علاقة تلك الآيات بما قبلها: "ثم ذكَّرهم نعمه عليهم بإرسال رسوله إليهم وإنزال كتابه عليهم ليزكيهم ويعلِّمهم الكتاب والحكمة، ويعلمهم ما لم يكونوا يعلمون، ثم أمرهم بذكره وبشكره؛ إذ بهذين الأمرين يستوجبون إتمام نعمه والمزيد من كرامته، ويستجلبون ذكره لهم ومحبته لهم، ثم أمرهم بما لا يتم لهم ذلك إلا بالاستعانة به؛ وهو: الصبر والصلاة، وأخبرهم أنه مع الصابرين" (زاد المعاد). وللحديث بقية -إن شاء الله-. |
رد: حادثة تحويل القبلة في القرآن الكريم
حادثة تحويل القبلة في القرآن الكريم (2-2) كتبه/ علاء بكر فقد وردت في سورة البقرة -في موضع آخر غير موضع الآيات التي تناولناها من قبل حول واقعة تحويل القبلة- آية فيها تعقيب على تلك الواقعة، يقول فيها الله -تعالى-: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) (البقرة: 177). قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: "فإن الله -تعالى- لما أمر المؤمنين بالتوجه إلى بيت المقدس ثم حولهم إلى الكعبة، شقَّ ذلك على نفوس طائفة من أهل الكتاب وبعض المسلمين، فأنزل الله -تعالى- بيان حكمته في ذلك، وهو: أن المراد إنما هو طاعة الله -عز وجل-، وامتثال أوامره والتوجه حيثما وجه واتباع ما شرع، فهذا هو البر والتقوى والإيمان الكامل، وليس لزوم التوجه إلى جهة من المشرق أو المغرب بر ولا طاعة ما لم يكن عن أمر الله وشرعه؛ ولهذا قال: (لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ) (البقرة:177) الآية. كما قال في الأضاحي والهدايا -جمع هدي-: (لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ) (الحج:37). قال ابن عباس: ليس البر أن تُصَلوا ولا تعملوا، فهذا حين تحول من مكة إلى المدينة ونزلت الفرائض والحدود، فأمر الله بالفرائض والعمل بها، وروي عن الضحاك ومقاتل نحو ذلك. وقال أبو العالية: كانت اليهود تقبل قبل المغرب وكانت النصارى تقبل قبل المشرق، فقال الله -تعالى-: (لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) (البقرة:177). يقول هذا كلام الإيمان وحقيقة العمل. وروي عن الحسن والربيع بن أنس مثله. وقال مجاهد: ولكن البر ما ثبت في القلوب من طاعة الله -عز وجل.- وقال الضحاك: ولكن البر والتقوى أن تؤدوا الفرائض على وجوهها. وقال الثوري: (وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ) (البقرة:177) الآية. قال: هذه أنواع البر كلها. قال ابن كثير: وصدق رحمه الله، فإن مَن اتصف بهذه الآية فقد دخل في عرى الإسلام كلها، وأخذ بمجامع الخير كله. فالبر: هو الإيمان بالله، وأنه لا إله إلا هو، وهو التصديق (بوجود الملائكة) الذين هم سفرة بين الله ورسوله، والكتاب هو اسم جنس يشمل الكتب المنزلة من السماء على الأنبياء حتى ختمت بأشرفها وهو القرآن، المهيمن على ما قبله من الكتب، والإيمان بأنبياء الله كلهم من أولهم إلى خاتمهم محمد -صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين-. (وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ) أي: أخرجه وهو محب له، راغب فيه؛ نص على ذلك ابن مسعود وسعيد بن جبير وغيرهما من السلف والخلف، كما قال -تعالى-: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا . إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلاَ شُكُورًا) (الإنسان:8، 9)، وقال -تعالى-: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) (الحشر:9). و(ذَوِي الْقُرْبَى): هم قرابات الرجل، والصدقة على أولي القربى هي صدقة، وهي أيضًا صلة، (وَالْيَتَامَى): وهم الذين لا كاسب لهم، وقد مات آباؤهم وهم ضعفاء صغار دون البلوغ والقدرة على التكسب. (وَالْمَسَاكِينَ): وهم الذين لا يجدون ما يكفيهم في قوتهم وكسوتهم وسكناهم، فيعطون ما تسد به حاجاتهم. (وَابْنَ السَّبِيلِ): وهو المسافر المجتاز الذي قد فرغت نفقته، فيعطى ما يوصله إلى بلده. (وَالسَّائِلِينَ): وهم الذين يتعرضون للطلب، فيعطون من الزكوات والصدقات. (وَفِي الرِّقَابِ): وهم المكاتبون الذين لا يجدون ما يؤدونه في كتابتهم. (وَأَقَامَ الصَّلَاةَ) أي: وأتم أفعال الصلاة في أوقاتها بركوعها وسجودها وطمأنينتها على الوجه الشرعي المرضي. (وَآتَى الزَّكَاةَ) أي: زكاة المال؛ قاله