ابوالوليد المسلم |
01-10-2023 06:01 PM |
رد: من أعظم الحقوق بعد حق الله -تعالى
من أعظم الحقوق بعد حق الله -تعالى
(2) بر الوالدين منهج الأنبياء ودأب الصالحين
إنَّ أعظم الحقوق على الإطلاق هو حق الله -تبارك وتعالى-، في عبادته وتوحيده وطاعته، فلا إله إلا هو -سبحانه- ولا رب سواه، وبعد هذا الحق العظيم وهذه الغاية التي من أجلها خلق الله -تبارك وتعالى- الإنس والجن؛ حيث قال: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}، قرن الله -تبارك وتعالى- هذه القيمة العظيمة بقيمة عظيمة أخرى تتعلق بالوالدين، فحق الوالدين يأتي بعد حق الله -تبارك وتعالى. من أحق الوالدين بالبر؟ لا شك أنَّ الأم هي أحق الوالدين بالبر والإحسان لمكابدتها العظيمة، جاء في الصحيحين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: «جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال ثم من؟ قال: أبوك»، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأحد أصحابه: «الزمها، أي (الزم أمك) فإن الجنة تحت أقدامها».
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: إني لا أعلم عملا أقرب إلى الله -عز وجل- من بر الوالدة؛ ولذلك على المؤمن الذي يتحين الأعمال الصالحة، ويختارها من بين هذه الأعمال العظيمة، وعليه ألا يفوّت هذه المصلحة العظيمة لنفسه من خلال بره بوالديه؛ لذلك يقول الحق -تبارك وتعالى- في محكم التنزيل هذه الآية العظيمة {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ}، والأف هي أدنى درجات الإساءة.
وأمر الله -تبارك وتعالى- بالقول الكريم {وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم : «رغم أنفه ثم رغم أنفه ثم رغم أنفه، قيل: من يا رسول الله؟ قال: من أدرك والديه عند الكبر، أحدهما أو كلاهما ثم لم يدخل الجنة». وجاء في حديث رواه الترمذي عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «الوالد أوسط أبواب الجنة». ثم قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «فأضع هذا الباب أو احفظه».
كل هذه النصوص التي ذكرتها تؤكد فرض الإحسان للوالدين ولاسيما عند الكبر؛ وذلك لحاجتهما إلى الرعاية والإكرام في مثل هذا المقام، والتحذير أشد التحذير من الإساءة إليهما بأي إساءة ولو كانت كلمة من حرفين (أف) يحاسبك الله -سبحانه وتعالى- عليها إذا وجهتها إلى والديك، فهنيئا لمن أدرك والديه وأحسن إليهما غاية الإحسان، فذلك سبب لنيل الغفران ودخول الجنان، ولا تبخل على نفسك يا عبدالله بالإحسان إليهما بأنواع الإحسان، وإدخال السرور عليهما بشتى الطرائق؛ فإدخال السرور على الوالدين من أعظم القرب والأعمال التي أمرنا الله -تبارك وتعالى- بها، بل إن الله -سبحانه وتعالى- أمر بلين الكلام وطيب المقال، وأشار إلى أدنى مراتب الأذى كما قلنا في كلمة أف، تنبيها على ما سواها من أنواع الأذى باليد واللسان، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ونهى الله -تبارك وتعالى- عما هو أعظم، فقال الله -سبحانه وتعالى-: {وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا}، فلابد لكل إنسان أن يتكلم مع والديه بكل أدب واحترام، ولا يقول لهما ما يُدخل عليهما الغضب والحزن، بل يتكلم معهما بما يدخل عليهما الفرح والسرور، ويجنبهما كل ما يؤذيهما من الحزن، سواء من مشكلاتك أم مشكلات إخوانك، ولا تريهم إلا الابتسامة منك، ولا يسمعان منك إلا الكلمة الطيبة، تجلس معهما، وتؤنسهما، ولا تُقدم مُجالسة أصحابك على مجالستهم.