سعيد بن جبير ومقاتل بن حيان، أو أن يكون المراد بذلك: زكاة النفس وتخليصها من الأخلاق الدنيئة الرذيلة؛ كما قال -تعالى-: (قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا . وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا) (الشمس:9، 10). (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا)، كما قال -تعالى-: (الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاق) (الرعد:20)، بخلاف أهل النفاق؛ فآية المنافق كما جاء في الحديث المتفق عليه ثلاث: (إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا ائْتُمِنَ خَانَ). (وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ) أي: في حال الفقر؛ وهو: البأساء، وفي حال المرض والأسقام؛ وهو: الضراء، وفي حال القتال والتقاء الأعداء؛ وهو: حين البأس. وجاء نصب (وَالصَّابِرِينَ) هنا على المدح والحث على الصبر في هذه المواضع لشدتها ولصعوبة الصبر فيها. والله -تعالى- أعلم. - وقوله -تعالى-: (أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا) (البقرة:177)؛ أي: هؤلاء الذين اتصفوا بهذه الصفات هم الذين صدقوا في إيمانهم؛ لأنهم حققوا الإيمان القلبي بالأقوال والأفعال، فهؤلاء هم الذين صدقوا وأولئك هم المتقون، لأنهم اتقوا المحارم وفعلوا الطاعات" (باختصارٍ من تفسير ابن كثير). فائدة: روى البخاري بسنده عن البراء بن عازب -رضي الله عنه- قال: "صلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نحو بيت المقدس ستة عشر شهرًا، أو سبعة عشر شهرًا، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحب أن يوجه نحو الكعبة، فأنزل -تعالى-: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا) (البقرة:144)"؛ فجاء في الحديث ذكر قولين في المدة التي صلاها النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى بيت المقدس وهو في المدينة، وأنها ستة عشر أو سبعة عشر شهرًا، والجمع بين القولين بأن يكون من جزم بستة عشر شهرًا لفَّق من شهر قدوم النبي -صلى الله عليه وسلم- المدينة -وهو شهر ربيع الأول- ومن شهر تحويل القبلة -وهو شهر شعبان- شهرًا، وألغى الأيام الزائدة عنه، ومن جزم بسبعة عشر شهرًا عَدَّ الشهرين -ربيع الأول وشعبان- معًا في المدة، ومَن شَكَّ تردد بين ذلك القولين. والله -تعالى- أعلم. (ينظر: فتح الباري لابن حجر). فوائد ودروس وعبر من آيات تحويل القبلة: - عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: أن أول ما نسخ من القرآن هو القبلة، وذلك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما هاجر إلى المدينة وكان بها يهود كثير، وقد أمره الله أن يستقبل بيت المقدس، ففرحت بذلك اليهود، واستمر النبي -صلى الله عليه وسلم- على ذلك بضعة عشر شهرًا، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يحب أن كعبة إبراهيم -عليه السلام- هي القبلة، فكان يصلي وينظر إلى السماء حتى أجابه الله لما يحبه. - وفي تأخر إبلاغ أهل قباء بتحويل القبلة إلى صلاة الفجر في اليوم التالي فاستداروا إلى الكعبة وهم في صلاة الفجر، قال ابن كثير: "وفي هذا دليل على أن الناسخ لا يلزم حكمه إلا بعد العلم به، وإن تقدم نزوله وإبلاغه لهم؛ لأنهم لم يؤمروا بإعادة العصر والمغرب والعشاء. والله أعلم". - وقد حاز المسلمون بذلك شرف التوجه إلى القبلتين: بيت المقدس والكعبة، وبهذا تميزوا بمخالفة مشركي مكة قبل الهجرة باستقبال بيت المقدس، ثم تميزوا بمخالفة اليهود وهم بالمدينة باستقبال الكعبة. - استقبال الكعبة واتخاذها قبلة أمر له وزنه لكونها القبلة الأقدم، فهي قبلة إبراهيم -عليه السلام-، وهي مفخرة للعرب حيث ظلت مثابة للناس وأمنًا ومزارًا ومطافًا، وهذا أدعى لدخول العرب في الإسلام. - تقرير أن العبرة في الإسلام تكون بجوهره ولبه، وهو ما يجب اعتناء المسلمون واهتمامهم به، فلا ينشغلوا عن جوهر الإسلام ولبه بقضايا فرعية أو بمسائل جزئية، فـ(لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَ?كِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَأَتَى الْمَالَ عَلَى? حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى? وَالْيَتَامَى? وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَ?ئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَ?ئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) (البقرة: 177). وكأن المعنى: أن مسألة تعيين الجهة في العبادة والتي شغلت المخالفين نقدًا وردًّا ليست كل ما يشتغل به من أمور الدين، بل هي شعبة واحدة من شعب الدين، وإنما البر هو الإيمان الكامل الجامع لكل خصال الخير من عقيدة وعبادة ومعاملة وأخلاق؛ لذا فعلى أهل الإيمان الاشتغال بكل خصال الدين لتحقيق هذا الإيمان الصادق. - حماية المجتمع المسلم من شبهات الأعداء وغزوهم الفكري قبل إثارة تلك الشبهات وبدء هذا الغزو الفكري، فحرف السين مع الفعل المضارع في كلمة (يقول) في قوله -تعالى-: (سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا) (البقرة:142)، حرف للاستقبال، يخبر به -سبحانه- عما سيثيره السفهاء، وخفاف العقول، مِن: تشويش وتشكيك، وإثارة للشبهات حول تحويل القبلة قبل أن يقع ذلك منهم، وذلك حماية للمسلمين من شرهم، ولقن المسلمين الجواب على تلك الشبهة، بأنه إذا قال السفهاء من الناس: (مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا) يجيبوهم بأن: (لِّلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم) (البقرة:142). وبذلك توأد الشبهة في مهدها إذا وقعت، وهكذا: الوقاية خير من العلاج، وهكذا يكون التحصين من المرض ومقاومته قبل انتشاره. - تمحيص المؤمنين وتمرينهم على الطاعة والسماع لله -تعالى- ولرسوله -صلى الله عليه وسلم- فيما يبلِّغه عن ربه، وذلك جلي وواضح في قول الله -تعالى-: (وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا) (البقرة:143) يعني اتخاذ بيت المقدس قبلة أولى للمسلمين في الصلاة ثم التحول عنها إلى المسجد الحرام بعد ذلك (إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ) (البقرة:143). فالاتجاه الأول في بادئ الأمر إلى بيت المقدس كان بأمر من الله -تعالى-، والاتجاه بعد ذلك إلى المسجد الحرام أيضًا بأمر من الله -تعالى-، والحكمة كما بينت الآية الكريمة (لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ) (البقرة:143)، والانقلاب: الارتداد، والعقب: مؤخرة القدم، والمراد: بالانقلاب على العقب: الارتداد عن الإسلام، وهو ما وقع من البعض من ضعاف الإيمان. فتميز بذلك أهل الإيمان الصادق ممن يأتمرون بأوامره -صلى الله عليه وسلم- على كل حال كانت ممن لم يدخل الإيمان الصادق قلبه، فدخل الإسلام وهو على حرف فارتد عن الإسلام بأدنى شبهة. - وهذا الابتلاء هو صورة من صور التربية للصحابة -رضي الله عنهم- وغرس حب الاتباع للنبي -صلى الله عليه وسلم- في قلوبهم، فحين يأمرهم -صلى الله عليه وسلم- بأمر مهما كان يقولون سمعنا وأطعنا بلا تردد؛ فلا بد من تمحيص وامتحان للفئة المؤمنة من وقت لآخر. فهاهنا بعد الهجرة إلى المدينة بقليل كان تحويل القبلة امتحان، وقبلها كانت معجزة الإسراء والمعراج قبل الهجرة إلى المدينة بقليل امتحان، وهو الامتحان الذي قال فيه تبارك و-تعالى-: (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ) (الإسراء:60) ، ولله -تعالى- الحكمة البالغة في ذلك. - قول الله -تعالى-: (لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ) (البقرة:143) لا ينافي علم الله -تعالى- الأزلي وأنه يعلم ما يكون قبل أن يكون، وإنما المراد هنا ظهور هذا العلم المكنون في الواقع، حيث أن الحساب والجزاء والثواب والعقاب والمؤاخذة عليه، فالله -تعالى- يحاسب العباد على عملهم الذي يعملونه لا على علمه السابق بهم، فيجعل الله -تعالى- معلومه في الغيب مشاهدًا للعيان، والعمل الواقع للعيان هو الذي تقوم به الحجة، ويترتب عليه الثواب والعقاب؛ أي: إن الله سبحانه و-تعالى- يعلم من يتبع الرسول ممن لا يتبع قبل وقوع ذلك، وهذا العلم لا يوجب مجازاة في ثواب أو عقاب، ولكن المراد: ليعلم ذلك منهم شهادة، فيقع عليهم بذلك العلم أجر المطيعين وإثم العاصين، وتكون معلومة في حال وقوع الفعل منهم شهادة، كقوله -تعالى-: (عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (التغابن: 18). فعلمه قبل وقوعه غيب، وعلمه حال وقوعه شهادة، وهذا يبين كل ما في القرآن