ولا شك أن الإنسان إذا برّ بوالديه سيكون ذلك سببا لبِر أبنائه به، والجزاء من جنس العمل. قال ابن عمر - رضي الله عنه - لرجل: أَتَفْرُق النار وتحب أن تدخل الجنة؟ قال: إي والله، قال: أحيٌّ والداك؟ قال: عندي أمي، قال: فوالله لو ألنت لها الكلام، وأطعمتها الطعام، لتدخلن الجنة ما اجتنبت الكبائر، وهذا لا شك من أعظم الأعمال في دخول جنة الله -تبارك وتعالى.
نجد -مع الأسف- نماذج من العقوق التي جعلها النبي - صلى الله عليه وسلم - من أكبر الكبائر، حينما قال - صلى الله عليه وسلم -: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟، قلنا: بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وكان متكئا فجلس وقال: ألا وقول الزور، وشهادة الزور! فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت».
فكما قرن الله -تبارك وتعالى- حقه في العبادة بالإحسان للوالدين، جعل -سبحانه وتعالى- عقوقهما في الإثم بعد الإشراك بالله -تعالى-، فأعظم الكبائر الإشراك بالله، ويأتي بعد ذلك مباشرة عقوق الوالدين، وهذا تحذير من النبي - صلى الله عليه وسلم - لهدر هذه القيمة العظيمة، قيمة الإحسان والبر بالوالدين.
ومن أنواع العقوق التي نراها ونسمع عنها في هذه الأيام، تساهل كثير من الأبناء في بر والديهم، فمع الأسف لا تقدير ولا احترام، ولا سمع ولا طاعة، ولا بر ولا أدب، بل غلظة وفظاظة ونهر وعقوق، فمن الناس من بلغ خِسة ووقاحة ونذالة وصفاقة أن يأمره أبوه أو أمه فيهز كتفيه ويدير ظهره وكأن الأمر لا يعنيه، بل قد يُعَبّس وجهه ويُقَطّب جبينه ويرفع صوته ويسيء أدبه ضد أمه أو أبيه.
ومن الناس من وصل به الحال ألا يتورع عن رفع دعوى قضائية ضد أبيه في المحاكم، أو يقدم بلاغا وشكوى ضده في مراكز الشرطة من أجل حطام الدنيا، حتى أن بعضهم قد مرت أشهر بل سنوات لم يكلم أحد أبويه أو يزره أو يتصل به، بل لقد بلغ الحال أن يترك أباه أو أمه عند كبرهما أو مرضهما في المستشفيات، وقد يمر عليهما كما يزورهم الأغراب، أو يتركهم دون سؤال، أو يتركهم دون رعاية اجتماعية، وتمر الأيام والشهور وهو لا يعلم عنهم شيئا.
القلب يعتصر ألما حينما يزور الإنسان أجنحة المستشفيات، ويجد كبار السن وحدهم على الأسِرّة دون أحد من أبنائهم. الكل لاهٍ ومُنشغل عن والديه، ولا شك أن الوالدين في مثل هذه الحال وفي مثل هذه المرحلة أكثر حاجة إلى أبنائهم؛ فأين الإيمان؟ وأين الفضيلة؟ بل أين المروءة والرحمة والإنسانية؟، هذان الوالدان اللذان تعبا وشقيا من أجلك، يبلغ بهما الحال ما يبلغ وأنت لاهٍ عنهما!.
ومن الناس من إذا تزوج نسي أبويه، وأهمل شأنهما منشغلا بما لديه من جديد، وكم تعاني الأمهات من جراء تفضيل الزوجة على الوالدة، بل إن بعضهم قد يتطاول على أمه في مرأى ومسمع من زوجته وأولاده.
وكنت قد خطبت خطبة عن بر الوالدين، وبعد انتهاء الخطبة كلمني أحد كبار السن وقد جاوز الثمانين، وقد اعتصر قلبه ألما يقول: أنا وزوجتي وحدنا بالبيت، لو متنا لن يشعر أحد بنا، يمر عليه أولاده كل خمسة أيام مرة، يجلس معه عشر دقائق ويغادر! الأم والأب في مثل هذه الحال يحتاجان إلى الرعاية الكاملة والتواصل الدائم، ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الزمها؛ فإن عند رجلها الجنة»؛ فلا يليق بك أن تكون مجتهدا، وتذهب للدروس وتعمل الخير والإحسان والصدقة، وتصوم وتقوم، وأنت لا تدري عن أمك وأبيك شيئا، أو تزورهم كل أسبوع مرة، بل الواجب عليك أن تتفقد أحوالهم.
كم وكم منا مقصر في مثل هذا الحق العظيم! وفي تحقيق هذه القيمة التي قصّر فيها كثير منا! ولذلك من الناس -لقلة فقهه- من يجعل بره وإحسانه لأصدقائه وزملائه، ويضيع أمه وأباه، ومما يحُز في الخاطر أنك تجد بعض الناس لا يجعل لأبويه الحظ الواجب من التقدير والرعاية، والبر والعناية.
برّهم واجب والإحسان إليهم متعين ومهما كان على الأبوين من تقصير تجاه أبنائهم فبرّهم واجب، والإحسان إليهم متعين، ألم تسمعوا إلى قول الله -تبارك وتعالى-: {وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا}، أي وإن دعوك لتكفر بالله -تعالى- وليس هناك أعظم من هذا فلا تطعهما، «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» ثم قال: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا}، من هذه الآية العظيمة تجد مقام البر بالوالدين كيف هو عظيم عند الله -تبارك وتعالى-، حتى وإن كانوا مشركين بالله -سبحانه وتعالى-، وفي الصحيحين عن أسماء -رضي الله عنها- قالت: قدمت عليّ أمي وهي مشركة في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فاستفتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قلت: قدمت عليّ أمي وهي راغبة، أفأصل أمي؟ قال: نعم، صلي أمك.
وأبصر أبو هريرة رجلين فقال: ما هذا منك؟ قال: هذا أبي، قال: لا تسمّه باسمه، ولا تمش أمامه، ولا تجلس قبله، وهذه كلها من أنواع الأدب مع الوالدين، ولذلك نقول: إن بر الوالدين متأكد في جميع مراحل الحياة ولاسيما عند المرض والكِبَر، بل إنه يستمر حتى بعد الوفاة.
الإحسان إليهما بعد الممات والإحسان للوالدين لا يكون في الحياة فقط، وإنما حتى بعد الممات، من خلال الدعاء والاستغفار لهما، وتُنفِذ عهدهما من بعدهما، وتصل الرحم التي لا تصل إلا بهما، وتكرم صديقهما، وكل هذا من البر والإحسان بالوالدين، فعن عبدالله بن دينار، عن عبدالله بن عمر -رضي الله عنهما- أن رجلا من الأعراب لقيه بطريق مكة فسلم عليه عبد الله بن عمر، ثم حمله على حماره الذي كان يركبه، وأعطاه عمامته التي كانت على رأسه، فقال ابن دينار لابن عمر: إنهم الأعراب وإنهم يرضون باليسير، قال ابن عمر: إن أبا هذا كان ودا لعمر بن الخطاب، وإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن أبر البر صلة الولد أهل ود أبيه»، وصحّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم يُنتفع به، أو ولد صالح يدعو له»؛ لذلك من أعظم الأعمال التي تنفع بها والديك الدعاء لهما، وجاء في بعض الآثار أن العبد قد يستغرب رفعة درجته عند الله -سبحانه وتعالى-، وأنه ما أدى من الأعمال ما ارتفع به هذه الدرجات العظيمة عند الله -عز وجل-؛ فحينما يسأل يُقال له: بدعاء ولدك لك. فمن فاته الإحسان إلى والديه في الحياة، فلا ينساهما بالدعاء بعد الممات.
من كان له والدان على قيد الحياة أو أحدهما فعنده باب عظيم من أبواب الخير الموصل إلى جنة الله -تبارك وتعالى-، فلا يفرّط في هذا الخير، والأيام في الدنيا معدودة، فيوم أن يقبض الله أحدهما، ستندم على تلك الساعات والأيام التي فاتت ولم تُحسن إلى والديك أو أحدهما، فلا تُضيّع هذه الفرصة إلا في طاعة تتقرب بها إلى الله -تبارك وتعالى-، وأحسن إليهما متلذذا بهذا الإحسان.
اعداد: م. فريد العمادي
|