مما هو مثله، أو يكون المراد بالعلم: (إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ) (البقرة:143)، تمييز مَن يتبع الرسول ممَّن يرتد؛ فوضع العلم موضع التمييز؛ لأن العلم يقع به التمييز، فيكون من باب إطلاق السبب على المسبب. - التنويه بمنزلة ومكانة عبادة الصلاة في الإسلام حيث أطلقت الآية على الصلاة اسم الإيمان، وأشارت الآية إلى عدم ضياع ثواب المؤمنين الذين ماتوا قبل تحويل القبلة إلى المسجد الحرام، فروى البخاري بسنده عن البراء بن عازب -رضي الله عنه-: "أنه مات على القبلة قبل أن تحول رجال وقتلوا، فلم ندرِ ما نقول فيهم، فنزل قول الله -تعالى-: (وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيم) (البقرة:143)". وروى أيضًا الترمذي بسنده عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "لما وجه النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى الكعبة قالوا: يا رسول الله كيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس؟ فأنزل الله -تعالى-: (وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيم) (البقرة:143). قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح". وقد فسَّر البخاري الإيمان في الآية بالصلاة، فقال: (وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ) (البقرة:143) يعني: صلاتكم؛ أي: صلاتكم التي صليتموها إلى بيت المقدس. فالمراد بالإيمان في الآية الصلاة. وإطلاق اسم الإيمان على الصلاة هنا من باب المجاز، من إطلاق اللازم على الملزوم، فالإيمان لازم للصلاة؛ إذ لا صلاة بحقٍّ إلا مع الإيمان. وقيل: كنى بالإيمان عن الصلاة لأن الصلاة صادرة عنه، وذلك من باب ذكر السبب وإرادة المسبب؛ ولأن الصلاة أفضل شعب الإيمان، فهو من باب ذكر الكل وإرادة أشرف أجزائه. وأيضًا ذكر الإيمان أولى من ذكر الصلاة؛ لئلا يتوهم اندراج صلاة المنافقين إلى بيت المقدس في الثواب، وأتي بلفظ: (إِيمَانَكُمْ) دون (إيمان بعضكم) وإن كان السؤال جاء على سبيل التغليب؛ لأن المصلين إلى بيت المقدس لم يكونوا كلهم ماتوا. والمراد من عدم إضاعة الصلاة في الآية: أن الله -تعالى- يجازيهم عليها بالجزاء الأوفى. - بيان ما كان عليه الصحابة -رضي الله عنهم- من الحرص في دينهم، ومن الشفقة على مصير إخوانهم الذين ماتوا. وقد وقع مثل ذلك أيضًا بعد ذلك لما نزل تحريم الخمر، فتساءلوا عن مصير إخوانهم الذين تناولوها قبل التحريم، كما صح من حديث البراء بن عازب أيضًا، فنزل قول الله -تعالى-: (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين) (المائدة:93). فلما كان أمر القبلة خطيرًا، ومَعْلَمًا من معالم الدين؛ تخيل قوم نقص مَن فاته، وكذلك لما حصلت الخمر في هذا الحد العظيم من الذم، أشفق قوم وتخيلوا نقص من مات على هذه المذمة، فأعلم الله -تعالى- عباده أن الذم والجناح إنما يلحق من جهة المعاصي، وأولئك الذين ماتوا قبل التحريم لم يعصوا في ارتكاب محرم بعد، بل كانت تلك الأشياء مكروهة لم ينص عليها تحريم بعد، والشرع هو الذي قبَّحها وحرَّمها وأمر باجتنابها. - بيان كرامة النبي -صلى الله عليه وسلم- على ربه -عز وجل-، ويدل عليه: قوله -تعالى-: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا) (البقرة:144)، وذلك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقلب بعد الصلوات بوجهه إلى السماء التي هي مصدر الوحي منتظرًا نزول الوحي بالتوجه إلى الكعبة، التي هي قبلة أبيه إبراهيم -عليه السلام-، وهي أدعى للعرب أن يؤمنوا، ولما فيه من مخالفة اليهود، فحقق الله -تعالى- له أمنيته وأعطاه ما أحب. - كانت رحلة الإسراء إلى المسجد الأقصى وإمامة النبي -صلى الله عليه وسلم- خلالها بالأنبياء فيه، ثم تحويل القبلة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام فيها إشعار بانتقال إمامة الإنسانية للأمة المحمدية، وأنها الأمة الأهل لذلك، وزوال ما كان عليه اليهود من منزلة لما اقترفوه من جرائم ومخالفات في حق دينهم ورسلهم وأنبيائهم. فـلله الحمد والمِنَّة على هذه الأمة. |
الساعة الآن : 12:01 PM |
Powered by vBulletin® Version 3.8.5
Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd By AliMadkour